متفرقات
22/08/2017

عليّ(ع) والزّهراء(ع) في بيت الزوجيَّة

عليّ(ع) والزّهراء(ع) في بيت الزوجيَّة

تكلّم الكثيرون من الصّحابة مع النبيّ(ص) في شأن الزواج من ابنته فاطمة الزّهراء(ع)، لكنه كان يصدّهم بلطف، قائلاً إنّي أنتظر أمر ربي، لأن في فاطمة خصوصية لا توجد في بناته الأخريات، ولأن في فاطمة(ع) سرّاً لا يعلمه إلّا الله سبحانه، كما كان في عليّ سرّ لا يعلمه إلا الله.

وقيل لعليّ: لِمَ لا تخطب فاطمة، وكان يستحي من ذلك، ولكنّه أخيراً، جاء إلى رسول الله(ص)، وكلّمه بشأن الزواج من فاطمة، وهنا انشرحت أسارير النبيّ(ص)، فكأنما كان ينتظر ذلك، بل يعدّ له، فقال لعليّ(ع): وما تملك من مال؟

وهو يعرف ما عنده وما يملكه، لأنّه هو الذي رباه، وكان علي(ع) معه في حلّه وترحاله، في ليله ونهاره، في سلمه وحربه، فهو من يعرف ميزانيّته المالية، كما يعرف فضائله العلمية وخصاله الروحيّة، ومع ذلك سأله ـ وكم من سائل عن أمره وهو عالم ـ "ما معك؟ قال: معي درعي وسيفي وهذه الثّياب التي ألبسها، قال(ص): أمّا سيفك فلا تستغني عنه، لأنه السيف الذي تذبّ به عن الإسلام، وتجلو به الكرب عن وجه رسول الله(ص)، ولكن أعطني درعك"[1]. وبيع الدرع بـ500 درهم، وكان ذلك مهر الزّهراء التي رضيت بعليّ زوجاً، وعاشت معه حياة هنيّة، لكنها مليئة بالجهد والتّعب والمشقّة، وعانت في حياتها ما لم تعانه امرأة سواها.

كفؤ فاطمة

وأهمّ ما يلفتنا في هذا الزّواج، هو ما جاء في الحديث المرويّ في "كشف الغمّة"، عـن الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، وفي غيره ـ روي عن النبيّ(ص) ـ قال(ع): "لولا أنّ الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين(ع) لفاطمة، ما كان لها كفؤ على وجه الأرض"[2].

فما هي هذه الكفاءة التي يقصدها الحديث الشّريف؟

بالتأكيد، ليست هي كفاءة النسب، لأنّ هناك أكثر من ابن عمّ للرسول(ص)، وإنما هي كفاءة الروح، وكفاءة العقل والفكر والإيمان، فقد كانت فاطمة من خلال إيمانها وعقلها وفكرها وروحها وطهرها وجهادها وزهدها، كفؤاً لعليّ(ع) ، عليّ الذي كان في المستوى الأعلى من كل هذه الصفات والمعاني والقيم والآفاق التي تحلّق مع الله سبحانه. لقد أمر الله رسوله(ص) بأن يزوّج الكفؤ بالكفؤ، والطّهر بالطهر، لأنّ هناك أكثر من نقطة يلتقيان عليها، كيف وقد تربّيا على يد رسول الله، ونهلا من معينه علماً وأخلاقاً وروحاً، وعاشا معه بما لم يعشه أيّ صحابي أو صحابية من أصحابه، فقد كانا معه في اللّيل والنّهار، وكان(ص) ينطلق ليربيهما ويصنعهما على صورته، استجابةً لنداء الله سبحانه: {وأنذِرْ عشيرتَكَ الأقربين}[الشّعراء: 214]، وحتى عندما انكفأت عنه عشيرته وكلّ الناس، كان أقرب الناس إليه روحاً وإيماناً فاطمة وعليّ(ع). ومن هنا، لاحظنا ـ من خلال التاريخ الواصل إلينا ـ أنّ ما عاشه عليّ من روح ومن انفتاح على الله ومن معرفة بالله، كانت تعيشه فاطمة(ع). ولو أنّنا درسنا عبادة عليّ وعبادة فاطمة، لوجدنا أنهما يعيشان في المستوى نفسه من القرب إلى الله والانفتاح عليه، والمعرفة بكلّ أسرار قدسه وصفاته وأسمائه.

وهنا يكمن سرّ قوله(ص): "لولا عليّ، لما كان لفاطمة كفؤ". وبالالتفات إلى ذلك، نفهم سرّ تمنّع رسول الله من تزويجها من أكابر الصّحابة. وقد روى (الصّدوق) في "عيون أخبار الرضا(ع)"، بسنده عن أبي الحسن الرضا(ع)، عن أبيه موسى الكاظم(ع)، عن آبائه عن علي(ع) ـ وهذه هي سلسلة السّند التي قال عنها الإمام أحمد بن حنبل، "إنها لو قرئت على مجنون لأفاق"[3]، لأنها من إمام إلى إمام إلى إمام إلى عليّ(ع) إلى رسول الله(ص) ـ أنه قال: "قال لي رسول الله(ص): يا عليّ، لقد عاتبني رجال من قريش في أمر فاطمة، وقالوا خطبناها إليك، فمنعتنا وزوّجتها عليّاً، فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم وزوّجته، بل الله منعكم وزوَّجه، فهبط عليَّ جبرئيل، فقال: يا محمّد، إنّ الله جلّ جلاله يقول: لو لم أخلق عليّاً، لما كان لفاطمة ابنتك كفؤ على وجه الأرض؛ آدم فمن دونه"[4]...

في بيت الزّوجيّة

يحدّثنا تاريخ الزهراء(ع)، أنها عاشت مع زوجها كأفضل ما تكون الزّوجة محبةً ووفاءً وطاعةً ورعايةً، ولذا يذكر التاريخ، أنّها وفي أيامها الأخيرة التي أوصت فيها عليّاً بوصاياها، قالت(ع) له: "ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عرفتك"، فقال لها: "أنت أبرّ وأتقى وأعرف بالله من أن أوبّخك في شيء من ذلك"[5].

فقد كانت ترعى زوجها، وهو مثقل بأعباء الجهاد ومسؤوليّاته التي جعلته يخرج من حرب إلى حرب أخرى من حروب الإسلام، ولم تتأفّف من ذلك، مع كلّ ما يمكن أن يفرضه ذلك من ضريبة قاسية على نساء المجاهدين، ولا سيما أمثال أمير المؤمنين(ع)، الّذي كان ليث الحروب وأسد الله ورسوله، ينتقل من معركة إلى أخرى، ومن غزوة إلى غزوة، وكانت مثقلة بتربية الأولاد وهموم البيت، ولكنّ ذلك كله لم يمنعها من أن تخلص لدورها في البيت كزوجة، وأن ترعى زوجها وأولادها، كما ترعى أباها كأفضل ما تكون الرعاية، وتهتمّ بهم أفضل الاهتمام...

تقاسم مسؤوليّة البيت

كان عليّ وفاطمة(ع) يتحسّسان مسؤولية البيت فاقتسماها، وفي أحاديثنا، أن الزهراء تقاضت مع عليّ عند رسول الله(ص) ـ تقاضي المحبّة ـ حتى يقسّم العمل بينهما، فصار الاتفاق أنّ الزهراء تطحن وتعجن وتخبز، وأنّ أمير المؤمنين يكنس البيت ويستقي الماء ويحتطب[6].

وفي ذلك درسٌ للرّجال والنساء معاً:

أمّا درس الرّجال، فأن يتعلّموا من عليّ أن لا يتكبروا على خدمة المنزل، فعليّ كان يكنس ويستقي ويحتطب، والرّجل منا لا يرضى لرجولته أن يكنس ويستقي، لكنّ عليّاً، وهو سيّد الرجال، كان لا يرى بأساً في كنس البيت، لأنّ البيت بيته، والزوجة زوجته، هي إنسان كما هو إنسان، والرّجل مهما كان عظيماً، ليس أكبر من أن يخدم أولاده وزوجته وأباه وأمَّه وأخوته ومن هو مسؤول عنه.

والدّرس نفسه ينبغي أن تتعلّمه النّساء، بأن لا يعتبرن أنَّ العمل في البيت يمثّل احتقاراً لهنّ، كما هي العقليّة التي ولدت عند بعض النساء المسلمات مؤخَّراً، فالزهراء كانت تعمل وتطحن وتخبز، ونحن وإن قلنا مراراً إنّ الله لم يفرض على المرأة، ابنةً كانت أو زوجةً، أن تخدم في البيت، بيت أبيها أو زوجها، بالمعنى الشرعي للإلزام، ولكنّ الله أراد للإنسان عندما يعيش في أيّ موقع يتطلب المشاركة، أن يندفع طبيعياً بحسب طاقته، حتى يشارك في هذه الطاقة ويفجّرها، والإنسان الذي يقف في موقع المسؤوليّة، ويهمل ما أحبّه الله له وإن لم يلزمه به، هو إنسان لا يعيش الإحساس بموقعه الإنساني تجاه الإنسان الآخر، فالله عندما لم يلزم المرأة بالعمل البيتي أو تربية الأطفال والإرضاع، لم يرد لها أن تكون سلبيّة أمام ذلك، وإنما أراد لها أن تكون إنسانة العطاء، لتقدِّم من قلبها ومن طاقتها ومن جهدها بوعيها واختيارها، أن تقدِّم ما لا يجب عليها عطاءً في سبيل الله {إنَّما نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ الله}[الإنسان: 9]، بحيث تشتغل في بيتها وتخدم أولادها لوجه الله، كما تصوم وتصلّي لوجه الله، وتضحّي لوجه الله... ولذلك، عندما قال النبيّ(ص): "جهاد المرأة حسن التبعّل"[7]، فلأنّه يعرف شدّة المعاناة فيما تعيشه مع زوجها، وفيما تصبر به على أذى زوجها، وما تتحمّله من إحساساته التي قد تثقل إحساساتها، هذا إن لم تكن تعيش معه معاناة كبيرة، فإطلاق الجهاد على حسن التبعّل، لكون الجهاد يثقل المجاهدين حتى يأخذ منهم أرواحهم، وكذلك المرأة، تعاني مع زوجها حتى تكاد تفقد روحها، فإذا صبرت صبر الواعي، وصبر الإنسانة الّتي تملك شرعاً أن تمتنع عن الخدمة، فإنها تعتبر من المجاهدات في سبيل الله، ويكون لها أجر المجاهدين.

باختصار، إنّ مسألة الخدمة ـ أن يخدم أحدنا الآخر في دائرة مسؤوليّته ـ ليست مسألة تتّصل بالكرامة لتعتبر المرأة أنّ العمل في البيت احتقار لشخصيّتها، أو يعتبر الرّجل أنّ مشاركتها في العمل احتقار له أيضاً، وإنما هي مسألة تتصل بالإنسانيّة، وقيمة الإنسان في هذه الدّنيا، أن يخدم الإنسان ويخدمه الإنسان الآخر، وليس هناك إنسان خادم بالمطلق، وليس هناك إنسان سيّد بالمطلق، كلّ إنسان منّا سيّد في دائرة، وخادم في دائرة أخرى.

[المصدر: مختارات من كتاب "الزهراء القدوة"، من ص80 إلى 94]


[1] بحار الأنوار، ج43، ص127.

[2] كشف الغمّة، الأربلي، ج1، ص463.

   بحار الأنوار، ج1، ص30.[3]

 عيون أخبار الرّضا، ص281.[4]

 البحار، ج43، باب 7، ص191.[5]

 البحار، ج43، ص81.[6]

وسائل الشّيعة، ج15، ص23. [7]

تكلّم الكثيرون من الصّحابة مع النبيّ(ص) في شأن الزواج من ابنته فاطمة الزّهراء(ع)، لكنه كان يصدّهم بلطف، قائلاً إنّي أنتظر أمر ربي، لأن في فاطمة خصوصية لا توجد في بناته الأخريات، ولأن في فاطمة(ع) سرّاً لا يعلمه إلّا الله سبحانه، كما كان في عليّ سرّ لا يعلمه إلا الله.

وقيل لعليّ: لِمَ لا تخطب فاطمة، وكان يستحي من ذلك، ولكنّه أخيراً، جاء إلى رسول الله(ص)، وكلّمه بشأن الزواج من فاطمة، وهنا انشرحت أسارير النبيّ(ص)، فكأنما كان ينتظر ذلك، بل يعدّ له، فقال لعليّ(ع): وما تملك من مال؟

وهو يعرف ما عنده وما يملكه، لأنّه هو الذي رباه، وكان علي(ع) معه في حلّه وترحاله، في ليله ونهاره، في سلمه وحربه، فهو من يعرف ميزانيّته المالية، كما يعرف فضائله العلمية وخصاله الروحيّة، ومع ذلك سأله ـ وكم من سائل عن أمره وهو عالم ـ "ما معك؟ قال: معي درعي وسيفي وهذه الثّياب التي ألبسها، قال(ص): أمّا سيفك فلا تستغني عنه، لأنه السيف الذي تذبّ به عن الإسلام، وتجلو به الكرب عن وجه رسول الله(ص)، ولكن أعطني درعك"[1]. وبيع الدرع بـ500 درهم، وكان ذلك مهر الزّهراء التي رضيت بعليّ زوجاً، وعاشت معه حياة هنيّة، لكنها مليئة بالجهد والتّعب والمشقّة، وعانت في حياتها ما لم تعانه امرأة سواها.

كفؤ فاطمة

وأهمّ ما يلفتنا في هذا الزّواج، هو ما جاء في الحديث المرويّ في "كشف الغمّة"، عـن الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، وفي غيره ـ روي عن النبيّ(ص) ـ قال(ع): "لولا أنّ الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين(ع) لفاطمة، ما كان لها كفؤ على وجه الأرض"[2].

فما هي هذه الكفاءة التي يقصدها الحديث الشّريف؟

بالتأكيد، ليست هي كفاءة النسب، لأنّ هناك أكثر من ابن عمّ للرسول(ص)، وإنما هي كفاءة الروح، وكفاءة العقل والفكر والإيمان، فقد كانت فاطمة من خلال إيمانها وعقلها وفكرها وروحها وطهرها وجهادها وزهدها، كفؤاً لعليّ(ع) ، عليّ الذي كان في المستوى الأعلى من كل هذه الصفات والمعاني والقيم والآفاق التي تحلّق مع الله سبحانه. لقد أمر الله رسوله(ص) بأن يزوّج الكفؤ بالكفؤ، والطّهر بالطهر، لأنّ هناك أكثر من نقطة يلتقيان عليها، كيف وقد تربّيا على يد رسول الله، ونهلا من معينه علماً وأخلاقاً وروحاً، وعاشا معه بما لم يعشه أيّ صحابي أو صحابية من أصحابه، فقد كانا معه في اللّيل والنّهار، وكان(ص) ينطلق ليربيهما ويصنعهما على صورته، استجابةً لنداء الله سبحانه: {وأنذِرْ عشيرتَكَ الأقربين}[الشّعراء: 214]، وحتى عندما انكفأت عنه عشيرته وكلّ الناس، كان أقرب الناس إليه روحاً وإيماناً فاطمة وعليّ(ع). ومن هنا، لاحظنا ـ من خلال التاريخ الواصل إلينا ـ أنّ ما عاشه عليّ من روح ومن انفتاح على الله ومن معرفة بالله، كانت تعيشه فاطمة(ع). ولو أنّنا درسنا عبادة عليّ وعبادة فاطمة، لوجدنا أنهما يعيشان في المستوى نفسه من القرب إلى الله والانفتاح عليه، والمعرفة بكلّ أسرار قدسه وصفاته وأسمائه.

وهنا يكمن سرّ قوله(ص): "لولا عليّ، لما كان لفاطمة كفؤ". وبالالتفات إلى ذلك، نفهم سرّ تمنّع رسول الله من تزويجها من أكابر الصّحابة. وقد روى (الصّدوق) في "عيون أخبار الرضا(ع)"، بسنده عن أبي الحسن الرضا(ع)، عن أبيه موسى الكاظم(ع)، عن آبائه عن علي(ع) ـ وهذه هي سلسلة السّند التي قال عنها الإمام أحمد بن حنبل، "إنها لو قرئت على مجنون لأفاق"[3]، لأنها من إمام إلى إمام إلى إمام إلى عليّ(ع) إلى رسول الله(ص) ـ أنه قال: "قال لي رسول الله(ص): يا عليّ، لقد عاتبني رجال من قريش في أمر فاطمة، وقالوا خطبناها إليك، فمنعتنا وزوّجتها عليّاً، فقلت لهم: والله ما أنا منعتكم وزوّجته، بل الله منعكم وزوَّجه، فهبط عليَّ جبرئيل، فقال: يا محمّد، إنّ الله جلّ جلاله يقول: لو لم أخلق عليّاً، لما كان لفاطمة ابنتك كفؤ على وجه الأرض؛ آدم فمن دونه"[4]...

في بيت الزّوجيّة

يحدّثنا تاريخ الزهراء(ع)، أنها عاشت مع زوجها كأفضل ما تكون الزّوجة محبةً ووفاءً وطاعةً ورعايةً، ولذا يذكر التاريخ، أنّها وفي أيامها الأخيرة التي أوصت فيها عليّاً بوصاياها، قالت(ع) له: "ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عرفتك"، فقال لها: "أنت أبرّ وأتقى وأعرف بالله من أن أوبّخك في شيء من ذلك"[5].

فقد كانت ترعى زوجها، وهو مثقل بأعباء الجهاد ومسؤوليّاته التي جعلته يخرج من حرب إلى حرب أخرى من حروب الإسلام، ولم تتأفّف من ذلك، مع كلّ ما يمكن أن يفرضه ذلك من ضريبة قاسية على نساء المجاهدين، ولا سيما أمثال أمير المؤمنين(ع)، الّذي كان ليث الحروب وأسد الله ورسوله، ينتقل من معركة إلى أخرى، ومن غزوة إلى غزوة، وكانت مثقلة بتربية الأولاد وهموم البيت، ولكنّ ذلك كله لم يمنعها من أن تخلص لدورها في البيت كزوجة، وأن ترعى زوجها وأولادها، كما ترعى أباها كأفضل ما تكون الرعاية، وتهتمّ بهم أفضل الاهتمام...

تقاسم مسؤوليّة البيت

كان عليّ وفاطمة(ع) يتحسّسان مسؤولية البيت فاقتسماها، وفي أحاديثنا، أن الزهراء تقاضت مع عليّ عند رسول الله(ص) ـ تقاضي المحبّة ـ حتى يقسّم العمل بينهما، فصار الاتفاق أنّ الزهراء تطحن وتعجن وتخبز، وأنّ أمير المؤمنين يكنس البيت ويستقي الماء ويحتطب[6].

وفي ذلك درسٌ للرّجال والنساء معاً:

أمّا درس الرّجال، فأن يتعلّموا من عليّ أن لا يتكبروا على خدمة المنزل، فعليّ كان يكنس ويستقي ويحتطب، والرّجل منا لا يرضى لرجولته أن يكنس ويستقي، لكنّ عليّاً، وهو سيّد الرجال، كان لا يرى بأساً في كنس البيت، لأنّ البيت بيته، والزوجة زوجته، هي إنسان كما هو إنسان، والرّجل مهما كان عظيماً، ليس أكبر من أن يخدم أولاده وزوجته وأباه وأمَّه وأخوته ومن هو مسؤول عنه.

والدّرس نفسه ينبغي أن تتعلّمه النّساء، بأن لا يعتبرن أنَّ العمل في البيت يمثّل احتقاراً لهنّ، كما هي العقليّة التي ولدت عند بعض النساء المسلمات مؤخَّراً، فالزهراء كانت تعمل وتطحن وتخبز، ونحن وإن قلنا مراراً إنّ الله لم يفرض على المرأة، ابنةً كانت أو زوجةً، أن تخدم في البيت، بيت أبيها أو زوجها، بالمعنى الشرعي للإلزام، ولكنّ الله أراد للإنسان عندما يعيش في أيّ موقع يتطلب المشاركة، أن يندفع طبيعياً بحسب طاقته، حتى يشارك في هذه الطاقة ويفجّرها، والإنسان الذي يقف في موقع المسؤوليّة، ويهمل ما أحبّه الله له وإن لم يلزمه به، هو إنسان لا يعيش الإحساس بموقعه الإنساني تجاه الإنسان الآخر، فالله عندما لم يلزم المرأة بالعمل البيتي أو تربية الأطفال والإرضاع، لم يرد لها أن تكون سلبيّة أمام ذلك، وإنما أراد لها أن تكون إنسانة العطاء، لتقدِّم من قلبها ومن طاقتها ومن جهدها بوعيها واختيارها، أن تقدِّم ما لا يجب عليها عطاءً في سبيل الله {إنَّما نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ الله}[الإنسان: 9]، بحيث تشتغل في بيتها وتخدم أولادها لوجه الله، كما تصوم وتصلّي لوجه الله، وتضحّي لوجه الله... ولذلك، عندما قال النبيّ(ص): "جهاد المرأة حسن التبعّل"[7]، فلأنّه يعرف شدّة المعاناة فيما تعيشه مع زوجها، وفيما تصبر به على أذى زوجها، وما تتحمّله من إحساساته التي قد تثقل إحساساتها، هذا إن لم تكن تعيش معه معاناة كبيرة، فإطلاق الجهاد على حسن التبعّل، لكون الجهاد يثقل المجاهدين حتى يأخذ منهم أرواحهم، وكذلك المرأة، تعاني مع زوجها حتى تكاد تفقد روحها، فإذا صبرت صبر الواعي، وصبر الإنسانة الّتي تملك شرعاً أن تمتنع عن الخدمة، فإنها تعتبر من المجاهدات في سبيل الله، ويكون لها أجر المجاهدين.

باختصار، إنّ مسألة الخدمة ـ أن يخدم أحدنا الآخر في دائرة مسؤوليّته ـ ليست مسألة تتّصل بالكرامة لتعتبر المرأة أنّ العمل في البيت احتقار لشخصيّتها، أو يعتبر الرّجل أنّ مشاركتها في العمل احتقار له أيضاً، وإنما هي مسألة تتصل بالإنسانيّة، وقيمة الإنسان في هذه الدّنيا، أن يخدم الإنسان ويخدمه الإنسان الآخر، وليس هناك إنسان خادم بالمطلق، وليس هناك إنسان سيّد بالمطلق، كلّ إنسان منّا سيّد في دائرة، وخادم في دائرة أخرى.

[المصدر: مختارات من كتاب "الزهراء القدوة"، من ص80 إلى 94]


[1] بحار الأنوار، ج43، ص127.

[2] كشف الغمّة، الأربلي، ج1، ص463.

   بحار الأنوار، ج1، ص30.[3]

 عيون أخبار الرّضا، ص281.[4]

 البحار، ج43، باب 7، ص191.[5]

 البحار، ج43، ص81.[6]

وسائل الشّيعة، ج15، ص23. [7]

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير