المرجع فضل الله(رض): دعوة الله لنا أن نصلح بين النَّاس

المرجع فضل الله(رض): دعوة الله لنا أن نصلح بين النَّاس

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر الخطبة الدّينيّة الّتي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ  4 ربيع الأوّل العام 1425ه/ الموافق 23/4/2004م، حيث تحدَّث عن أهميّة الإصلاح بين النّاس، مستعرضاً عدداً من الآيات القرآنيّة حول ذلك:

"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {فاتّقوا الله وأصلحوا ذاتَ بينِكم وأطيعوا اللهَ ورسولَه إنْ كنتم مؤمنين}، {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا الله لعلّكم ترحمون}، {لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين النّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فلسوف نؤتيه أجراً عظيماً}.

في هذه الآيات الكريمة، يؤكّد القرآن الكريم في وحي الله للناس، مسألة الإصلاح بين الناس، فهم ـ بحسب تنوّعاتهم في أفكارهم ـ يختلفون، فهناك من يتبنّى فكراً معيَّناً ليقابله شخص آخر يتبنّى فكراً مختلفاً، وهم يختلفون في مصالحهم، فهناك من ينطلق في حياته على أساس مصلحة معيَّنة، ليقابله شخص يتحرّك على أساس مصلحة أخرى، وهكذا في الانتماءات الدينيّة والمذهبيّة والحزبيّة والسياسيّة، وفي الانتماءات العائلية والعرقية والإقليمية والقومية، وما إلى ذلك، إضافةً إلى الجوانب الشخصية التي ينتمي فيها كلّ إنسان إلى ذاته، لتكون ذاته هي البوصلة التي تحدّد له مسار الطريق.

إنّ الله تعالى خلق الناس على طريقةٍ تتنوّعُ فيها كلُّ هذه العوامل: {ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين}، والاختلاف بين النّاس ليس من الضرورة أن يكون مشكلةً أو فقراً لهم، بل قد يكون عامل غنى لهم، لأنَّ المجتمع إذا اختلفت فيه طرائق التّفكير وتنوّعت، فإنّه يعطي الإنسانيّة تنوّعاً في المعرفة، ليكون ذلك سبيلاً للبحث والحوار، لأنَّ هذا عندما ينتج فكراً على أساس ما يملك من معطيات، فإن الآخر قد ينتج فكراً آخر، وعند ذلك يتحاوران، ليقرأ هذا فكر ذاك، وبالعكس، وربما يصلان إلى فكر ثالث أو إلى الوحدة بينهما".

ويتابع سماحته على هدي بعض الآيات، متحدّثاً عن الدّعوة إلى الشّورى كبرنامج للعمل الإسلاميّ:

"ولذلك رأينا أنَّ القرآن الكريم ركّز الطّابع الثقافي والسياسي والأمني في المجتمع الإسلامي على أساس الشّورى: {وأمرُهُم شورى بينهم}. والشّورى تعني أن يلتقي أهل الرّأي والخبرة والمعرفة، ليقدِّم كلّ واحد منهم منهجه وخبرته ومعرفته، وليبحث المجتمعون في هذه الأفكار المتنوّعة، ويتناقشوا فيها ويتحاوروا، ليخرجوا بالفكرة الأصلح والأصوب، بعد أن يكونوا قد أخذوا بثقافة هذا التنوّع الفكري، وقد ورد في بعض الأحاديث: "من شاور الرّجال شاركها في عقولها"، فأنت عندما لا تنفتح على عقول الآخرين، فإنّك تزداد جهلاً، لأنك عندما تفكر وحدك، فإنّ هذا التّفكير ينطلق من خلال خصوصيّاتك الذاتيّة التي قد تكون محدودة أو موروثة، بينما عندما تلتقي مع فكر آخر، فإنَّ الأفكار تتلاقح وتتعمّق.

فالله تعالى أراد لكلّ القيادات، في أيّ موقع من مواقع القيادة، أن تشاور أتباعها والناس الذين يعملون معها أو يتّبعونها، وقد أعطانا الله تعالى المثل الأعلى في النبيّ محمّد(ص)، عندما قال له: {وشاورهم في الأمر}، شاور أصحابك في أيّ قضية تنطلق في المجتمع، استمع إلى كلّ الآراء حولها. والنبيّ(ص) بما ألهمه الله تعالى وفتح قلبه على الحقيقة، وعقله النوراني على الحقّ، لا يحتاج إلى مشورة أحد: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلّا وحي يوحى}، ولكنّه أراد أن يجعله نموذجاً لكلّ القيادات الآتية من بعده، وكأنه أراد أن يقول لهذه القيادات: هذا نبيّ الله الّذي اصطفاه الله لوحيه، وأراد له أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، هذا نبيّ الله يستشير، وهو الذي يمثّل العقل الأكبر، فكيف أنتم الّذين تتكبّرون عن أن تستشيروا أحداً؟".

ويضيف سماحته بأنّ الاختلاف الّذي هو سنّة الحياة، لا بدّ من أن نحوّله إلى تلاق ووحدة، لا إلى تنافرٍ وتنازع:

"وكذلك نلاحظ عندما ندرس سيرة الإمام عليّ(ع) وسيرة الأئمّة(ع) من بعده، أنهم كانوا يطلبون المشورة من الناس. ولذلك نحن نقول: إنّ على الإنسان أن لا يتجمّد على رأي واحد، فهذه الاتباعيّة الموجودة في الشّرق، باتّباع الإنسان آباءه وأجداده، أو عائلته أو حزبه أو حركته أو جماعته، تشكّل حالة جمود، وقد ابتُلينا بالجمود الدّيني والسياسي والاجتماعي لأننا اتّباعيون، ولأننا لا نحترم الرأي الآخر والفكر الآخر.

فالاختلاف هو سنّة الحياة وسنّة الله في الإنسان، ولكنّ هناك نقطة فاصلة بين عقلية التخلّف وعقلية الوعي والانفتاح، عقلية التخلّف هي أن نحوِّل الاختلاف إلى عداوة، سواء كان اختلافاً في الفكر أو في الانتماء السياسي أو الديني، وعقليّة الوعي هي أنّه يمكن أن نختلف فيما بيننا، ولكن نبقى نحترم بعضنا بعضاً في اختلافنا، فإذا كنت أسمح لنفسي بأن أختلف معك، فلماذا لا أسمح لك بأن تختلف معي؟ لماذا تسبّ وتشتم وتعادي الذي يختلف معك؟

هذا يدلُّ أوّلاً على أنانية مرضية، ويدلّ ثانياً على نوع من أنواع الجهل واللاإنسانيّة، لأن ليس هناك أحد في الدّنيا يستطيع أن يقول أنا الحقيقة المطلقة، أنا الحقّ وغيري الباطل، أنت تدرك الحقيقة من خلال وجهة نظرك، ومن خلال تعلّمك في المدرسة أو الحوزة، ووصلت إلى هذه النّتيجة، فإدراكك للأشياء انطلق من خلال ثقافتك وبيئتك، ولم يشكّلها الله تعالى لك، فعليك أن تقبل الآخر، وليس معنى أن تقبل الآخر أن تتنازل عمّا عندك، بل أن تحاوره، وهذا ما أكّده القرآن الكريم: {ادعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن}. فالله تعالى لا يريد لنا أن نعتبر الاختلاف أساساً للحقد والتّنازع والحرب، فطرح مسألة الإصلاح بين النّاس".

ويختم سماحته بأهميّة العمل للإصلاح بين المؤمنين، وجعل ذلك برنامجاً إسلاميّاً واعياً وهادفاً ينبغي التدرّب عليه، كي نحفظ سلامة مصيرنا في الدّنيا والآخرة:

"لذلك، علينا أن نعمل على الإصلاح بين المؤمنين، وبين كلّ الناس في الدائرة العامّة، ولا سيّما في الدوائر المتنوّعة التي تختلف انتماءاتها السياسية والدينية والعائلية، وقد وعدنا الله بجائزة على هذا السّعي للإصلاح، وهي الأجر العظيم، وقد ورد في الحديث عن النبيّ(ص): "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة؟ ـ المستحبّ منهم ـ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة". والحالقة هي حالقة الدين لا حالقة الشّعر، فالعصبيات والاختلافات تحلق للإنسان والمجتمع دينه ولا تبقي منه شيئاً. وقد شهدنا هذه المشاكل التي مرّت علينا داخل الطائفة الواحدة والمذهب الواحد والوطن الواحد، إضافةً إلى العصبيات التي نشهدها هذه الأيّام في القرى والمدن، فهذا النّوع من المساعي التي تثير العصبيات، تحلق للمؤمنين دينهم، وعندما يُحلق للإنسان دينه، وينزل إلى قبره وهو محلوق الدين، فما الذي ينجيه؟

وعن النبيّ(ص) يخاطب أحد أصحابه: "يا أبا أيوب، ألا أخبرك وأدلّك على صدقة يحبّها الله ورسوله؟ تصلح بين النّاس إذا تفاسدوا أو تباعدوا"، وفي كلمة للإمام عليّ(ع) وهو يوجِّه نداءه إلى النّاس: "ثابروا على صلاح المؤمنين والمتّقين"، وفي كلمة مرويّة عنه(ع): "من كمال السّعادة السّعي في صلاح الجمهور"، وقد كان من آخر وصاياه لولديه الحسن والحسين (عليهما السّلام) ومن بلغه كتابه يقول: "وعليكم بإصلاح ذات البين، فإنّي سمعت جدّكما رسول الله يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصّلاة والصّيام".

بعض الناس عندما تدعوهم إلى الدخول في الإصلاح والتوافق، يقول لك: لقد حلفت يميناً أن لا أدخل في صلح، لأني دخلت في إصلاح ووقعت في مشكلة، ما الّذي يقولـه الله تعالى لهؤلاء الناس؟: {ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين الناس}، ويفسّر الإمام الصادق(ع) هذه الآية يقول: "إذا دعيت إلى صلح، فلا تقل عليّ يمين أن لا أفعل"، يمينك هذا لا قيمة له، لأنّ قيمة اليمين إذا كان راجحاً وفيه صلاح، أمّا هذا اليمين بعدم الدّخول في الصّلح، فالكفّارة فيه أن لا تعمل به.

هذا برنامج إسلاميّ لا بدّ للمؤمنين من أن ينطلقوا من أجل تأكيده في حياتهم، من أجل أن يعيش المؤمنون السّلام فيما بينهم، في داخل الأسرة أو العشيرة أو القرية أو الوطن كلّه، ولا سيّما في هذه الظروف التي يفقد فيها النّاس ما يأكلون ويلبسون ويتعلّمون، فلا تضيفوا إلى جوعكم وعطشكم وعريكم جوعكم إلى السّلام، لأن الله تعالى هو السّلام، ويحبّ الذين يحبّون السّلام، والجنّة هي دار السّلام، فمن عاش للحقد والعداوة والبغضاء والعصبيّة التي تؤدّي إلى الحرب بين النّاس، سواء كانت الحرب سياسية أو أمنية أو عسكرية، فلن يدخل دار السّلام، لأنك عندما تقرع باب الجنّة، فإن أول ما يُقال لك: {ادخلُوها بسلامٍ آمنين}.

لذلك، لنتدرَّب على حياة الجنّة: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سرر متقابلين} {وتحيّتهم فيها سلام}، سلام العقل وسلام القلب وسلام الحياة، فهل نتحرّك ـ والعداوة والبغضاء تحيط بنا على مستوى العالم كلّه ـ من أجل المحبة والسلام؟ الطريق مفتوح إلى الجنة، وعلينا أن لا نغلقه على أنفسنا.

بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر الخطبة الدّينيّة الّتي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ  4 ربيع الأوّل العام 1425ه/ الموافق 23/4/2004م، حيث تحدَّث عن أهميّة الإصلاح بين النّاس، مستعرضاً عدداً من الآيات القرآنيّة حول ذلك:

"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {فاتّقوا الله وأصلحوا ذاتَ بينِكم وأطيعوا اللهَ ورسولَه إنْ كنتم مؤمنين}، {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا الله لعلّكم ترحمون}، {لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين النّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فلسوف نؤتيه أجراً عظيماً}.

في هذه الآيات الكريمة، يؤكّد القرآن الكريم في وحي الله للناس، مسألة الإصلاح بين الناس، فهم ـ بحسب تنوّعاتهم في أفكارهم ـ يختلفون، فهناك من يتبنّى فكراً معيَّناً ليقابله شخص آخر يتبنّى فكراً مختلفاً، وهم يختلفون في مصالحهم، فهناك من ينطلق في حياته على أساس مصلحة معيَّنة، ليقابله شخص يتحرّك على أساس مصلحة أخرى، وهكذا في الانتماءات الدينيّة والمذهبيّة والحزبيّة والسياسيّة، وفي الانتماءات العائلية والعرقية والإقليمية والقومية، وما إلى ذلك، إضافةً إلى الجوانب الشخصية التي ينتمي فيها كلّ إنسان إلى ذاته، لتكون ذاته هي البوصلة التي تحدّد له مسار الطريق.

إنّ الله تعالى خلق الناس على طريقةٍ تتنوّعُ فيها كلُّ هذه العوامل: {ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين}، والاختلاف بين النّاس ليس من الضرورة أن يكون مشكلةً أو فقراً لهم، بل قد يكون عامل غنى لهم، لأنَّ المجتمع إذا اختلفت فيه طرائق التّفكير وتنوّعت، فإنّه يعطي الإنسانيّة تنوّعاً في المعرفة، ليكون ذلك سبيلاً للبحث والحوار، لأنَّ هذا عندما ينتج فكراً على أساس ما يملك من معطيات، فإن الآخر قد ينتج فكراً آخر، وعند ذلك يتحاوران، ليقرأ هذا فكر ذاك، وبالعكس، وربما يصلان إلى فكر ثالث أو إلى الوحدة بينهما".

ويتابع سماحته على هدي بعض الآيات، متحدّثاً عن الدّعوة إلى الشّورى كبرنامج للعمل الإسلاميّ:

"ولذلك رأينا أنَّ القرآن الكريم ركّز الطّابع الثقافي والسياسي والأمني في المجتمع الإسلامي على أساس الشّورى: {وأمرُهُم شورى بينهم}. والشّورى تعني أن يلتقي أهل الرّأي والخبرة والمعرفة، ليقدِّم كلّ واحد منهم منهجه وخبرته ومعرفته، وليبحث المجتمعون في هذه الأفكار المتنوّعة، ويتناقشوا فيها ويتحاوروا، ليخرجوا بالفكرة الأصلح والأصوب، بعد أن يكونوا قد أخذوا بثقافة هذا التنوّع الفكري، وقد ورد في بعض الأحاديث: "من شاور الرّجال شاركها في عقولها"، فأنت عندما لا تنفتح على عقول الآخرين، فإنّك تزداد جهلاً، لأنك عندما تفكر وحدك، فإنّ هذا التّفكير ينطلق من خلال خصوصيّاتك الذاتيّة التي قد تكون محدودة أو موروثة، بينما عندما تلتقي مع فكر آخر، فإنَّ الأفكار تتلاقح وتتعمّق.

فالله تعالى أراد لكلّ القيادات، في أيّ موقع من مواقع القيادة، أن تشاور أتباعها والناس الذين يعملون معها أو يتّبعونها، وقد أعطانا الله تعالى المثل الأعلى في النبيّ محمّد(ص)، عندما قال له: {وشاورهم في الأمر}، شاور أصحابك في أيّ قضية تنطلق في المجتمع، استمع إلى كلّ الآراء حولها. والنبيّ(ص) بما ألهمه الله تعالى وفتح قلبه على الحقيقة، وعقله النوراني على الحقّ، لا يحتاج إلى مشورة أحد: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلّا وحي يوحى}، ولكنّه أراد أن يجعله نموذجاً لكلّ القيادات الآتية من بعده، وكأنه أراد أن يقول لهذه القيادات: هذا نبيّ الله الّذي اصطفاه الله لوحيه، وأراد له أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، هذا نبيّ الله يستشير، وهو الذي يمثّل العقل الأكبر، فكيف أنتم الّذين تتكبّرون عن أن تستشيروا أحداً؟".

ويضيف سماحته بأنّ الاختلاف الّذي هو سنّة الحياة، لا بدّ من أن نحوّله إلى تلاق ووحدة، لا إلى تنافرٍ وتنازع:

"وكذلك نلاحظ عندما ندرس سيرة الإمام عليّ(ع) وسيرة الأئمّة(ع) من بعده، أنهم كانوا يطلبون المشورة من الناس. ولذلك نحن نقول: إنّ على الإنسان أن لا يتجمّد على رأي واحد، فهذه الاتباعيّة الموجودة في الشّرق، باتّباع الإنسان آباءه وأجداده، أو عائلته أو حزبه أو حركته أو جماعته، تشكّل حالة جمود، وقد ابتُلينا بالجمود الدّيني والسياسي والاجتماعي لأننا اتّباعيون، ولأننا لا نحترم الرأي الآخر والفكر الآخر.

فالاختلاف هو سنّة الحياة وسنّة الله في الإنسان، ولكنّ هناك نقطة فاصلة بين عقلية التخلّف وعقلية الوعي والانفتاح، عقلية التخلّف هي أن نحوِّل الاختلاف إلى عداوة، سواء كان اختلافاً في الفكر أو في الانتماء السياسي أو الديني، وعقليّة الوعي هي أنّه يمكن أن نختلف فيما بيننا، ولكن نبقى نحترم بعضنا بعضاً في اختلافنا، فإذا كنت أسمح لنفسي بأن أختلف معك، فلماذا لا أسمح لك بأن تختلف معي؟ لماذا تسبّ وتشتم وتعادي الذي يختلف معك؟

هذا يدلُّ أوّلاً على أنانية مرضية، ويدلّ ثانياً على نوع من أنواع الجهل واللاإنسانيّة، لأن ليس هناك أحد في الدّنيا يستطيع أن يقول أنا الحقيقة المطلقة، أنا الحقّ وغيري الباطل، أنت تدرك الحقيقة من خلال وجهة نظرك، ومن خلال تعلّمك في المدرسة أو الحوزة، ووصلت إلى هذه النّتيجة، فإدراكك للأشياء انطلق من خلال ثقافتك وبيئتك، ولم يشكّلها الله تعالى لك، فعليك أن تقبل الآخر، وليس معنى أن تقبل الآخر أن تتنازل عمّا عندك، بل أن تحاوره، وهذا ما أكّده القرآن الكريم: {ادعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن}. فالله تعالى لا يريد لنا أن نعتبر الاختلاف أساساً للحقد والتّنازع والحرب، فطرح مسألة الإصلاح بين النّاس".

ويختم سماحته بأهميّة العمل للإصلاح بين المؤمنين، وجعل ذلك برنامجاً إسلاميّاً واعياً وهادفاً ينبغي التدرّب عليه، كي نحفظ سلامة مصيرنا في الدّنيا والآخرة:

"لذلك، علينا أن نعمل على الإصلاح بين المؤمنين، وبين كلّ الناس في الدائرة العامّة، ولا سيّما في الدوائر المتنوّعة التي تختلف انتماءاتها السياسية والدينية والعائلية، وقد وعدنا الله بجائزة على هذا السّعي للإصلاح، وهي الأجر العظيم، وقد ورد في الحديث عن النبيّ(ص): "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة؟ ـ المستحبّ منهم ـ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة". والحالقة هي حالقة الدين لا حالقة الشّعر، فالعصبيات والاختلافات تحلق للإنسان والمجتمع دينه ولا تبقي منه شيئاً. وقد شهدنا هذه المشاكل التي مرّت علينا داخل الطائفة الواحدة والمذهب الواحد والوطن الواحد، إضافةً إلى العصبيات التي نشهدها هذه الأيّام في القرى والمدن، فهذا النّوع من المساعي التي تثير العصبيات، تحلق للمؤمنين دينهم، وعندما يُحلق للإنسان دينه، وينزل إلى قبره وهو محلوق الدين، فما الذي ينجيه؟

وعن النبيّ(ص) يخاطب أحد أصحابه: "يا أبا أيوب، ألا أخبرك وأدلّك على صدقة يحبّها الله ورسوله؟ تصلح بين النّاس إذا تفاسدوا أو تباعدوا"، وفي كلمة للإمام عليّ(ع) وهو يوجِّه نداءه إلى النّاس: "ثابروا على صلاح المؤمنين والمتّقين"، وفي كلمة مرويّة عنه(ع): "من كمال السّعادة السّعي في صلاح الجمهور"، وقد كان من آخر وصاياه لولديه الحسن والحسين (عليهما السّلام) ومن بلغه كتابه يقول: "وعليكم بإصلاح ذات البين، فإنّي سمعت جدّكما رسول الله يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصّلاة والصّيام".

بعض الناس عندما تدعوهم إلى الدخول في الإصلاح والتوافق، يقول لك: لقد حلفت يميناً أن لا أدخل في صلح، لأني دخلت في إصلاح ووقعت في مشكلة، ما الّذي يقولـه الله تعالى لهؤلاء الناس؟: {ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا بين الناس}، ويفسّر الإمام الصادق(ع) هذه الآية يقول: "إذا دعيت إلى صلح، فلا تقل عليّ يمين أن لا أفعل"، يمينك هذا لا قيمة له، لأنّ قيمة اليمين إذا كان راجحاً وفيه صلاح، أمّا هذا اليمين بعدم الدّخول في الصّلح، فالكفّارة فيه أن لا تعمل به.

هذا برنامج إسلاميّ لا بدّ للمؤمنين من أن ينطلقوا من أجل تأكيده في حياتهم، من أجل أن يعيش المؤمنون السّلام فيما بينهم، في داخل الأسرة أو العشيرة أو القرية أو الوطن كلّه، ولا سيّما في هذه الظروف التي يفقد فيها النّاس ما يأكلون ويلبسون ويتعلّمون، فلا تضيفوا إلى جوعكم وعطشكم وعريكم جوعكم إلى السّلام، لأن الله تعالى هو السّلام، ويحبّ الذين يحبّون السّلام، والجنّة هي دار السّلام، فمن عاش للحقد والعداوة والبغضاء والعصبيّة التي تؤدّي إلى الحرب بين النّاس، سواء كانت الحرب سياسية أو أمنية أو عسكرية، فلن يدخل دار السّلام، لأنك عندما تقرع باب الجنّة، فإن أول ما يُقال لك: {ادخلُوها بسلامٍ آمنين}.

لذلك، لنتدرَّب على حياة الجنّة: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سرر متقابلين} {وتحيّتهم فيها سلام}، سلام العقل وسلام القلب وسلام الحياة، فهل نتحرّك ـ والعداوة والبغضاء تحيط بنا على مستوى العالم كلّه ـ من أجل المحبة والسلام؟ الطريق مفتوح إلى الجنة، وعلينا أن لا نغلقه على أنفسنا.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير