1998م/1418ه
30/11/1998

آيات القرآن فيها شفاء روحي لا مادي.

آيات القرآن فيها شفاء روحي لا مادي.

المرجع فضل الله حول العلاج بالقرآن الكريم:

آيات القرآن فيها شفاءٌ روحيّ لا مادّيّ


يقول الحقّ سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}[الروم: 54].

لقد ركبت بعض وسائل الإعلام المقروء والمرئيّ موجة الاحتياج الإنسانيّ إلى العلاج، وسعيه للشّفاء من أمراض عضويَّة ونفسيَّة، واستعداد البعض للمتاجرة بذلك، لتساهم في الترويج لظاهرة ما يسمّى بـ"العلاج بالقرآن"، من خلال سعيها لزيادة مبيعاتها الكاسدة، وبلوغاً لهدف الإثارة، بمزيدٍ من اللّغط حول أولئك المدّعين للقدرة على شفاء كلّ الأمراض!...

"الفضائيّة"، ورغبةً منها في استجلاء هذه القضيّة الّتي تشكّل ملفّاً شائكاً، حملت تساؤلات حولها يكتنفها الغموض، إلى سماحة العلامة محمد حسين فضل الله، الّذي يمتلك سعةً ومعرفةً واطّلاعاً عميقاً ومعمّقاً في الأمور الدّينيَّة والدنيويَّة، ويشكِّل موسوعةً في العلم والمعرفة، للإجابة عن هذه التّساؤلات.


* * *

بين العلاج بالقرآن والتّبرّك به


ـ ما رأيكم فيما نطالعه اليوم حول العلاج بالقرآن؟

ـ إنَّ التبرّك بالقرآن، بحيث يلجأ الإنسان في الحالات الصَّعبة إلى كلام الله للتبرّك به وتوسّل الشّفاء، جائز، وليست المسألة مسألة علاقة عضويَّة بين الآية القرآنيّة التي يعتبرها بعض النّاس سبباً للشّفاء وبين المرض، لأنَّ مسألة المرض هي مسألة طبيعيَّة في جسد الإنسان، ناشئة عن أسباب طبيعيَّة، والله سبحانه وتعالى عندما خلق الدَّاء خلق الدَّواء. لكن يمكن للإنسان المؤمن أن يلجأ إلى خالقه ويتوسَّل بكلامه الكريم ليدفع عنه المرض، وليست المسألة مسألة علاج، بل هي مسألة دعاء وتوسّل إلى الله بما يحبّه من كلامه أو بمن يحبّه من خلقه.


ـ هل العلاج بالقرآن الكريم هو علاج نفسيّ؟

ـ إنّ الإيحاء الرّوحيّ الّذي يشعر به الإنسان من الإحساس بقداسة القرآن لأنَّه كلام الله، بحيث يعتقد جازماً أنَّ الله سيشفيه إذا قرأ هذه الآية أو تلك، أو حمل هذا القرآن، يعتبر مؤثّراً نفسيّاً تتحرّك فيه حركة العلاج النّفسيّ، فالقضيّة من هذا الجانب تتَّصل بالثّقة النفسيَّة وبالثّقة الإنسانيَّة بالآيات القرآنيّة كوسيلةٍ من وسائل المداواة، وهي في ذلك ككلّ الأشياء الإيمانيَّة الّتي يمكن للإنسان أن يعيشها، حتى إنَّ الإنسان ربما يعيش الوهم الّذي قد يتحوَّل إلى حالةٍ من الإيحاء النفسيّ، فيشفى من خلال ذلك، لأنَّ بعض الأمراض النّفسيّة تنشأ من تفاعلاتٍ شعوريَّةٍ أو من تفاعلات نفسيَّة، الأمر الَّذي يجعل اعتقاد الإنسان بأيّة وسيلة من الوسائل دواءً لمشكلته النفسيَّة.

نحن لا نريد أن نقول إنَّ مسألة الثّقة بالآيات القرآنيّة من قبيل الوهم، لكن من قبيل الحالات النفسيّة الّتي تكوّن حالات روحيَّة، وقد تكوِّن حالات عاطفيَّة أو ما إلى ذلك، مما يمكن للإنسان أن يشفى بها. لكنّنا نعود ونؤكّد عدم وجود ارتباط عضوي بين هذه الآيات والمرض،  كما يكون الارتباط بين الأشياء ومسبّباتها، إذ إنّنا لا نجد دليلاً فقهيّاً على ذلك.

المجتمعات الّتي تتأثَّر بالبدع


ـ نلاحظ أنَّ المجتمعات "المتخلِّفة" هي أكثر تأثّراً بهذا النَّوع من البدع من المجتمعات "المتحضِّرة"؟

ـ لا أتصوَّر أنَّ المسألة مسألة تقدّم أو تخلّف، إذ إنَّنا نجد مثلاً أنَّ المجتمعات المسمَّاة متقدّمة، غالباً ما تستخدم مسألة الأبراج الَّتي تفرض نفسها بشكل كبير على صفحات المجلات والجرائد، ونحن نعرف أنَّ مسألة الأبراج ليس لها أيّ أساس، لا علميّ ولا دينيّ، ولكنّ الناس يستعملونها، وبعضهم يؤمن بها، كما أنّنا نرى الكثير من النّاس في أميركا، وهم على مستويات عالية من الثّقافة، يخضعون لتأثير شخصٍ يأتي من الهند بصرعة روحيَّة، ويلتفّ حوله رهط كبير من النّاس قد يصل عددهم إلى عشرات الألوف، إضافةً إلى ذلك، نجد أنّ العديد من السياسيّين والمثقّفين يقصدون العرّافين وقارئات الحظّ أو ضاربات المندل، ونحن نعرف أنَّ هذا يحدث مع بعض السياسيّين في لبنان، الّذين يزورون البصّارات، وهذه الظّاهرة تندرج في سلسلة قضايا الضّعف الإنسانيّ.

نحن ندرك أنَّ الإنسان الّذي يعيش الضّعف أمام بعض الآلام أو من بعض المشكلات، يحاول أن يلجأ إلى أيِّ شيءٍ مما هو خارج الواقع المادّيّ، ما يمكن أن يساهم في حلّ الكثير من المشكلات النّفسيَّة، وقد يساهم في حلِّ بعض المشكلات الّتي لها جانب نفسيّ، إضافةً إلى الجانب العضويّ، لكنّ ذلك يتمّ بقدرة الله. وقد يلجأ النّاس إلى الخرافة، وهذا ما نلاحظة لدى الَّذين يعيشون التقدّم، فقضيَّة التقدّم أو التخلّف لا تُقاس بحجم العلم الّذي يختزنه الإنسان في فكره، بل في حجم الوعي الَّذي يتمتَّع به هذا الإنسان في محيطه.


إنَّ الكثيرين ممن بلغوا المرتبة العليا من العلم، يتحوَّلون إلى أشخاص عاديّين عندما يعيشون بعض الآلام أو بعض المشاكل الّتي تسقط أوضاعهم وما إلى ذلك. إنَّ المسألة إذاً هي الضَّعف الإنسانيّ، وليست مسألة ما يختزنه الإنسان من علم.


ادّعاءات وأوهام

ـ ما رأيكم في الصّور التي نشاهدها عبر وسائل الإعلام عن الّذين يقومون بالعلاج، حيث تتضمَّن هذه الصّور عرضاً لبعض المرضى قبل العلاج وبعد الشّفاء، إثباتاً لصحة ادّعاءاتهم؟

ـ إنَّني أتصوَّر أنَّ الحديث عن أنَّ الجنّ يتلبَّس الإنسان أو يؤذيه، هو حديث ليس له أساس دينيّ، فنحن نؤمن بالجنّ، لأنَّ الله حدَّثنا عنه، ولكنَّنا لا نجد أنَّ هناك أساساً لتسليط الله للجنّ بهذه الطّريقة. ولو دقّقنا في هذه الحالة الّتي يتلبّسها الجنّ أو يمسّها أو يؤذيها، لوجدنا أنَّ هناك أسباباً حقيقيّة في الواقع، مثل صدمة نفسيّة تهزّ الكيان العصبي لهذا الإنسان، أو بعض المشكلات الواقعيّة التي يربطها الإنسان بالجنّ، قبل أن يدرس أساسها في حركة الواقع.


وربما يكون هؤلاء الّذين يتحركون بعنوان أنهم يخرجون الجنّ من هذه الحالة أو تلك، يستعملون الجانب النفسيّ أو الإيحائيّ، وخصوصاً إذا اعتقد صاحب الحالة أنَّ الجنَّ لبسه أو أنه يسيطر عليه (وهناك بعض النّسوة اللّواتي يعتبرن أنَّ جنّياً تزوّجهنّ أو ما شابه)، وهذه الشّريحة الّتي تعتقد بسلطة هؤلاء على الجنّ، تأتي إلى أحدهم مسبوقةً بتلك الثّقة التي توليها له، باعتبار أنّها القادرة على المعالجة، فيقوم هذا المعالج ببعض الحيل أو الخدع أو بعض الأشياء الأخرى، ويقول له قد شفيت، فهو يشفى لا لأنّ هناك جنّياً خرج من جسده، بل لأنَّ هناك وهماً خرج منه. تلك هي المسألة، وليست المسألة حقيقيّة...


إنّني أقول للنّاس دائماً: لا تبيعوا عقولكم لأحد. إننا لو درسنا حالة هؤلاء الّذين يبيعون للنّاس أحلاماً، والّذين يدَّعون أنهم ينقذونهم من الجنّ أو القرينة أو ما شابه ذلك، لرأينا أنهم عندما يعانون تلك المشكلات، فإنهم يلجأون إلى الطّبيب، ولا يقصدون ما عندهم، إنها مسألة مهنة يعيشون منها، معتمدين على ذهنيَّة متخلّفة موجودة لدى النّاس، ومعتمدين على الآلام الّتي يعيشها هؤلاء الذين يبحثون عن أيّ شيء للتخلّص منها. ونحن نعتقد أنّ المسألة أنَّ الله جعل رزق هؤلاء على النّاس الجهلة.


ـ ما رأيكم بالهالة الّتي أحاطت بهذا الموضوع في الآونة الأخيرة، وإظهاره بشكلٍ وكأنَّه مخرج لأيِّ أزمةٍ أو حالةٍ سياسيّةٍ مثلاً؟

ـ إنَّ لهذه الفكرة بُعدَين؛ الأوّل واقعيّ، الّذي يجعل مسألة القرآن دواءً كما هو الدّواء بالنّسبة إلى المرضى، ومن النّاحية الماديّة هذا أمر ننفيه، لأنّ ما ورد من الله، هو شفاءٌ لما في الصّدور شفاءً روحيّاً وشفاءً عقليّاً، وليس المراد الشّفاء الماديّ.


البعد الثاني، هو البعد الرّوحيّ، الذي يجعل الإنسان يبتهل ويتوسَّل بالقرآن، ويطلب من الله أن يشفيه، وهذا موجود في القرآن، فقد قال الله عزَّ وجلّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60]، {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186]، فمن الممكن جدّاً أن يعيش الإنسان أجواء القرآن والأجواء الروحيّة ليتوسّل إلى الله سبحانه وتعالى بكلامه ليشفيه. إنَّ هذه المسألة تتّصل بالجانب الإيماني، والوعي الإيماني، والثّقة بالله، وعدم اليأس من روح الله ورحمته، والأمل بالله، أكثر مما تتّصل بالجانب المادّيّ في علاقة الآية بهذا المرض.


ونحن لسنا سلبيّين أمام مسألة أن يلجأ الإنسان إلى الله من خلال اللّجوء إلى آياته. إنّني أعتقد أنَّ المسألة تتَّصل بحالةٍ سياسيّةٍ معقّدة، وإن كنا لا نمانع القول إنّ هناك تخطيطاً لإشغال النّاس ببعض الأمور الّتي تبعدهم عن الواقع، كما أنني أتصوّر أنّ الصّحافة تتطرق إلى هذا الموضوع من باب "الصّرعات" الصّحافيّة، باعتبار أنّها تعتمد على الخبر المثير..


ومن هنا، فإنَّ هذه الأمور، مثل صفحة الأبراج والأشياء الخفيّة التي تعالج الظواهر الخارقة وغير العادية، تجتذب القارئ، وكذلك هو حال أجهزة الإعلام الإذاعيّة والتلفزيونيّة مع المستمع أو المشاهد، فمشكلتنا هي هذه الفوضى أو هذا الركام من الفوضى الثقافيّة التي نعيشها في واقعنا، والتي تتحرّك فيها بعض القضايا غير الدينيّة بعنوان أنها دينيّة، أو غير العلميّة بعنوان أنها علميّة، ومشكلتنا أنَّنا نعيش في متاهات الخرافة باسم الحقيقة، وأنّنا نرفض الحقيقة باسم الخرافة، وليس هناك من يقف ويملك القوَّة لكي يفرّق بين الحقيقة والخرافة، فقد يتعصَّب النّاس للخرافة، ويرفضون كلَّ ما يمتّ إلى الحقيقة.


إنني أقول لكلّ هؤلاء الناس، إنَّ الله خلق لنا عقلاً، وأراد منّا أن نعرفه بالعقل، وأن نطيعه بالعقل، وجعل الرّسالة رديفةً للعقل، والله لم ينزل القرآن ليكون دواءً لما هو في الجسد، بل أنزل القرآن ليكون دواءً للعقل والرّوح والإحساس والشعور.


إنَّ على الإنسان أن يحترم عقله وعلمه، فمن أين يعرف هؤلاء النّاس الغيب، والله هو وحده العالم بالغيب، وهو الّذي أعطى لأنبيائه وأوليائه بعض المعرفة بأمور الغيب مما يحتاجونه في رسالاتهم؟! وما هي القوّة الروحيّة أو الماديّة التي يتمتّع بها هؤلاء، والتي تصلهم بالجنّ أو ما إلى ذلك، كصرعة تحضير الأرواح أو الجانّ وصرعة التحرّك مع الجانّ؟! إنّ هذه مسائل ليس لها أساس في الحقيقة الدينيّة، بل هي أمور يستغلّون فيها النّاس المتألّمين اليائسين، من أجل أن يتاجروا بأحلامهم ومشكلاتهم.


إنّني أقول للنّاس، إنَّ الله خلق الدّاء وخلق معه الدّواء، فعليهم في أيٍّ حالة صرع أن يلجأوا إلى العلم الّذي يعرف مسبّبات هذه الحالة، لا أن يقصدوا "أصدقاء الجنّ"، وإذا وصلتم إلى حالةٍ من الإحباط أمام الدّواء، فالجأوا إلى الله سبحانه وتعالى، وابتهلوا إليه، ولعلّ الله يستجيب لكم، فهو يحيي العظام وهي رميم، والله لا يريد لعبده أن ييأس حتى لو لم يكن هناك دواء، لأنّه يمكن أن يكتشف أحدهم الدّواء في اللّحظة الثانية، فلا تيأسوا من رحمة الله، لأنّه لا ييأس منها إلا القوم الكافرون.


إنَّ علينا أن نفهم أنَّ الحياة تتّصل بالواقع الّذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وأنّ الغيب هو في علمه وحده، وأن ليس هناك من يملك معرفة الغيب من البشر، وأنَّ القدرات الخفيَّة الّتي يتوهَّمها الناس هي من دون أساس.


أجرت المقابلة: غنوة خليل، مجلة "الفضائيَّة"، بتاريخ: 1-12-1998م/ الموافق: 12 -8- 1419هـ].

المرجع فضل الله حول العلاج بالقرآن الكريم:

آيات القرآن فيها شفاءٌ روحيّ لا مادّيّ


يقول الحقّ سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}[الروم: 54].

لقد ركبت بعض وسائل الإعلام المقروء والمرئيّ موجة الاحتياج الإنسانيّ إلى العلاج، وسعيه للشّفاء من أمراض عضويَّة ونفسيَّة، واستعداد البعض للمتاجرة بذلك، لتساهم في الترويج لظاهرة ما يسمّى بـ"العلاج بالقرآن"، من خلال سعيها لزيادة مبيعاتها الكاسدة، وبلوغاً لهدف الإثارة، بمزيدٍ من اللّغط حول أولئك المدّعين للقدرة على شفاء كلّ الأمراض!...

"الفضائيّة"، ورغبةً منها في استجلاء هذه القضيّة الّتي تشكّل ملفّاً شائكاً، حملت تساؤلات حولها يكتنفها الغموض، إلى سماحة العلامة محمد حسين فضل الله، الّذي يمتلك سعةً ومعرفةً واطّلاعاً عميقاً ومعمّقاً في الأمور الدّينيَّة والدنيويَّة، ويشكِّل موسوعةً في العلم والمعرفة، للإجابة عن هذه التّساؤلات.


* * *

بين العلاج بالقرآن والتّبرّك به


ـ ما رأيكم فيما نطالعه اليوم حول العلاج بالقرآن؟

ـ إنَّ التبرّك بالقرآن، بحيث يلجأ الإنسان في الحالات الصَّعبة إلى كلام الله للتبرّك به وتوسّل الشّفاء، جائز، وليست المسألة مسألة علاقة عضويَّة بين الآية القرآنيّة التي يعتبرها بعض النّاس سبباً للشّفاء وبين المرض، لأنَّ مسألة المرض هي مسألة طبيعيَّة في جسد الإنسان، ناشئة عن أسباب طبيعيَّة، والله سبحانه وتعالى عندما خلق الدَّاء خلق الدَّواء. لكن يمكن للإنسان المؤمن أن يلجأ إلى خالقه ويتوسَّل بكلامه الكريم ليدفع عنه المرض، وليست المسألة مسألة علاج، بل هي مسألة دعاء وتوسّل إلى الله بما يحبّه من كلامه أو بمن يحبّه من خلقه.


ـ هل العلاج بالقرآن الكريم هو علاج نفسيّ؟

ـ إنّ الإيحاء الرّوحيّ الّذي يشعر به الإنسان من الإحساس بقداسة القرآن لأنَّه كلام الله، بحيث يعتقد جازماً أنَّ الله سيشفيه إذا قرأ هذه الآية أو تلك، أو حمل هذا القرآن، يعتبر مؤثّراً نفسيّاً تتحرّك فيه حركة العلاج النّفسيّ، فالقضيّة من هذا الجانب تتَّصل بالثّقة النفسيَّة وبالثّقة الإنسانيَّة بالآيات القرآنيّة كوسيلةٍ من وسائل المداواة، وهي في ذلك ككلّ الأشياء الإيمانيَّة الّتي يمكن للإنسان أن يعيشها، حتى إنَّ الإنسان ربما يعيش الوهم الّذي قد يتحوَّل إلى حالةٍ من الإيحاء النفسيّ، فيشفى من خلال ذلك، لأنَّ بعض الأمراض النّفسيّة تنشأ من تفاعلاتٍ شعوريَّةٍ أو من تفاعلات نفسيَّة، الأمر الَّذي يجعل اعتقاد الإنسان بأيّة وسيلة من الوسائل دواءً لمشكلته النفسيَّة.

نحن لا نريد أن نقول إنَّ مسألة الثّقة بالآيات القرآنيّة من قبيل الوهم، لكن من قبيل الحالات النفسيّة الّتي تكوّن حالات روحيَّة، وقد تكوِّن حالات عاطفيَّة أو ما إلى ذلك، مما يمكن للإنسان أن يشفى بها. لكنّنا نعود ونؤكّد عدم وجود ارتباط عضوي بين هذه الآيات والمرض،  كما يكون الارتباط بين الأشياء ومسبّباتها، إذ إنّنا لا نجد دليلاً فقهيّاً على ذلك.

المجتمعات الّتي تتأثَّر بالبدع


ـ نلاحظ أنَّ المجتمعات "المتخلِّفة" هي أكثر تأثّراً بهذا النَّوع من البدع من المجتمعات "المتحضِّرة"؟

ـ لا أتصوَّر أنَّ المسألة مسألة تقدّم أو تخلّف، إذ إنَّنا نجد مثلاً أنَّ المجتمعات المسمَّاة متقدّمة، غالباً ما تستخدم مسألة الأبراج الَّتي تفرض نفسها بشكل كبير على صفحات المجلات والجرائد، ونحن نعرف أنَّ مسألة الأبراج ليس لها أيّ أساس، لا علميّ ولا دينيّ، ولكنّ الناس يستعملونها، وبعضهم يؤمن بها، كما أنّنا نرى الكثير من النّاس في أميركا، وهم على مستويات عالية من الثّقافة، يخضعون لتأثير شخصٍ يأتي من الهند بصرعة روحيَّة، ويلتفّ حوله رهط كبير من النّاس قد يصل عددهم إلى عشرات الألوف، إضافةً إلى ذلك، نجد أنّ العديد من السياسيّين والمثقّفين يقصدون العرّافين وقارئات الحظّ أو ضاربات المندل، ونحن نعرف أنَّ هذا يحدث مع بعض السياسيّين في لبنان، الّذين يزورون البصّارات، وهذه الظّاهرة تندرج في سلسلة قضايا الضّعف الإنسانيّ.

نحن ندرك أنَّ الإنسان الّذي يعيش الضّعف أمام بعض الآلام أو من بعض المشكلات، يحاول أن يلجأ إلى أيِّ شيءٍ مما هو خارج الواقع المادّيّ، ما يمكن أن يساهم في حلّ الكثير من المشكلات النّفسيَّة، وقد يساهم في حلِّ بعض المشكلات الّتي لها جانب نفسيّ، إضافةً إلى الجانب العضويّ، لكنّ ذلك يتمّ بقدرة الله. وقد يلجأ النّاس إلى الخرافة، وهذا ما نلاحظة لدى الَّذين يعيشون التقدّم، فقضيَّة التقدّم أو التخلّف لا تُقاس بحجم العلم الّذي يختزنه الإنسان في فكره، بل في حجم الوعي الَّذي يتمتَّع به هذا الإنسان في محيطه.


إنَّ الكثيرين ممن بلغوا المرتبة العليا من العلم، يتحوَّلون إلى أشخاص عاديّين عندما يعيشون بعض الآلام أو بعض المشاكل الّتي تسقط أوضاعهم وما إلى ذلك. إنَّ المسألة إذاً هي الضَّعف الإنسانيّ، وليست مسألة ما يختزنه الإنسان من علم.


ادّعاءات وأوهام

ـ ما رأيكم في الصّور التي نشاهدها عبر وسائل الإعلام عن الّذين يقومون بالعلاج، حيث تتضمَّن هذه الصّور عرضاً لبعض المرضى قبل العلاج وبعد الشّفاء، إثباتاً لصحة ادّعاءاتهم؟

ـ إنَّني أتصوَّر أنَّ الحديث عن أنَّ الجنّ يتلبَّس الإنسان أو يؤذيه، هو حديث ليس له أساس دينيّ، فنحن نؤمن بالجنّ، لأنَّ الله حدَّثنا عنه، ولكنَّنا لا نجد أنَّ هناك أساساً لتسليط الله للجنّ بهذه الطّريقة. ولو دقّقنا في هذه الحالة الّتي يتلبّسها الجنّ أو يمسّها أو يؤذيها، لوجدنا أنَّ هناك أسباباً حقيقيّة في الواقع، مثل صدمة نفسيّة تهزّ الكيان العصبي لهذا الإنسان، أو بعض المشكلات الواقعيّة التي يربطها الإنسان بالجنّ، قبل أن يدرس أساسها في حركة الواقع.


وربما يكون هؤلاء الّذين يتحركون بعنوان أنهم يخرجون الجنّ من هذه الحالة أو تلك، يستعملون الجانب النفسيّ أو الإيحائيّ، وخصوصاً إذا اعتقد صاحب الحالة أنَّ الجنَّ لبسه أو أنه يسيطر عليه (وهناك بعض النّسوة اللّواتي يعتبرن أنَّ جنّياً تزوّجهنّ أو ما شابه)، وهذه الشّريحة الّتي تعتقد بسلطة هؤلاء على الجنّ، تأتي إلى أحدهم مسبوقةً بتلك الثّقة التي توليها له، باعتبار أنّها القادرة على المعالجة، فيقوم هذا المعالج ببعض الحيل أو الخدع أو بعض الأشياء الأخرى، ويقول له قد شفيت، فهو يشفى لا لأنّ هناك جنّياً خرج من جسده، بل لأنَّ هناك وهماً خرج منه. تلك هي المسألة، وليست المسألة حقيقيّة...


إنّني أقول للنّاس دائماً: لا تبيعوا عقولكم لأحد. إننا لو درسنا حالة هؤلاء الّذين يبيعون للنّاس أحلاماً، والّذين يدَّعون أنهم ينقذونهم من الجنّ أو القرينة أو ما شابه ذلك، لرأينا أنهم عندما يعانون تلك المشكلات، فإنهم يلجأون إلى الطّبيب، ولا يقصدون ما عندهم، إنها مسألة مهنة يعيشون منها، معتمدين على ذهنيَّة متخلّفة موجودة لدى النّاس، ومعتمدين على الآلام الّتي يعيشها هؤلاء الذين يبحثون عن أيّ شيء للتخلّص منها. ونحن نعتقد أنّ المسألة أنَّ الله جعل رزق هؤلاء على النّاس الجهلة.


ـ ما رأيكم بالهالة الّتي أحاطت بهذا الموضوع في الآونة الأخيرة، وإظهاره بشكلٍ وكأنَّه مخرج لأيِّ أزمةٍ أو حالةٍ سياسيّةٍ مثلاً؟

ـ إنَّ لهذه الفكرة بُعدَين؛ الأوّل واقعيّ، الّذي يجعل مسألة القرآن دواءً كما هو الدّواء بالنّسبة إلى المرضى، ومن النّاحية الماديّة هذا أمر ننفيه، لأنّ ما ورد من الله، هو شفاءٌ لما في الصّدور شفاءً روحيّاً وشفاءً عقليّاً، وليس المراد الشّفاء الماديّ.


البعد الثاني، هو البعد الرّوحيّ، الذي يجعل الإنسان يبتهل ويتوسَّل بالقرآن، ويطلب من الله أن يشفيه، وهذا موجود في القرآن، فقد قال الله عزَّ وجلّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60]، {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186]، فمن الممكن جدّاً أن يعيش الإنسان أجواء القرآن والأجواء الروحيّة ليتوسّل إلى الله سبحانه وتعالى بكلامه ليشفيه. إنَّ هذه المسألة تتّصل بالجانب الإيماني، والوعي الإيماني، والثّقة بالله، وعدم اليأس من روح الله ورحمته، والأمل بالله، أكثر مما تتّصل بالجانب المادّيّ في علاقة الآية بهذا المرض.


ونحن لسنا سلبيّين أمام مسألة أن يلجأ الإنسان إلى الله من خلال اللّجوء إلى آياته. إنّني أعتقد أنَّ المسألة تتَّصل بحالةٍ سياسيّةٍ معقّدة، وإن كنا لا نمانع القول إنّ هناك تخطيطاً لإشغال النّاس ببعض الأمور الّتي تبعدهم عن الواقع، كما أنني أتصوّر أنّ الصّحافة تتطرق إلى هذا الموضوع من باب "الصّرعات" الصّحافيّة، باعتبار أنّها تعتمد على الخبر المثير..


ومن هنا، فإنَّ هذه الأمور، مثل صفحة الأبراج والأشياء الخفيّة التي تعالج الظواهر الخارقة وغير العادية، تجتذب القارئ، وكذلك هو حال أجهزة الإعلام الإذاعيّة والتلفزيونيّة مع المستمع أو المشاهد، فمشكلتنا هي هذه الفوضى أو هذا الركام من الفوضى الثقافيّة التي نعيشها في واقعنا، والتي تتحرّك فيها بعض القضايا غير الدينيّة بعنوان أنها دينيّة، أو غير العلميّة بعنوان أنها علميّة، ومشكلتنا أنَّنا نعيش في متاهات الخرافة باسم الحقيقة، وأنّنا نرفض الحقيقة باسم الخرافة، وليس هناك من يقف ويملك القوَّة لكي يفرّق بين الحقيقة والخرافة، فقد يتعصَّب النّاس للخرافة، ويرفضون كلَّ ما يمتّ إلى الحقيقة.


إنني أقول لكلّ هؤلاء الناس، إنَّ الله خلق لنا عقلاً، وأراد منّا أن نعرفه بالعقل، وأن نطيعه بالعقل، وجعل الرّسالة رديفةً للعقل، والله لم ينزل القرآن ليكون دواءً لما هو في الجسد، بل أنزل القرآن ليكون دواءً للعقل والرّوح والإحساس والشعور.


إنَّ على الإنسان أن يحترم عقله وعلمه، فمن أين يعرف هؤلاء النّاس الغيب، والله هو وحده العالم بالغيب، وهو الّذي أعطى لأنبيائه وأوليائه بعض المعرفة بأمور الغيب مما يحتاجونه في رسالاتهم؟! وما هي القوّة الروحيّة أو الماديّة التي يتمتّع بها هؤلاء، والتي تصلهم بالجنّ أو ما إلى ذلك، كصرعة تحضير الأرواح أو الجانّ وصرعة التحرّك مع الجانّ؟! إنّ هذه مسائل ليس لها أساس في الحقيقة الدينيّة، بل هي أمور يستغلّون فيها النّاس المتألّمين اليائسين، من أجل أن يتاجروا بأحلامهم ومشكلاتهم.


إنّني أقول للنّاس، إنَّ الله خلق الدّاء وخلق معه الدّواء، فعليهم في أيٍّ حالة صرع أن يلجأوا إلى العلم الّذي يعرف مسبّبات هذه الحالة، لا أن يقصدوا "أصدقاء الجنّ"، وإذا وصلتم إلى حالةٍ من الإحباط أمام الدّواء، فالجأوا إلى الله سبحانه وتعالى، وابتهلوا إليه، ولعلّ الله يستجيب لكم، فهو يحيي العظام وهي رميم، والله لا يريد لعبده أن ييأس حتى لو لم يكن هناك دواء، لأنّه يمكن أن يكتشف أحدهم الدّواء في اللّحظة الثانية، فلا تيأسوا من رحمة الله، لأنّه لا ييأس منها إلا القوم الكافرون.


إنَّ علينا أن نفهم أنَّ الحياة تتّصل بالواقع الّذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وأنّ الغيب هو في علمه وحده، وأن ليس هناك من يملك معرفة الغيب من البشر، وأنَّ القدرات الخفيَّة الّتي يتوهَّمها الناس هي من دون أساس.


أجرت المقابلة: غنوة خليل، مجلة "الفضائيَّة"، بتاريخ: 1-12-1998م/ الموافق: 12 -8- 1419هـ].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير