عشت حياة بؤس وطفولة خالية من الفرح

عشت حياة بؤس وطفولة خالية من الفرح

تجــربــة حيــاة

(السيد ) محمد حسين فضل الله "الشيخ" الذي قرأ كتب "ماركس":

عشت حياة بؤس وطفولة خالية من الفرح

زياد عيتاني ـ هشام عليوان ـ بيروت

(السيد) محمد حسين فضل الله، ليس فقط مرجعاً دينياً وزعيماً سياسياً ونجماً إعلامياً، منذ الثمانينات على الأقلّ، بل هو أيضاً إنسان مرهف الحس، عالي الشاعرية، متوقد الذكاء.

وهو كذلك واثقٌ بنفسه من دون تكبّر، داعية أصيل للوحدة الإسلامية، ومنافح صلب عما يراه حقاً، ويؤمن بالحوار مع الآخر. "عكاظ الأسبوعية" زارت(المرجع العلامة السيد) فضل الله في منـزله في ضاحية بيروت الجنوبية، وكان معه هذا الحوار:

الانطلاقـة الأولـى

* حدثنا بدايةً عن نشأتكم الأولى ومرحلة الطفولة وكيف تأثرت شخصيتكم ببيئة العائلة؟

ـ نشأتُ في بيئة علمية دينية في النجف الأشرف، حيث ولدتُ وعشتُ هناك مناخاً دينياً يتمثّل في ما يملكه الوالد ـ رحمه الله ـ من روحية دينية كنت أمتصّها لا شعورياً مع إنسانية رائعة، فلا أتذكّر أن عاملني بقسوة في أية حالة من حالات طفولتي الأولى، بالرغم مما يبدر مني من أخطاء، كنت في تلك الفترة من طفولتي الأولى أعيش في جوٍ لا يحمل الكثير من فرص لهو الطفل ولعبه، ما كان يترك انطباعاً لا شعورياً قاسياً في نفسي، لأن لعب الطفولة ولهوها يمكن أن يفتح الكثير من مشاعر الإنسان على كثيرٍ من حالات الفرح، لذلك لم أكن أعيش الفرح بحالة الرحابة من حالات السرور، والتي يعيشها الطفل، لا سيما وأن الواقع المادي كان واقعاً قاسياً ضيّقاً.

فقد كنا نعيش في وضع صعب جداً فيما نأكل وفي ما نلبس وفي ما نسكن... ولهذا كنت أحاول منذ البداية أن ألجأ إلى القراءة، فكنت قارئاً منذ سنّ العاشرة أو الثانية عشرة، أقرأ الشعر والقصص المترجمة، ولا سيما قصص المنفلوطي التي كانت مأساوية غالباً وتستنـزف الدمع، كما كنت أقرأ بعض الترجمات الفرنسية، مثل قصص أناتول فرانس وما كان يترجمه أحمد حسن الزيات من أشعار لمارتين، وكانت قراءاتي متنوعة وحديثة، حتى إنني كنت أتعامل مع بعض المكتبات وأستعير منها المجلاّت الأسبوعية المصرية كمجلّة "آخر ساعة" و"المصوّر".

وكنت أقرأ مبكراً المجلات الثقافية، كالرسالة والثقافة والكتاب لعادل غضبان وأشعار المعاصرين، وقد تأثرت كثيراً بالأخطل الصغير إلى جانب الياس أبو شبكة وغيرهما، إلى جانب الجواهري في العراق.

في ظلّ الأفكار الوافدة

* في تلك الفترة، كان هناك رواج كبير للأفكار الغربية والحركات السياسية التي يموج بها العراق، فكيف تعاملتم مع تلك الأفكار؟

ـ كان الجوّ يحفلُ بالتيّارات السياسية، فكان هناك التيّار الماركسي، حيث بدايات الحزب الشيوعي، وكان هناك تيار القومية العربية والتيار الديمقراطي الذي يصدر جريدة "الأهالي". هذا التنوّع السياسي كان يقف موقفاً معارضاً للحكم الملكي آنذاك، والذي كان متّهماً بأنّه ذو خلفية بريطانية تتمثل في رئيس الوزراء نوري السعيد، فكنت في بداياتي الإسلامية حوارياً، وقد كنت في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر، وكانت لنا كشباب مسلم علاقات مع شيوعيين وقوميين، وكنا ندخل الحوار مع الشباب في مثل عمرنا بالطريقة الساذجة التي نفهم بها الشيوعية والقومية، حتى إني كنت أحمل من خلال مناخي فكرة سلبية ضد القومية العربية، وأذكر أنني نظّمت قصيدة طويلة هاجمت فيها القومية العربية، وكنا نفهم القومية على أساس أنها عنصرية، وأنّها تلتقي مع التيار النازي في ذلك الحين، فكما رفع التيار النازي شعار أن ألمانيا فوق الجميع، كذلك فإن التيّار القومي يعتبر أنّ العرب فوق الجميع، فقد كانت في نظرنا قومية عربية شوفينية، ومن الطبيعي أنه تطوّر فهمنا للقومية العربية لاحقاً.

* وهل القومية العربية تطورت؟

ـ نعم تطورت، وقد كنت أعيش الحوار الدائم مع هذه الاتجاهات، لأنني كنت إسلامياً منذ البداية.

* ألم تعجب بكتابات غير إسلامية؟

ـ كنت أقرأ مثلاً كتب "المادية الديالكتيكية" و"المادية التاريخية"، وكنت أقرأ الكتابات القومية وأطّلع على جريدة الأهالي، ولكن بحسب الثقافة التي كانت تتوافر لي آنذاك.

وعندما جئت إلى لبنان لأول مرة عام 1952، وكنت في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، بدأت جلسات حوارية في الجنوب اللبناني مع الشيوعيين والقوميين العرب. وكنت ألتقي ببعض الشخصيات الفكرية مثل الدكتور حسين مروة الذي كانت تربطني به علاقة ومعرفة، وكانت هناك أحاديث متنوعة، واستطعت من خلال التنوع الثقافي الذي كنت ألمّ به بطريقة أو بأخرى، أن أنفتح على الحوار أو على الآخر منذ تلك اللحظة، فلم أكن أتعقد من فكر الآخر المعارض، وكنت أفكر أن عليّ أن أدير الحوار مع الفكر الآخر وما هو السبيل للتفاهم والتحاور في هذا المجال.

فـي الشعـر

* متى بدأتم نظم الشعر؟

ـ في سن العاشرة، ثم درجت على إلقاء بعض هذه القصائد في المناسبات.

* ماذا كنتم تحفظون من الشعر؟

ـ كنتُ أحفظ من الشعر القديم والشعر الحديث، وكنت أتابع الشعر وما زلت أتابعه، حتى الشعر الحديث منه.

* "على شاطىء الوجدان" ديوان شعر للشيخ فضل الله قد لا يعرفه الكثيرون.. متى كتبته؟

ـ تاريخ هذه القصائد وطبيعة التجارب فيها كانت في بدايات الشباب التي تقترب من سنّ المراهقة، ما جعل التجربة الشعرية في المضمون تتحرك في حيرة الشعور بين أجواء الحب الذي كان ينطلق في آفاق التجريد لا في حركة التجربة الحية، بحيث كان انطلاقة في الخيال ووحياً في الأحلام، وليس إحساساً في الواقع، وبين أجواء التشاؤم الذي يضيق فيه الأفق عن التطلعات، ولكنها في كل نماذجها، لم تبتعد عن الواقع النفسي الذي كنت أعيشه في نبضات القلب وارتعاشات الإحساس واهتزازات الوجدان.

وإذا كنت الآن أعيش بعض التطلّعات التي تختلف عن تطلعات الشباب الأولى، فإني لا أتنكّر لكل مشاعر الحنين لتلك الفترة القلقة الحائرة من حياتي، فقد منحتني الكثير من الغنى في الإحساس والانفتاح على الحياة.

أما الجانب الفني من هذه التجربة، فلا أملك الدخول في تحديد موقعها الأدبي ودرجتها الجمالية، ولكني أستطيع أن أقول إن هناك أكثر من لفتة فنية جمالية في أكثر من نموذج من نماذجها، بحيث لا يكون الجهد في قراءتها وإخراجها للقراء جهداً ضائعاً من الناحية الجمالية، مهما اختلفت المقاييس وتعدّدت الأذواق.

إنها قطعةٌ من حياتي بكل آلامها وأحلامها، ولذلك فإني عندما أقدمها إليكم، فإنني أقدم بعض ذاتي الذي شارك في تأثيراته الفكرية والشعورية في بناء بعض ذاتي الآخر الذي هو أنا الآن، لأن الإنسان في الحاضر يمثل بعض طفولته وشبابه في الماضي، لأن الطفل لا يموت في الشاب، كما أن الشاب لا يفنى في الشيخ، بل تبقى لكل مرحلة من مراحل العمر حركتها في العمق وفي الامتداد.

اختيار طريق العلم والعلماء

* إنتهاجكم سلك العلم الشرعي؛ هل كان خياركم أو خيار الوالد؟

ـ كان خيار المناخ المحيط بي، لأنني بدأت الدراسة الدينية منذ سن العاشرة، وكانت أيضاً رغبة من الوالد، باعتبار أنني من عائلة علمية، حيث يحاول الأب أن يكون هناك امتداد لهذه العائلة في أولاده، وكان خياري خياراً ساذجاً بالنظر إلى المناخ الذي يحيط بي، لكني تبنّيت هذا الخيار فيما بعد، من خلال نظرتي الجديدة تبعاً للجو الثقافي، وكنت من أوائل الطليعة المنفتحة على الواقع وعلى العصر، وكنت عضواً في أسرة الأدب اليقظ التي كان من أعضائها المرحوم الدكتور الشاعر مصطفى جمال الدين، وكنا أيضاً في الجو الإسلامي نتحرك في الإطار الذي تحرك فيه زملاؤنا، كالراحل محمد باقر الصدر، وغيره من الطاقات الواعدة.

* عشتم في النجف فترة الشباب المبكر، وتأثرتم بالأجواء وتفاعلتم مع التيارات والأحداث، فهل كان النجف يمر بمرحلة ذهبية حينذاك؟

ـ كان النجف يعيش فترة تململ وانفتاح، وأذكر أنه بعد الانقلاب على العهد الملكي،كان هناك جماعة العلماء التي بدأت تنفتح على الجوِّ السياسي، وأصدروا مجلة اسمها "الأضواء"، وكنت أحد الذين يشرفون عليها إلى جانب السيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وكنت أكتب افتتاحيتها الثانية بعنوان "كلمتنا"، وتتنوع فيها الأغراض السياسية والاجتماعية والنقد لكثير من الأوضاع في الوسط الديني، وكان السيد الصدر يكتب افتتاحيتها بعنوان "رسالتنا".

عن المرجعية في النجف

* من المعروف أن المرجعية الدينية في النجف هي تقليدية، في حين أن جماعة العلماء التي أشرتم إليها انفتحت على الواقع السياسي، فهل كان هناك اتجاه جديد في أوساط العلماء يميل إلى السياسة؟

ـ كانت جماعة العلماء تمثل تياراً أريد له أن يواجه المد الشيوعي الأحمر، كما كان يسمى، وكانت المرجعية في تلك الفترة للمرحوم السيد محسن الحكيم، وكان يمثل مرجعية منفتحة على الحركة الإسلامية الوليدة آنذاك وعلى كثير من القضايا الجديدة بحسب مناخ النجف، وقد استطاع أن يفتح بعض الآفاق الجديدة. 

عكاظ (السعودية) 17 تشرين الثاني 2003م/الموافق:22 رمضان 1424هـ.

تجــربــة حيــاة

(السيد ) محمد حسين فضل الله "الشيخ" الذي قرأ كتب "ماركس":

عشت حياة بؤس وطفولة خالية من الفرح

زياد عيتاني ـ هشام عليوان ـ بيروت

(السيد) محمد حسين فضل الله، ليس فقط مرجعاً دينياً وزعيماً سياسياً ونجماً إعلامياً، منذ الثمانينات على الأقلّ، بل هو أيضاً إنسان مرهف الحس، عالي الشاعرية، متوقد الذكاء.

وهو كذلك واثقٌ بنفسه من دون تكبّر، داعية أصيل للوحدة الإسلامية، ومنافح صلب عما يراه حقاً، ويؤمن بالحوار مع الآخر. "عكاظ الأسبوعية" زارت(المرجع العلامة السيد) فضل الله في منـزله في ضاحية بيروت الجنوبية، وكان معه هذا الحوار:

الانطلاقـة الأولـى

* حدثنا بدايةً عن نشأتكم الأولى ومرحلة الطفولة وكيف تأثرت شخصيتكم ببيئة العائلة؟

ـ نشأتُ في بيئة علمية دينية في النجف الأشرف، حيث ولدتُ وعشتُ هناك مناخاً دينياً يتمثّل في ما يملكه الوالد ـ رحمه الله ـ من روحية دينية كنت أمتصّها لا شعورياً مع إنسانية رائعة، فلا أتذكّر أن عاملني بقسوة في أية حالة من حالات طفولتي الأولى، بالرغم مما يبدر مني من أخطاء، كنت في تلك الفترة من طفولتي الأولى أعيش في جوٍ لا يحمل الكثير من فرص لهو الطفل ولعبه، ما كان يترك انطباعاً لا شعورياً قاسياً في نفسي، لأن لعب الطفولة ولهوها يمكن أن يفتح الكثير من مشاعر الإنسان على كثيرٍ من حالات الفرح، لذلك لم أكن أعيش الفرح بحالة الرحابة من حالات السرور، والتي يعيشها الطفل، لا سيما وأن الواقع المادي كان واقعاً قاسياً ضيّقاً.

فقد كنا نعيش في وضع صعب جداً فيما نأكل وفي ما نلبس وفي ما نسكن... ولهذا كنت أحاول منذ البداية أن ألجأ إلى القراءة، فكنت قارئاً منذ سنّ العاشرة أو الثانية عشرة، أقرأ الشعر والقصص المترجمة، ولا سيما قصص المنفلوطي التي كانت مأساوية غالباً وتستنـزف الدمع، كما كنت أقرأ بعض الترجمات الفرنسية، مثل قصص أناتول فرانس وما كان يترجمه أحمد حسن الزيات من أشعار لمارتين، وكانت قراءاتي متنوعة وحديثة، حتى إنني كنت أتعامل مع بعض المكتبات وأستعير منها المجلاّت الأسبوعية المصرية كمجلّة "آخر ساعة" و"المصوّر".

وكنت أقرأ مبكراً المجلات الثقافية، كالرسالة والثقافة والكتاب لعادل غضبان وأشعار المعاصرين، وقد تأثرت كثيراً بالأخطل الصغير إلى جانب الياس أبو شبكة وغيرهما، إلى جانب الجواهري في العراق.

في ظلّ الأفكار الوافدة

* في تلك الفترة، كان هناك رواج كبير للأفكار الغربية والحركات السياسية التي يموج بها العراق، فكيف تعاملتم مع تلك الأفكار؟

ـ كان الجوّ يحفلُ بالتيّارات السياسية، فكان هناك التيّار الماركسي، حيث بدايات الحزب الشيوعي، وكان هناك تيار القومية العربية والتيار الديمقراطي الذي يصدر جريدة "الأهالي". هذا التنوّع السياسي كان يقف موقفاً معارضاً للحكم الملكي آنذاك، والذي كان متّهماً بأنّه ذو خلفية بريطانية تتمثل في رئيس الوزراء نوري السعيد، فكنت في بداياتي الإسلامية حوارياً، وقد كنت في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر، وكانت لنا كشباب مسلم علاقات مع شيوعيين وقوميين، وكنا ندخل الحوار مع الشباب في مثل عمرنا بالطريقة الساذجة التي نفهم بها الشيوعية والقومية، حتى إني كنت أحمل من خلال مناخي فكرة سلبية ضد القومية العربية، وأذكر أنني نظّمت قصيدة طويلة هاجمت فيها القومية العربية، وكنا نفهم القومية على أساس أنها عنصرية، وأنّها تلتقي مع التيار النازي في ذلك الحين، فكما رفع التيار النازي شعار أن ألمانيا فوق الجميع، كذلك فإن التيّار القومي يعتبر أنّ العرب فوق الجميع، فقد كانت في نظرنا قومية عربية شوفينية، ومن الطبيعي أنه تطوّر فهمنا للقومية العربية لاحقاً.

* وهل القومية العربية تطورت؟

ـ نعم تطورت، وقد كنت أعيش الحوار الدائم مع هذه الاتجاهات، لأنني كنت إسلامياً منذ البداية.

* ألم تعجب بكتابات غير إسلامية؟

ـ كنت أقرأ مثلاً كتب "المادية الديالكتيكية" و"المادية التاريخية"، وكنت أقرأ الكتابات القومية وأطّلع على جريدة الأهالي، ولكن بحسب الثقافة التي كانت تتوافر لي آنذاك.

وعندما جئت إلى لبنان لأول مرة عام 1952، وكنت في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، بدأت جلسات حوارية في الجنوب اللبناني مع الشيوعيين والقوميين العرب. وكنت ألتقي ببعض الشخصيات الفكرية مثل الدكتور حسين مروة الذي كانت تربطني به علاقة ومعرفة، وكانت هناك أحاديث متنوعة، واستطعت من خلال التنوع الثقافي الذي كنت ألمّ به بطريقة أو بأخرى، أن أنفتح على الحوار أو على الآخر منذ تلك اللحظة، فلم أكن أتعقد من فكر الآخر المعارض، وكنت أفكر أن عليّ أن أدير الحوار مع الفكر الآخر وما هو السبيل للتفاهم والتحاور في هذا المجال.

فـي الشعـر

* متى بدأتم نظم الشعر؟

ـ في سن العاشرة، ثم درجت على إلقاء بعض هذه القصائد في المناسبات.

* ماذا كنتم تحفظون من الشعر؟

ـ كنتُ أحفظ من الشعر القديم والشعر الحديث، وكنت أتابع الشعر وما زلت أتابعه، حتى الشعر الحديث منه.

* "على شاطىء الوجدان" ديوان شعر للشيخ فضل الله قد لا يعرفه الكثيرون.. متى كتبته؟

ـ تاريخ هذه القصائد وطبيعة التجارب فيها كانت في بدايات الشباب التي تقترب من سنّ المراهقة، ما جعل التجربة الشعرية في المضمون تتحرك في حيرة الشعور بين أجواء الحب الذي كان ينطلق في آفاق التجريد لا في حركة التجربة الحية، بحيث كان انطلاقة في الخيال ووحياً في الأحلام، وليس إحساساً في الواقع، وبين أجواء التشاؤم الذي يضيق فيه الأفق عن التطلعات، ولكنها في كل نماذجها، لم تبتعد عن الواقع النفسي الذي كنت أعيشه في نبضات القلب وارتعاشات الإحساس واهتزازات الوجدان.

وإذا كنت الآن أعيش بعض التطلّعات التي تختلف عن تطلعات الشباب الأولى، فإني لا أتنكّر لكل مشاعر الحنين لتلك الفترة القلقة الحائرة من حياتي، فقد منحتني الكثير من الغنى في الإحساس والانفتاح على الحياة.

أما الجانب الفني من هذه التجربة، فلا أملك الدخول في تحديد موقعها الأدبي ودرجتها الجمالية، ولكني أستطيع أن أقول إن هناك أكثر من لفتة فنية جمالية في أكثر من نموذج من نماذجها، بحيث لا يكون الجهد في قراءتها وإخراجها للقراء جهداً ضائعاً من الناحية الجمالية، مهما اختلفت المقاييس وتعدّدت الأذواق.

إنها قطعةٌ من حياتي بكل آلامها وأحلامها، ولذلك فإني عندما أقدمها إليكم، فإنني أقدم بعض ذاتي الذي شارك في تأثيراته الفكرية والشعورية في بناء بعض ذاتي الآخر الذي هو أنا الآن، لأن الإنسان في الحاضر يمثل بعض طفولته وشبابه في الماضي، لأن الطفل لا يموت في الشاب، كما أن الشاب لا يفنى في الشيخ، بل تبقى لكل مرحلة من مراحل العمر حركتها في العمق وفي الامتداد.

اختيار طريق العلم والعلماء

* إنتهاجكم سلك العلم الشرعي؛ هل كان خياركم أو خيار الوالد؟

ـ كان خيار المناخ المحيط بي، لأنني بدأت الدراسة الدينية منذ سن العاشرة، وكانت أيضاً رغبة من الوالد، باعتبار أنني من عائلة علمية، حيث يحاول الأب أن يكون هناك امتداد لهذه العائلة في أولاده، وكان خياري خياراً ساذجاً بالنظر إلى المناخ الذي يحيط بي، لكني تبنّيت هذا الخيار فيما بعد، من خلال نظرتي الجديدة تبعاً للجو الثقافي، وكنت من أوائل الطليعة المنفتحة على الواقع وعلى العصر، وكنت عضواً في أسرة الأدب اليقظ التي كان من أعضائها المرحوم الدكتور الشاعر مصطفى جمال الدين، وكنا أيضاً في الجو الإسلامي نتحرك في الإطار الذي تحرك فيه زملاؤنا، كالراحل محمد باقر الصدر، وغيره من الطاقات الواعدة.

* عشتم في النجف فترة الشباب المبكر، وتأثرتم بالأجواء وتفاعلتم مع التيارات والأحداث، فهل كان النجف يمر بمرحلة ذهبية حينذاك؟

ـ كان النجف يعيش فترة تململ وانفتاح، وأذكر أنه بعد الانقلاب على العهد الملكي،كان هناك جماعة العلماء التي بدأت تنفتح على الجوِّ السياسي، وأصدروا مجلة اسمها "الأضواء"، وكنت أحد الذين يشرفون عليها إلى جانب السيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وكنت أكتب افتتاحيتها الثانية بعنوان "كلمتنا"، وتتنوع فيها الأغراض السياسية والاجتماعية والنقد لكثير من الأوضاع في الوسط الديني، وكان السيد الصدر يكتب افتتاحيتها بعنوان "رسالتنا".

عن المرجعية في النجف

* من المعروف أن المرجعية الدينية في النجف هي تقليدية، في حين أن جماعة العلماء التي أشرتم إليها انفتحت على الواقع السياسي، فهل كان هناك اتجاه جديد في أوساط العلماء يميل إلى السياسة؟

ـ كانت جماعة العلماء تمثل تياراً أريد له أن يواجه المد الشيوعي الأحمر، كما كان يسمى، وكانت المرجعية في تلك الفترة للمرحوم السيد محسن الحكيم، وكان يمثل مرجعية منفتحة على الحركة الإسلامية الوليدة آنذاك وعلى كثير من القضايا الجديدة بحسب مناخ النجف، وقد استطاع أن يفتح بعض الآفاق الجديدة. 

عكاظ (السعودية) 17 تشرين الثاني 2003م/الموافق:22 رمضان 1424هـ.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير