حكومة الوحدة الوطنية يمكن أن تشكِّل حلاً لأكثر من مشكلة في لبنان

حكومة الوحدة الوطنية يمكن أن تشكِّل حلاً لأكثر من مشكلة في لبنان

الحديث مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله عادة ما يسبر كل الأغوار، ويضيء كل المساحات المظلمة بفعل جمود بعض العقول المرتهنة لنواميس التحجّر والتزمّت المناقض لحركة تطور الفكر والحياة. والحديث معه لا يمكن إلا أن يكون مؤنساً، يحلِّق في مساحات الفضاء الحرة حتى في أحلك الأوضاع وأشدها وطأةً على لبنان ومنطقة الشرق الأوسط برَّمتها. وفي خضمِّ هذه الانقسامات والاتهامات والتخوين، يخرج ليعلن أن الخلاص يكمن في دولة عنوانها الإنسان والمواطنة، وهذا ليس فلسفة لاهوتية، إنما فعل إيمان بقدرات الإنسان وطاقاته الفكرية.

* في ظل الأجواء السياسية المشحونة التي يشهدها لبنان اليوم، هل ترى مخرجاً ما للأزمة، أم أنّ بلدنا دخل في نفق المجهول؟

- لعل المشكلة في لبنان، وفي أكثر أزماته السابقة واللاحقة، هي في نظامه الطائفي، الذي جعله ساحةً يتجاذبها غير موقع إقليمي ودولي، ولا سيما أن ميزة لبنان هي هذه الحرية الفكرية والسياسية التي يتمتع بها دون دول المنطقة، ما يجعل هناك إمكانية لوجود حال من حالات الإثارة من خلال هذه الحرية التي ربما تتحول إلى فوضى في بعض المراحل بفعل التدخلات الخارجية. وهذا ما حدث مؤخراً، فقد لاحظنا أن العدوان الإسرائيلي كان يعيش تحت تأثير تأييد عالمي تقوده الولايات المتحدة في مواجهة القوى التي لا تريد للبنان أن يكون ساحة للّعبة الدولية التي تحمي إسرائيل وتؤيدها. ولذلك فإن ما يحدث الآن بعيد عن الخط التوافقي الذي يتمتع به لبنان في مسألة التعايش بين الطوائف. فالمسألة في لبنان هي هذا العناد في طرح المطالب، وخصوصاً في موضوع حكومة الوحدة الوطنية التي يمكن أن تكون حلاً لأكثر من مشكلة فيه، حيث يتحرك الجميع من خلالها لإدارة الأوضاع اللبنانية في مشاكلها الاقتصادية والأمنية والسياسية، وتحصين لبنان من أية تجاذبات إقليمية أو دولية. ولكن المشكلة أن هناك تدخلاً خارجياً يشدِّد على فريق من اللبنانيين أن يعزل الفريق الآخر المعارض للسياسة الأميركية. وهكذا يراد للبنان أن يكون ساحة لمحاربة سوريا وإيران في سياستهما الرافضة للسياسة الأميركية في المنطقة. لذلك أتصوّر أنه من الصعب جداً حل المأزق اللبناني في ظل الأوضاع الراهنة، وفي وقت سريع، لأنّ الأمور وصلت إلى مرحلة الضغط والضغط المعاكس، والحلول التي تقدم ليست حلولاً واقعية في الوصول إلى نتائج إيجابية. لكنّني في الوقت نفسه، لا أعتقد أن لبنان يسير نحو المجهول، فلبنان يمثل معادلة دولية ربما كانت أقوى المعادلات في دول المنطقة. وكنت وما زلت أقول، إن هناك ثلاث «لاءات» تحكم لبنان: لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار. لذلك عندما يصل لبنان إلى حافة الهاوية، فإنّ الجميع يبادرون إلى منعه من السقوط، لأنه ما يزال حاجة للداخل والخارج في خيوط اللعبة السياسية الدولية والإقليمية.

* في بلد مثل لبنان، يختزن ما يختزن من تناقضات، هل تحبّذ اللجوء إلى الشارع لحل المشاكل والأزمات المطروحة؟

- كلمة الشارع أصبحت تمثل «بعبعاً» يُراد منه التهويل بأنّه سيقود لبنان إلى المجهول، لكنّنا نلاحظ أنّه كان هناك أكثر من مرحلة عاش فيها لبنان الشارع، فمن تظاهرة 8 آذار، إلى تظاهرة 14 آذار، وصولاً إلى التظاهرة الّتي حدثت عند تشييع الوزير بيار الجميل، والّتي أريد لها أن تتحوّل إلى تظاهرة سياسية، نرى أنّ هذه التظاهرات لم تتسبَّب بأيّة مشكلة. حتى إن هذه التجمعات، سواء في ساحة الشهداء أو غيرها، والتي تطلق فيها شعارات حادّة، لم تتسبب بأيّة أحداث تذكر، ما يدل على أن اللبنانيين ما يزالون يملكون المناعة ضد تحويل التظاهر السلمي إلى عنف في الموقف. وأتصور أن الذين يبشِّرون بالحرب الأهلية اللبنانية، يجهلون الوضع اللبناني. فالتعقيدات والخلافات اللبنانية الداخلية لا تملك أية عناصر للوصول إلى حرب أهلية، فالحرب الأهلية السابقة كانت بفعل التخطيط الأميركي الذي قاده هنري كسينجر من أجل تصفية القضية الفلسطينية. أما الآن، فإن الجميع يريدون استقرار لبنان، ولا سيما مع وجود القوات الدولية، كما أن الحرب الأهلية ستفتح الأفق على حرب إسرائيلية ـ لبنانية، وبالتالي فإنّ الفوضى ستسهّل التحركات العشوائية، سواء ضد القوات الدوليّة أو ضدّ الوجود الإسرائيلي في المنطقة، وهذا ما لا تريده أمريكا بالذات، على الأقل، في هذه المرحلة.

* هذا يعني أنك لا تتخوَّف من فتنة طائفية أو مذهبية؟

- أعتقد أن هناك انضباطاً في لبنان بالنسبة إلى الفتنة الطائفية أو المذهبية. وإذا كان البعض يثير المسألة السنية والشيعية، فأنا أعتقد أن لا علاقة للمذهب السني والمذهب الشيعي بالأمر، لأنّ الصراع هو صراع سياسي، كما أن السنة والشيعة ليسوا على استعداد للدخول في حرب مذهبية، لأنها سوف تُسقط الهيكل على رؤوس الجميع، كذلك الأمر بالنسبة إلى الفتنة الإسلامية ـ المسيحية. هذا مع ملاحظة أن الفريقين معاً، أي الموالاة والمعارضة، يتمتعان بتنوع طائفي في تكوينهما. لذلك فإن التهويل بالحرب المذهبية والطائفية لا ينطلق من واقع.

* ذكرت أن الشرط الأول من شروط حماية الدولة يتمثَّل في إلغاء النظام الطائفي، ولكن البعض قد يفسر هذا الكلام بأنه انقلاب على اتفاق الطائف الذي كرّس التوزيع الطائفي والمحاصصة الطائفية للمواقع العامة؟

- نحن نعتقد أن الميثاق الوطني اللبناني الذي صيغ في أربعينيات القرن الماضي متقدم على اتفاق الطائف، لأنّه لم يحوِّل الطائفية إلى دستور، إنما جعلها عرفاً مؤقتاً. أما اتفاق الطائف فكرّس النظام الطائفي، وهذه إحدى سلبياته. إننا عندما ندرس علاقات الطوائف بالخلفيات الإقليمية والدولية، نجد أن كل دولة، سواء كانت إقليمية أو دولية تحاول أن تنفذ إلى لبنان من خلال الانفتاح على طائفة هنا وطائفة هناك، لأنّ أية طائفة تعيش في ذاتيتها العمل على الاستقواء بالخارج مقابل الطائفة الأخرى.

لذلك نعتقد أن المواطنة التي تعيشها كل الشعوب المتقدمة، وتضمن للمواطن حقوقه وواجباته بعيداً عن الانتماء الطائفي، وتوازن الواقع اللبناني بانفتاح أطيافه بعضهم على بعض، هي الحل. فالمواطنة تلغي كلَّ الحساسيات. وهذا لا يعني أننا ندعو إلى إلغاء الطوائف، فهي واقع حي قائم فيه غنى ثقافي وديني واجتماعي، ولكن أن يكون النظام طائفياً، بحيث يولد الشيعي وفي فمه ملعقة ذهب لرئاسة مجلس النواب، والماروني وفي فمه ملعقة ذهب لرئاسة الجمهورية، والسني وفي فمه ملعقة ذهب لرئاسة الحكومة، وهكذا دواليك... هو أمر غير حضاري. لذلك نقول إنّ علينا أنسنة النظام اللبناني، وأن نجعل المواطن اللبناني يعيش إنسانيته لا طائفيته، خصوصاً أنّ الطائفية ليست ديناً إنما عشائرية.

* ولكن، وكما قلت في السؤال السّابق، فإنّ هذا الموقف قد يفسَّر بأنه انقلاب على وثيقة الطائف؟

- إن اتفاق الطائف ليس وحياً منـزلاً وليس قرآناً ولا إنجيلاً، اتفاق الطائف كان لوقف الحرب لا لحلّ مشكلة لبنان بجميع مفرداتها. لذلك فإن تسجيل بعض النقاط على اتفاق الطائف ليس معناه إلغاء الاتفاق بمفرداته الإيجابية، وإنما المسألة تتعلّق بالنظام الطائفي الذي ركّز حتى اتفاق الطائف في آخر بند له على إلغائه. فهذا الاتفاق الذي كرّس الطائفية في مقدمته، خطَّط لإلغاء النظام الطائفي في نهاية المطاف. ولكنّهم يعطّلون إمكانية الوصول إلى هذه المرحلة بسبب بعض التعقيدات الطائفية.

* شهدنا الأسبوع الفائت قمّةً روحية إسلامية، هل تحبِّذ هذا النوع من القمم الروحية؟

- أعتقد أن القمم الروحية، سواء كانت إسلامية أو مسيحية، لا تمثل أية قوة في النسيج السياسي اللبناني، بل هي بمثابة النسمة الباردة الّتي تهبّ صدفةً في صيف حارّ، ثمّ تغيب..

* ماذا تقول في الاغتيال السياسي؟

- نحن ندين ونستنكر كل اغتيال سياسي، لأنّه لا يؤدي إلى أي نتيجة إيجابية حتى للذين يخططون للاغتيال. وهذا ما لاحظناه في فلسطين. فإسرائيل مارست منذ بداياتها وحتى الآن عمليات اغتيال القيادات والشخصيات الفلسطينية الفاعلة، ولكن بقيت المسيرة الفلسطينية من دون أن تسقط. لذلك عندما ندرس كل الاغتيالات التي حدثت في لبنان، فإننا نعتقد أنها جعلت لبنان يخسر طاقات فاعلة على المستوى الحكومي والسياسي والثقافي، ولم تغير في مسيرته شيئاً، بل أثارت بعض الأوضاع المتشنّجة التي يمكن أن يستغلّها الكثيرون ممن لا يؤيِّدون الصراع الداخلي الذي ينطلق من خلفية صراع خارجي. نحن ضد الاغتيال، لأنه لن يحلَّ أيّة مشكلة، بل قد يزيد تفاقم المشاكل وتعقيداتها. ولكن الملاحظ في لبنان، أن كلّ القوى الأمنية، سواء التي كانت في نطاق ما يسمى بالنظام الأمني اللبناني ـ السوري، أو الواقع الأمني الجديد، لم تستطع أن تكتشف أي خيط من خيوط هذه الاغتيالات، ما يدل على وجود نوع من الشلل في الوسائل الأمنية. والمشكلة، هي أن بعض الذين يسيطرون على الأمن سياسياً، يحاولون استغلاله لمصلحة الخط السياسي الذي يتحركون فيه. ومن الملاحظ أن الذين أعطوا المحكمة الدولية هذا الانفتاح على كلِّ الاغتيالات، لم يضمنوها جريمة اغتيال الأخوين مجذوب في صيدا واغتيال غالب عوالي وغيرهم من اللبنانيين، لأنّهم لا يريدون إدخال إسرائيل في نسيج المحكمة الدولية، بسبب وجود خطّ، ولا ندري مدى واقعيته، يتجه نحو تبرئة إسرائيل من كل الاغتيالات في لبنان، وخصوصاً الاغتيالات السياسية، ومحاولة توجيه المسألة باتجاه النظام السوري، ما قد يعطي الحرية لإسرائيل أو للجهات الخفية الأخرى بأن تقوم بعمليات اغتيال ما دامت تضمن أن المحققين لن يوجهوا إليها أصابع الاتهام، بل ستوجّه الاتّهامات إلى النظام السوري. نحن ومنذ البداية، دعونا إلى عدم عزل إسرائيل عن خلفيات كل الاغتيالات، لأنّها تعمل على أساس إرباك الواقع اللبناني، وعلى الأقل هذا احتمال، فلماذا لا يجري تحريكه؟! فنحن لم نسمع أن المحققين الدوليين طلبوا التحقيق مع أية شخصية إسرائيلية! كما أن هناك مشكلات داخلية بين الفئات اللبنانية، ومن الممكن جداً أن يتحرك الاغتيال من خلال تعقيداتها.

* هناك من يتهم الطائفة الشيعية اليوم بالإصرار على حماية النظام السوري والارتهان للنظام الإيراني، ما قولك؟

- إن مشكلة الطائفة الشيعية هي أنها قاتلت إسرائيل، لذلك يراد معاقبتها أميركياً وأوروبياً، وحتى عربياً، على هذا الثبات والمواجهة التي كشفت أن الجيش الإسرائيلي ليس هو الجيش الذي لا يقهر، والذي أدمن العرب الخوف منه والهزيمة أمامه. مشكلة الواقع العربي أنه يخاف من القوة والأقوياء، ومشكلة الواقع الدولي أنه عمل منذ تأسيس دولة إسرائيل على حمايتها، وخصوصاً أميركا التي تلتزم الأمن الإسرائيلي بالمطلق. لذلك فإنّ مشكلة الشيعة هي أنهم ضحَّوا بكل شبابهم من أجل مواجهة العدوان الإسرائيلي وتحرير لبنان. فالمقاومة الإسلامية لم تبدأ الحرب الأخيرة مع إسرائيل، وإنّما حاولت إنقاذ الأسرى بالطّريقة نفسها التي أنقذتهم بها سابقاً. وهذا ما أعلنته حتى الصحف الإسرائيلية الأسبوع الفائت، التي أكَّدت أن إسرائيل و«حزب الله» لم يخطِّطا لهذه الحرب. فمسألة الحرب هي مسألة عدوان إسرائيلي على لبنان شاركت فيه أمريكا، وكان دور المقاومة دوراً فاعلاً في إسقاط العنفوان الإسرائيلي. والمشكلة اليوم هي أنه يراد معاقبة المقاومة ـ التي هي بالصدفة من الطائفة الشيعية ـ على النصر الذي حققته، لأن العرب يخافون من النصر، ولأنّ اللبنانيين أدمنوا الخارج.

* ولكن الشيعة متهمون اليوم بتعميم ثقافة الموت مقابل ثقافة الحياة... لماذا يعمم الشيعة ثقافة الموت؟

- إنني أسأل لماذا لا يُتحدّث عن إسرائيل أنها تنتج ثقافة الموت؟ لماذا لا يتحدث عن أميركا أنها تنتج ثقافة الموت؟ لماذا لا يتحدث عن أوروبا الاستعمارية أنها أنتجت ثقافة الموت؟... ولماذا هذا التركيز على الشيعة؟ إن الشيعة ركَّزوا على ثقافة الحياة، واعتبروا أن مسألة الموت من خلال الشهادة دفاعاً عن القضية والإنسان، هي مسألة حياة، فهم يموتون من أجل أن تحيا الأمة والشعب.

فالشيعة ينطلقون من أجل ثقافة الحياة التي تنطلق وتنمو وتقوى عندما يؤسس لها الشهداء قواعد أصيلة تركّز الأمة على قاعدة المستقبل الكبير.

* ما هي الرسالة التي توجِّهها إلى الشّعب والمسؤولين اللبنانيين في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ لبنان؟

- على اللبنانيين أن يكونوا عقلانيين وموضوعيين، وألاّ ينطلقوا من خلال الغرائز الطائفية، وألاّ يتحركوا مع الزعامات السياسية على أساس أن يكونوا مغمضي العيون. أنني أتصوّر أن هناك عقلية شرقية تنطلق من شعار مات الزعيم وعاش الزعيم، وأن يرث الشخصيات القيادية أبناؤهم، ليورثوها هم بدورهم إلى أبنائهم. إنني أدعو كل لبناني إلى أن يكون حراً في عقله وإرادته، وأن يفكر بالمصالح العامة بعيداً عن المصالح الخاصة، وبلبنان جديد منفتح على قضايا الحرية والسيادة والاستقلال، والاكتفاء الذاتي، لا من خلال الشعارات، إنّما من خلال حركة الواقع عبر الخطط التي لا بد من جعلها خططاً واقعية تؤدي إلى الانتصار في حال السلم كما في حال الحرب.

* هل ما زلت تؤمن بإمكانية بناء دولة الإنسان رغم كل الدماء التي تسيل في صراع الإنسان مع الإنسان؟

- إنني أؤمن بالإنسان كلّه، لذلك أتصوّر أن دولة الإنسان التي يعيش فيها الإنسان إنسانيته، هي موقع الخلاص، وهي التي توحي بالمواطنة.

الحديث مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله عادة ما يسبر كل الأغوار، ويضيء كل المساحات المظلمة بفعل جمود بعض العقول المرتهنة لنواميس التحجّر والتزمّت المناقض لحركة تطور الفكر والحياة. والحديث معه لا يمكن إلا أن يكون مؤنساً، يحلِّق في مساحات الفضاء الحرة حتى في أحلك الأوضاع وأشدها وطأةً على لبنان ومنطقة الشرق الأوسط برَّمتها. وفي خضمِّ هذه الانقسامات والاتهامات والتخوين، يخرج ليعلن أن الخلاص يكمن في دولة عنوانها الإنسان والمواطنة، وهذا ليس فلسفة لاهوتية، إنما فعل إيمان بقدرات الإنسان وطاقاته الفكرية.

* في ظل الأجواء السياسية المشحونة التي يشهدها لبنان اليوم، هل ترى مخرجاً ما للأزمة، أم أنّ بلدنا دخل في نفق المجهول؟

- لعل المشكلة في لبنان، وفي أكثر أزماته السابقة واللاحقة، هي في نظامه الطائفي، الذي جعله ساحةً يتجاذبها غير موقع إقليمي ودولي، ولا سيما أن ميزة لبنان هي هذه الحرية الفكرية والسياسية التي يتمتع بها دون دول المنطقة، ما يجعل هناك إمكانية لوجود حال من حالات الإثارة من خلال هذه الحرية التي ربما تتحول إلى فوضى في بعض المراحل بفعل التدخلات الخارجية. وهذا ما حدث مؤخراً، فقد لاحظنا أن العدوان الإسرائيلي كان يعيش تحت تأثير تأييد عالمي تقوده الولايات المتحدة في مواجهة القوى التي لا تريد للبنان أن يكون ساحة للّعبة الدولية التي تحمي إسرائيل وتؤيدها. ولذلك فإن ما يحدث الآن بعيد عن الخط التوافقي الذي يتمتع به لبنان في مسألة التعايش بين الطوائف. فالمسألة في لبنان هي هذا العناد في طرح المطالب، وخصوصاً في موضوع حكومة الوحدة الوطنية التي يمكن أن تكون حلاً لأكثر من مشكلة فيه، حيث يتحرك الجميع من خلالها لإدارة الأوضاع اللبنانية في مشاكلها الاقتصادية والأمنية والسياسية، وتحصين لبنان من أية تجاذبات إقليمية أو دولية. ولكن المشكلة أن هناك تدخلاً خارجياً يشدِّد على فريق من اللبنانيين أن يعزل الفريق الآخر المعارض للسياسة الأميركية. وهكذا يراد للبنان أن يكون ساحة لمحاربة سوريا وإيران في سياستهما الرافضة للسياسة الأميركية في المنطقة. لذلك أتصوّر أنه من الصعب جداً حل المأزق اللبناني في ظل الأوضاع الراهنة، وفي وقت سريع، لأنّ الأمور وصلت إلى مرحلة الضغط والضغط المعاكس، والحلول التي تقدم ليست حلولاً واقعية في الوصول إلى نتائج إيجابية. لكنّني في الوقت نفسه، لا أعتقد أن لبنان يسير نحو المجهول، فلبنان يمثل معادلة دولية ربما كانت أقوى المعادلات في دول المنطقة. وكنت وما زلت أقول، إن هناك ثلاث «لاءات» تحكم لبنان: لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار. لذلك عندما يصل لبنان إلى حافة الهاوية، فإنّ الجميع يبادرون إلى منعه من السقوط، لأنه ما يزال حاجة للداخل والخارج في خيوط اللعبة السياسية الدولية والإقليمية.

* في بلد مثل لبنان، يختزن ما يختزن من تناقضات، هل تحبّذ اللجوء إلى الشارع لحل المشاكل والأزمات المطروحة؟

- كلمة الشارع أصبحت تمثل «بعبعاً» يُراد منه التهويل بأنّه سيقود لبنان إلى المجهول، لكنّنا نلاحظ أنّه كان هناك أكثر من مرحلة عاش فيها لبنان الشارع، فمن تظاهرة 8 آذار، إلى تظاهرة 14 آذار، وصولاً إلى التظاهرة الّتي حدثت عند تشييع الوزير بيار الجميل، والّتي أريد لها أن تتحوّل إلى تظاهرة سياسية، نرى أنّ هذه التظاهرات لم تتسبَّب بأيّة مشكلة. حتى إن هذه التجمعات، سواء في ساحة الشهداء أو غيرها، والتي تطلق فيها شعارات حادّة، لم تتسبب بأيّة أحداث تذكر، ما يدل على أن اللبنانيين ما يزالون يملكون المناعة ضد تحويل التظاهر السلمي إلى عنف في الموقف. وأتصور أن الذين يبشِّرون بالحرب الأهلية اللبنانية، يجهلون الوضع اللبناني. فالتعقيدات والخلافات اللبنانية الداخلية لا تملك أية عناصر للوصول إلى حرب أهلية، فالحرب الأهلية السابقة كانت بفعل التخطيط الأميركي الذي قاده هنري كسينجر من أجل تصفية القضية الفلسطينية. أما الآن، فإن الجميع يريدون استقرار لبنان، ولا سيما مع وجود القوات الدولية، كما أن الحرب الأهلية ستفتح الأفق على حرب إسرائيلية ـ لبنانية، وبالتالي فإنّ الفوضى ستسهّل التحركات العشوائية، سواء ضد القوات الدوليّة أو ضدّ الوجود الإسرائيلي في المنطقة، وهذا ما لا تريده أمريكا بالذات، على الأقل، في هذه المرحلة.

* هذا يعني أنك لا تتخوَّف من فتنة طائفية أو مذهبية؟

- أعتقد أن هناك انضباطاً في لبنان بالنسبة إلى الفتنة الطائفية أو المذهبية. وإذا كان البعض يثير المسألة السنية والشيعية، فأنا أعتقد أن لا علاقة للمذهب السني والمذهب الشيعي بالأمر، لأنّ الصراع هو صراع سياسي، كما أن السنة والشيعة ليسوا على استعداد للدخول في حرب مذهبية، لأنها سوف تُسقط الهيكل على رؤوس الجميع، كذلك الأمر بالنسبة إلى الفتنة الإسلامية ـ المسيحية. هذا مع ملاحظة أن الفريقين معاً، أي الموالاة والمعارضة، يتمتعان بتنوع طائفي في تكوينهما. لذلك فإن التهويل بالحرب المذهبية والطائفية لا ينطلق من واقع.

* ذكرت أن الشرط الأول من شروط حماية الدولة يتمثَّل في إلغاء النظام الطائفي، ولكن البعض قد يفسر هذا الكلام بأنه انقلاب على اتفاق الطائف الذي كرّس التوزيع الطائفي والمحاصصة الطائفية للمواقع العامة؟

- نحن نعتقد أن الميثاق الوطني اللبناني الذي صيغ في أربعينيات القرن الماضي متقدم على اتفاق الطائف، لأنّه لم يحوِّل الطائفية إلى دستور، إنما جعلها عرفاً مؤقتاً. أما اتفاق الطائف فكرّس النظام الطائفي، وهذه إحدى سلبياته. إننا عندما ندرس علاقات الطوائف بالخلفيات الإقليمية والدولية، نجد أن كل دولة، سواء كانت إقليمية أو دولية تحاول أن تنفذ إلى لبنان من خلال الانفتاح على طائفة هنا وطائفة هناك، لأنّ أية طائفة تعيش في ذاتيتها العمل على الاستقواء بالخارج مقابل الطائفة الأخرى.

لذلك نعتقد أن المواطنة التي تعيشها كل الشعوب المتقدمة، وتضمن للمواطن حقوقه وواجباته بعيداً عن الانتماء الطائفي، وتوازن الواقع اللبناني بانفتاح أطيافه بعضهم على بعض، هي الحل. فالمواطنة تلغي كلَّ الحساسيات. وهذا لا يعني أننا ندعو إلى إلغاء الطوائف، فهي واقع حي قائم فيه غنى ثقافي وديني واجتماعي، ولكن أن يكون النظام طائفياً، بحيث يولد الشيعي وفي فمه ملعقة ذهب لرئاسة مجلس النواب، والماروني وفي فمه ملعقة ذهب لرئاسة الجمهورية، والسني وفي فمه ملعقة ذهب لرئاسة الحكومة، وهكذا دواليك... هو أمر غير حضاري. لذلك نقول إنّ علينا أنسنة النظام اللبناني، وأن نجعل المواطن اللبناني يعيش إنسانيته لا طائفيته، خصوصاً أنّ الطائفية ليست ديناً إنما عشائرية.

* ولكن، وكما قلت في السؤال السّابق، فإنّ هذا الموقف قد يفسَّر بأنه انقلاب على وثيقة الطائف؟

- إن اتفاق الطائف ليس وحياً منـزلاً وليس قرآناً ولا إنجيلاً، اتفاق الطائف كان لوقف الحرب لا لحلّ مشكلة لبنان بجميع مفرداتها. لذلك فإن تسجيل بعض النقاط على اتفاق الطائف ليس معناه إلغاء الاتفاق بمفرداته الإيجابية، وإنما المسألة تتعلّق بالنظام الطائفي الذي ركّز حتى اتفاق الطائف في آخر بند له على إلغائه. فهذا الاتفاق الذي كرّس الطائفية في مقدمته، خطَّط لإلغاء النظام الطائفي في نهاية المطاف. ولكنّهم يعطّلون إمكانية الوصول إلى هذه المرحلة بسبب بعض التعقيدات الطائفية.

* شهدنا الأسبوع الفائت قمّةً روحية إسلامية، هل تحبِّذ هذا النوع من القمم الروحية؟

- أعتقد أن القمم الروحية، سواء كانت إسلامية أو مسيحية، لا تمثل أية قوة في النسيج السياسي اللبناني، بل هي بمثابة النسمة الباردة الّتي تهبّ صدفةً في صيف حارّ، ثمّ تغيب..

* ماذا تقول في الاغتيال السياسي؟

- نحن ندين ونستنكر كل اغتيال سياسي، لأنّه لا يؤدي إلى أي نتيجة إيجابية حتى للذين يخططون للاغتيال. وهذا ما لاحظناه في فلسطين. فإسرائيل مارست منذ بداياتها وحتى الآن عمليات اغتيال القيادات والشخصيات الفلسطينية الفاعلة، ولكن بقيت المسيرة الفلسطينية من دون أن تسقط. لذلك عندما ندرس كل الاغتيالات التي حدثت في لبنان، فإننا نعتقد أنها جعلت لبنان يخسر طاقات فاعلة على المستوى الحكومي والسياسي والثقافي، ولم تغير في مسيرته شيئاً، بل أثارت بعض الأوضاع المتشنّجة التي يمكن أن يستغلّها الكثيرون ممن لا يؤيِّدون الصراع الداخلي الذي ينطلق من خلفية صراع خارجي. نحن ضد الاغتيال، لأنه لن يحلَّ أيّة مشكلة، بل قد يزيد تفاقم المشاكل وتعقيداتها. ولكن الملاحظ في لبنان، أن كلّ القوى الأمنية، سواء التي كانت في نطاق ما يسمى بالنظام الأمني اللبناني ـ السوري، أو الواقع الأمني الجديد، لم تستطع أن تكتشف أي خيط من خيوط هذه الاغتيالات، ما يدل على وجود نوع من الشلل في الوسائل الأمنية. والمشكلة، هي أن بعض الذين يسيطرون على الأمن سياسياً، يحاولون استغلاله لمصلحة الخط السياسي الذي يتحركون فيه. ومن الملاحظ أن الذين أعطوا المحكمة الدولية هذا الانفتاح على كلِّ الاغتيالات، لم يضمنوها جريمة اغتيال الأخوين مجذوب في صيدا واغتيال غالب عوالي وغيرهم من اللبنانيين، لأنّهم لا يريدون إدخال إسرائيل في نسيج المحكمة الدولية، بسبب وجود خطّ، ولا ندري مدى واقعيته، يتجه نحو تبرئة إسرائيل من كل الاغتيالات في لبنان، وخصوصاً الاغتيالات السياسية، ومحاولة توجيه المسألة باتجاه النظام السوري، ما قد يعطي الحرية لإسرائيل أو للجهات الخفية الأخرى بأن تقوم بعمليات اغتيال ما دامت تضمن أن المحققين لن يوجهوا إليها أصابع الاتهام، بل ستوجّه الاتّهامات إلى النظام السوري. نحن ومنذ البداية، دعونا إلى عدم عزل إسرائيل عن خلفيات كل الاغتيالات، لأنّها تعمل على أساس إرباك الواقع اللبناني، وعلى الأقل هذا احتمال، فلماذا لا يجري تحريكه؟! فنحن لم نسمع أن المحققين الدوليين طلبوا التحقيق مع أية شخصية إسرائيلية! كما أن هناك مشكلات داخلية بين الفئات اللبنانية، ومن الممكن جداً أن يتحرك الاغتيال من خلال تعقيداتها.

* هناك من يتهم الطائفة الشيعية اليوم بالإصرار على حماية النظام السوري والارتهان للنظام الإيراني، ما قولك؟

- إن مشكلة الطائفة الشيعية هي أنها قاتلت إسرائيل، لذلك يراد معاقبتها أميركياً وأوروبياً، وحتى عربياً، على هذا الثبات والمواجهة التي كشفت أن الجيش الإسرائيلي ليس هو الجيش الذي لا يقهر، والذي أدمن العرب الخوف منه والهزيمة أمامه. مشكلة الواقع العربي أنه يخاف من القوة والأقوياء، ومشكلة الواقع الدولي أنه عمل منذ تأسيس دولة إسرائيل على حمايتها، وخصوصاً أميركا التي تلتزم الأمن الإسرائيلي بالمطلق. لذلك فإنّ مشكلة الشيعة هي أنهم ضحَّوا بكل شبابهم من أجل مواجهة العدوان الإسرائيلي وتحرير لبنان. فالمقاومة الإسلامية لم تبدأ الحرب الأخيرة مع إسرائيل، وإنّما حاولت إنقاذ الأسرى بالطّريقة نفسها التي أنقذتهم بها سابقاً. وهذا ما أعلنته حتى الصحف الإسرائيلية الأسبوع الفائت، التي أكَّدت أن إسرائيل و«حزب الله» لم يخطِّطا لهذه الحرب. فمسألة الحرب هي مسألة عدوان إسرائيلي على لبنان شاركت فيه أمريكا، وكان دور المقاومة دوراً فاعلاً في إسقاط العنفوان الإسرائيلي. والمشكلة اليوم هي أنه يراد معاقبة المقاومة ـ التي هي بالصدفة من الطائفة الشيعية ـ على النصر الذي حققته، لأن العرب يخافون من النصر، ولأنّ اللبنانيين أدمنوا الخارج.

* ولكن الشيعة متهمون اليوم بتعميم ثقافة الموت مقابل ثقافة الحياة... لماذا يعمم الشيعة ثقافة الموت؟

- إنني أسأل لماذا لا يُتحدّث عن إسرائيل أنها تنتج ثقافة الموت؟ لماذا لا يتحدث عن أميركا أنها تنتج ثقافة الموت؟ لماذا لا يتحدث عن أوروبا الاستعمارية أنها أنتجت ثقافة الموت؟... ولماذا هذا التركيز على الشيعة؟ إن الشيعة ركَّزوا على ثقافة الحياة، واعتبروا أن مسألة الموت من خلال الشهادة دفاعاً عن القضية والإنسان، هي مسألة حياة، فهم يموتون من أجل أن تحيا الأمة والشعب.

فالشيعة ينطلقون من أجل ثقافة الحياة التي تنطلق وتنمو وتقوى عندما يؤسس لها الشهداء قواعد أصيلة تركّز الأمة على قاعدة المستقبل الكبير.

* ما هي الرسالة التي توجِّهها إلى الشّعب والمسؤولين اللبنانيين في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ لبنان؟

- على اللبنانيين أن يكونوا عقلانيين وموضوعيين، وألاّ ينطلقوا من خلال الغرائز الطائفية، وألاّ يتحركوا مع الزعامات السياسية على أساس أن يكونوا مغمضي العيون. أنني أتصوّر أن هناك عقلية شرقية تنطلق من شعار مات الزعيم وعاش الزعيم، وأن يرث الشخصيات القيادية أبناؤهم، ليورثوها هم بدورهم إلى أبنائهم. إنني أدعو كل لبناني إلى أن يكون حراً في عقله وإرادته، وأن يفكر بالمصالح العامة بعيداً عن المصالح الخاصة، وبلبنان جديد منفتح على قضايا الحرية والسيادة والاستقلال، والاكتفاء الذاتي، لا من خلال الشعارات، إنّما من خلال حركة الواقع عبر الخطط التي لا بد من جعلها خططاً واقعية تؤدي إلى الانتصار في حال السلم كما في حال الحرب.

* هل ما زلت تؤمن بإمكانية بناء دولة الإنسان رغم كل الدماء التي تسيل في صراع الإنسان مع الإنسان؟

- إنني أؤمن بالإنسان كلّه، لذلك أتصوّر أن دولة الإنسان التي يعيش فيها الإنسان إنسانيته، هي موقع الخلاص، وهي التي توحي بالمواطنة.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير