الحوار الإسلامي ـ المسيحي "الأب ميشال صغبيني"

الحوار الإسلامي ـ المسيحي "الأب ميشال صغبيني"

 الحوار الإسلامي ـ المسيحي (الأب ميشال صغبيني).

الحوار الإسلامي ـ المسيحي في لبنان، تعدّد الطوائف، التعايش، الاختلاف، مستقبل المسيحيين في لبنان عناوين... تناولها الأب ميشال صغبيني، في حوار أجراه مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله.

وهذا نص الحوار:

واقع المسيحيين

س: بعض المسيحيين حالياً في لبنان عندهم شعور معيّن، وهو التهميش والإحباط، وهذا ما نسمعه في الوسط المسيحي، كيف تقوّمون وضع المسيحيين حالياً في لبنان؟

ج: لعلَّ المشكلة في لبنان هي في الإحساس الطَّائفي الذي يجعل هذه الطائفة أو تلك تفكّر في أن لها خصوصيَّاتها واستقلالها في البلد، بحيث تنطلق، ولو بشكل لا شعوري، على أساس أنّها تملك نوعاً من أنواع الاستقلال في كلِّ شؤونها، بما يهيّىء نوعاً من الحساسية التي قد تتحوّل إلى عقدة تجاه أيِّ عمل يقوم به أتباع الطائفة الثانية.

المشكلة في لبنان هي في الإحساس الطائفي الذي يجعل هذه الطائفة أو تلك تفكر أن لها خصوصياتها واستقلالها في البلد.

عندما انطلق لبنان قبل الاستقلال وبعده، كان ذلك على أساس أن يكون في واجهته السياسية مارونياً، وهذا ما عبّر عنه ريمون إدّه الذي كان يقول إنه أُريد أن يكون للموارنة دولة، فكان لبنان دولة الموارنة، وسيطرت الطائفة المارونية على الحكم بطريقة وبأخرى، من خلال طبيعة الامتيازات التي كان يتمتَّع بها رئيس الجمهورية قبل اتفاق الطائف، وكان المسلمون يتحدّثون عن التّهميش والحرمان، وعن أنّ الطائفة المارونية بشكل خاصّ، والمسيحيين بشكل عام، هم الّذين يملكون كلِّ مواقع القوة في لبنان، ولذلك كانت هناك حساسية إسلامية تجاه الامتيازات المسيحية، والمارونيّة خصوصاً، وكانت هناك بعض الحساسيات في داخل الطائفة المسيحية نفسها، باعتبار أن الأرثوذكس والأرمن والآخرين كانوا يشعرون أيضاً بالغبن أمام الامتيازات التي تملكها الطائفة المارونية، كما في الدائرة الإسلامية، حيث كان الشيعة يشعرون بالغبن أمام الامتيازات التي تتمتَّع بها الطائفة السنية، لأنّه كان هناك ما يشبه التحالف السني ـ الماروني في ذلك الوقت، باعتبار أن السنّة كانوا هم الذين يسيطرون على بيروت الغربية، ولو من خلال امتداد الخلافة العثمانية التي كانت ترعى السنّة وتضطهد الشيعة.

النظام الطائفي في لبنان أدخل كل الدول فيه بحيث اختلطت كل الأوراق في المواقع الدولية

ولذلك عاش لبنان هذا الجوَّ من الحساسية، وقد أثَّر النظام الطائفي والذي لم يكن نظاماً مكتوباًً بل كان عرفاً اجتماعياً، أثَّر على طبيعة الحركة السياسية للطوائف، فكان البعض يتحدّث عن أنّ الدول العربية، ولا سيّما الخليجية، تؤيد الطّائفة السنية وتدعمها، وأن فرنسا تدعم الطائفة المارونية، ولا سيما الكاثوليكية بشكل عام، وأن الدروز يُدعَمون من قبل بريطانيا، ثم اختلطت الأوراق في المواقع الدولية، حيث حُجِّم الدور الفرنسي والدور البريطاني ليدخل الدور الأمريكي، وهذا ما بدا في اجتماع عبد الناصر مع فؤاد شهاب في ذلك الوقت. ثم تدخَّلت كل الدول في لبنان من خلال النظام الطائفي، ولا سيما بعد أن برزت المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، ودخل الفلسطينيون إلى لبنان في أوضاع معقَّدة في الساحة العربية، وأخذت كل دولة عربية تلتزم منظمةً فلسطينيةً، وأصبحت المنظَّمات الفلسطينية بعدد الدول العربية التي كان بعضها يدفع المال ويتحرَّك سياسياً، إلى جانب الأوضاع الدَّولية التي كانت تنفذ من خلال هذه الدولة أو تلك، من خلال الخطَّة التي اختطَّها وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر، الذي أراد إسقاط القضيَّة الفلسطينية في لبنان، وذلك بإيجاد حرب مسيحية فلسطينية، أدّت بعد ذلك إلى حرب لبنانية ـ لبنانية.

ولكن بعد التطورات الّتي حدثت في الواقع العربي والدولي، ظهر إلى النور اتفاق الطائف، الذي كنت أقول عنه: "إنّه اتفاق أمريكي بعقال عربي وطربوش لبناني". ويبدو أن اتفاق الطائف كان في بعض موادّه ينص على تحجيم دور الرئاسة المارونية، ونقل الصلاحيات التي كانت للرئيس إلى مجلس الوزراء. وبدأت المسألة في لبنان على أساس العلاقات اللبنانية ـ السورية، فكان استقدام قوّات الردع العربية إلى لبنان، ما سمح لسوريا بالقيام بدور واسع في لبنان، والجميع يعرف أنّ الأمريكيين عملوا على أساس أن يكون لسوريا هذا الدور، ولذلك أخذ الدور السوري يتقاطع مع الدور الأمريكي في لبنان، باعتبار أن سوريا دخلت إليه من باب المخابرات لا من باب السياسة.

تقاطع الدور السوري مع الدور الأمريكي في لبنان ترك تأثيره على المسيحيين في لبنان، وحصل هناك نوع من التهميش للدور المسيحي

ومن الطَّبيعي أنَّ ذلك كلّه ترك تأثيره على الوضع المسيحي، حيث حصل نوعٌ من التهميش للدور المسيحي مقارنةً بالدور الذي كان له سابقاً، ثم كان دخول السياسة الأمريكية في المنطقة، والتي جاءت ملتزمةً بالأمن الإسرائيلي المطلق، ونحن نعرف كيف أن إسرائيل قامت بعدة حروب في لبنان، دمَّرت من خلالها الواقع اللبناني، حتى وصل بها الأمر إلى احتلال العاصمة في سنة 1982 تحت حجج لا أساس لها. وهكذا اختلطت الأمور نتيجة المشاكل التي حصلت في المنطقة، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول، حيث بدأت أمريكا تثأر لعنفوانها ولموقعها، فأعلنت الحرب على الإرهاب في العالم، وكان العالم الإسلامي هو الواجهة التي استهدفتها أمريكا، وكان لبنان الساحة التي تملك الحرية التي لا يملكها أيُّ بلد في المنطقة، ما جعل هناك فرصةً لكلِّ الذين يريدون أن يحرِّكوا هذا الخطِّ السياسي أو ذاك الخط السياسي، سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى الدولي، حتى دخل لبنان في ساحة الصراع، ولا سيما الصراع الأمريكي ـ السوري الإيراني.

المسألة في لبنان لم تعد مسألة تهميش المسيحيين لأن اللبنانيين كلهم أصبحوا مهمشين

وقد ترك هذا الأمر تأثيره على النسيج اللبناني الداخلي، فأصبح هناك فريق يلتزم السياسة الأمريكية بعنوان الانسجام مع المجتمع الدولي، ونحن نعرف أن المجتمع الدولي تسيطر عليه أمريكا من خلال سيطرتها على مجلس الأمن، بينما يُنسب إلى المعارضة أنها تلتزم السياسية السورية ـ الإيرانية. وهكذا بدأت الأزمات تتحرك في لبنان، وخصوصاً بعد العدوان الإسرائيلي عليه في سنة 2006. لذلك أعتقد بأنّ المسألة لم تعد مسألة تهميش المسيحيين، لأنّ اللبنانيين كلّهم أصبحوا مهمّشين، فالأزمة أصبحت تحاصرهم جميعاً، وتنعكس سلباً على كلِّ أوضاعهم، سواء كانت هذه الأوضاع اقتصاديةً أو سياسيةً أو أمنيةً، وتحوّلت المسألة مسيحيةً ـ مسيحيةً، وإسلاميةً ـ إسلاميةً، فيما يُثار من عمليّات انقسام في داخل الطائفة الواحدة، كما لاحظنا ذلك فيما أريد إثارته بين السنّة والشيعة، وما أريد إثارته أيضاً في الانتخابات النّيابيّة الفرعية بين المسيحيّين أنفسهم.

لذلك، أنا لا أتصوَّر أنّ المشكلة القائمة في لبنان هي بين المسيحيين والمسلمين، بل هي مشكلة المسيحيين مع أنفسهم، وهذا ما تمثَّل في الانتخابات النيابيّة الفرعية بشكلٍ واضح، كما هي مشكلة المسلمين مع أنفسهم، وهي أيضاً في الواقع اللبناني الذي أصبح لا يتمثل في طرف مسيحي أو طرف إسلامي، لأنّ المعارضة تجمع كلَّ الطوائف، وكذلك الموالاة. لذلك نحن نعتقد بأنّ المسألة في لبنان تنطلق من خلال الصراعات والأزمات في المنطقة، سواء فيما يحدث في العراق، أو في أفغانستان، أو فيما يحدث أيضاً في المسألة الإسرائيلية العربية، وهذا ما نلاحظه في الخطوط الأمريكية التي ينفتح عليها الاتحاد الأوروبي وتخضع لها بعض الخطوط العربية، فالحديث عن إحباط مسيحيّ مقابل سيطرة إسلاميّة هو غير صحيح، لأنّ المسلمين الآن لا يمثِّلون السيطرة على الواقع اللبناني كلّه، كما أنّ المسيحيين أيضاً يملكون بعض المواقع هنا أو هناك. لقد أصبح لبنان الساحة التي تتحرك فيها كلّ مخابرات العالم، وتعيش في داخلها كلّ تعقيدات مشاريع الصراع الموجودة على المستوى الدولي والإقليمي، ولهذا فإنِّ السؤال الذي طرحته أصبح غير ذي موضوع بالنسبة إلى الواقع الجديد الذي يعيشه لبنان.

المسلمون الآن في لبنان لا يمثلون السيطرة على الواقع اللبناني كله

دور السلطة الدينية المسيحية

س: لو سمحتم سماحة السيِّد، ما هي نظرتكم إلى السلطات الدينية المسيحية في لبنان، وخصوصاً دورها على الصعيد الوطني؟

ج: أنا أتصوّر أنَّ الخطاب الذي ينطلق من السلطة العليا المسيحية، وأقصد المارونية تحديداً، هو خطاب يأخذ بالعناوين الوطنية، ولكنّه في الوقت نفسه يختزن في داخله المسألة الطائفية، ومن المؤسف أنّ هذا الخطّ الطائفي الذي يختفي وراء الخطّ الوطني، أصبح مشكلةً للمرجعية الدينية المسيحية، وهذا ما لاحظناه في الصراع المسيحي ـ المسيحي، والذي تمثَّل في الانتخابات النيابيّة الفرعية (في المتن) بشكل فوق العادة، حتى إنّه قيل إنّ المطارنة، بشكل عام، دخلوا بشكل مباشر في الانتخابات تأييداً للرئيس أمين الجميل، ولم يستطيعوا أن يحققوا شيئاً حتى على المستوى المسيحي، باعتبار أن الموارنة كانوا مع الرئيس أمين الجميل، وكان بعضهم إلى جانب الرئيس عون، وأما باقي المسيحيين من أرمن وأرثوذكس فكانوا منقسمين بين الجانبين.

ثمّ إننا نلاحظ أيضاً فيما يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي، أن البطريرك أصبح يشكو من السياسيين المسيحيين لأنهم لا يطيعونه، ما يجعلنا نلاحظ أنَّ المرجعية المسيحية العليا قد ضعفت حتى لدى المسيحيين، من خلال الأحزاب المسيحية أو الاتجاهات السياسية المسيحية، وأصبحت القضيَّة أقرب إلى المجاملة منها إلى الالتزام، ولعل هذا موجود أيضاً في الدائرة الإسلامية، فالمرجعيات الرسمية الإسلامية، سواء عند الشيعة أو عند السنة، لا تجد هناك التزاماً بالخط الذي تنتهجه هذه المرجعيات، خصوصاً أنّها دخلت في تفاصيل القضايا السياسية بجزئياتها، وأصبحت تحسب على هذا السياسي أو ذاك السياسي، ما أبعد المرجعيات الدينية عن أن تكون للشعب كلّه وللأمة كلها.

تحديات الحوار والعيش المشترك

س: بالنسبة إلى مسألة الحوار الإسلامي المسيحي، سنحاول أن نستخرجها من الكتب التي كتبتموها، ومن خلال محاضراتكم الكثيرة، ولكن سؤالنا الآن: ما هي التحديات التي تواجه الحوار والعيش المشترك؟

ج: إنّ الحوار الإسلامي ـ المسيحي ينطلق في دائرتين: الدائرة الأولى، هي الدائرة العقيدية التي ترتبط باللاهوت، وهو ما يتعلّق بعالم التجسّد والصلب وعالم التكفير عن الخطايا وما إلى ذلك مما تعتقده المسيحية ولا يعتقده الإسلام، فالإسلام والمسيحيَّة في الخطِّ العقيدي الثقافي يلتـزمان التوحيد، ولكن تفاصيل المسألة التوحيدية تختلف في المسيحية عمّا هي في الإسلام، ثم بعد ذلك تمتدُّ المسألة إلى مسألة القيم الروحية والأخلاقية التي تتميَّز بها المسيحية ويتميَّز بها الإسلام، وتلتقي فيها الدّيانتان على أكثر من ثمانين في المائة، وقد تحدّث القرآن الكريم عن المسيحيين بما لم يتحدث به عن الفريق الآخر مما يسمَّى بأهل الكتاب، وهذا ما أكّده القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}(المائدة/82). بينما لم يتحدَّث القرآن عن اليهود من خلال هويّتهم العقيدية، بل من خلال سلوكهم التاريخي العدواني، ولذا قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}.

الإسلام والمسيحية في الخط العقيدي الثقافي يلتزمان التوحيد

ونحن لا نجد حواراً في لبنان في هذه الدائرة، كما أنّنا لا نجد حديثاً عن مسألة حقوق المرأة في المسيحيّة وفي الإسلام، أو قضية العدل في كلٍّ من الدّيانتين... بينما نلاحظ أنّه في الغرب تنشط مثل هذه الحوارات التي تتناول هذه القضايا، وخصوصاً في مجلس الكنائس وما إلى ذلك، والتي ينظمها المسلمون والمسيحيُّون، ويتحدثون فيها عن العناوين الكبرى، سواء على مستوى القيم المشتركة بين المسلمين والمسيحيين، أو القيم التي يختلف فيها المسلمون عن المسيحيين. إلاّ أنّنا لا نجد هناك حواراً حول القضايا التي تتعلق باللاهوت، إلا في دوائر محدودة خاصة في هذا المجال.

الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان هو حوار سياسي

أمّا الدائرة الثانية فهي الدائرة السياسية، وهي الّتي تغلب على الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان، لجهة ما هي حقوق المسلمين وما هي حقوق المسيحيين في لبنان؟ ومن الذي ينتخب النواب المسيحيين؟ ومن الطبيعي أن يدخل ذلك في قضية علاقة المسيحيين بالغرب، وعلاقة المسلمين به. لذلك فإنّنا نرى أن الحوار الإسلامي ـ المسيحي في لبنان هو حوار سياسي... ربما يتحدث البعض عن هجرة مسيحيّة، ولكنّنا نعرف أنّه كما هناك هجرة مسيحية هناك هجرة إسلامية أيضاً، وأنّ المسألة الاقتصادية هي السبب وليست المسألة السياسية فيما يتميز به المسلمون عن المسيحيين، بل إن المشاكل السياسية موجودة عند المسلمين وعند المسيحيين بشكل متساوٍ.

أما الحوار القائم في العالم في هذه الدائرة السياسية، لم يبلغ الدرجة التي يمكن أن تتحرك فيها الخطوط السياسية المسيحية والخطوط السّياسية الإسلامية معاً، وكنت قبل سنين قد وجَّهت خطاباً إلى البابا الراحل، بأنّ علينا أن نلتقي على عنوانين؛ العنوان الأول، هو الإيمان في مقابل الإلحاد، والعنوان الثاني هو مواجهة الاستكبار الذي يقف في مقابل الاستضعاف، أو دعم العدل في مقابل الظلم... وهناك نوع من سوء الفهم يتعلّق بما يراه بعض المسلمين من أنّ الغرب كلّه مسيحي في سياسته، بينما نعرف أن الغرب علماني وليس مسيحياً في هذا المقام. ولذلك فإن الكنائس في الغرب لا تملك الكثير من الجماهير في مجال التديّن والتعبّد وما إلى ذلك، لأنّ الغرب أصبح يلتزم العلمانية ويرفض الدّين، إلاّ من خلال بعض الناس الذين قد يأخذون بالمسيحية في مناسبات الأعياد أو ما أشبه ذلك.

وجهت خطاباً إلى البابا بأن علينا أن نلتقي على الإيمان مقابل الإلحاد ومواجهة الاستكبار مقابل الاستضعاف

ونحن كنّا نتحدَّث دائماً مع المسلمين، أنّ عليكم ألاّ تعتبروا الغرب الأمريكي أو الغرب الأوروبي مسيحياً، وتحسبوا على المسيحية ما يصدر منهم من بعض المظالم وبعض السلبيات وما إلى ذلك. إنّنا نعتقد أنّه لا بد من أن يكون هناك حوار إسلامي ـ مسيحي بالطريقة الموضوعية العقلانية، بحيث يحاول المسيحيون دراسة الإسلام من مصادره مع الاختلافات الموجودة في داخله، والمسلمون أيضاً دراسة المسيحية في مذاهبها واختلافاتها. وقد أصدرت منذ فترة ترحيباً بما نشر في فرنسا، من أنّ القساوسة الكاثوليك بدأوا يدرسون الإسلام ليتعرفوا الفرق بين ما يثار حوله في الغرب مما يشوّه صورته، وبين الحقائق الإسلامية، وقد أكّدت هذا الموضوع ورحَّبت به ودعوت المسلمين أيضاً إلى أن يقدِّموا للمسيحيين الحقائق الموجودة في الإسلام. ونحن نؤكد مسألة أن يكون الحوار هو الأساس في تفاهم الحضارات والأساس في تلاقي الأديان.

لا بد أن يكون الحوار الإسلامي المسيحي بالطريقة الموضوعية الإسلامية

نحن نعتقد بأنّ الحوار هو الذي يقرِّب بين الأديان، ولا سيما أننا عندما نبتعد عن المسألة اللاهوتية، فإنّنا نجد أن ما يلتقي عليه المسلمون والمسيحيون في القيم، قد يصل على حدّ الثمانين في المئة، كما أنّ المسلمين جميعاً يقدّسون السيدة العذراء كما يقدّسون السيد المسيح، وإنّ كان بعنوان كونه نبياً ورسولاً من الله، لكن القرآن يتحدّث عنه بأنّه روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم.

الحوار هو الذي يقرب بين الأديان

لذلك نستطيع نحن من خلال هذه العناوين، أن ننفتح على بعض أحاسيس ومشاعر الإيمان عند المسيحيين، والتي تمثل قاسماً مشتركاً بينهم وبين المسلمين، وإن كان بطريقة أو بأخرى، ونحن نقرأ في القرآن الكريم: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}(آل عمران/64).

الإسلامي لا يعتبر المسيحيين مشركين

فالإسلام لا يعتبر المسيحيين مشركين، ولذا يقول تعالى في سورة البيّنة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ}(البيِّنة/1). فالإسلام لم يعتبرهم مشركين بل اعتبرهم موحِّدين، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت/46).

ونحن نعرف أنَّ المسلمين يؤمنون بالإنجيل وبالتوراة كما يؤمنون بالقرآن الكريم، وهناك قواسم مشتركة من حيث المبدأ، من حيث الخطوط العامة، وإن كانت مختلفةً من حيث التفاصيل، تماماً كما هي بين المسيحيين أنفسهم، وكما هي بين المسلمين أنفسهم.

 الحوار الإسلامي ـ المسيحي (الأب ميشال صغبيني).

الحوار الإسلامي ـ المسيحي في لبنان، تعدّد الطوائف، التعايش، الاختلاف، مستقبل المسيحيين في لبنان عناوين... تناولها الأب ميشال صغبيني، في حوار أجراه مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله.

وهذا نص الحوار:

واقع المسيحيين

س: بعض المسيحيين حالياً في لبنان عندهم شعور معيّن، وهو التهميش والإحباط، وهذا ما نسمعه في الوسط المسيحي، كيف تقوّمون وضع المسيحيين حالياً في لبنان؟

ج: لعلَّ المشكلة في لبنان هي في الإحساس الطَّائفي الذي يجعل هذه الطائفة أو تلك تفكّر في أن لها خصوصيَّاتها واستقلالها في البلد، بحيث تنطلق، ولو بشكل لا شعوري، على أساس أنّها تملك نوعاً من أنواع الاستقلال في كلِّ شؤونها، بما يهيّىء نوعاً من الحساسية التي قد تتحوّل إلى عقدة تجاه أيِّ عمل يقوم به أتباع الطائفة الثانية.

المشكلة في لبنان هي في الإحساس الطائفي الذي يجعل هذه الطائفة أو تلك تفكر أن لها خصوصياتها واستقلالها في البلد.

عندما انطلق لبنان قبل الاستقلال وبعده، كان ذلك على أساس أن يكون في واجهته السياسية مارونياً، وهذا ما عبّر عنه ريمون إدّه الذي كان يقول إنه أُريد أن يكون للموارنة دولة، فكان لبنان دولة الموارنة، وسيطرت الطائفة المارونية على الحكم بطريقة وبأخرى، من خلال طبيعة الامتيازات التي كان يتمتَّع بها رئيس الجمهورية قبل اتفاق الطائف، وكان المسلمون يتحدّثون عن التّهميش والحرمان، وعن أنّ الطائفة المارونية بشكل خاصّ، والمسيحيين بشكل عام، هم الّذين يملكون كلِّ مواقع القوة في لبنان، ولذلك كانت هناك حساسية إسلامية تجاه الامتيازات المسيحية، والمارونيّة خصوصاً، وكانت هناك بعض الحساسيات في داخل الطائفة المسيحية نفسها، باعتبار أن الأرثوذكس والأرمن والآخرين كانوا يشعرون أيضاً بالغبن أمام الامتيازات التي تملكها الطائفة المارونية، كما في الدائرة الإسلامية، حيث كان الشيعة يشعرون بالغبن أمام الامتيازات التي تتمتَّع بها الطائفة السنية، لأنّه كان هناك ما يشبه التحالف السني ـ الماروني في ذلك الوقت، باعتبار أن السنّة كانوا هم الذين يسيطرون على بيروت الغربية، ولو من خلال امتداد الخلافة العثمانية التي كانت ترعى السنّة وتضطهد الشيعة.

النظام الطائفي في لبنان أدخل كل الدول فيه بحيث اختلطت كل الأوراق في المواقع الدولية

ولذلك عاش لبنان هذا الجوَّ من الحساسية، وقد أثَّر النظام الطائفي والذي لم يكن نظاماً مكتوباًً بل كان عرفاً اجتماعياً، أثَّر على طبيعة الحركة السياسية للطوائف، فكان البعض يتحدّث عن أنّ الدول العربية، ولا سيّما الخليجية، تؤيد الطّائفة السنية وتدعمها، وأن فرنسا تدعم الطائفة المارونية، ولا سيما الكاثوليكية بشكل عام، وأن الدروز يُدعَمون من قبل بريطانيا، ثم اختلطت الأوراق في المواقع الدولية، حيث حُجِّم الدور الفرنسي والدور البريطاني ليدخل الدور الأمريكي، وهذا ما بدا في اجتماع عبد الناصر مع فؤاد شهاب في ذلك الوقت. ثم تدخَّلت كل الدول في لبنان من خلال النظام الطائفي، ولا سيما بعد أن برزت المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، ودخل الفلسطينيون إلى لبنان في أوضاع معقَّدة في الساحة العربية، وأخذت كل دولة عربية تلتزم منظمةً فلسطينيةً، وأصبحت المنظَّمات الفلسطينية بعدد الدول العربية التي كان بعضها يدفع المال ويتحرَّك سياسياً، إلى جانب الأوضاع الدَّولية التي كانت تنفذ من خلال هذه الدولة أو تلك، من خلال الخطَّة التي اختطَّها وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر، الذي أراد إسقاط القضيَّة الفلسطينية في لبنان، وذلك بإيجاد حرب مسيحية فلسطينية، أدّت بعد ذلك إلى حرب لبنانية ـ لبنانية.

ولكن بعد التطورات الّتي حدثت في الواقع العربي والدولي، ظهر إلى النور اتفاق الطائف، الذي كنت أقول عنه: "إنّه اتفاق أمريكي بعقال عربي وطربوش لبناني". ويبدو أن اتفاق الطائف كان في بعض موادّه ينص على تحجيم دور الرئاسة المارونية، ونقل الصلاحيات التي كانت للرئيس إلى مجلس الوزراء. وبدأت المسألة في لبنان على أساس العلاقات اللبنانية ـ السورية، فكان استقدام قوّات الردع العربية إلى لبنان، ما سمح لسوريا بالقيام بدور واسع في لبنان، والجميع يعرف أنّ الأمريكيين عملوا على أساس أن يكون لسوريا هذا الدور، ولذلك أخذ الدور السوري يتقاطع مع الدور الأمريكي في لبنان، باعتبار أن سوريا دخلت إليه من باب المخابرات لا من باب السياسة.

تقاطع الدور السوري مع الدور الأمريكي في لبنان ترك تأثيره على المسيحيين في لبنان، وحصل هناك نوع من التهميش للدور المسيحي

ومن الطَّبيعي أنَّ ذلك كلّه ترك تأثيره على الوضع المسيحي، حيث حصل نوعٌ من التهميش للدور المسيحي مقارنةً بالدور الذي كان له سابقاً، ثم كان دخول السياسة الأمريكية في المنطقة، والتي جاءت ملتزمةً بالأمن الإسرائيلي المطلق، ونحن نعرف كيف أن إسرائيل قامت بعدة حروب في لبنان، دمَّرت من خلالها الواقع اللبناني، حتى وصل بها الأمر إلى احتلال العاصمة في سنة 1982 تحت حجج لا أساس لها. وهكذا اختلطت الأمور نتيجة المشاكل التي حصلت في المنطقة، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول، حيث بدأت أمريكا تثأر لعنفوانها ولموقعها، فأعلنت الحرب على الإرهاب في العالم، وكان العالم الإسلامي هو الواجهة التي استهدفتها أمريكا، وكان لبنان الساحة التي تملك الحرية التي لا يملكها أيُّ بلد في المنطقة، ما جعل هناك فرصةً لكلِّ الذين يريدون أن يحرِّكوا هذا الخطِّ السياسي أو ذاك الخط السياسي، سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى الدولي، حتى دخل لبنان في ساحة الصراع، ولا سيما الصراع الأمريكي ـ السوري الإيراني.

المسألة في لبنان لم تعد مسألة تهميش المسيحيين لأن اللبنانيين كلهم أصبحوا مهمشين

وقد ترك هذا الأمر تأثيره على النسيج اللبناني الداخلي، فأصبح هناك فريق يلتزم السياسة الأمريكية بعنوان الانسجام مع المجتمع الدولي، ونحن نعرف أن المجتمع الدولي تسيطر عليه أمريكا من خلال سيطرتها على مجلس الأمن، بينما يُنسب إلى المعارضة أنها تلتزم السياسية السورية ـ الإيرانية. وهكذا بدأت الأزمات تتحرك في لبنان، وخصوصاً بعد العدوان الإسرائيلي عليه في سنة 2006. لذلك أعتقد بأنّ المسألة لم تعد مسألة تهميش المسيحيين، لأنّ اللبنانيين كلّهم أصبحوا مهمّشين، فالأزمة أصبحت تحاصرهم جميعاً، وتنعكس سلباً على كلِّ أوضاعهم، سواء كانت هذه الأوضاع اقتصاديةً أو سياسيةً أو أمنيةً، وتحوّلت المسألة مسيحيةً ـ مسيحيةً، وإسلاميةً ـ إسلاميةً، فيما يُثار من عمليّات انقسام في داخل الطائفة الواحدة، كما لاحظنا ذلك فيما أريد إثارته بين السنّة والشيعة، وما أريد إثارته أيضاً في الانتخابات النّيابيّة الفرعية بين المسيحيّين أنفسهم.

لذلك، أنا لا أتصوَّر أنّ المشكلة القائمة في لبنان هي بين المسيحيين والمسلمين، بل هي مشكلة المسيحيين مع أنفسهم، وهذا ما تمثَّل في الانتخابات النيابيّة الفرعية بشكلٍ واضح، كما هي مشكلة المسلمين مع أنفسهم، وهي أيضاً في الواقع اللبناني الذي أصبح لا يتمثل في طرف مسيحي أو طرف إسلامي، لأنّ المعارضة تجمع كلَّ الطوائف، وكذلك الموالاة. لذلك نحن نعتقد بأنّ المسألة في لبنان تنطلق من خلال الصراعات والأزمات في المنطقة، سواء فيما يحدث في العراق، أو في أفغانستان، أو فيما يحدث أيضاً في المسألة الإسرائيلية العربية، وهذا ما نلاحظه في الخطوط الأمريكية التي ينفتح عليها الاتحاد الأوروبي وتخضع لها بعض الخطوط العربية، فالحديث عن إحباط مسيحيّ مقابل سيطرة إسلاميّة هو غير صحيح، لأنّ المسلمين الآن لا يمثِّلون السيطرة على الواقع اللبناني كلّه، كما أنّ المسيحيين أيضاً يملكون بعض المواقع هنا أو هناك. لقد أصبح لبنان الساحة التي تتحرك فيها كلّ مخابرات العالم، وتعيش في داخلها كلّ تعقيدات مشاريع الصراع الموجودة على المستوى الدولي والإقليمي، ولهذا فإنِّ السؤال الذي طرحته أصبح غير ذي موضوع بالنسبة إلى الواقع الجديد الذي يعيشه لبنان.

المسلمون الآن في لبنان لا يمثلون السيطرة على الواقع اللبناني كله

دور السلطة الدينية المسيحية

س: لو سمحتم سماحة السيِّد، ما هي نظرتكم إلى السلطات الدينية المسيحية في لبنان، وخصوصاً دورها على الصعيد الوطني؟

ج: أنا أتصوّر أنَّ الخطاب الذي ينطلق من السلطة العليا المسيحية، وأقصد المارونية تحديداً، هو خطاب يأخذ بالعناوين الوطنية، ولكنّه في الوقت نفسه يختزن في داخله المسألة الطائفية، ومن المؤسف أنّ هذا الخطّ الطائفي الذي يختفي وراء الخطّ الوطني، أصبح مشكلةً للمرجعية الدينية المسيحية، وهذا ما لاحظناه في الصراع المسيحي ـ المسيحي، والذي تمثَّل في الانتخابات النيابيّة الفرعية (في المتن) بشكل فوق العادة، حتى إنّه قيل إنّ المطارنة، بشكل عام، دخلوا بشكل مباشر في الانتخابات تأييداً للرئيس أمين الجميل، ولم يستطيعوا أن يحققوا شيئاً حتى على المستوى المسيحي، باعتبار أن الموارنة كانوا مع الرئيس أمين الجميل، وكان بعضهم إلى جانب الرئيس عون، وأما باقي المسيحيين من أرمن وأرثوذكس فكانوا منقسمين بين الجانبين.

ثمّ إننا نلاحظ أيضاً فيما يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي، أن البطريرك أصبح يشكو من السياسيين المسيحيين لأنهم لا يطيعونه، ما يجعلنا نلاحظ أنَّ المرجعية المسيحية العليا قد ضعفت حتى لدى المسيحيين، من خلال الأحزاب المسيحية أو الاتجاهات السياسية المسيحية، وأصبحت القضيَّة أقرب إلى المجاملة منها إلى الالتزام، ولعل هذا موجود أيضاً في الدائرة الإسلامية، فالمرجعيات الرسمية الإسلامية، سواء عند الشيعة أو عند السنة، لا تجد هناك التزاماً بالخط الذي تنتهجه هذه المرجعيات، خصوصاً أنّها دخلت في تفاصيل القضايا السياسية بجزئياتها، وأصبحت تحسب على هذا السياسي أو ذاك السياسي، ما أبعد المرجعيات الدينية عن أن تكون للشعب كلّه وللأمة كلها.

تحديات الحوار والعيش المشترك

س: بالنسبة إلى مسألة الحوار الإسلامي المسيحي، سنحاول أن نستخرجها من الكتب التي كتبتموها، ومن خلال محاضراتكم الكثيرة، ولكن سؤالنا الآن: ما هي التحديات التي تواجه الحوار والعيش المشترك؟

ج: إنّ الحوار الإسلامي ـ المسيحي ينطلق في دائرتين: الدائرة الأولى، هي الدائرة العقيدية التي ترتبط باللاهوت، وهو ما يتعلّق بعالم التجسّد والصلب وعالم التكفير عن الخطايا وما إلى ذلك مما تعتقده المسيحية ولا يعتقده الإسلام، فالإسلام والمسيحيَّة في الخطِّ العقيدي الثقافي يلتـزمان التوحيد، ولكن تفاصيل المسألة التوحيدية تختلف في المسيحية عمّا هي في الإسلام، ثم بعد ذلك تمتدُّ المسألة إلى مسألة القيم الروحية والأخلاقية التي تتميَّز بها المسيحية ويتميَّز بها الإسلام، وتلتقي فيها الدّيانتان على أكثر من ثمانين في المائة، وقد تحدّث القرآن الكريم عن المسيحيين بما لم يتحدث به عن الفريق الآخر مما يسمَّى بأهل الكتاب، وهذا ما أكّده القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}(المائدة/82). بينما لم يتحدَّث القرآن عن اليهود من خلال هويّتهم العقيدية، بل من خلال سلوكهم التاريخي العدواني، ولذا قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}.

الإسلام والمسيحية في الخط العقيدي الثقافي يلتزمان التوحيد

ونحن لا نجد حواراً في لبنان في هذه الدائرة، كما أنّنا لا نجد حديثاً عن مسألة حقوق المرأة في المسيحيّة وفي الإسلام، أو قضية العدل في كلٍّ من الدّيانتين... بينما نلاحظ أنّه في الغرب تنشط مثل هذه الحوارات التي تتناول هذه القضايا، وخصوصاً في مجلس الكنائس وما إلى ذلك، والتي ينظمها المسلمون والمسيحيُّون، ويتحدثون فيها عن العناوين الكبرى، سواء على مستوى القيم المشتركة بين المسلمين والمسيحيين، أو القيم التي يختلف فيها المسلمون عن المسيحيين. إلاّ أنّنا لا نجد هناك حواراً حول القضايا التي تتعلق باللاهوت، إلا في دوائر محدودة خاصة في هذا المجال.

الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان هو حوار سياسي

أمّا الدائرة الثانية فهي الدائرة السياسية، وهي الّتي تغلب على الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان، لجهة ما هي حقوق المسلمين وما هي حقوق المسيحيين في لبنان؟ ومن الذي ينتخب النواب المسيحيين؟ ومن الطبيعي أن يدخل ذلك في قضية علاقة المسيحيين بالغرب، وعلاقة المسلمين به. لذلك فإنّنا نرى أن الحوار الإسلامي ـ المسيحي في لبنان هو حوار سياسي... ربما يتحدث البعض عن هجرة مسيحيّة، ولكنّنا نعرف أنّه كما هناك هجرة مسيحية هناك هجرة إسلامية أيضاً، وأنّ المسألة الاقتصادية هي السبب وليست المسألة السياسية فيما يتميز به المسلمون عن المسيحيين، بل إن المشاكل السياسية موجودة عند المسلمين وعند المسيحيين بشكل متساوٍ.

أما الحوار القائم في العالم في هذه الدائرة السياسية، لم يبلغ الدرجة التي يمكن أن تتحرك فيها الخطوط السياسية المسيحية والخطوط السّياسية الإسلامية معاً، وكنت قبل سنين قد وجَّهت خطاباً إلى البابا الراحل، بأنّ علينا أن نلتقي على عنوانين؛ العنوان الأول، هو الإيمان في مقابل الإلحاد، والعنوان الثاني هو مواجهة الاستكبار الذي يقف في مقابل الاستضعاف، أو دعم العدل في مقابل الظلم... وهناك نوع من سوء الفهم يتعلّق بما يراه بعض المسلمين من أنّ الغرب كلّه مسيحي في سياسته، بينما نعرف أن الغرب علماني وليس مسيحياً في هذا المقام. ولذلك فإن الكنائس في الغرب لا تملك الكثير من الجماهير في مجال التديّن والتعبّد وما إلى ذلك، لأنّ الغرب أصبح يلتزم العلمانية ويرفض الدّين، إلاّ من خلال بعض الناس الذين قد يأخذون بالمسيحية في مناسبات الأعياد أو ما أشبه ذلك.

وجهت خطاباً إلى البابا بأن علينا أن نلتقي على الإيمان مقابل الإلحاد ومواجهة الاستكبار مقابل الاستضعاف

ونحن كنّا نتحدَّث دائماً مع المسلمين، أنّ عليكم ألاّ تعتبروا الغرب الأمريكي أو الغرب الأوروبي مسيحياً، وتحسبوا على المسيحية ما يصدر منهم من بعض المظالم وبعض السلبيات وما إلى ذلك. إنّنا نعتقد أنّه لا بد من أن يكون هناك حوار إسلامي ـ مسيحي بالطريقة الموضوعية العقلانية، بحيث يحاول المسيحيون دراسة الإسلام من مصادره مع الاختلافات الموجودة في داخله، والمسلمون أيضاً دراسة المسيحية في مذاهبها واختلافاتها. وقد أصدرت منذ فترة ترحيباً بما نشر في فرنسا، من أنّ القساوسة الكاثوليك بدأوا يدرسون الإسلام ليتعرفوا الفرق بين ما يثار حوله في الغرب مما يشوّه صورته، وبين الحقائق الإسلامية، وقد أكّدت هذا الموضوع ورحَّبت به ودعوت المسلمين أيضاً إلى أن يقدِّموا للمسيحيين الحقائق الموجودة في الإسلام. ونحن نؤكد مسألة أن يكون الحوار هو الأساس في تفاهم الحضارات والأساس في تلاقي الأديان.

لا بد أن يكون الحوار الإسلامي المسيحي بالطريقة الموضوعية الإسلامية

نحن نعتقد بأنّ الحوار هو الذي يقرِّب بين الأديان، ولا سيما أننا عندما نبتعد عن المسألة اللاهوتية، فإنّنا نجد أن ما يلتقي عليه المسلمون والمسيحيون في القيم، قد يصل على حدّ الثمانين في المئة، كما أنّ المسلمين جميعاً يقدّسون السيدة العذراء كما يقدّسون السيد المسيح، وإنّ كان بعنوان كونه نبياً ورسولاً من الله، لكن القرآن يتحدّث عنه بأنّه روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم.

الحوار هو الذي يقرب بين الأديان

لذلك نستطيع نحن من خلال هذه العناوين، أن ننفتح على بعض أحاسيس ومشاعر الإيمان عند المسيحيين، والتي تمثل قاسماً مشتركاً بينهم وبين المسلمين، وإن كان بطريقة أو بأخرى، ونحن نقرأ في القرآن الكريم: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}(آل عمران/64).

الإسلامي لا يعتبر المسيحيين مشركين

فالإسلام لا يعتبر المسيحيين مشركين، ولذا يقول تعالى في سورة البيّنة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ}(البيِّنة/1). فالإسلام لم يعتبرهم مشركين بل اعتبرهم موحِّدين، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(العنكبوت/46).

ونحن نعرف أنَّ المسلمين يؤمنون بالإنجيل وبالتوراة كما يؤمنون بالقرآن الكريم، وهناك قواسم مشتركة من حيث المبدأ، من حيث الخطوط العامة، وإن كانت مختلفةً من حيث التفاصيل، تماماً كما هي بين المسيحيين أنفسهم، وكما هي بين المسلمين أنفسهم.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير