القدس رمز الأمَّة الإسلاميَّة وعنوان وحدتها

القدس رمز الأمَّة الإسلاميَّة وعنوان وحدتها

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 28/9/1406هـ/ الموافق: 6 حزيران 1986م، بحضور حشدٍ من المؤمنين. وقد جاء فيها:

هذا اليوم هو آخر جمعة من شهر رمضان، وفيه نقف أيضاً لنتطلّع إلى يوم القدس الَّذي أمر الإمام الخميني المسلمين بأن يحتفلوا به ويجتمعوا فيه، ليواجهوا الأخطار القادمة إلى حياتهم في حاضرهم ومستقبلهم.

رضا الله أوّلاً

نحن نقف أمام هذا اليوم في آخر جمعة من شهر رمضان الَّذي أنزل الله فيه القرآن ليكون هدى وبيّنة للنّاس، ومساحة من مساحات التّعبئة الرّوحيَّة للإنسان، ليصير أقرب إلى الله ويقترب من النَّاس أكثر، لأنَّ ما يربطه بهم إمّا مصالحه وإمّا إيمانه، فإذا ارتبط بهم من خلال مصالحه، فربما فرضت عليه أن يضرَّهم ويؤذيهم ويقتلهم خدمةً لها، لأنَّ المصالح الشَّخصيَّة لا تمثّل قاعدةً مستقبليَّة ثابتة تحدِّد السَّير، فربما تكون مصلحتك اليوم مصالحة شخص، وغداً تصير مصلحتك أن تقتله.

لهذا إذا كان الإنسان يركِّز علاقاته مع النّاس على أساس مصالحه الفئويَّة والذّاتيَّة، فلن يتحرَّك من مواقع ثابتة. أمَّا الإنسان الَّذي يتحرَّك في علاقاته مع النَّاس على أساس أنَّهم عباد الله.. فمعناه أنَّ المسلمين يلتقون معك بدائرة الإيمان وغيرها من الدَّوائر الَّتي لها حدود.

عندما يكون الأساس عندك هو أن تحقِّق رضا الله وتعيش مع الإنسان، سواء كان ذلك موافقاً لمزاجك أو مخالفاً له؛ عندما تكون العلاقة فيما تتقاطع وتقبل وترفض مرتبطة مع الله، فإنّك في حالة رساليّة، كما تصلّي، فلا يكون هناك خلل في صلاتك وطهارتها. وهكذا عندما تعيش العلاقة مع النّاس على هذا الأساس، فإنّك تكون بعيداً عن أيّ عملٍ يسخط الله. وعندما تعيش مع زوجتك أو جيرانك على أساس خطِّ الله، وكذلك مع المسلمين وغيرهم، عندها يمكنك أن تعرف ما تريد، وأن يعرف النّاس عنك ما تريد، ويكون سلمك وحربك منطلقين مما أراده الله، فلا تكون القضيّة مزاجاً وانفعالاً، بل تمام ما يريد الله.

دور شهر رمضان هو دور التَّعبئة الرّوحيَّة الّتي تجعلك تفهم ما هي خطوطك وحدودك والمجالات الّتي تتحرَّك فيها، وقصَّة شهر رمضان في أنّه تعبئة روحيَّة تجعل الإنسان يخشع لفكر الله وإرادته، ويعيش الانسحاق أمام الله والانحناء أمامه والخضوع له لا لغيره؛ إنَّه دور التَّعبئة الفكريَّة: هل كنت في مستوى فهمك للقرآن؟ وهل تغيَّرت الآن فيما قرأت من قرآن، وفيما استمعت إليه من مواعظ؟ هل زدت وعياً أم نقص الوعي عندك؟ في الجانب الرّوحيّ، هل أنت أقرب إلى الله من روحك؟ هل تقدَّمت أم ما زلت في مكانك؟ ماذا استطعت أن تحصِّل وتحقّق من طاعة الله؟ وماذا تخطِّط من مشاريع مستقبليّة على أساس ما يريده الله؟ لا بدَّ لنا من أن نفكّر في شهر رمضان قبل أن ينتهي، وهو فرصة مميَّزة، لأنَّ الله جعله موسماً للطّاعة والخير والرّوح، وجعل الله عطاياه تتضاعف.

لهذا، يقرأ المسلمون في نهاية هذا الشَّهر: اللَّهمّ "إن كنت قد رضيت عني فازدد عنّي رضى..."[1]. علينا أن نصفِّي قلوبنا في ختام هذا الشَّهر، وأن يسلم النّاس منّا ومن أذانا؛ هذا هو جوّ رمضان، ليعوِّض الإنسان عمّا ذهب، ويجعله قمَّة في روحه وعطائه.

أهميّة الوحدة

وعندما نريد أن نواجه هذا الشَّهر، فعلينا أن نعرف أنَّ الله أراده زمناً يشعر المسلمون فيه بوحدتهم، وأنَّه الزّمن الَّذي يصومون فيه جميعاً قربةً إلى الله تعالى، وأنَّ عليهم أن يعيشوا فيه الابتهال إلى الله والخضوع لله ومحاسبة النَّفس بين يديه، ليشعروا بأنَّ وحدانيَّته توحِّدهم، وأنَّ الرسول يوحِّدهم، والقرآن يوحِّدهم، والصَّوم يوحِّدهم.

أراد الله للمسلمين أن يعيشوا فيه وحدة القضايا الأساسيَّة، وأن يشعروا بأنهم أمَّة واحدة، وأنَّ اختلافهم في التّفاصيل يمكن أن يحلّ من موقع العلم، وأراد لهم أن يدفعوا بالّتي هي أحسن، ليتناقشوا في ما اختلفوا فيه، فهذه هي الوحدة التي هي أساس كلّ قضاياهم وأمورهم التي أرادها الله عندما قال: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[2]؛ هذه القاعدة الّتي أراد الله أن ننطلق فيها، لأنّنا إذا اختلفنا في شيء، فستكون عناصر الوحدة حاضرةً لتحلّ مشاكلنا.

لقد قلناها أكثر من مرّة: عندما ندعو إلى الوحدة الإسلاميَّة، فلا يعني ذلك تمييع الإسلام، وليس معنى الوحدة أن يقال للشيعي تنازل عن قناعاتك بدون أساس، أو أن يقال للسني ذلك. إنّنا نقول لهم جميعاً: انطلقوا من الإيمان بالله والقرآن، فإن تنازعتم في شيء، فانظروا كيف يحلّه القرآن والرّسول، وإذا لم تقتنعوا، فاعرفوا كيف تبحثون عن حلّ بعيداً عن منطق القوّة.

ونحن نعرف أنَّ الاستكبار يعمل بكلِّ إمكانيّاته ليضرب المسلمين ويعمِّق الخلافات والأحقاد التّاريخيّة بينهم، ليمنعهم من أن يكونوا قوّة في مواجهة الكفر والاستكبار والظلم الدّاخليّ والخارجيّ.. إنّه لا يريدهم أن يقفوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، يريدهم أن يقتلوا بعضهم بعضاً، ولهذا خلق لهم شخصيّات متعدِّدة إقليميَّة، حتى يشعروا بأنَّ هناك فاصلاً روحياً بينهم، فيصير هذا المسلم غريباً عن ذاك، ولو كان مسلماً، ثم خلق لهم الشخصيّة القوميَّة، وجعلها حدّاً فاصلاً بين النّاس، ولهذا تحرّك الناس على هذا الأساس، ليتقاتلوا من مواقعهم الجغرافيّة والقوميّة، ثم خلق لهم شخصيّات حزبيّة تتحرّك من موقع الكفر والضّلال والدكاكين الاستهلاكيّة، وتخلق المشاكل، وتعيد الخلافات والمعارك، والكلّ يرفع ألف شعار إلا شعار الإسلام، فلا نشعر بأنّ ذلك يمكن أن يقودنا إلى الحوار للوصول إلى نتيجة إيجابيّة.

نحن لا ننكر أنَّ المسلمين يختلفون، لكنَّنا نعمل بكلِّ طاقتنا لندرس المسائل الّتي تتحرَّك في السَّاحة من موقعٍ عقلانيّ، لنمنع فيها أيّة حساسيّات مذهبيَّة، ونحن نعلم أنَّ هناك مجرمين يعملون لحساب مخابراتٍ دوليَّةٍ ومحليَّةٍ وإقليميَّة، ليخلطوا الأوراق في المجتمع الإسلاميّ، لكن علينا عندما نكتشفهم، أن لا نعطيهم صفة التَّمثيل الشِّيعي، وكذلك القيادات الّتي تتحرَّك، ينبغي أن لا تعطيهم صفة التَّمثيل الشّيعي، وكذلك السنَّة، لأنَّ المجرمين والعصابات الّتي تتحرّك، إذا أعطيت غطاءً ذاتيّاً، فمعناه أنَّنا نعطي الأجهزة شرعيَّتها المذهبيَّة هنا وهناك.. لماذا تنطلق المسألة على أساس أنَّه إذا حصلت مشاكل فستفرَز السَّاحة إلى ساحة سنّيَّة وساحة شيعيَّة، فإذا كان هناك شيعيّ يسرق ويقتل، يعطى غطاءً شيعيّاً، وكذلك الأمر بالنِّسبة إلى السنّيّ؟!

إنَّ هذا الجوَّ الانفعاليَّ الّذي يجعلنا نتعصَّب لفكرةٍ سيّئة أو إنسان ما، جعلنا نخشى كلّ فكرة تثار إسلاميّاً على مستوى صراع المحاور والأشخاص، وجعلنا نخاف كلَّ يوم من أن تشتعل نار المذهبيَّة، فيفكّر السنّة بطريقة معيَّنة ضدّ الشّيعة، والعكس، كأن ليس للخطّ الإسلاميّ دخل في ذلك.

إنَّنا ندعو المسلمين الّذين يلتزمون الإسلام شريعةً وغطاءً ومنهاجاً، إلى أن يتحركوا على أساس أن يعرفوا البعد العميق لكلِّ معركة ولكلِّ مشكلة تحدث، حتى يعي المسلمون أنَّ هذه المعارك والحروب ليست مذهبيّة بل سياسيّة، وعندها، يجب أن نقف أمامها لندرس القضايا الّتي يمكن أن تخدمها هذه الحرب أو غيرها. علينا أن لا نكون انفعاليّين في حكمنا على الواقع، وعلينا، أيّها المسلمون، أن نستفيد من كلّ تجارب القضيّة اللّبنانيّة والفلسطينيّة والواقع الاستعماريّ في منطقتنا.

كفانا استهتاراً بالواقع الإسلاميّ وسذاجةً، كفانا مذهبيّةً يخلقها أولئك الّذين ركبوا الموجة الطائفيّة والفتن المذهبيّة حتى تتضخَّم مواقعهم السّياسيّة. آن لنا أن نعرف أنَّ المستقبل الّذي نواجهه يحمل أكثر من خطر وتحدٍّ، وأنَّ مسألة المسلمين تنطلق كخطرٍ يهدِّد الأمن الدّاخليَّ والخارجيّ. علينا أن نعرف جيّداً أنّنا في لبنان والمنطقة لن يستطيع السنَّة الحصول على حقوقهم بدون الشّيعة، والعكس.

رفع الغطاء عن المعتدين

هناك من يتحدَّث في السّاحة عن سرقات وحرائق وانتهاك بيوت وغيرها، وقلنا سابقاً، ليس للّصوص والمجرمين طائفة؛ إنَّ اللّصوص من الشّيعة والسّنّة والموارنة، هم لصوص من طائفة اللّصوصيّة، وليسوا شيعةً ولا سنّةً ولا مسيحيّين في لصوصيّتهم، هم من طائفة واحدة، هي طائفة الحرامية اللاعبين بمشاعر النّاس. لذا يجب أن ننطلق جميعاً لنواجههم، لأنهم يربكون حياة النّاس ويثيرون الفساد..

علينا أن نعرف أنَّ الإسلام واضح في هذا المجال: اقطعوا يد السّارق، علينا أن نفضح السّارقين، حتى لو كانوا من أهلنا ولبسوا ثياب الإيمان: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}[3]. ليس هناك فتوى تحلّ سرقة الشّيعيّ أو السنّي، وهذه الفتاوى التي تُرمَى في الساحة هي فتاوى غير مسؤولة.

إنَّ الله يريد للمسلمين أن يكونوا أمناء، لهذا يجب أن لا نعتبر هذه الأمور مذهبيَّة، فقد يكون هؤلاء من عدّة مذاهب، لكنَّ مذهبهم الحقيقيّ هو السّرقة، ونقول للفعاليّات السياسيّة التي تملك السيطرة على المليشيات: بإمكانكم من خلال أجهزة أمنكم اكتشاف السّارق، من أيّ جماعة كان.

لهذا إذا أردتم أن تقولوا للشَّعب إنّكم لا توافقون هؤلاء السَّارقين، فقدِّموهم إلى المحاكمة وافضحوهم، وأعيدوا إلى النّاس أموالهم. بإمكاننا ذلك إذا فرضنا على المسؤولين الَّذين يملكون الإمكانات العمليَّة على الأرض، أن يرفعوا الغطاء السِّياسيّ عن هؤلاء، وعندها سنرى ما يكون مقدار قوَّتهم، عندما يعرفون أنَّه ليس لهم غطاء سياسيّ، فإذا قتلوا أحداً أو اعتدوا على أحد، علينا أن لا نمنحهم غطاءً سياسيّاً، أمّا إذا رأى المجرمون أنَّ قياداتهم تغطّي جرائمهم، فسيستمرّون في ذلك ويزدادون تحركاً في إيذاء النّاس.

أيّها الأخوة، أقولها للجميع: إنَّ الظّلم لا يعطي قوّةً لأحد، والجريمة لا تعطي مركزاً لأحد، بل تضعف أصحابها، قد تعطيهم قوّة اليوم، لكنّها ستنقلب ضدَّهم في المستقبل. إذا كنّا جادّين في المسألة، فسنخفّف كثيراً من آلام النّاس، وأمّا إذا تحدَّثنا في الظّاهر بشيء، وفي الكواليس بشيء آخر، فعلينا أن ننتظر كلّ يوم مشاكل جديدة، وعندها سيكون البركان والزّلزال، ولن يبقى أحد في السّاحة، لأنها ستنقلب على رؤوس الجميع.

إنّنا نريد أن نقول في كلِّ هذه الأحداث لكلِّ إخواننا المسلمين واللّبنانيّين، إنَّ عليهم أن يكونوا واعين جيّداً، وأن لا يحكموا على الأشياء إلا بعد دراستها، ولا ينطلقوا في الأمور بسطحيّة، حتى لا تستهلكنا الأوضاع المخابراتيّة الّتي تريد هدم الوضع الإسلامي.

تسمعون في هذه الأيام أوساطاً غير إسلامية تريد الشرّ بالمسلمين، تتحدَّث بما يشبه الفرحة عن أنّ هؤلاء المسلمين يقتلون بعضهم بعضاً، ولا يستطيعون العيش مع بعضهم البعض، وأنّ هناك الكثير من المشاكل بينهم. إنَّنا نُشعر إسرائيل وعملاءها في الدّول الكبرى بالفرح، لأنَّنا ننشغل بتحطيم قوانا، وعندها لن يكون أمامهم مشكلة ليهزمونا، لأنَّنا نكون قد هزمنا أنفسنا، اعرفوا صدى واقعكم بما تسمعونه من إعلام وصحف وإذاعات مضادّة، انظروا كيف تحاول إثارة الإشاعات والأكاذيب ليحارب النَّاس بعضهم بعضاً..

ثم إنّنا نواجه الأمر في شهر رمضان هذا، كما واجهنا في شهر رمضان الماضي ما يسمَّى حرب المخيَّمات.. لقد أثيرت القضيّة على أساس أنَّ هناك خطَّة شيعيّة لقتل السنَّة، وقلنا للّذين أثاروها: "خيّطوا بغير هذه المسلّة"، لأنها لن تنفع شيئاً، لأنَّ العالم العربيّ والإسلاميّ استهلك مثل هذه الشّعارات. قلنا إنَّ هذه الحرب بطبيعتها في السَّابق واللاحق، هي حرب الرّسائل المفتوحة على المستوى الإقليميّ، والتي يراد من خلالها إيجاد مواقع متميّزة متقدّمة للوضع الفلسطينيّ في الساحة اللّبنانيّة، بعد أن ضيِّقت عليه كلّ السّاحات.

ليست المسألة مسألة الشيعة ضدّ الفلسطينيّين أو العكس، بل إنَّ في المسألة بعداً سياسيّاً وخطوطاً سياسيّة معيَّنة، ربما فرضت أن تشتعل الحرب في وقت معيَّن، لننطلق بعدها في هدنة، ثم تشتعل، وذلك حسب حاجة السَّاحة إلى التَّفجير، وحسب الأوراق الّتي تتحرَّك في السّاحة الإقليميّة والدّوليّة، لأنّه لا يمكن أن يكون هناك قتال يدمِّر فيه المسلمون بعضهم بعضاً سوى في لبنان، وعلى هذا الأساس، كانت حرب المخيَّمات جرحاً لا يغلق، لأنّه ليس من مصلحة الجهات الخارجيَّة إغلاقه.

لإغلاق صفحة الحرب

ما نريد أن نثيره أوّلاً:

إنَّ هذه الحرب لن تنفع اللّبنانيّين ولا الفلسطينيّين، ولن تنفع الشّيعة ولا السنّة ولا أحداً، بقطع النَّظر عن البادئ ومن انطلق بعده، لكنَّ النّتائج لن تكون إيجابيّة لمصلحة أيّ فريق لبنانيّ أو إسلاميّ عموماً. لنضع في حساباتنا حرب المخيَّمات السَّابقة الّتي سقط فيها شهداء وضحايا لبنانيّون وفلسطينيّون، ما هي الحصيلة الإسلاميّة في كلِّ ذلك؟ هذه الحرب ستكون نتيجتها كتلك النَّتيجة العام الماضي، علينا أن نفهم جيِّداً طبيعة الصِّراع.

النّقطة الثّانية الّتي أثيرها في ما يسمَّى السَّاحة الوطنيّة العامّة، هي أنَّ الحرب إذا كانت تخاض ضدّ عرفات، كما يقولون جميعاً، فلماذا يتركون القضيَّة تتَّخذ منحى مذهبيّاً؟ لماذا يتخفّفون من مسؤوليَّاتهم ويطلقون التّصريحات بوجوب إغلاقها؟ ما شغلكم أنتم في التّحالف الوطني؟ إنَّ قيمة السياسيّ ليست في أن يتفرّج على النّار بعد أن تشتعل، إنما بعدم إشعالها. إنَّ السّياسيّ ـ السّياسيّ، هو من يمنع المعركة أن تنطلق، ونحن نرسم علامات استفهام أمام هذا الوضع الَّذي يقف فيه الجميع لينتظر كلّ واحد منهم متى تنتهي هذه الحرب حتى يحقِّقوا أهدافهم.

لا نريد اتّهام أحد، ولكن إذا كانت الحرب تشتعل، فما دوركم؟ ما معنى العمل الوطنيّ والاتحاد الوطنيّ؟ عليكم إمّا أن تتحمَّلوا مسؤوليّاتكم، وإمّا أن تنسحبوا من السّاحة. لماذا تجعلونها مذهبيَّة وطائفيّة وأنتم تغسلون أيديكم من دم هذا الصّدّيق؟ لا ندعوكم لتشاركوا في الحرب، بل نسألكم لماذا لم تمنعوا قيامها؟ هل أنتم عاجزون؟ إذاً، انسحبوا من السَّاحة.

النّقطة الثَّالثة هي أنَّه يجب أن لا نعود إلى المعزوفة السنيَّة الشيعيَّة، ليكون كلّ فلسطينيّ عدوّاً لنا أو العكس، فإذا أمسكوا بفلسطيني أحرقوه، وإذا رأى الفلسطيني شيعيّاً، قتله وأحرق منزله، من أباح لك ذلك؟ إنَّ في الفلسطينيّين أبرياء، وكما بينهم أشرار كذلك بيننا أشرار. علينا أن لا نأخذ "الضَّعيف بجريرة القويّ"، فلا يحقّ لإنسانٍ أن يعتدي على مسلم بدون حقّ، وعلينا أن لا ننطلق هذه الانطلاقة العاطفيّة، فهناك محاور سياسيّة، وعندما تكون الحرب، فإنّما هي حربٌ بين هذه المحاور. لكن ما معنى أن يُقنص الأطفال؟ هل الحرب في منطقةٍ معزولة حتّى نفترض أنّه لا يمكن استهدافهم؟ ألا يراهم القنّاص؟ إنَّ المخيّمات مليئة بالأطفال، وأطرافها كذلك. لماذا يقتل الأطفال؟ أي مبرّرٍ وطنيّ أو قوميّ أو إسلاميّ لقتل الأطفال؟ هل تريد أن تقطع الشَّارع؟ تستطيع ذلك بدون قتل الأطفال، إنّ الظّلم في هذا المجال يساهم في أكثر من هزيمة للنّاس، لأنَّ مثل هذا الظّلم لا يحتمل.

ثم ما معنى أن يتحرَّك الرّصاص ليحرق المنازل هنا وهناك؟ إنَّ للحرب أخلاقيَّة، فقد كان الرسول(ص) عندما يدفع الناس إلى الحرب المشروعة، يوصيهم بأن لا يقتلوا أسيراً، ولا يجهزوا على جريح، أمّا نحن، فنرى أنّ الكلّ يُقتَل، ونحن نقول "لا إله إلا الله، محمّد رسول الله".

إننا نقولها للجميع: إنَّ هذه الحرب التي نكتوي بنارها جميعاً، والَّتي انطلقت لتسجّل نقطةً هنا وهناك؛ هذه الحرب المفروضة، نريد لكلِّ المخلصين أن يعملوا على إغلاقها، وأن يقتنعوا بأنها لا تحلّ مشكلة، وإذا كانت القضيَّة أن يضغط فريق على فريق، فالضّغوط لا تحل أيّة مشكلة سياسيَّة، لأنها أكبر من الجهات المحلية. وهكذا نساهم في جعل الحرب تقتل من الأبرياء أكثر، وتوصلنا إلى نقطة الصّفر، وسترون أنَّ الحرب ستغلق، وستسقط كلّ الشّعارات، وسيقول الجميع رحم الله من مات وشافى من جرح... إنَّ خطوط المخيَّمات صارت مثل خطوط التّماس، وعلينا إغلاق هذا الملفّ الَّذي لا يحقِّق أيّة نتيجة.

القدس: الرَّمز المقدَّس

في هذا اليوم، ينبغي أن نعيش روحيَّتنا وإسلاميَّتنا مع الله، لنفكِّر كيف نعي على أكثر من مستوى، ونعرف اللّعبة المتحركة في أكثر من صعيد، وندرك أنَّ الحرب الّتي مضى عليها أحد عشر عاماً، لم تحلّ مشكلةً ولن تحلّها، وعلينا أن نعمل بكلِّ طاقاتنا لنكتشف الحلّ من خلال الحوار والأوضاع الواقعيَّة والسياسيَّة، ثم باختصار نقول:

إنّ اليوم هو يوم القدس، الّتي تمثِّل للأديان السّماويّة مركزاً مقدَّساً يجد فيه الجميع بعض الرموز الّتي يقدِّسونها، وهي للمسلمين كلّ رموزهم، لأنَّهم يؤمنون بموسى وعيسى ومحمّد والتّوراة والإنجيل والقرآن، كما بيّن الله لهم، فالقدس للمسلمين، وهم يؤمنون بالرّسالات كلّها، وعلى هذا الأساس، فهي تمثّل الانفتاح الإسلامي على المقدَّسات الحقيقيّة التي تتحرك من موقع الرسالات.

إنّ القدس تمثّل الرّمز الإسلاميّ لهذه المنطقة الَّتي احتلَّها اليهود الَّذين جاؤوا من بقاع العالم، وهيَّأت لهم دول العالم المستكبر الفرصة حتّى يحتلّوا فلسطين ويصلوا إلى الاكتفاء الذّاتيّ. إنّ القدس تمثّل رمز هذه المنطقة الّتي جاء اليهود وأخرجوا أهلها قسراً، وهم يعملون على التمدّد خارج فلسطين، كما تمدّدوا في الجولان وسيناء وجنوب لبنان، لخلق أمرٍ واقعٍ يعملون على تحويله في المستقبل إلى واقعٍ رسميٍّ وقانونيّ.

إنَّ القدس رمز لهذه المنطقة، والدّعوة إلى تحرير القدس من قبل قائد الأمّة الإسلاميّة الإمام الخميني(حفظه الله)، هي دعوة إلى تحرير إرادة المسلم، ومنعها من أن تنسحق تحت تأثير أمر واقع يحاول أعداء الله فرضه على المسلمين.

إنَّ مسألة يوم القدس ليست يوماً احتفاليّاً ينطلق فيه المسلمون ليهتفوا، لكنَّها تمثّل حالة تعبئة عالميّة للمسلمين روحياً وسياسياً، ليشعروا بأنهم إذا انسحبوا من قضيّة القدس على أساس الأمر الواقع، فربما يأتي وقت يفرض فيه أمر واقع على مكَّة والمدينة، لأنّ السياسة الإسرائيليّة تفكّر في أنَّ من حقّها التواجد في أية بقعة كان اليهود فيها، ومن الطّبيعيّ أنّ اليهود كانوا في مكّة وخيبر. وإذا واجه المسلمون قضاياهم على أساس الاستسلام، فظلّوا ينسحبون على أساس الأمر الواقع، فلن يبقى لهم شيء.

إنَّ قضيّة القدس تمثّل التعبئة الروحيَّة، حتى لا ينسى الناس فلسطين والقدس، ومسألة تحرير القدس ليست مسألة شهر أو شهرين، أو سنة أو سنتين، أو شعب يحارب في الجنوب، إنما هي مسألة العالم بأسره، لذا كما فكّر اليهود بأورشليم مئة سنة وأكثر واسترجعوها، علينا أن نفكِّر في القدس والمسجد الحرام والإنسان هنا وهناك، لندخلها ولو بعد خمسين سنة. ولهذا عندما نفكّر في المستقبل، فسوف نشعر بالقوّة، لأنَّ المستقبل يحمل لنا فرص التّقدّم والانتصار، أمّا الحاضر فيحمل لنا مشاكله.

علينا أن نفكِّر بفلسطين كوجهٍ للمنطقة والعالم الإسلاميّ، وهذا مسؤوليَّة كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة، وكما ننفتح بعاطفتنا الإسلاميَّة على القائد الّذي فتح قلبه للمسلمين ولله، علينا أن نفتح قلوبنا على كلّ إرشاداته ونصائحه، لأنَّه الإنسان الَّذي باع نفسه لله، لننطلق إلى الله أحراراً أعزّاء عندما نؤدّي مسؤوليّتنا لله، لنلتقي القائد الأساس، لأنّنا في إيماننا بالمهدي(ع) وخروجه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، معناه أنّنا مستقبليّون، نغيّر الواقع، ولن نستسلم للظّلم في فلسطين وفي لبنان والعراق؛بل نقف ونخطِّط للقضاء على الظّلم، ونلتقي بعدها في المسيرة العادلة لملء الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.


[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 92، ص 167.

[2] [المؤمنون: 52].

[3] [المائدة: 38].

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 28/9/1406هـ/ الموافق: 6 حزيران 1986م، بحضور حشدٍ من المؤمنين. وقد جاء فيها:

هذا اليوم هو آخر جمعة من شهر رمضان، وفيه نقف أيضاً لنتطلّع إلى يوم القدس الَّذي أمر الإمام الخميني المسلمين بأن يحتفلوا به ويجتمعوا فيه، ليواجهوا الأخطار القادمة إلى حياتهم في حاضرهم ومستقبلهم.

رضا الله أوّلاً

نحن نقف أمام هذا اليوم في آخر جمعة من شهر رمضان الَّذي أنزل الله فيه القرآن ليكون هدى وبيّنة للنّاس، ومساحة من مساحات التّعبئة الرّوحيَّة للإنسان، ليصير أقرب إلى الله ويقترب من النَّاس أكثر، لأنَّ ما يربطه بهم إمّا مصالحه وإمّا إيمانه، فإذا ارتبط بهم من خلال مصالحه، فربما فرضت عليه أن يضرَّهم ويؤذيهم ويقتلهم خدمةً لها، لأنَّ المصالح الشَّخصيَّة لا تمثّل قاعدةً مستقبليَّة ثابتة تحدِّد السَّير، فربما تكون مصلحتك اليوم مصالحة شخص، وغداً تصير مصلحتك أن تقتله.

لهذا إذا كان الإنسان يركِّز علاقاته مع النّاس على أساس مصالحه الفئويَّة والذّاتيَّة، فلن يتحرَّك من مواقع ثابتة. أمَّا الإنسان الَّذي يتحرَّك في علاقاته مع النَّاس على أساس أنَّهم عباد الله.. فمعناه أنَّ المسلمين يلتقون معك بدائرة الإيمان وغيرها من الدَّوائر الَّتي لها حدود.

عندما يكون الأساس عندك هو أن تحقِّق رضا الله وتعيش مع الإنسان، سواء كان ذلك موافقاً لمزاجك أو مخالفاً له؛ عندما تكون العلاقة فيما تتقاطع وتقبل وترفض مرتبطة مع الله، فإنّك في حالة رساليّة، كما تصلّي، فلا يكون هناك خلل في صلاتك وطهارتها. وهكذا عندما تعيش العلاقة مع النّاس على هذا الأساس، فإنّك تكون بعيداً عن أيّ عملٍ يسخط الله. وعندما تعيش مع زوجتك أو جيرانك على أساس خطِّ الله، وكذلك مع المسلمين وغيرهم، عندها يمكنك أن تعرف ما تريد، وأن يعرف النّاس عنك ما تريد، ويكون سلمك وحربك منطلقين مما أراده الله، فلا تكون القضيّة مزاجاً وانفعالاً، بل تمام ما يريد الله.

دور شهر رمضان هو دور التَّعبئة الرّوحيَّة الّتي تجعلك تفهم ما هي خطوطك وحدودك والمجالات الّتي تتحرَّك فيها، وقصَّة شهر رمضان في أنّه تعبئة روحيَّة تجعل الإنسان يخشع لفكر الله وإرادته، ويعيش الانسحاق أمام الله والانحناء أمامه والخضوع له لا لغيره؛ إنَّه دور التَّعبئة الفكريَّة: هل كنت في مستوى فهمك للقرآن؟ وهل تغيَّرت الآن فيما قرأت من قرآن، وفيما استمعت إليه من مواعظ؟ هل زدت وعياً أم نقص الوعي عندك؟ في الجانب الرّوحيّ، هل أنت أقرب إلى الله من روحك؟ هل تقدَّمت أم ما زلت في مكانك؟ ماذا استطعت أن تحصِّل وتحقّق من طاعة الله؟ وماذا تخطِّط من مشاريع مستقبليّة على أساس ما يريده الله؟ لا بدَّ لنا من أن نفكّر في شهر رمضان قبل أن ينتهي، وهو فرصة مميَّزة، لأنَّ الله جعله موسماً للطّاعة والخير والرّوح، وجعل الله عطاياه تتضاعف.

لهذا، يقرأ المسلمون في نهاية هذا الشَّهر: اللَّهمّ "إن كنت قد رضيت عني فازدد عنّي رضى..."[1]. علينا أن نصفِّي قلوبنا في ختام هذا الشَّهر، وأن يسلم النّاس منّا ومن أذانا؛ هذا هو جوّ رمضان، ليعوِّض الإنسان عمّا ذهب، ويجعله قمَّة في روحه وعطائه.

أهميّة الوحدة

وعندما نريد أن نواجه هذا الشَّهر، فعلينا أن نعرف أنَّ الله أراده زمناً يشعر المسلمون فيه بوحدتهم، وأنَّه الزّمن الَّذي يصومون فيه جميعاً قربةً إلى الله تعالى، وأنَّ عليهم أن يعيشوا فيه الابتهال إلى الله والخضوع لله ومحاسبة النَّفس بين يديه، ليشعروا بأنَّ وحدانيَّته توحِّدهم، وأنَّ الرسول يوحِّدهم، والقرآن يوحِّدهم، والصَّوم يوحِّدهم.

أراد الله للمسلمين أن يعيشوا فيه وحدة القضايا الأساسيَّة، وأن يشعروا بأنهم أمَّة واحدة، وأنَّ اختلافهم في التّفاصيل يمكن أن يحلّ من موقع العلم، وأراد لهم أن يدفعوا بالّتي هي أحسن، ليتناقشوا في ما اختلفوا فيه، فهذه هي الوحدة التي هي أساس كلّ قضاياهم وأمورهم التي أرادها الله عندما قال: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[2]؛ هذه القاعدة الّتي أراد الله أن ننطلق فيها، لأنّنا إذا اختلفنا في شيء، فستكون عناصر الوحدة حاضرةً لتحلّ مشاكلنا.

لقد قلناها أكثر من مرّة: عندما ندعو إلى الوحدة الإسلاميَّة، فلا يعني ذلك تمييع الإسلام، وليس معنى الوحدة أن يقال للشيعي تنازل عن قناعاتك بدون أساس، أو أن يقال للسني ذلك. إنّنا نقول لهم جميعاً: انطلقوا من الإيمان بالله والقرآن، فإن تنازعتم في شيء، فانظروا كيف يحلّه القرآن والرّسول، وإذا لم تقتنعوا، فاعرفوا كيف تبحثون عن حلّ بعيداً عن منطق القوّة.

ونحن نعرف أنَّ الاستكبار يعمل بكلِّ إمكانيّاته ليضرب المسلمين ويعمِّق الخلافات والأحقاد التّاريخيّة بينهم، ليمنعهم من أن يكونوا قوّة في مواجهة الكفر والاستكبار والظلم الدّاخليّ والخارجيّ.. إنّه لا يريدهم أن يقفوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، يريدهم أن يقتلوا بعضهم بعضاً، ولهذا خلق لهم شخصيّات متعدِّدة إقليميَّة، حتى يشعروا بأنَّ هناك فاصلاً روحياً بينهم، فيصير هذا المسلم غريباً عن ذاك، ولو كان مسلماً، ثم خلق لهم الشخصيّة القوميَّة، وجعلها حدّاً فاصلاً بين النّاس، ولهذا تحرّك الناس على هذا الأساس، ليتقاتلوا من مواقعهم الجغرافيّة والقوميّة، ثم خلق لهم شخصيّات حزبيّة تتحرّك من موقع الكفر والضّلال والدكاكين الاستهلاكيّة، وتخلق المشاكل، وتعيد الخلافات والمعارك، والكلّ يرفع ألف شعار إلا شعار الإسلام، فلا نشعر بأنّ ذلك يمكن أن يقودنا إلى الحوار للوصول إلى نتيجة إيجابيّة.

نحن لا ننكر أنَّ المسلمين يختلفون، لكنَّنا نعمل بكلِّ طاقتنا لندرس المسائل الّتي تتحرَّك في السَّاحة من موقعٍ عقلانيّ، لنمنع فيها أيّة حساسيّات مذهبيَّة، ونحن نعلم أنَّ هناك مجرمين يعملون لحساب مخابراتٍ دوليَّةٍ ومحليَّةٍ وإقليميَّة، ليخلطوا الأوراق في المجتمع الإسلاميّ، لكن علينا عندما نكتشفهم، أن لا نعطيهم صفة التَّمثيل الشِّيعي، وكذلك القيادات الّتي تتحرَّك، ينبغي أن لا تعطيهم صفة التَّمثيل الشّيعي، وكذلك السنَّة، لأنَّ المجرمين والعصابات الّتي تتحرّك، إذا أعطيت غطاءً ذاتيّاً، فمعناه أنَّنا نعطي الأجهزة شرعيَّتها المذهبيَّة هنا وهناك.. لماذا تنطلق المسألة على أساس أنَّه إذا حصلت مشاكل فستفرَز السَّاحة إلى ساحة سنّيَّة وساحة شيعيَّة، فإذا كان هناك شيعيّ يسرق ويقتل، يعطى غطاءً شيعيّاً، وكذلك الأمر بالنِّسبة إلى السنّيّ؟!

إنَّ هذا الجوَّ الانفعاليَّ الّذي يجعلنا نتعصَّب لفكرةٍ سيّئة أو إنسان ما، جعلنا نخشى كلّ فكرة تثار إسلاميّاً على مستوى صراع المحاور والأشخاص، وجعلنا نخاف كلَّ يوم من أن تشتعل نار المذهبيَّة، فيفكّر السنّة بطريقة معيَّنة ضدّ الشّيعة، والعكس، كأن ليس للخطّ الإسلاميّ دخل في ذلك.

إنَّنا ندعو المسلمين الّذين يلتزمون الإسلام شريعةً وغطاءً ومنهاجاً، إلى أن يتحركوا على أساس أن يعرفوا البعد العميق لكلِّ معركة ولكلِّ مشكلة تحدث، حتى يعي المسلمون أنَّ هذه المعارك والحروب ليست مذهبيّة بل سياسيّة، وعندها، يجب أن نقف أمامها لندرس القضايا الّتي يمكن أن تخدمها هذه الحرب أو غيرها. علينا أن لا نكون انفعاليّين في حكمنا على الواقع، وعلينا، أيّها المسلمون، أن نستفيد من كلّ تجارب القضيّة اللّبنانيّة والفلسطينيّة والواقع الاستعماريّ في منطقتنا.

كفانا استهتاراً بالواقع الإسلاميّ وسذاجةً، كفانا مذهبيّةً يخلقها أولئك الّذين ركبوا الموجة الطائفيّة والفتن المذهبيّة حتى تتضخَّم مواقعهم السّياسيّة. آن لنا أن نعرف أنَّ المستقبل الّذي نواجهه يحمل أكثر من خطر وتحدٍّ، وأنَّ مسألة المسلمين تنطلق كخطرٍ يهدِّد الأمن الدّاخليَّ والخارجيّ. علينا أن نعرف جيّداً أنّنا في لبنان والمنطقة لن يستطيع السنَّة الحصول على حقوقهم بدون الشّيعة، والعكس.

رفع الغطاء عن المعتدين

هناك من يتحدَّث في السّاحة عن سرقات وحرائق وانتهاك بيوت وغيرها، وقلنا سابقاً، ليس للّصوص والمجرمين طائفة؛ إنَّ اللّصوص من الشّيعة والسّنّة والموارنة، هم لصوص من طائفة اللّصوصيّة، وليسوا شيعةً ولا سنّةً ولا مسيحيّين في لصوصيّتهم، هم من طائفة واحدة، هي طائفة الحرامية اللاعبين بمشاعر النّاس. لذا يجب أن ننطلق جميعاً لنواجههم، لأنهم يربكون حياة النّاس ويثيرون الفساد..

علينا أن نعرف أنَّ الإسلام واضح في هذا المجال: اقطعوا يد السّارق، علينا أن نفضح السّارقين، حتى لو كانوا من أهلنا ولبسوا ثياب الإيمان: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}[3]. ليس هناك فتوى تحلّ سرقة الشّيعيّ أو السنّي، وهذه الفتاوى التي تُرمَى في الساحة هي فتاوى غير مسؤولة.

إنَّ الله يريد للمسلمين أن يكونوا أمناء، لهذا يجب أن لا نعتبر هذه الأمور مذهبيَّة، فقد يكون هؤلاء من عدّة مذاهب، لكنَّ مذهبهم الحقيقيّ هو السّرقة، ونقول للفعاليّات السياسيّة التي تملك السيطرة على المليشيات: بإمكانكم من خلال أجهزة أمنكم اكتشاف السّارق، من أيّ جماعة كان.

لهذا إذا أردتم أن تقولوا للشَّعب إنّكم لا توافقون هؤلاء السَّارقين، فقدِّموهم إلى المحاكمة وافضحوهم، وأعيدوا إلى النّاس أموالهم. بإمكاننا ذلك إذا فرضنا على المسؤولين الَّذين يملكون الإمكانات العمليَّة على الأرض، أن يرفعوا الغطاء السِّياسيّ عن هؤلاء، وعندها سنرى ما يكون مقدار قوَّتهم، عندما يعرفون أنَّه ليس لهم غطاء سياسيّ، فإذا قتلوا أحداً أو اعتدوا على أحد، علينا أن لا نمنحهم غطاءً سياسيّاً، أمّا إذا رأى المجرمون أنَّ قياداتهم تغطّي جرائمهم، فسيستمرّون في ذلك ويزدادون تحركاً في إيذاء النّاس.

أيّها الأخوة، أقولها للجميع: إنَّ الظّلم لا يعطي قوّةً لأحد، والجريمة لا تعطي مركزاً لأحد، بل تضعف أصحابها، قد تعطيهم قوّة اليوم، لكنّها ستنقلب ضدَّهم في المستقبل. إذا كنّا جادّين في المسألة، فسنخفّف كثيراً من آلام النّاس، وأمّا إذا تحدَّثنا في الظّاهر بشيء، وفي الكواليس بشيء آخر، فعلينا أن ننتظر كلّ يوم مشاكل جديدة، وعندها سيكون البركان والزّلزال، ولن يبقى أحد في السّاحة، لأنها ستنقلب على رؤوس الجميع.

إنّنا نريد أن نقول في كلِّ هذه الأحداث لكلِّ إخواننا المسلمين واللّبنانيّين، إنَّ عليهم أن يكونوا واعين جيّداً، وأن لا يحكموا على الأشياء إلا بعد دراستها، ولا ينطلقوا في الأمور بسطحيّة، حتى لا تستهلكنا الأوضاع المخابراتيّة الّتي تريد هدم الوضع الإسلامي.

تسمعون في هذه الأيام أوساطاً غير إسلامية تريد الشرّ بالمسلمين، تتحدَّث بما يشبه الفرحة عن أنّ هؤلاء المسلمين يقتلون بعضهم بعضاً، ولا يستطيعون العيش مع بعضهم البعض، وأنّ هناك الكثير من المشاكل بينهم. إنَّنا نُشعر إسرائيل وعملاءها في الدّول الكبرى بالفرح، لأنَّنا ننشغل بتحطيم قوانا، وعندها لن يكون أمامهم مشكلة ليهزمونا، لأنَّنا نكون قد هزمنا أنفسنا، اعرفوا صدى واقعكم بما تسمعونه من إعلام وصحف وإذاعات مضادّة، انظروا كيف تحاول إثارة الإشاعات والأكاذيب ليحارب النَّاس بعضهم بعضاً..

ثم إنّنا نواجه الأمر في شهر رمضان هذا، كما واجهنا في شهر رمضان الماضي ما يسمَّى حرب المخيَّمات.. لقد أثيرت القضيّة على أساس أنَّ هناك خطَّة شيعيّة لقتل السنَّة، وقلنا للّذين أثاروها: "خيّطوا بغير هذه المسلّة"، لأنها لن تنفع شيئاً، لأنَّ العالم العربيّ والإسلاميّ استهلك مثل هذه الشّعارات. قلنا إنَّ هذه الحرب بطبيعتها في السَّابق واللاحق، هي حرب الرّسائل المفتوحة على المستوى الإقليميّ، والتي يراد من خلالها إيجاد مواقع متميّزة متقدّمة للوضع الفلسطينيّ في الساحة اللّبنانيّة، بعد أن ضيِّقت عليه كلّ السّاحات.

ليست المسألة مسألة الشيعة ضدّ الفلسطينيّين أو العكس، بل إنَّ في المسألة بعداً سياسيّاً وخطوطاً سياسيّة معيَّنة، ربما فرضت أن تشتعل الحرب في وقت معيَّن، لننطلق بعدها في هدنة، ثم تشتعل، وذلك حسب حاجة السَّاحة إلى التَّفجير، وحسب الأوراق الّتي تتحرَّك في السّاحة الإقليميّة والدّوليّة، لأنّه لا يمكن أن يكون هناك قتال يدمِّر فيه المسلمون بعضهم بعضاً سوى في لبنان، وعلى هذا الأساس، كانت حرب المخيَّمات جرحاً لا يغلق، لأنّه ليس من مصلحة الجهات الخارجيَّة إغلاقه.

لإغلاق صفحة الحرب

ما نريد أن نثيره أوّلاً:

إنَّ هذه الحرب لن تنفع اللّبنانيّين ولا الفلسطينيّين، ولن تنفع الشّيعة ولا السنّة ولا أحداً، بقطع النَّظر عن البادئ ومن انطلق بعده، لكنَّ النّتائج لن تكون إيجابيّة لمصلحة أيّ فريق لبنانيّ أو إسلاميّ عموماً. لنضع في حساباتنا حرب المخيَّمات السَّابقة الّتي سقط فيها شهداء وضحايا لبنانيّون وفلسطينيّون، ما هي الحصيلة الإسلاميّة في كلِّ ذلك؟ هذه الحرب ستكون نتيجتها كتلك النَّتيجة العام الماضي، علينا أن نفهم جيِّداً طبيعة الصِّراع.

النّقطة الثّانية الّتي أثيرها في ما يسمَّى السَّاحة الوطنيّة العامّة، هي أنَّ الحرب إذا كانت تخاض ضدّ عرفات، كما يقولون جميعاً، فلماذا يتركون القضيَّة تتَّخذ منحى مذهبيّاً؟ لماذا يتخفّفون من مسؤوليَّاتهم ويطلقون التّصريحات بوجوب إغلاقها؟ ما شغلكم أنتم في التّحالف الوطني؟ إنَّ قيمة السياسيّ ليست في أن يتفرّج على النّار بعد أن تشتعل، إنما بعدم إشعالها. إنَّ السّياسيّ ـ السّياسيّ، هو من يمنع المعركة أن تنطلق، ونحن نرسم علامات استفهام أمام هذا الوضع الَّذي يقف فيه الجميع لينتظر كلّ واحد منهم متى تنتهي هذه الحرب حتى يحقِّقوا أهدافهم.

لا نريد اتّهام أحد، ولكن إذا كانت الحرب تشتعل، فما دوركم؟ ما معنى العمل الوطنيّ والاتحاد الوطنيّ؟ عليكم إمّا أن تتحمَّلوا مسؤوليّاتكم، وإمّا أن تنسحبوا من السّاحة. لماذا تجعلونها مذهبيَّة وطائفيّة وأنتم تغسلون أيديكم من دم هذا الصّدّيق؟ لا ندعوكم لتشاركوا في الحرب، بل نسألكم لماذا لم تمنعوا قيامها؟ هل أنتم عاجزون؟ إذاً، انسحبوا من السَّاحة.

النّقطة الثَّالثة هي أنَّه يجب أن لا نعود إلى المعزوفة السنيَّة الشيعيَّة، ليكون كلّ فلسطينيّ عدوّاً لنا أو العكس، فإذا أمسكوا بفلسطيني أحرقوه، وإذا رأى الفلسطيني شيعيّاً، قتله وأحرق منزله، من أباح لك ذلك؟ إنَّ في الفلسطينيّين أبرياء، وكما بينهم أشرار كذلك بيننا أشرار. علينا أن لا نأخذ "الضَّعيف بجريرة القويّ"، فلا يحقّ لإنسانٍ أن يعتدي على مسلم بدون حقّ، وعلينا أن لا ننطلق هذه الانطلاقة العاطفيّة، فهناك محاور سياسيّة، وعندما تكون الحرب، فإنّما هي حربٌ بين هذه المحاور. لكن ما معنى أن يُقنص الأطفال؟ هل الحرب في منطقةٍ معزولة حتّى نفترض أنّه لا يمكن استهدافهم؟ ألا يراهم القنّاص؟ إنَّ المخيّمات مليئة بالأطفال، وأطرافها كذلك. لماذا يقتل الأطفال؟ أي مبرّرٍ وطنيّ أو قوميّ أو إسلاميّ لقتل الأطفال؟ هل تريد أن تقطع الشَّارع؟ تستطيع ذلك بدون قتل الأطفال، إنّ الظّلم في هذا المجال يساهم في أكثر من هزيمة للنّاس، لأنَّ مثل هذا الظّلم لا يحتمل.

ثم ما معنى أن يتحرَّك الرّصاص ليحرق المنازل هنا وهناك؟ إنَّ للحرب أخلاقيَّة، فقد كان الرسول(ص) عندما يدفع الناس إلى الحرب المشروعة، يوصيهم بأن لا يقتلوا أسيراً، ولا يجهزوا على جريح، أمّا نحن، فنرى أنّ الكلّ يُقتَل، ونحن نقول "لا إله إلا الله، محمّد رسول الله".

إننا نقولها للجميع: إنَّ هذه الحرب التي نكتوي بنارها جميعاً، والَّتي انطلقت لتسجّل نقطةً هنا وهناك؛ هذه الحرب المفروضة، نريد لكلِّ المخلصين أن يعملوا على إغلاقها، وأن يقتنعوا بأنها لا تحلّ مشكلة، وإذا كانت القضيَّة أن يضغط فريق على فريق، فالضّغوط لا تحل أيّة مشكلة سياسيَّة، لأنها أكبر من الجهات المحلية. وهكذا نساهم في جعل الحرب تقتل من الأبرياء أكثر، وتوصلنا إلى نقطة الصّفر، وسترون أنَّ الحرب ستغلق، وستسقط كلّ الشّعارات، وسيقول الجميع رحم الله من مات وشافى من جرح... إنَّ خطوط المخيَّمات صارت مثل خطوط التّماس، وعلينا إغلاق هذا الملفّ الَّذي لا يحقِّق أيّة نتيجة.

القدس: الرَّمز المقدَّس

في هذا اليوم، ينبغي أن نعيش روحيَّتنا وإسلاميَّتنا مع الله، لنفكِّر كيف نعي على أكثر من مستوى، ونعرف اللّعبة المتحركة في أكثر من صعيد، وندرك أنَّ الحرب الّتي مضى عليها أحد عشر عاماً، لم تحلّ مشكلةً ولن تحلّها، وعلينا أن نعمل بكلِّ طاقاتنا لنكتشف الحلّ من خلال الحوار والأوضاع الواقعيَّة والسياسيَّة، ثم باختصار نقول:

إنّ اليوم هو يوم القدس، الّتي تمثِّل للأديان السّماويّة مركزاً مقدَّساً يجد فيه الجميع بعض الرموز الّتي يقدِّسونها، وهي للمسلمين كلّ رموزهم، لأنَّهم يؤمنون بموسى وعيسى ومحمّد والتّوراة والإنجيل والقرآن، كما بيّن الله لهم، فالقدس للمسلمين، وهم يؤمنون بالرّسالات كلّها، وعلى هذا الأساس، فهي تمثّل الانفتاح الإسلامي على المقدَّسات الحقيقيّة التي تتحرك من موقع الرسالات.

إنّ القدس تمثّل الرّمز الإسلاميّ لهذه المنطقة الَّتي احتلَّها اليهود الَّذين جاؤوا من بقاع العالم، وهيَّأت لهم دول العالم المستكبر الفرصة حتّى يحتلّوا فلسطين ويصلوا إلى الاكتفاء الذّاتيّ. إنّ القدس تمثّل رمز هذه المنطقة الّتي جاء اليهود وأخرجوا أهلها قسراً، وهم يعملون على التمدّد خارج فلسطين، كما تمدّدوا في الجولان وسيناء وجنوب لبنان، لخلق أمرٍ واقعٍ يعملون على تحويله في المستقبل إلى واقعٍ رسميٍّ وقانونيّ.

إنَّ القدس رمز لهذه المنطقة، والدّعوة إلى تحرير القدس من قبل قائد الأمّة الإسلاميّة الإمام الخميني(حفظه الله)، هي دعوة إلى تحرير إرادة المسلم، ومنعها من أن تنسحق تحت تأثير أمر واقع يحاول أعداء الله فرضه على المسلمين.

إنَّ مسألة يوم القدس ليست يوماً احتفاليّاً ينطلق فيه المسلمون ليهتفوا، لكنَّها تمثّل حالة تعبئة عالميّة للمسلمين روحياً وسياسياً، ليشعروا بأنهم إذا انسحبوا من قضيّة القدس على أساس الأمر الواقع، فربما يأتي وقت يفرض فيه أمر واقع على مكَّة والمدينة، لأنّ السياسة الإسرائيليّة تفكّر في أنَّ من حقّها التواجد في أية بقعة كان اليهود فيها، ومن الطّبيعيّ أنّ اليهود كانوا في مكّة وخيبر. وإذا واجه المسلمون قضاياهم على أساس الاستسلام، فظلّوا ينسحبون على أساس الأمر الواقع، فلن يبقى لهم شيء.

إنَّ قضيّة القدس تمثّل التعبئة الروحيَّة، حتى لا ينسى الناس فلسطين والقدس، ومسألة تحرير القدس ليست مسألة شهر أو شهرين، أو سنة أو سنتين، أو شعب يحارب في الجنوب، إنما هي مسألة العالم بأسره، لذا كما فكّر اليهود بأورشليم مئة سنة وأكثر واسترجعوها، علينا أن نفكِّر في القدس والمسجد الحرام والإنسان هنا وهناك، لندخلها ولو بعد خمسين سنة. ولهذا عندما نفكّر في المستقبل، فسوف نشعر بالقوّة، لأنَّ المستقبل يحمل لنا فرص التّقدّم والانتصار، أمّا الحاضر فيحمل لنا مشاكله.

علينا أن نفكِّر بفلسطين كوجهٍ للمنطقة والعالم الإسلاميّ، وهذا مسؤوليَّة كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة، وكما ننفتح بعاطفتنا الإسلاميَّة على القائد الّذي فتح قلبه للمسلمين ولله، علينا أن نفتح قلوبنا على كلّ إرشاداته ونصائحه، لأنَّه الإنسان الَّذي باع نفسه لله، لننطلق إلى الله أحراراً أعزّاء عندما نؤدّي مسؤوليّتنا لله، لنلتقي القائد الأساس، لأنّنا في إيماننا بالمهدي(ع) وخروجه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، معناه أنّنا مستقبليّون، نغيّر الواقع، ولن نستسلم للظّلم في فلسطين وفي لبنان والعراق؛بل نقف ونخطِّط للقضاء على الظّلم، ونلتقي بعدها في المسيرة العادلة لملء الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.


[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 92، ص 167.

[2] [المؤمنون: 52].

[3] [المائدة: 38].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير