وحدة الأمَّة من خلال القيادة الصَّالحة

وحدة الأمَّة من خلال القيادة الصَّالحة
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}{النِّساء: 59-61].

 

الإيمان يحدّد ساحة الطّاعة

يريد هذا النِّداء الإلهيّ أن يحدِّد للمؤمن طريقه، في ما يلتزمه في كلِّ مواقع الحياة، وما هي حدود الطَّاعة في حياته وما هو خطّه ومنهجه، وكيف يمكن له ـ كمؤمن ـ أن يحدّد مواقعه في الحياة، ومن يطيع ومن يعصي...

هناك الكثير من النّاس الّذين ترتبط معهم برابطة القرابة أو الصّداقة، أو ترتبط معهم برابطة الوطن أو القوميّة أو ما إلى ذلك، وقد يطلبون منك أن تطيعهم في ما يملكون من مواقع عاطفيّة في نفسك، أو في ما يملكون من مواقع سياسيّة أو اجتماعيّة في حياتك، وعليك ـ كمؤمن ـ أن تحدّد لنفسك مساحة الطّاعة التي تتحرّك فيها، ويحدّد الله لك ذلك ليقول لك: عندما آمنت بالله ورسوله، فإنّ إيمانك حدّد لك ساحة الطّاعة.. وبعد أن صرت مؤمناً وعاش الإيمان في قلبك وفي فكرك، فلست حرّاً في أن تطيع من تشاء أو أن تعصي من تشاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ}، فالله ربّك، وهو الّذي خلقك وأنعم عليك ورتّب لك كلّ وجودك، وسهّل لك كلّ ما حولك، وسخّر لك ما في السّموات وما في الأرض، فله عليك حقّ الطّاعة، فأنت عبده وهو السيّد المطلق.. وليس هناك شيء يمكن أن تجعله حاجزاً بينك وبين الله.. وليس لك حقّ في أن تعترض على حكم من أحكام الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...}[الأحزاب: 36]، وإذا قال الله في كتابه شيئاً، فعليك أن تحني حياتك ووجودك له، ولا يكفي أن تحني ظهرك فقط.
أطيعوا الله في كلّ ما أمركم به وفي كلّ ما نهاكم عنه، {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} في كلّ ما بيّنه من تشريعات تتعلّق بحياة النّاس في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم، فالكتاب والسنّة هما المصدران الأساسيّان في بيان كلّ ما أراد الله لنا أن نفعله أو نتركه.

إطاعة أولي الأمر

ويأتي بعد ذلك: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.. أطيعوا أولي الأمر، الّذين جعلهم الله أولياء للأمّة في حياتها، يركّزون لها الخطّ في الأجواء التي أراد الله لها أن تعيشها، وفي المنهج الّذي أراد الله لها أن تتّبعه.. وأولو الأمر هؤلاء هم الأمناء على حلال الله وحرامه، الّذين هم ورثة الأنبياء.. وليس كلّ من يلي أمر الأمَّة يجب أن يُطاع، بل لا بدَّ من أن يكون ممن يلتزم عقيدة الأمّة وشريعة الله وخطّ رسول الله فيها، وممن ينتمي إلى ما ينتمي إليه، ويخلص في عمله وفي علاقاته للإسلام: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: 55]. ومن هنا، قلنا إنَّ أئمَّة أهل البيت(ع) هم أولو الأمر، لأنَّهم انطلقوا في خطِّ الله وفي خطِّ رسوله، ولم يبتعدوا في كلِّ مواقع حياتهم، في ما يأمرون النَّاس به وفي ما ينهونهم عنه، عن خطِّ الله وعن خطِّ رسوله، فكلامهم من كلام الله ومن كلام رسوله، ومما يستوحونه في ذلك من عمليّة التّطبيق..

فهؤلاء هم أولو الأمر الّذين أمرنا الله بطاعتهم، ويأتي من بعدهم من سار في هذا الخطّ من الفقهاء الّذين هم أمناء الرّسل، والّذين يتحرّكون ليؤكّدوا التزامهم بالله ورسوله، وليرفضوا أيّ التزام غير هذا الالتزام، وهؤلاء هم الّذين لا بدّ للمؤمنين من أن يلتزموهم وأن يطيعوهم، حتّى إذا سألهم الله غداً في يوم القيامة: كيف أطعتم فلاناً؟ قالوا: قد أطعناه لأنّه وليّ أمرنا من خلال شريعتك، ومن خلال خطّك الّذي رسمته لنا في كتابك، وقد قلت لنا: أطيعوا أولي الأمر منكم، كما قلت لنا: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}.

من هنا، فمسألة القيادة في المنطلق الشّرعيّ لأيّة حركة في حياة النّاس، لا بدّ من أن يهتمّ بها المؤمنون، حتّى يدرسوا جيّداً كيف هي شخصيّة القائد، وما هي أفكاره وانتماءاته وارتباطاته، وما هو سلوكه في نفسه وفي أهله وفي المجتمع، حتّى إذا استقام للأمّة الفهم الكامل لشخصيَّة القيادة، سارت معها على أساس أنَّها تسير على الخطّ الّذي تنتمي إليه وتخلص له، وهذا ما يجب أن ننطلق فيه في كلّ حياتنا العمليّة، من خلال خطّ الله ورسوله، ومن خلال الالتزام بولاية أولي الأمر الّذين يسيرون في خطِّ الله وفي خطّ رسوله..

التَّحاكم إلى الله والرّسول

ثم يقول الله للمؤمنين: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}، أي إذا حصلت بينكم خلافات في وجهات النَّظر، على مستوى فهم الإسلام، أو على مستوى تطبيقه، أو على مستوى الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الّذي تتخبَّطون فيه وتتنازعون فيه، فتحاكموا إلى الله، ليكون كلامه هو الحكم بينكم، ولا تتحاكموا إلى أحد ممن يلتزم خطّ الشَّيطان، وممن انحرف عن خطّ الرّحمن.

التزموا القرآن التزام وعيٍ وفهمٍ وتدبّر، واجعلوه النّور الّذي تستضيئون به في ظلمات الحياة، واقرأوه وتدبّروه حتى لا تختلفوا، وإذا اختلفتم، فارجعوا إليه واقرأوه وتدبّروه وفسّروه، حتى يُنهي ـ بآياته وأفكاره ـ كلّ خلافاتكم.

إنَّ الله أمرنا أن نتحرّك في هذا الخطّ كأمّةٍ واحدةٍ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92]، وإذا اختلفت الأمّة الواحدة في داخلها، فعليها أن ترجع في خلافاتها إلى الله، لتعرف كيف يحلّ كلام الله خلافاتها، وترجع إلى رسول الله لتعرف كيف يحلّ بكلامه خلافاتها، وهذا ما نريد أن نتعلّمه في حياتنا عندما نختلف.

الحوار سبيل إلى الوحدة

من هنا نريد أن نقول للمسلمين، الّذين يتنوَّعون في مذاهبهم، ويجعلون لأنفسهم دوائر مغلقة تحجز بعضهم عن بعض: إنَّ المذاهب اجتهادات في فهم القرآن وفي فهم السنَّة، وإنَّ المذاهب وجهات نظر في الإسلام، سواء في الكتاب أو في السنَّة، فاستمعوا إلى قول الله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}.. ولا تقفوا بعيدين عن بعضكم البعض، ليراشق كلّ واحد منكم صاحبه بحجارة الاتهامات أو الكلمات، بل اجلسوا حول طاولةٍ واحدة، وادرسوا كلام رسول الله وتحاوروا فيه، وحاولوا أن تتوحَّدوا من خلال نتائج الحوار، لأنَّ التّخاطب من بعيد ربما يعقِّد كثيراً من الأمور ويضيِّع كثيراً من الأفكار، وإذا كان التّخاطب والحوار من مواقع الوحدة أكثر منه من مواقع الخلاف والابتعاد، فلماذا يخاف بعضكم بعضاً فلا تجتمعون؟! ولماذا يحذِّر بعضكم بعضاً فلا تلتقون؟ هل هناك أكثر من فكرٍ يصارع فكراً؟ هل هناك أكثر من وجهة نظرٍ تختلف عن وجهة نظرٍ أخرى؟

إذا كنتم تخلصون للفكر، فإخلاصكم له يفرض عليكم أن تحرّكوا فكركم مع فكر الآخرين، وأن تجادلوا الآخرين بالحقّ وبالحكمة.. وقد علَّمنا الله أنّ الأنبياء كانوا يجادلون الكافرين من شعوبهم، كما ورد في الآية الكريمة:{قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا..}[هود: 32]، إذ كان نوح يجادل الكافرين حتّى ملّوا من مجادلته، وهكذا بالنّسبة إلى بقيّة الأنبياء، وقد أمرنا الله أن نجادل النَّاس بالحقّ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..}[العنكبوت: 46]، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النَّحل: 125]. وإذا كان الله يريد منّا أن نجادل الكافرين وأن نجادل أهل الكتاب، فإنَّه ـ تعالى ـ يريد من المؤمنين والمسلمين أن يجادل بعضهم بعضاً، لأنّهم يلتقون على كتاب الله، فلماذا نهرب من ذلك؟ ولماذا يقول بعضنا لبعض: لا تتحدّثوا في المسائل المذهبيّة ولا في المسائل الخلافيّة، لأنّنا نخاف من الحساسيّات ومن المشاعر الملتهبة، ولا تحاولوا أن تصلوا إلى نتيجة؟!

لماذا يخاف العلماء أن يتحاوروا وأن يجتمعوا وأن يعرض كلّ واحد منهم وجهة نظره؟ فلعلَّنا نصير إلى وحدةٍ في الرّأي وفي الاجتهاد وفي الموقف.. ولماذا نُصرّ على أن يكون لكلّ واحد منَّا دائرته ومصالحه وامتيازاته الخاصَّة، ليمارس الكفر والاستعمار دوره من خلال ذلك في فصل مصالح المسلمين السنَّة عن مصالح المسلمين الشّيعة، بينما يريد الله منّا أن نجتمع ولا نتفرَّق؟

حكم الله وحكم الطّاغوت

إنّ الأساس هو أن يكون ارتباطنا بالقيادات وبالنَّاس وبالحياة وبكلّ المواقع.. من خلال شريعة الله ورسوله، ومن خلال حكم أولي الأمر المؤمّنين على شريعة الله ورسوله، وعلى المسلمين ـ جميعاً ـ أن ينطلقوا في هذا الخطّ وفي هذا الاتّجاه، ويرفضوا كلّ حكم الطّاغوت وكلّ شريعته وكلّ سياسته وكلّ الموازين الاجتماعيّة لمجتمع الطّاغوت، لأنّ هناك حكم الله وهو وليّ المؤمنين: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 257]، فكيف يكون الطَّاغوت وليّاً لك من دون الله؟

عندما تلتزم الحاكم الّذي يفكّر في غير ما يريد الله من فكر، ويحكم بغير ما يريد الله من حكم، ويتحرّك بغير ما يريد الله من حركة، فإنّه ـ حينئذٍ ـ وليّ لك من دون الله، ولست حرّاً ـ إذا كنت مؤمناً ـ في أن تلتزم من تشاء، فالإيمان خطّ أحمر يمنعك من الاندفاع  إلى الطَّاغوت، كما قال تعالى مخاطباً نبيَّه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}[النساء: 60]، لا ينبغي أن نلجأ إلى حكم الله إذا كان إلى جانبنا، ثم ننصرف عنه إلى حكم الطَّاغوت إذا لم يكن كذلك.

علينا أن نعرف أنَّنا إذا توحَّدنا بالشَّريعة وبكلام الله وكلام رسوله، فنستطيع أن نصل إلى نتائج كبيرة في حياتنا العامَّة وفي حياتنا الخاصَّة، لأنَّنا نملك ـ حينئذٍ ـ أساساً نرتكز عليه، وهذا هو الأساس الّذي استطاع المسلمون أن ينطلقوا فيه وهم في مواقع الضَّعف:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ..}[آل عمران: 123].. أي أنتم ضعفاء لا طاقة لكم، ولكنّ الموقف الرّساليّ والطّاعة لرسول الله(ص)، هي الّتي استطاعت أن تدفع بكم إلى مواجهة القوَّة الغاشمة على الرَّغم من كلِّ ضعفكم.

عندما استشار رسول الله(ص) الأنصار والمهاجرين، انطلق القول الإسلاميّ الحاسم: "يا رسول الله، إنَّها قريش وخيلاؤها، وقد آمنَّا بك وصدّقنا وشهدنا أنَّ ما جئت به حقّ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة: 24]، ولكنَّنا نقول امضِ لأمر ربّك فإنّا معك مقاتلون"، هذا التَّرابط بين القيادة الشَّرعيَّة في خطّ الله وخطّ رسوله وبين الأمَّة، هو الّذي يحقّق للأمّة المسلمة قوَّتها ومنعتها، ليفتحوا ثغرةً يستطيعون من خلالها أن يحقّقوا ما يريدون، وهذا هو سرّ انتصار المسلمين وسرّ موقفهم الحاسم الّذي أعطاهم القوَّة والمنعة.

دور القيادة في انتصار الثَّورة الإسلاميَّة

هذه العوامل بعينها هي الّتي خلقت انتصار الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، ونحن نعيش في هذه الأيَّام أجواء السّنة العاشرة لهذه الثَّورة، الّتي استطاعت أن تثبت وهي في جوّ العواصف القاسية الشَّديدة، وفي جوّ الزّلازل التي يشعر الإنسان فيها بأنّ الأرض تميد من تحته.

فهل المسألة هي مسألة القيادة فقط؟

للقيادة دور كبير، ولكنَّ القيادة وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، ولنأخذ قيادة رسول الله(ص) وقيادة أمير المؤمنين(ع) على ذلك مثلاً: لماذا انهزم المسلمون في أُحد، وقد كان رسول الله قائدهم؟.. ذلك لأنَّهم لم يطيعوا القيادة في بعض مواقع المعركة، وعندما وجدت الثَّغرة بين القيادة والأمَّة، وتركت الأمّة طاعتها للقيادة، تغلّب الأعداء عليها.. ثمّ أيّة قمة شامخة بعد رسول الله أعظم من عليّ؟ لقد كان القمّة في الفكر والبطولة والتّضحية والتّخطيط، فلماذا لم يستطع أن يصل إلى ما يريد؟.. لأنَّه كان يأتي إلى قومه في الصّيف، فيقولون: انتظر حتّى تخفّ الحرارة، وفي الشّتاء حتى يذهب البرد.. قال لهم: "لوددت، والله، أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدّينار بالدرهم"، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم.

ليس لدينا قيادة بمستوى قيادة عليّ(ع)، ولكنّ القيادة والأمّة هما سرّ الانتصار، وهما كذلك عندما يكون هناك رابط أساس يربط الأمَّة بالقيادة، لا أن يكون الرّابط مجرّد علاقة شخصيَّة مع القائد، بأن تحبّه الأمَّة أو تخلص له أو تنتفع من ماله، بل أن تكون هناك علاقة أساسيّة تربط الأمَّة بالقيادة، بحيث لا تنفصل عنها مهما كانت الظّروف.. وعندما تشعر الأمّة بأنّ كلام القيادة ينطلق من كلام الله ورسوله، وبأنّ تعليماتها تنطلق من خلال تعاليم الله ورسوله، وأن تطبيقاتها تنطلق من الوعي لكلام الله ورسوله، فإنّها تدرك ـ حينئذٍ ـ أنّها تسير في خطّ النّجاة وخطّ الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون المسألة كما قال الشّاعر:

    ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أيّ جنب كان في الله مصرعي

وهذا هو الشّيء الذي استطاعت القيادة أن تربّي الأمّة عليه، حيث ربّتها على أن تلتزم بحكم الله، على أساس أن ترتبط بشريعة رسول الله، وأن تحبّ الله ورسوله، وتحبّ أهل بيت رسوله وتحبّ كلّ المجاهدين من المسلمين.. واستطاعت القيادة أن توجد في الأمّة قاعدةً تتحرَّك في صلاتها من موقع الخطِّ الفقهيّ لتسأل الفقيه عن أحكام الصّلاة، وتتحرّك في حجّها وصومها وزكاتها وخمسها لتسأل الفقيه عن ذلك، ثمّ تتحرَّك في سياستها وحربها وسلمها وأمنها لتسأل الفقيه عن ذلك.

لا فصل بين السياسة والدّين

كان الفقهاء يحدِّثون النَّاس عن الطَّهارة والصَّلاة والصَّوم والحجّ، ويتركون السّياسة للزّعماء والطّغاة والحاكمين ولغير أولئك، حتَّى شكَّل ذلك انفصاماً في الأمَّة، باعتبار أنَّك تصلّي في المسجد، ثم تتحرَّك لتحارب مع الكفر والضَّلال والفسق والفجور، لأنَّ الزَّعيم فاسق وفاجر ويتحرَّك مع الكافرين في خططه. كانت الأمَّة تعيش ازدواجيَّة، ولهذا كانت لا تندفع ولا تتحمَّس، وكان الطّغاة يثيرون عصبيَّاتها، والمعروف أنَّ الزَّعيم إذا أراد أن يسيطر على قريةٍ قسَّمها إلى قسمين، وجعل كلّ قسم يحارب القسم الآخر، فكانت تُثار العصبيّة حتّى يجتمع النَّاس على الطَّاغية، وتُثار الأطماع حتّى يتعلَّق النَّاس به، ويُضلَّل النَّاس حتَّى يرتبطوا به، وجاء الفقيه العدل ليقول للنَّاس: تعالوا إلى الإسلام كلِّه.. ففي الصَّلاة سياستكم، وفي السَّياسة روح صلاتكم، وفي الحرب جهادكم، وفي السِّلم الخطّ الّذي يحفظ لكم مواقعكم.. وليس هناك انفصال بين الصَّلاة والجهاد وبين العبادة والسّياسة، فعندما تقول: "الله أكبر"، فإنَّك ترفض أن يحكم كلّ الصّغار بغير ما أنزل الله، وعندما تقول: "لا إله إلا الله"، فإنَّك تسقط كلّ الآلهة ليبقى توحيدك لله وحده، وحتّى الصَّلاة، تستطيع أن تفسّرها تفسيراً سياسيّاً، كموقفٍ من المستكبرين وموقفٍ من الطّغاة ومن كلّ الظّالمين..

القيادة الصّالحة

من هنا، قال بعض العلماء قبل الثّورة الإسلاميّة، ليربّي الشّعب المسلم في إيران على هذا الخطّ: ديننا سياسة وسياستنا دين، لأنَّنا لا نبتعد في خطّ السّياسة عن الدّين، وهذا ما استطاعت الأمَّة أن تحقّقه، لأنَّها كانت ترى في القيادة المتمثّلة بالإمام الخميني ـ حفظه الله ـ التّقوى والمعرفة بالله، والوعي لشريعته، والوعي للسَّاحة والبصيرة بالأمور.

كان الإمام يلاحق السَّاحة ليدرسها على أساس قول الله وقول رسوله، ثمّ يتَّخذ الموقف على أساس ما يرضي الله ورسوله، وهذا ما استطاعت الأمَّة أن تجده في شخصيَّته وفي سلوكه وفي قيادته وانفتاحه على الله سبحانه وتعالى، وفي اهتمامه بأمور المسلمين ـ كلّ المسلمين ـ وقد استطاع أن يحصل على ثقة المسلمين في خارج إيران، لأنّه لم يتحدّث للمسلمين عن المجتمع الفارسي أو عن المجتمع الإيراني، وإنَّما تحدَّث لهم عن المجتمع الإسلامي وعن الإسلام، وعندما أراد للمسلمين أن يواجهوا أمريكا قال لهم: واجهوها لا من خلال عملائها في إيران فحسب، بل واجهوها من أجل أن تكون الحريَّة للمسلمين وللمستضعفين، حتَّى لا تستطيع أن تبقى في مواقع الاستكبار الّذي يضغط على حريّة الشّعوب واقتصادها.

وقال لهم: إنّ الله جعلكم أمَّةً واحدةً، وجعل العزّة والحريّة لكم، فلماذا تريدون أن تذلّوا للشَّرق أو للغرب؟.. لا تكونوا دولةً ملحقةً بالشّرق أو بالغرب، بل التحقوا بقرآنكم لتكونوا دولةً إسلاميّة، لأنّ الله يريد أن نرجع إليه وإلى الرَّسول، ولا يريدنا أن نرجع إلى الطّاغوت، وكلّ التزام بغير الخطّ الّذي يرضاه الله والرّسول، هو التزام بالطّاغوت.

وعندما خوَّفه النّاس بالنّاس وأطلقوا كلّ التَّهاويل، كان يدعو الأمّة إلى الاعتماد على الله، فكانت قيمته ولا تزال أنَّه لا يربط النَّاس بشخصه، وإنما يربطهم بالله، وكان لا يحاول أن يعطي الأمجاد لشخصه، وإنَّما يعطي الأمجاد للأمَّة.

لقد سمعناه وهو يتحدّث في يوم الثّورة أمام كلّ قيادات الدّولة، وأمام كلّ ممثّلي الدّول وهم يجلسون على الأرض، كان يقول لهم: إنَّكم تهتمّون بالشّخص ـ شخصه ـ بينما ليس لي في الأمر إلا دور صغير فقط، فالأمَّة هي الّتي قامت بذلك كلِّه، وبعد ذلك الأمر لله، فالله هو الّذي نصر، وهو الّذي أيّد، وهو الّذي أعطى، وكنّا نتحرّك على أساس أن نتَّجه في اتجاه معين، وإذا بالله يحوّلنا إلى اتجاه آخر ونرى النَّصر في هذا كلّه.

كان الشّرق والغرب يلتقيان في حسينيَّة جمران، وكان كلّ القادة هناك، فكان يحدّثهم عن الله ويقول لهم: بلّغوا دولكم أنَّنا نتحرّك لأنَّ الله معنا، وأنَّنا نحارب من خلال ما أعطانا الله من قوَّة، ومن خلال استلهامنا في ذلك كلِّه، وكان يقول لكلّ القيادات في الدّولة هناك: لا تنسوا الله، ولا تعتبروا أنفسكم كباراً لأنّكم في موقع كبير، بل فكّروا أنّكم تتحرّكون بإرادة الله، وتنطلقون في مشيئته، وأنّه ـ تعالى ـ أكبر منكم.. فتواضعوا لله وتواضعوا لعباده.

التَّلاحم بين الأمّة وقائدها

هذا التّرابط الوثيق بين القيادة والأمَّة، هو الّذي ركّز قواعد الثَّورة، فليست القيادة وحدها هي الّتي خلقت الثّورة، وليست الأمّة وحدها الّتي خلقتها، بل الأمّة التي ترتبط بالقيادة الفقهيّة الورعة الواعية البصيرة بأمور الدّين والدّنيا، وهذا هو الّذي يجب أن نتحرَّك فيه، حتّى نستطيع أن نُثبِّت أقدامنا ولا ننهزم أمام كلّ التّهاويل.

لاحظنا أنّ أمريكا جاءت إلى الخليج ـ ومعها دول من أوروبّا ـ ليضعفوا الشّعب الإيراني المسلم، وليتحرَّك المنافقون ليعملوا ما يريدون، وأعطى الإعلام لأمريكا صفة الاستعراض المسلّح، ولكنَّ الإمام قال للشَّعب: عبّئوا أنفسكم لمواجهة هذا التّحدّي، إنّي أريد تعبئةً شعبيّةً بمستوى العشرين مليوناً. فانطلق النَّاس من قراهم ومدنهم، حتَّى ضاقت القيادة ـ بما عندها من وسائل ـ بهذا الجمع الغفير الّذي انطلق عفويّاً ليقول له: إنَّنا معك لأنَّك مع الله، ولن نسمح لأيِّ جنديٍّ من جنود أمريكا بأن يطأ تراب بلدنا، لأنَّنا سنكون هناك على طول خطّ الحدود على الخليج الّذي يبلغ مسافة ألف كيلو متر.

وقف الشّعب وتحدّى، وكانت أميركا تراهن على أن يتحرّك المعارضون والمنافقون ليسقطوا الثّورة، لأنّهم يعتبرون أنّ أمريكا تستطيع أن تحميهم، ولكن الشّعب الإيراني المسلم كان يفكّر ـ من خلال قيادته ـ أنّ الله يحميه:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا...}[التّوبة: 40]، وها هي أمريكا تبدأ انسحابها من الخليج بتخفيف مواقعها المسلّحة.

هذه التَّجربة الّتي انطلقت من خلال الارتباط بالله والإسلام، هي الّتي يجب أن نستفيد منها وندرسها، حتَّى لا نرتبط بأحد إلا إذا كان يؤدِّي عن الله، وحتّى لا نتحاكم إلى أيّ طاغوت ـ سواء كان كبيراً أو صغيراً ـ بل نتحاكم إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّ ذلك هو شرط الإيمان: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[النّساء: 65]، وهذا ما استلهمه المؤمنون في كلّ مكان من خلال قيادة الإمام الخميني الشَّاملة لكلّ موقع من المواقع.

الإمام ومجاهدو لبنان

إنَّ الإمام يتابع بدقَّةٍ ما يحدث، وقد جلست إليه عندما كنت في إيران، وحدّثته عن جهاد المجاهدين في لبنان، وعن معاناتهم وعن المقاومة الإسلاميّة، ورأيته يتابع ذلك كلّه ويعرفه كلّه، وقلت له إنَّ المؤمنين يبعثون إليك سلامهم، ويعبّرون لك عن احترامهم وعن مبايعتهم لك في خطّ الإسلام، فقال إنّني أقدِّر للمؤمنين المجاهدين في لبنان موقفهم الإسلامي الصَّلب، الذي استطاع أن يطرد أمريكا من بيروت ومن لبنان، وأن يطرد "إسرائيل" ويُربكها، ولكنّ الأمر يحتاج إلى استمرار وثبات، وإلى اعتماد على الله سبحانه وتعالى في ذلك كلّه. ثم قال لي: إنِّني أدعو لهم، وبلّغهم سلامي وتحيّاتي، لأنّنا معهم، وهم معنا في الخطّ الإسلامي العالمي.

الإمام والانتفاضة الفلسطينيَّة


وقد حدَّث الحاضرين في الاجتماع عن فلسطين، وكان قبل ذلك قد توجَّه بالخطاب إلى الفلسطينيّين في الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، قائلاً: إنّكم قد بدأتم في خطّ المستقبل من أجل مواجهة "إسرائيل" في العمق، وإذا كان العالم كلّه يريد منكم أن تتراجعوا، فإنّي أقول لكم لا تتراجعوا، بل أكملوا الطّريق كما أكملناه، حيث لم يكن لدينا سلاح عندما حاربنا الشَّاه، بل كانت الحجارة والسّكاكين وأشياء صغيرة هي أسلحتنا.. وسقط منّا الكثيرون، ولكنّنا استطعنا في النّهاية أن نُسقط الطّاغوت.

أكملوا المسيرة، لأنّكم إذا رجعتم إلى الماضي، وعملتم على أساس أن تنتظروا وعود أمريكا وأوروبّا، أو وعود السّاسة العرب، فسوف تفقدون كلّ شيء، حتّى الأرض.

إنّه يريد لهم أن يتقدَّموا ويرفضوا الواقع العربيّ الّذي يريد أن يحتوي الانتفاضة، ليجمّدها، أو ليجعلها هامشاً من هوامش السّياسة العربيَّة الخاضعة للسّياسة الأمريكيَّة الّتي تتحرّك على أساس المصالح الإسرائيليَّة.. كان يريد لهم ذلك، لأنَّهم في المستوى الكبير الّذي استطاع أن يعيد المسألة الفلسطينيَّة إلى الصّدارة، بعد أن قطع الحكّام العرب شوطاً كبيراً في إيصالها إلى هذا المستوى من الانحطاط، حيث إنَّ أكثر هؤلاء الحكام الّذين اجتمعوا في عمّان، لم يخجلوا من أن يجعلوا من قضيّة فلسطين القضيّة الثّانية التي لا تثير اهتمامهم، وأن يجعلوا منها قضيَّة نزاعٍ بينهم وبين "إسرائيل"، لا قضيَّة صراع وجود..

ولكنّ المجاهدين المسلمين وهؤلاء الأطفال الطّاهرين الّذين يحملون الحجارة في أيديهم ليرموا بها الدبّابات، وهؤلاء الشّباب الّذين ينطلقون بكلّ عزمهم وقوّتهم ليواجهوا الجيش الإسرائيليّ بالحجارة والسّكاكين وغير ذلك، استطاعوا أن يرعبوا الجنود الإسرائيليّين، وأن يخلقوا لهم عقداً نفسيّة لا يزال الكثيرون منهم يعانون منها.

إنّ الشّعب إذا وثق بربّه ووثق بنفسه من خلال ذلك، وصمّم على أن يواجه التّحدّي بتحدّ أكبر، فإنّه لا بدَّ من أن يُربك أعداءه أوَّلاً، ثم بعد ذلك يُضعفهم حتّى يقضي عليهم في نهاية المطاف..

أمريكا تتحرّك لخدمة مصالحها

إنّ الاستكبار العالميّ يعمل بكلّ ما عنده من طاقة ليفرض علينا كلّ ضغوطه وكلّ خططه الاستكباريّة، من أجل أن نتحرَّك في خطِّ سياسته ونخضع لكلِّ مصالحه، وأمريكا عندما تتحرَّك في المسألة الفلسطينيَّة الآن، فإنّما تتحرَّك من أجل خدمة مصالحها.

هل يريد كلّ هؤلاء المبعوثين الأمريكيّين أن يحلّوا لنا المشكلة لمصلحتنا، أو أنّهم يريدون أن يعقِّدوا مشاكلنا لمصلحتهم؟

إنّهم يأتون وقد تعلَّموا أنَّ العرب يدمنون تصريحات الأمريكيّين، ويفتحون قلوبهم وينطلقون ليحلّلوا ويدرسوا، ثم يسحب الأمريكيّون التَّصريحات بعد تمام الخدمة العربيَّة.. ولهذا فإنَّ أمريكا تعطي العرب تصريحات ومبادرات، وتعطي "إسرائيل" مواقف وأسلحة، وعندما تريد أن تعطي بعض العرب أسلحة، فإنَّ الشّرط الأساس لذلك يكون بأن لا يوجّه ضدّ "إسرائيل"، بل أن يُقاتل به العرب والمسلمون، ويُقاتل به من تريد أمريكا مقاتلته. أما السّلاح الّذي يعطى لـ"إسرائيل"، فإنَّها حرّة في أن تقتل به أطفال العرب والمسلمين وشيوخهم ونساءهم وتدمِّر كلّ بيوتهم ومناطقهم.. وهذا هو التَّوازن الأمريكيّ بين العرب و"إسرائيل".. أتعرفون أنَّ الاجتياح الإسرائيليّ الّذي وصل بيروت عام 1982م كان بتخطيط أمريكي ـ إسرائيلي، انطلاقاً من استراتيجيَّة سياسيَّة تجمع بين "إسرائيل" وأمريكا؟

والآن يريد شولتز ـ وزير الخارجية الأمريكيّة الأسبق ـ أن يأتي ـ والانتفاضة قائمة، والأطفال والنّساء والشّيوخ يقفون بكلِّ قوّة من أجل أن يدافعوا عن حريَّتهم، وأن يطردوا المحتلّ من أرضهم ـ يأتي ليعطي أفكاراً، وليس مستعدّاً لأن يضغط على "إسرائيل"، بينما المسلمون الفلسطينيّون يقتلون ويجرحون وتكسَّر أضلُعهم ويُضيَّقُ عليهم ويمنعون من التجوّل، ولا تتحرّك أمريكا لتدافع عن حقوق الإنسان، أمّا حين يمنع الاتحاد السوفياتي بعض اليهود من مغادرته، فإنّ قضيّتهم تشغل البند الثّاني من محادثات ريغان وغورباتشوف في القمّة التي عقدت في واشنطن!

شعب يريد أن يتحرّر، هذه مسألة تحتاج إلى أفكار وإلى بحث، أمّا إنسان يُمنع من أن يخرج من بلده إلى بلد آخر، فلا بدّ من أن يبحثها العالم، لأنّها تتعلّق باليهود!

في الحقيقة، إنَّهم يريدون أن يجمِّدوا الانتفاضة، وأن يستنفروا كلّ السّاسة العرب، الّذين يتحرَّكون في خطّهم ليحتووا الانتفاضة، حتَّى ترتاح "إسرائيل" وترتاح أمريكا، فلا وقت كافياً لديها للتّحرّك كثيراً في هذا الموضوع، لأنَّ انتخابات الرّئيس الأمريكيّ القادم على الأبواب، وهي تحتاج إلى الأصوات اليهوديَّة.

إنّ المساعي الأمريكيّة تحاول حلّ مشكلة "إسرائيل" أمام الانتفاضة، لا حلّ مشكلة الفلسطينيّين المسلمين أمام "إسرائيل".

هذه هي نظرتنا إلى الموقف الأمريكيّ في المنطقة، وإلى كلّ التَّهديدات وكلّ المبادرات الأمريكيَّة، ولن نثق بأمريكا، على الرَّغم من أنّ الكثيرين عندنا في الدّاخل، وكلّ المرشّحين لرئاسة الجمهوريَّة في هذا البلد، يزحفون إلى واشنطن، من أجل أن يقدِّموا الامتحان، باعتبار أنَّ هؤلاء الّذين يتحدّثون عن الحريّة وعن الاستقلال، لا مانع عندهم من أن يقبِّلوا أقدام أمريكا، في مقابل أن تهتمّ بهم وتلتفت إليهم، فالمهمّ عندهم أن ينجحوا في الامتحان، ومن شروط النَّجاح في الامتحان، أن يقدِّم كلّ مرشّح استعداده لأن يطرد من لبنان كلَّ من لا يوافق على السّياسة الأمريكيَّة، وأن يواجه في لبنان كلّ الّذين يريدون للبنان أن لا يكون ممرّاً للاستعمار أو مقرّاً له، وأن يطردوا الإسلاميّين، وأمريكا تعمل على أن تجعل سياستها وسياسة دول المنطقة تتحرَّك على هذا الخطّ، فمن يقبل بأن يضرب الإسلام الحركي، فإنّ أمريكا ستعطيه الكثير، ومن لا يقبل ذلك، فإنَّ أمريكا ستضغط عليه.

قضيّة الحريّة أمام الاستكبار

من هنا، نريد أن ننطلق لتتكامل التَّجربة مع القيادة الإسلاميَّة، فهناك قيادة إسلاميَّة واحدة هي قيادة إمام الأمَّة، الّتي تعطي الخطوط للموقف السّياسيّ على أساس مواجهة الاستكبار كلِّه، وهذه القيادة تريد منَّا ـ نحن المسلمين الملتزمين في لبنان ـ أن نتكامل مع المسلمين الملتزمين الفلسطينيّين ومع الشَّعب الفلسطيني، وأن ندافع عنه، وأن نقف معه بكلّ ما عندنا من طاقة، لأنَّه ليست هناك قضيَّة فلسطينيَّة أو قضيَّة بقاعيَّة أو لبنانيَّة، بل هناك قضيّة إسلاميّة، وهناك قضيَّة حريَّة أمام الاستكبار كلّه، ولهذا فإنَّهم منَّا ونحن منهم، في هذا الخطّ الإسلاميّ الّذي يريد أن يتجمَّع لينطلق المسلمون جميعاً في ضوئه.

لا حرمة للعملاء

لا بدَّ لنا من أن نواجه مسألة العمليَّة الجريئة التي قامت بها المقاومة الإسلاميَّة أخيراً في منطقة جزّين، بعد أن انطلقت كثير من الأصوات لتتحدَّث عن المنطقة الهادئة التي تمثّل التّعايش في البلد، وهي منطقة جزّين، باعتبار أنّ هؤلاء العسكريّين الموجودين هناك يعملون على حماية المنطقة.

إنّنا نريد أن نقول لهم: لا تلعبوا بالمسألة الطائفيَّة لتقولوا إنّ جيش لحد يمثّل حالة مسيحيّة، وإنّ المقاومة الإسلاميّة تمثّل حالة إسلاميّة، وإنّ الصّراع والقتال هو بين المسلمين والمسيحيّين، لتستثيروا العواطف المسيحيّة في مواجهة المواقف الإسلاميّة، كما كنتم تفعلون في ما كان يدور بين المنطقتين الشرقيَّة والغربيَّة من بيروت.. فنحن لا نعتبر الّذين يقاتلون مع هذا العميل يمثِّلون حالة مسيحيّة، كما أنّنا لا نعتبر المسلمين ـ من شيعة وسنّة ـ الذين باعوا أنفسهم للشّيطان في هذا الجيش، حالةً إسلامية، بل نعتبرهم حالة إسرائيليّة، فإذا أردتم وأنتم تتحدَّثون عن المنطقة هناك، أن تتحدَّثوا عن حماية إسرائيليّة لجزّين أو لغير جزّين، فإنّنا نعتبر أنّنا نملك الحريَّة في أن نواجه أيّ موقع إسرائيليّ، سواء كان الموقع يختزن أناساً ينتمون إلى الإسلام بالاسم أو إلى المسيحيّة بالاسم، أو ينتمون إلى أيّ موقع آخر..

إنّنا نعتبر أنَّ "إسرائيل" تعمل بكلِّ ما عندها من طاقة في سبيل أن تجعل من الحالة في الجنوب حالةً من مفردات الصّراع الإسلامي ـ المسيحي في لبنان، وعلينا أن نعمل بكلّ ما عندنا من طاقة لنزيل القناع عن هذه الخطّة الإسرائيليَّة، من أجل أن يسقط كلّ هذا الجيش بكلّ أفراده، الّذين أرادوا أن يجعلوا من أجسادهم متاريس تحمي جنود "إسرائيل"..

لهذا لا حرمة لهم عندنا، فليكونوا شيعة ـ والتشيّع يرفض هؤلاء ـ وليكونوا سنّة، وليكونوا موارنة أو كاثوليك أو أيّ شيء، إنَّهم جميعاً إسرائيليّون، ونحن نحمّلهم مسؤوليّة تثبيت أقدام "إسرائيل" في المنطقة الحدوديّة، لتخطّط "إسرائيل" لمستقبل تكون فيه المنطقة الحدوديَّة وما بعدها جزءاً من دولتها العدوانيَّة.

إنّنا نبارك هذه العمليَّة الجريئة ونقول: إنّ المسألة ليست مسألة التوازنات المناطقيّة، ولكنّها المسألة الوحيدة التي تتحرّك في سبيل الحريّة، إنّنا نريد أن نكون أحراراً وأعزّة، وكلّ من يقف أمام حريَّتنا ليكون حاجزاً يحجزنا عن العدوّ، فإنّنا نعتبر أنفسنا أحراراً في أن نواجهه بالموقف نفسه الّذي نواجه به العدوّ.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}{النِّساء: 59-61].

 

الإيمان يحدّد ساحة الطّاعة

يريد هذا النِّداء الإلهيّ أن يحدِّد للمؤمن طريقه، في ما يلتزمه في كلِّ مواقع الحياة، وما هي حدود الطَّاعة في حياته وما هو خطّه ومنهجه، وكيف يمكن له ـ كمؤمن ـ أن يحدّد مواقعه في الحياة، ومن يطيع ومن يعصي...

هناك الكثير من النّاس الّذين ترتبط معهم برابطة القرابة أو الصّداقة، أو ترتبط معهم برابطة الوطن أو القوميّة أو ما إلى ذلك، وقد يطلبون منك أن تطيعهم في ما يملكون من مواقع عاطفيّة في نفسك، أو في ما يملكون من مواقع سياسيّة أو اجتماعيّة في حياتك، وعليك ـ كمؤمن ـ أن تحدّد لنفسك مساحة الطّاعة التي تتحرّك فيها، ويحدّد الله لك ذلك ليقول لك: عندما آمنت بالله ورسوله، فإنّ إيمانك حدّد لك ساحة الطّاعة.. وبعد أن صرت مؤمناً وعاش الإيمان في قلبك وفي فكرك، فلست حرّاً في أن تطيع من تشاء أو أن تعصي من تشاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ}، فالله ربّك، وهو الّذي خلقك وأنعم عليك ورتّب لك كلّ وجودك، وسهّل لك كلّ ما حولك، وسخّر لك ما في السّموات وما في الأرض، فله عليك حقّ الطّاعة، فأنت عبده وهو السيّد المطلق.. وليس هناك شيء يمكن أن تجعله حاجزاً بينك وبين الله.. وليس لك حقّ في أن تعترض على حكم من أحكام الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...}[الأحزاب: 36]، وإذا قال الله في كتابه شيئاً، فعليك أن تحني حياتك ووجودك له، ولا يكفي أن تحني ظهرك فقط.
أطيعوا الله في كلّ ما أمركم به وفي كلّ ما نهاكم عنه، {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} في كلّ ما بيّنه من تشريعات تتعلّق بحياة النّاس في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم، فالكتاب والسنّة هما المصدران الأساسيّان في بيان كلّ ما أراد الله لنا أن نفعله أو نتركه.

إطاعة أولي الأمر

ويأتي بعد ذلك: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.. أطيعوا أولي الأمر، الّذين جعلهم الله أولياء للأمّة في حياتها، يركّزون لها الخطّ في الأجواء التي أراد الله لها أن تعيشها، وفي المنهج الّذي أراد الله لها أن تتّبعه.. وأولو الأمر هؤلاء هم الأمناء على حلال الله وحرامه، الّذين هم ورثة الأنبياء.. وليس كلّ من يلي أمر الأمَّة يجب أن يُطاع، بل لا بدَّ من أن يكون ممن يلتزم عقيدة الأمّة وشريعة الله وخطّ رسول الله فيها، وممن ينتمي إلى ما ينتمي إليه، ويخلص في عمله وفي علاقاته للإسلام: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: 55]. ومن هنا، قلنا إنَّ أئمَّة أهل البيت(ع) هم أولو الأمر، لأنَّهم انطلقوا في خطِّ الله وفي خطِّ رسوله، ولم يبتعدوا في كلِّ مواقع حياتهم، في ما يأمرون النَّاس به وفي ما ينهونهم عنه، عن خطِّ الله وعن خطِّ رسوله، فكلامهم من كلام الله ومن كلام رسوله، ومما يستوحونه في ذلك من عمليّة التّطبيق..

فهؤلاء هم أولو الأمر الّذين أمرنا الله بطاعتهم، ويأتي من بعدهم من سار في هذا الخطّ من الفقهاء الّذين هم أمناء الرّسل، والّذين يتحرّكون ليؤكّدوا التزامهم بالله ورسوله، وليرفضوا أيّ التزام غير هذا الالتزام، وهؤلاء هم الّذين لا بدّ للمؤمنين من أن يلتزموهم وأن يطيعوهم، حتّى إذا سألهم الله غداً في يوم القيامة: كيف أطعتم فلاناً؟ قالوا: قد أطعناه لأنّه وليّ أمرنا من خلال شريعتك، ومن خلال خطّك الّذي رسمته لنا في كتابك، وقد قلت لنا: أطيعوا أولي الأمر منكم، كما قلت لنا: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}.

من هنا، فمسألة القيادة في المنطلق الشّرعيّ لأيّة حركة في حياة النّاس، لا بدّ من أن يهتمّ بها المؤمنون، حتّى يدرسوا جيّداً كيف هي شخصيّة القائد، وما هي أفكاره وانتماءاته وارتباطاته، وما هو سلوكه في نفسه وفي أهله وفي المجتمع، حتّى إذا استقام للأمّة الفهم الكامل لشخصيَّة القيادة، سارت معها على أساس أنَّها تسير على الخطّ الّذي تنتمي إليه وتخلص له، وهذا ما يجب أن ننطلق فيه في كلّ حياتنا العمليّة، من خلال خطّ الله ورسوله، ومن خلال الالتزام بولاية أولي الأمر الّذين يسيرون في خطِّ الله وفي خطّ رسوله..

التَّحاكم إلى الله والرّسول

ثم يقول الله للمؤمنين: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}، أي إذا حصلت بينكم خلافات في وجهات النَّظر، على مستوى فهم الإسلام، أو على مستوى تطبيقه، أو على مستوى الواقع السياسيّ والاجتماعيّ الّذي تتخبَّطون فيه وتتنازعون فيه، فتحاكموا إلى الله، ليكون كلامه هو الحكم بينكم، ولا تتحاكموا إلى أحد ممن يلتزم خطّ الشَّيطان، وممن انحرف عن خطّ الرّحمن.

التزموا القرآن التزام وعيٍ وفهمٍ وتدبّر، واجعلوه النّور الّذي تستضيئون به في ظلمات الحياة، واقرأوه وتدبّروه حتى لا تختلفوا، وإذا اختلفتم، فارجعوا إليه واقرأوه وتدبّروه وفسّروه، حتى يُنهي ـ بآياته وأفكاره ـ كلّ خلافاتكم.

إنَّ الله أمرنا أن نتحرّك في هذا الخطّ كأمّةٍ واحدةٍ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 92]، وإذا اختلفت الأمّة الواحدة في داخلها، فعليها أن ترجع في خلافاتها إلى الله، لتعرف كيف يحلّ كلام الله خلافاتها، وترجع إلى رسول الله لتعرف كيف يحلّ بكلامه خلافاتها، وهذا ما نريد أن نتعلّمه في حياتنا عندما نختلف.

الحوار سبيل إلى الوحدة

من هنا نريد أن نقول للمسلمين، الّذين يتنوَّعون في مذاهبهم، ويجعلون لأنفسهم دوائر مغلقة تحجز بعضهم عن بعض: إنَّ المذاهب اجتهادات في فهم القرآن وفي فهم السنَّة، وإنَّ المذاهب وجهات نظر في الإسلام، سواء في الكتاب أو في السنَّة، فاستمعوا إلى قول الله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}.. ولا تقفوا بعيدين عن بعضكم البعض، ليراشق كلّ واحد منكم صاحبه بحجارة الاتهامات أو الكلمات، بل اجلسوا حول طاولةٍ واحدة، وادرسوا كلام رسول الله وتحاوروا فيه، وحاولوا أن تتوحَّدوا من خلال نتائج الحوار، لأنَّ التّخاطب من بعيد ربما يعقِّد كثيراً من الأمور ويضيِّع كثيراً من الأفكار، وإذا كان التّخاطب والحوار من مواقع الوحدة أكثر منه من مواقع الخلاف والابتعاد، فلماذا يخاف بعضكم بعضاً فلا تجتمعون؟! ولماذا يحذِّر بعضكم بعضاً فلا تلتقون؟ هل هناك أكثر من فكرٍ يصارع فكراً؟ هل هناك أكثر من وجهة نظرٍ تختلف عن وجهة نظرٍ أخرى؟

إذا كنتم تخلصون للفكر، فإخلاصكم له يفرض عليكم أن تحرّكوا فكركم مع فكر الآخرين، وأن تجادلوا الآخرين بالحقّ وبالحكمة.. وقد علَّمنا الله أنّ الأنبياء كانوا يجادلون الكافرين من شعوبهم، كما ورد في الآية الكريمة:{قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا..}[هود: 32]، إذ كان نوح يجادل الكافرين حتّى ملّوا من مجادلته، وهكذا بالنّسبة إلى بقيّة الأنبياء، وقد أمرنا الله أن نجادل النَّاس بالحقّ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..}[العنكبوت: 46]، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النَّحل: 125]. وإذا كان الله يريد منّا أن نجادل الكافرين وأن نجادل أهل الكتاب، فإنَّه ـ تعالى ـ يريد من المؤمنين والمسلمين أن يجادل بعضهم بعضاً، لأنّهم يلتقون على كتاب الله، فلماذا نهرب من ذلك؟ ولماذا يقول بعضنا لبعض: لا تتحدّثوا في المسائل المذهبيّة ولا في المسائل الخلافيّة، لأنّنا نخاف من الحساسيّات ومن المشاعر الملتهبة، ولا تحاولوا أن تصلوا إلى نتيجة؟!

لماذا يخاف العلماء أن يتحاوروا وأن يجتمعوا وأن يعرض كلّ واحد منهم وجهة نظره؟ فلعلَّنا نصير إلى وحدةٍ في الرّأي وفي الاجتهاد وفي الموقف.. ولماذا نُصرّ على أن يكون لكلّ واحد منَّا دائرته ومصالحه وامتيازاته الخاصَّة، ليمارس الكفر والاستعمار دوره من خلال ذلك في فصل مصالح المسلمين السنَّة عن مصالح المسلمين الشّيعة، بينما يريد الله منّا أن نجتمع ولا نتفرَّق؟

حكم الله وحكم الطّاغوت

إنّ الأساس هو أن يكون ارتباطنا بالقيادات وبالنَّاس وبالحياة وبكلّ المواقع.. من خلال شريعة الله ورسوله، ومن خلال حكم أولي الأمر المؤمّنين على شريعة الله ورسوله، وعلى المسلمين ـ جميعاً ـ أن ينطلقوا في هذا الخطّ وفي هذا الاتّجاه، ويرفضوا كلّ حكم الطّاغوت وكلّ شريعته وكلّ سياسته وكلّ الموازين الاجتماعيّة لمجتمع الطّاغوت، لأنّ هناك حكم الله وهو وليّ المؤمنين: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 257]، فكيف يكون الطَّاغوت وليّاً لك من دون الله؟

عندما تلتزم الحاكم الّذي يفكّر في غير ما يريد الله من فكر، ويحكم بغير ما يريد الله من حكم، ويتحرّك بغير ما يريد الله من حركة، فإنّه ـ حينئذٍ ـ وليّ لك من دون الله، ولست حرّاً ـ إذا كنت مؤمناً ـ في أن تلتزم من تشاء، فالإيمان خطّ أحمر يمنعك من الاندفاع  إلى الطَّاغوت، كما قال تعالى مخاطباً نبيَّه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}[النساء: 60]، لا ينبغي أن نلجأ إلى حكم الله إذا كان إلى جانبنا، ثم ننصرف عنه إلى حكم الطَّاغوت إذا لم يكن كذلك.

علينا أن نعرف أنَّنا إذا توحَّدنا بالشَّريعة وبكلام الله وكلام رسوله، فنستطيع أن نصل إلى نتائج كبيرة في حياتنا العامَّة وفي حياتنا الخاصَّة، لأنَّنا نملك ـ حينئذٍ ـ أساساً نرتكز عليه، وهذا هو الأساس الّذي استطاع المسلمون أن ينطلقوا فيه وهم في مواقع الضَّعف:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ..}[آل عمران: 123].. أي أنتم ضعفاء لا طاقة لكم، ولكنّ الموقف الرّساليّ والطّاعة لرسول الله(ص)، هي الّتي استطاعت أن تدفع بكم إلى مواجهة القوَّة الغاشمة على الرَّغم من كلِّ ضعفكم.

عندما استشار رسول الله(ص) الأنصار والمهاجرين، انطلق القول الإسلاميّ الحاسم: "يا رسول الله، إنَّها قريش وخيلاؤها، وقد آمنَّا بك وصدّقنا وشهدنا أنَّ ما جئت به حقّ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة: 24]، ولكنَّنا نقول امضِ لأمر ربّك فإنّا معك مقاتلون"، هذا التَّرابط بين القيادة الشَّرعيَّة في خطّ الله وخطّ رسوله وبين الأمَّة، هو الّذي يحقّق للأمّة المسلمة قوَّتها ومنعتها، ليفتحوا ثغرةً يستطيعون من خلالها أن يحقّقوا ما يريدون، وهذا هو سرّ انتصار المسلمين وسرّ موقفهم الحاسم الّذي أعطاهم القوَّة والمنعة.

دور القيادة في انتصار الثَّورة الإسلاميَّة

هذه العوامل بعينها هي الّتي خلقت انتصار الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، ونحن نعيش في هذه الأيَّام أجواء السّنة العاشرة لهذه الثَّورة، الّتي استطاعت أن تثبت وهي في جوّ العواصف القاسية الشَّديدة، وفي جوّ الزّلازل التي يشعر الإنسان فيها بأنّ الأرض تميد من تحته.

فهل المسألة هي مسألة القيادة فقط؟

للقيادة دور كبير، ولكنَّ القيادة وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، ولنأخذ قيادة رسول الله(ص) وقيادة أمير المؤمنين(ع) على ذلك مثلاً: لماذا انهزم المسلمون في أُحد، وقد كان رسول الله قائدهم؟.. ذلك لأنَّهم لم يطيعوا القيادة في بعض مواقع المعركة، وعندما وجدت الثَّغرة بين القيادة والأمَّة، وتركت الأمّة طاعتها للقيادة، تغلّب الأعداء عليها.. ثمّ أيّة قمة شامخة بعد رسول الله أعظم من عليّ؟ لقد كان القمّة في الفكر والبطولة والتّضحية والتّخطيط، فلماذا لم يستطع أن يصل إلى ما يريد؟.. لأنَّه كان يأتي إلى قومه في الصّيف، فيقولون: انتظر حتّى تخفّ الحرارة، وفي الشّتاء حتى يذهب البرد.. قال لهم: "لوددت، والله، أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدّينار بالدرهم"، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم.

ليس لدينا قيادة بمستوى قيادة عليّ(ع)، ولكنّ القيادة والأمّة هما سرّ الانتصار، وهما كذلك عندما يكون هناك رابط أساس يربط الأمَّة بالقيادة، لا أن يكون الرّابط مجرّد علاقة شخصيَّة مع القائد، بأن تحبّه الأمَّة أو تخلص له أو تنتفع من ماله، بل أن تكون هناك علاقة أساسيّة تربط الأمَّة بالقيادة، بحيث لا تنفصل عنها مهما كانت الظّروف.. وعندما تشعر الأمّة بأنّ كلام القيادة ينطلق من كلام الله ورسوله، وبأنّ تعليماتها تنطلق من خلال تعاليم الله ورسوله، وأن تطبيقاتها تنطلق من الوعي لكلام الله ورسوله، فإنّها تدرك ـ حينئذٍ ـ أنّها تسير في خطّ النّجاة وخطّ الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون المسألة كما قال الشّاعر:

    ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أيّ جنب كان في الله مصرعي

وهذا هو الشّيء الذي استطاعت القيادة أن تربّي الأمّة عليه، حيث ربّتها على أن تلتزم بحكم الله، على أساس أن ترتبط بشريعة رسول الله، وأن تحبّ الله ورسوله، وتحبّ أهل بيت رسوله وتحبّ كلّ المجاهدين من المسلمين.. واستطاعت القيادة أن توجد في الأمّة قاعدةً تتحرَّك في صلاتها من موقع الخطِّ الفقهيّ لتسأل الفقيه عن أحكام الصّلاة، وتتحرّك في حجّها وصومها وزكاتها وخمسها لتسأل الفقيه عن ذلك، ثمّ تتحرَّك في سياستها وحربها وسلمها وأمنها لتسأل الفقيه عن ذلك.

لا فصل بين السياسة والدّين

كان الفقهاء يحدِّثون النَّاس عن الطَّهارة والصَّلاة والصَّوم والحجّ، ويتركون السّياسة للزّعماء والطّغاة والحاكمين ولغير أولئك، حتَّى شكَّل ذلك انفصاماً في الأمَّة، باعتبار أنَّك تصلّي في المسجد، ثم تتحرَّك لتحارب مع الكفر والضَّلال والفسق والفجور، لأنَّ الزَّعيم فاسق وفاجر ويتحرَّك مع الكافرين في خططه. كانت الأمَّة تعيش ازدواجيَّة، ولهذا كانت لا تندفع ولا تتحمَّس، وكان الطّغاة يثيرون عصبيَّاتها، والمعروف أنَّ الزَّعيم إذا أراد أن يسيطر على قريةٍ قسَّمها إلى قسمين، وجعل كلّ قسم يحارب القسم الآخر، فكانت تُثار العصبيّة حتّى يجتمع النَّاس على الطَّاغية، وتُثار الأطماع حتّى يتعلَّق النَّاس به، ويُضلَّل النَّاس حتَّى يرتبطوا به، وجاء الفقيه العدل ليقول للنَّاس: تعالوا إلى الإسلام كلِّه.. ففي الصَّلاة سياستكم، وفي السَّياسة روح صلاتكم، وفي الحرب جهادكم، وفي السِّلم الخطّ الّذي يحفظ لكم مواقعكم.. وليس هناك انفصال بين الصَّلاة والجهاد وبين العبادة والسّياسة، فعندما تقول: "الله أكبر"، فإنَّك ترفض أن يحكم كلّ الصّغار بغير ما أنزل الله، وعندما تقول: "لا إله إلا الله"، فإنَّك تسقط كلّ الآلهة ليبقى توحيدك لله وحده، وحتّى الصَّلاة، تستطيع أن تفسّرها تفسيراً سياسيّاً، كموقفٍ من المستكبرين وموقفٍ من الطّغاة ومن كلّ الظّالمين..

القيادة الصّالحة

من هنا، قال بعض العلماء قبل الثّورة الإسلاميّة، ليربّي الشّعب المسلم في إيران على هذا الخطّ: ديننا سياسة وسياستنا دين، لأنَّنا لا نبتعد في خطّ السّياسة عن الدّين، وهذا ما استطاعت الأمَّة أن تحقّقه، لأنَّها كانت ترى في القيادة المتمثّلة بالإمام الخميني ـ حفظه الله ـ التّقوى والمعرفة بالله، والوعي لشريعته، والوعي للسَّاحة والبصيرة بالأمور.

كان الإمام يلاحق السَّاحة ليدرسها على أساس قول الله وقول رسوله، ثمّ يتَّخذ الموقف على أساس ما يرضي الله ورسوله، وهذا ما استطاعت الأمَّة أن تجده في شخصيَّته وفي سلوكه وفي قيادته وانفتاحه على الله سبحانه وتعالى، وفي اهتمامه بأمور المسلمين ـ كلّ المسلمين ـ وقد استطاع أن يحصل على ثقة المسلمين في خارج إيران، لأنّه لم يتحدّث للمسلمين عن المجتمع الفارسي أو عن المجتمع الإيراني، وإنَّما تحدَّث لهم عن المجتمع الإسلامي وعن الإسلام، وعندما أراد للمسلمين أن يواجهوا أمريكا قال لهم: واجهوها لا من خلال عملائها في إيران فحسب، بل واجهوها من أجل أن تكون الحريَّة للمسلمين وللمستضعفين، حتَّى لا تستطيع أن تبقى في مواقع الاستكبار الّذي يضغط على حريّة الشّعوب واقتصادها.

وقال لهم: إنّ الله جعلكم أمَّةً واحدةً، وجعل العزّة والحريّة لكم، فلماذا تريدون أن تذلّوا للشَّرق أو للغرب؟.. لا تكونوا دولةً ملحقةً بالشّرق أو بالغرب، بل التحقوا بقرآنكم لتكونوا دولةً إسلاميّة، لأنّ الله يريد أن نرجع إليه وإلى الرَّسول، ولا يريدنا أن نرجع إلى الطّاغوت، وكلّ التزام بغير الخطّ الّذي يرضاه الله والرّسول، هو التزام بالطّاغوت.

وعندما خوَّفه النّاس بالنّاس وأطلقوا كلّ التَّهاويل، كان يدعو الأمّة إلى الاعتماد على الله، فكانت قيمته ولا تزال أنَّه لا يربط النَّاس بشخصه، وإنما يربطهم بالله، وكان لا يحاول أن يعطي الأمجاد لشخصه، وإنَّما يعطي الأمجاد للأمَّة.

لقد سمعناه وهو يتحدّث في يوم الثّورة أمام كلّ قيادات الدّولة، وأمام كلّ ممثّلي الدّول وهم يجلسون على الأرض، كان يقول لهم: إنَّكم تهتمّون بالشّخص ـ شخصه ـ بينما ليس لي في الأمر إلا دور صغير فقط، فالأمَّة هي الّتي قامت بذلك كلِّه، وبعد ذلك الأمر لله، فالله هو الّذي نصر، وهو الّذي أيّد، وهو الّذي أعطى، وكنّا نتحرّك على أساس أن نتَّجه في اتجاه معين، وإذا بالله يحوّلنا إلى اتجاه آخر ونرى النَّصر في هذا كلّه.

كان الشّرق والغرب يلتقيان في حسينيَّة جمران، وكان كلّ القادة هناك، فكان يحدّثهم عن الله ويقول لهم: بلّغوا دولكم أنَّنا نتحرّك لأنَّ الله معنا، وأنَّنا نحارب من خلال ما أعطانا الله من قوَّة، ومن خلال استلهامنا في ذلك كلِّه، وكان يقول لكلّ القيادات في الدّولة هناك: لا تنسوا الله، ولا تعتبروا أنفسكم كباراً لأنّكم في موقع كبير، بل فكّروا أنّكم تتحرّكون بإرادة الله، وتنطلقون في مشيئته، وأنّه ـ تعالى ـ أكبر منكم.. فتواضعوا لله وتواضعوا لعباده.

التَّلاحم بين الأمّة وقائدها

هذا التّرابط الوثيق بين القيادة والأمَّة، هو الّذي ركّز قواعد الثَّورة، فليست القيادة وحدها هي الّتي خلقت الثّورة، وليست الأمّة وحدها الّتي خلقتها، بل الأمّة التي ترتبط بالقيادة الفقهيّة الورعة الواعية البصيرة بأمور الدّين والدّنيا، وهذا هو الّذي يجب أن نتحرَّك فيه، حتّى نستطيع أن نُثبِّت أقدامنا ولا ننهزم أمام كلّ التّهاويل.

لاحظنا أنّ أمريكا جاءت إلى الخليج ـ ومعها دول من أوروبّا ـ ليضعفوا الشّعب الإيراني المسلم، وليتحرَّك المنافقون ليعملوا ما يريدون، وأعطى الإعلام لأمريكا صفة الاستعراض المسلّح، ولكنَّ الإمام قال للشَّعب: عبّئوا أنفسكم لمواجهة هذا التّحدّي، إنّي أريد تعبئةً شعبيّةً بمستوى العشرين مليوناً. فانطلق النَّاس من قراهم ومدنهم، حتَّى ضاقت القيادة ـ بما عندها من وسائل ـ بهذا الجمع الغفير الّذي انطلق عفويّاً ليقول له: إنَّنا معك لأنَّك مع الله، ولن نسمح لأيِّ جنديٍّ من جنود أمريكا بأن يطأ تراب بلدنا، لأنَّنا سنكون هناك على طول خطّ الحدود على الخليج الّذي يبلغ مسافة ألف كيلو متر.

وقف الشّعب وتحدّى، وكانت أميركا تراهن على أن يتحرّك المعارضون والمنافقون ليسقطوا الثّورة، لأنّهم يعتبرون أنّ أمريكا تستطيع أن تحميهم، ولكن الشّعب الإيراني المسلم كان يفكّر ـ من خلال قيادته ـ أنّ الله يحميه:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا...}[التّوبة: 40]، وها هي أمريكا تبدأ انسحابها من الخليج بتخفيف مواقعها المسلّحة.

هذه التَّجربة الّتي انطلقت من خلال الارتباط بالله والإسلام، هي الّتي يجب أن نستفيد منها وندرسها، حتَّى لا نرتبط بأحد إلا إذا كان يؤدِّي عن الله، وحتّى لا نتحاكم إلى أيّ طاغوت ـ سواء كان كبيراً أو صغيراً ـ بل نتحاكم إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّ ذلك هو شرط الإيمان: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[النّساء: 65]، وهذا ما استلهمه المؤمنون في كلّ مكان من خلال قيادة الإمام الخميني الشَّاملة لكلّ موقع من المواقع.

الإمام ومجاهدو لبنان

إنَّ الإمام يتابع بدقَّةٍ ما يحدث، وقد جلست إليه عندما كنت في إيران، وحدّثته عن جهاد المجاهدين في لبنان، وعن معاناتهم وعن المقاومة الإسلاميّة، ورأيته يتابع ذلك كلّه ويعرفه كلّه، وقلت له إنَّ المؤمنين يبعثون إليك سلامهم، ويعبّرون لك عن احترامهم وعن مبايعتهم لك في خطّ الإسلام، فقال إنّني أقدِّر للمؤمنين المجاهدين في لبنان موقفهم الإسلامي الصَّلب، الذي استطاع أن يطرد أمريكا من بيروت ومن لبنان، وأن يطرد "إسرائيل" ويُربكها، ولكنّ الأمر يحتاج إلى استمرار وثبات، وإلى اعتماد على الله سبحانه وتعالى في ذلك كلّه. ثم قال لي: إنِّني أدعو لهم، وبلّغهم سلامي وتحيّاتي، لأنّنا معهم، وهم معنا في الخطّ الإسلامي العالمي.

الإمام والانتفاضة الفلسطينيَّة


وقد حدَّث الحاضرين في الاجتماع عن فلسطين، وكان قبل ذلك قد توجَّه بالخطاب إلى الفلسطينيّين في الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، قائلاً: إنّكم قد بدأتم في خطّ المستقبل من أجل مواجهة "إسرائيل" في العمق، وإذا كان العالم كلّه يريد منكم أن تتراجعوا، فإنّي أقول لكم لا تتراجعوا، بل أكملوا الطّريق كما أكملناه، حيث لم يكن لدينا سلاح عندما حاربنا الشَّاه، بل كانت الحجارة والسّكاكين وأشياء صغيرة هي أسلحتنا.. وسقط منّا الكثيرون، ولكنّنا استطعنا في النّهاية أن نُسقط الطّاغوت.

أكملوا المسيرة، لأنّكم إذا رجعتم إلى الماضي، وعملتم على أساس أن تنتظروا وعود أمريكا وأوروبّا، أو وعود السّاسة العرب، فسوف تفقدون كلّ شيء، حتّى الأرض.

إنّه يريد لهم أن يتقدَّموا ويرفضوا الواقع العربيّ الّذي يريد أن يحتوي الانتفاضة، ليجمّدها، أو ليجعلها هامشاً من هوامش السّياسة العربيَّة الخاضعة للسّياسة الأمريكيَّة الّتي تتحرّك على أساس المصالح الإسرائيليَّة.. كان يريد لهم ذلك، لأنَّهم في المستوى الكبير الّذي استطاع أن يعيد المسألة الفلسطينيَّة إلى الصّدارة، بعد أن قطع الحكّام العرب شوطاً كبيراً في إيصالها إلى هذا المستوى من الانحطاط، حيث إنَّ أكثر هؤلاء الحكام الّذين اجتمعوا في عمّان، لم يخجلوا من أن يجعلوا من قضيّة فلسطين القضيّة الثّانية التي لا تثير اهتمامهم، وأن يجعلوا منها قضيَّة نزاعٍ بينهم وبين "إسرائيل"، لا قضيَّة صراع وجود..

ولكنّ المجاهدين المسلمين وهؤلاء الأطفال الطّاهرين الّذين يحملون الحجارة في أيديهم ليرموا بها الدبّابات، وهؤلاء الشّباب الّذين ينطلقون بكلّ عزمهم وقوّتهم ليواجهوا الجيش الإسرائيليّ بالحجارة والسّكاكين وغير ذلك، استطاعوا أن يرعبوا الجنود الإسرائيليّين، وأن يخلقوا لهم عقداً نفسيّة لا يزال الكثيرون منهم يعانون منها.

إنّ الشّعب إذا وثق بربّه ووثق بنفسه من خلال ذلك، وصمّم على أن يواجه التّحدّي بتحدّ أكبر، فإنّه لا بدَّ من أن يُربك أعداءه أوَّلاً، ثم بعد ذلك يُضعفهم حتّى يقضي عليهم في نهاية المطاف..

أمريكا تتحرّك لخدمة مصالحها

إنّ الاستكبار العالميّ يعمل بكلّ ما عنده من طاقة ليفرض علينا كلّ ضغوطه وكلّ خططه الاستكباريّة، من أجل أن نتحرَّك في خطِّ سياسته ونخضع لكلِّ مصالحه، وأمريكا عندما تتحرَّك في المسألة الفلسطينيَّة الآن، فإنّما تتحرَّك من أجل خدمة مصالحها.

هل يريد كلّ هؤلاء المبعوثين الأمريكيّين أن يحلّوا لنا المشكلة لمصلحتنا، أو أنّهم يريدون أن يعقِّدوا مشاكلنا لمصلحتهم؟

إنّهم يأتون وقد تعلَّموا أنَّ العرب يدمنون تصريحات الأمريكيّين، ويفتحون قلوبهم وينطلقون ليحلّلوا ويدرسوا، ثم يسحب الأمريكيّون التَّصريحات بعد تمام الخدمة العربيَّة.. ولهذا فإنَّ أمريكا تعطي العرب تصريحات ومبادرات، وتعطي "إسرائيل" مواقف وأسلحة، وعندما تريد أن تعطي بعض العرب أسلحة، فإنَّ الشّرط الأساس لذلك يكون بأن لا يوجّه ضدّ "إسرائيل"، بل أن يُقاتل به العرب والمسلمون، ويُقاتل به من تريد أمريكا مقاتلته. أما السّلاح الّذي يعطى لـ"إسرائيل"، فإنَّها حرّة في أن تقتل به أطفال العرب والمسلمين وشيوخهم ونساءهم وتدمِّر كلّ بيوتهم ومناطقهم.. وهذا هو التَّوازن الأمريكيّ بين العرب و"إسرائيل".. أتعرفون أنَّ الاجتياح الإسرائيليّ الّذي وصل بيروت عام 1982م كان بتخطيط أمريكي ـ إسرائيلي، انطلاقاً من استراتيجيَّة سياسيَّة تجمع بين "إسرائيل" وأمريكا؟

والآن يريد شولتز ـ وزير الخارجية الأمريكيّة الأسبق ـ أن يأتي ـ والانتفاضة قائمة، والأطفال والنّساء والشّيوخ يقفون بكلِّ قوّة من أجل أن يدافعوا عن حريَّتهم، وأن يطردوا المحتلّ من أرضهم ـ يأتي ليعطي أفكاراً، وليس مستعدّاً لأن يضغط على "إسرائيل"، بينما المسلمون الفلسطينيّون يقتلون ويجرحون وتكسَّر أضلُعهم ويُضيَّقُ عليهم ويمنعون من التجوّل، ولا تتحرّك أمريكا لتدافع عن حقوق الإنسان، أمّا حين يمنع الاتحاد السوفياتي بعض اليهود من مغادرته، فإنّ قضيّتهم تشغل البند الثّاني من محادثات ريغان وغورباتشوف في القمّة التي عقدت في واشنطن!

شعب يريد أن يتحرّر، هذه مسألة تحتاج إلى أفكار وإلى بحث، أمّا إنسان يُمنع من أن يخرج من بلده إلى بلد آخر، فلا بدّ من أن يبحثها العالم، لأنّها تتعلّق باليهود!

في الحقيقة، إنَّهم يريدون أن يجمِّدوا الانتفاضة، وأن يستنفروا كلّ السّاسة العرب، الّذين يتحرَّكون في خطّهم ليحتووا الانتفاضة، حتَّى ترتاح "إسرائيل" وترتاح أمريكا، فلا وقت كافياً لديها للتّحرّك كثيراً في هذا الموضوع، لأنَّ انتخابات الرّئيس الأمريكيّ القادم على الأبواب، وهي تحتاج إلى الأصوات اليهوديَّة.

إنّ المساعي الأمريكيّة تحاول حلّ مشكلة "إسرائيل" أمام الانتفاضة، لا حلّ مشكلة الفلسطينيّين المسلمين أمام "إسرائيل".

هذه هي نظرتنا إلى الموقف الأمريكيّ في المنطقة، وإلى كلّ التَّهديدات وكلّ المبادرات الأمريكيَّة، ولن نثق بأمريكا، على الرَّغم من أنّ الكثيرين عندنا في الدّاخل، وكلّ المرشّحين لرئاسة الجمهوريَّة في هذا البلد، يزحفون إلى واشنطن، من أجل أن يقدِّموا الامتحان، باعتبار أنَّ هؤلاء الّذين يتحدّثون عن الحريّة وعن الاستقلال، لا مانع عندهم من أن يقبِّلوا أقدام أمريكا، في مقابل أن تهتمّ بهم وتلتفت إليهم، فالمهمّ عندهم أن ينجحوا في الامتحان، ومن شروط النَّجاح في الامتحان، أن يقدِّم كلّ مرشّح استعداده لأن يطرد من لبنان كلَّ من لا يوافق على السّياسة الأمريكيَّة، وأن يواجه في لبنان كلّ الّذين يريدون للبنان أن لا يكون ممرّاً للاستعمار أو مقرّاً له، وأن يطردوا الإسلاميّين، وأمريكا تعمل على أن تجعل سياستها وسياسة دول المنطقة تتحرَّك على هذا الخطّ، فمن يقبل بأن يضرب الإسلام الحركي، فإنّ أمريكا ستعطيه الكثير، ومن لا يقبل ذلك، فإنَّ أمريكا ستضغط عليه.

قضيّة الحريّة أمام الاستكبار

من هنا، نريد أن ننطلق لتتكامل التَّجربة مع القيادة الإسلاميَّة، فهناك قيادة إسلاميَّة واحدة هي قيادة إمام الأمَّة، الّتي تعطي الخطوط للموقف السّياسيّ على أساس مواجهة الاستكبار كلِّه، وهذه القيادة تريد منَّا ـ نحن المسلمين الملتزمين في لبنان ـ أن نتكامل مع المسلمين الملتزمين الفلسطينيّين ومع الشَّعب الفلسطيني، وأن ندافع عنه، وأن نقف معه بكلّ ما عندنا من طاقة، لأنَّه ليست هناك قضيَّة فلسطينيَّة أو قضيَّة بقاعيَّة أو لبنانيَّة، بل هناك قضيّة إسلاميّة، وهناك قضيَّة حريَّة أمام الاستكبار كلّه، ولهذا فإنَّهم منَّا ونحن منهم، في هذا الخطّ الإسلاميّ الّذي يريد أن يتجمَّع لينطلق المسلمون جميعاً في ضوئه.

لا حرمة للعملاء

لا بدَّ لنا من أن نواجه مسألة العمليَّة الجريئة التي قامت بها المقاومة الإسلاميَّة أخيراً في منطقة جزّين، بعد أن انطلقت كثير من الأصوات لتتحدَّث عن المنطقة الهادئة التي تمثّل التّعايش في البلد، وهي منطقة جزّين، باعتبار أنّ هؤلاء العسكريّين الموجودين هناك يعملون على حماية المنطقة.

إنّنا نريد أن نقول لهم: لا تلعبوا بالمسألة الطائفيَّة لتقولوا إنّ جيش لحد يمثّل حالة مسيحيّة، وإنّ المقاومة الإسلاميّة تمثّل حالة إسلاميّة، وإنّ الصّراع والقتال هو بين المسلمين والمسيحيّين، لتستثيروا العواطف المسيحيّة في مواجهة المواقف الإسلاميّة، كما كنتم تفعلون في ما كان يدور بين المنطقتين الشرقيَّة والغربيَّة من بيروت.. فنحن لا نعتبر الّذين يقاتلون مع هذا العميل يمثِّلون حالة مسيحيّة، كما أنّنا لا نعتبر المسلمين ـ من شيعة وسنّة ـ الذين باعوا أنفسهم للشّيطان في هذا الجيش، حالةً إسلامية، بل نعتبرهم حالة إسرائيليّة، فإذا أردتم وأنتم تتحدَّثون عن المنطقة هناك، أن تتحدَّثوا عن حماية إسرائيليّة لجزّين أو لغير جزّين، فإنّنا نعتبر أنّنا نملك الحريَّة في أن نواجه أيّ موقع إسرائيليّ، سواء كان الموقع يختزن أناساً ينتمون إلى الإسلام بالاسم أو إلى المسيحيّة بالاسم، أو ينتمون إلى أيّ موقع آخر..

إنّنا نعتبر أنَّ "إسرائيل" تعمل بكلِّ ما عندها من طاقة في سبيل أن تجعل من الحالة في الجنوب حالةً من مفردات الصّراع الإسلامي ـ المسيحي في لبنان، وعلينا أن نعمل بكلّ ما عندنا من طاقة لنزيل القناع عن هذه الخطّة الإسرائيليَّة، من أجل أن يسقط كلّ هذا الجيش بكلّ أفراده، الّذين أرادوا أن يجعلوا من أجسادهم متاريس تحمي جنود "إسرائيل"..

لهذا لا حرمة لهم عندنا، فليكونوا شيعة ـ والتشيّع يرفض هؤلاء ـ وليكونوا سنّة، وليكونوا موارنة أو كاثوليك أو أيّ شيء، إنَّهم جميعاً إسرائيليّون، ونحن نحمّلهم مسؤوليّة تثبيت أقدام "إسرائيل" في المنطقة الحدوديّة، لتخطّط "إسرائيل" لمستقبل تكون فيه المنطقة الحدوديَّة وما بعدها جزءاً من دولتها العدوانيَّة.

إنّنا نبارك هذه العمليَّة الجريئة ونقول: إنّ المسألة ليست مسألة التوازنات المناطقيّة، ولكنّها المسألة الوحيدة التي تتحرّك في سبيل الحريّة، إنّنا نريد أن نكون أحراراً وأعزّة، وكلّ من يقف أمام حريَّتنا ليكون حاجزاً يحجزنا عن العدوّ، فإنّنا نعتبر أنفسنا أحراراً في أن نواجهه بالموقف نفسه الّذي نواجه به العدوّ.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير