خطوط السِّلم والحرب في الإسلام

خطوط السِّلم والحرب في الإسلام

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرِّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 8/2/1410هـ/ الموافق: 8 أيلول 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين. وقد جاء فيها:

قال الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[1]. وأهل البيت هم الحسن والحسين ورسول الله وفاطمة والإمام عليّ(ع).. وقد أراد الله لهؤلاء أن يكونوا الطَّاهرين المطهَّرين، حتى يعطوا الطّهارة للنَّاس فيما يبلغونهم من الفكر الطَّاهر، وفيما يحركونه نحو المسيرة الطَّاهرة والعلاقات الطَّاهرة والأهداف الطّاهرة، لأنَّ الله أراد لرسوله أن يعطي النَّاس طهارةً في الفكر والحركة والأهداف..

التزام بالنَّهج والخطّ

من هنا، إنَّنا نلتزم خطَّ أهل البيت(ع) في قيادتهم الإسلاميَّة، على أساس أنهم التزموا الإسلام كلَّه، ولأنّهم أرادوا للنّاس أن يسلكوا الطّريق المستقيم.. إنَّ التزامنا بأهل البيت(ع) ليس التزاماً بأشخاصهم من النّاحية الذاتيّة أو العائليّة، كما يُخيَّل إلى البعض. إنّنا نلتزم نهجهم لأنَّ نهجهم هو نهج الإسلام، ونلتزم بخطّهم لأنَّ خطَّهم هو خطّ الإسلام، ونتحرَّك وفق قيادتهم لأنَّ الله أذهب عنهم كلَّ رجس، ونحن نتطهَّر بتعاليمهم عندما نسير وفق قيادتهم..

ومن هؤلاء، الحسن بن عليّ(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته اليوم أو غداً.. وقد قال رسول الله عنه وعن أخيه: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"[2]، وإذا كانا كذلك، فلا بدَّ من أن يكونا في المستوى الرّفيع من طاعة الله، لأنّ النبي(ص) لا يتحدَّث في كلامه بفعل قرابة، بل إنَّ الحقيقة تنطلق في كلام رسول الله، والله لا يعطي لأحدٍ درجةً عاليةً إلا إذا كان في مستوى رفيع من القرب إلى الله في إيمانه وإخلاصه. ولذلك نستوحي من هذه الكلمة، أنَّ كلّ ما قام به الإمام الحسن(ع) هو في طاعة الله، لأنَّ سيِّد شباب أهل الجنَّة لا يمكن أن ينحرف عن طاعة الله، وكذلك بالنِّسبة إلى الإمام الحسين.. ولذلك، فإنَّ هذه الكلمة تدلّنا على شرعيّة ما فعله الحسن وعلى شرعيّة ما فعله الحسين، هذا إلى جانب السِّلم، وذاك في جانب الحرب، لأنّهما ينطلقان من رؤية إسلاميَّة واضحة من خلال مصلحة الإسلام والأمَّة.

طفولة رساليَّة

وقد عاش الإمام الحسن طفولة رساليّة تغذّى فيها من خلال الحنان النّبويّ، ومن خلال الأخلاق النبويّة، لأنّ النبيّ كان يحضن الحسن والحسين ويرعاهما ويجلس إليهما، وكان يعمل على أن يبعث في روحيهما أطهر الكلمات والمعاني، وقد ربى أباهما عليّاً، إذ احتضنه وهو طفل عندما أخذه وضمّه إليه ليخفّف عن عمّه أبي طالب ثقل الأيّام.. حتّى نشأ عليّ على خلق رسول الله وآفاقه، وكانت البذرة الأولى الّتي انطلق بها عليّ في خطِّ الرّسالة، هي أخلاقه وصدقه وأمانته، فكان عليّ في مستوى القمَّة في صدقه الّذي تعلَّمه من رسول الله، وكان في مستوى القمَّة في محبّته لله الَّتي تعلَّمها من رسول الله..

وهكذا كانت السّنوات التّسع الَّتي عاشها الحسن مع رسول الله، من خلال النّضوج الرِّساليّ الكبير، حيث كان الرّسول يلقي للحسين والحسن حبَّه الإلهيّ الَّذي يجعلهما أقرب إلى الله وإلى أخلاق الله وشريعته ورسالته..

ولذلك، كانت طفولة الإمام الحسن طفولة رساليَّة.. وهكذا عاش الإمام الحسن مع عليّ(ع)، عندما كان يبكي لله ويسجد السّجدة الطّويلة التي قد يفقد فيها إحساسه بجسده خوفاً من الله، كان يراقب أباه عليّاً في عبادته، وكان يراقب أمَّه الزَّهراء في عبادتها.. ولهذا، كان الإمام الحسن يبكي من خوف الله، لأنَّ التربية الإسلاميَّة تريد للإنسان المسلم أن لا تكون علاقته بالله علاقةً عقليَّةً فقط، بل علاقةً في الشّعور والفكر وغير ذلك، أن لا تتصوَّر الحدث لتبكي على أساس أنَّك فقدت الحياة، بل لأنَّك لا تعرف ما هو مصيرك بعد الموت..

دراسة السِّلم والحرب

لا ينطلق الإسلام لتأكيد العداوة بل لتأكيد الصّداقة، فحاول أن تجعل الناس أصدقاءك، لأنَّهم يكونون إذ ذاك أصدقاء لقضاياك وأهدافك ووطنك وغير ذلك.. بعض النّاس يتصوّرون أنّه لا بدَّ من أن تتكلَّم بقوّة بوجه الآخرين لتكون قويّاً، والأمر ليس كذلك، فلا بدَّ من أن تتكلّم الكلام الطيّب على أساس طيب علاقاتك مع الآخرين.

تلك مسؤوليّتنا أمام أهل البيت؛ أن ننفتح على النّاس من خلال الانفتاح عليهم، فليس الارتباط بأهل البيت حالةً معقّدة، بل إنَّ أهل البيت يريدونك أن تنفتح على النّاس كلّهم من موقع المحبّة والرّحمة.. ولهذا، ليس هناك أسلوب حسيني أو حسني.

إنَّ مسألة التّشدّد والاعتدال لا تمثِّل خطّاً يختلف فيه المسلمون، لكنّ هناك مرحلة تفرض عليك التّشدّد، حيث لا تملك إلا أن تقف في وجه الّذين يفرضون العنف بأسلوب العنف، وقد تكون المصلحة هي أن تسالم، لأنَّ مصلحة الإسلام هي أن تسالم.

ليست القصَّة أنَّ هناك خطَّين في الإسلام، بل هناك مسألة مصلحة النَّاس الضّعفاء، فعليك أن تقدِّر مصلحتهم، فقد تكون المصلحة في الحرب عندما تؤدِّي الحرب إلى الحريّة والعدالة، وقد تكون المصلحة في السِّلم عندما تكون الحرب بلا نتيجة.

ولذلك، علينا دائماً أن ندرس المرحلة الّتي نمرّ فيها، من خلال الظروف الموضوعيَّة وطبيعة الخطّ الّذي تسير فيه، لنعرف مصلحة الإسلام من خلال الخطّ. وعلى هذا الأساس، نحن نريد لكلّ النّاس الّذين يستمعون إلى الإعلام وهو يتحدَّث عن الخطوط المتشدّدة والمعتدلة في الجمهوريَّة الإسلاميَّة، أن يعرفوا أنّ هناك اجتهاداً متنوّعاً في طريقة التّعامل مع هذا الفريق الدولي ومع ذاك، على أساس هل المصلحة هي في إقامة العلاقات مع هذا الفريق، أو أنَّ قطع العلاقات هي أفضل لمصلحة الإسلام؟! وهذا من حقّ المسلمين أن يختلفوا فيه اختلافاً اجتهاديّاً لا يسيء إلى طبيعة الحركة.

لا صلح مع إسرائيل

قد يطرح بعض الناس وهم يتحدَّثون عن الإمام الحسن(ع) مسألة الصّلح مع إسرائيل، على أساس أنَّ الصّلح أمر مبرَّر، لكن على هؤلاء أن يفهموا حقيقةً، وهي أنَّ الإمام الحسن(ع) صالح في داخل الحياة الإسلاميَّة، باعتبار أنَّ الشّعار الإسلاميّ كان يحكم الحياة الإسلاميَّة، وإن كان الخلاف في مضمون الشِّعار والَّذين يتحركون في داخله؛ كان صلحه حركة سلام في داخل السّاحة الإسلاميّة، على أساس أنَّ ذلك يخدم مصلحة الإسلام في مواجهة التّحدّيات التي قد تحيط به من خلال الأعداء الّذين يحيطون بالبلاد الإسلاميّة، وعلى أساس أن يتحرَّك الإصلاح من خلال صوتٍ إسلاميٍّ آخر، كما هو صوت الإمام الحسين بعد ذلك..

ولكن مسألة إسرائيل هي مسألة هي أنّ اليهود جاؤوا على أنقاض شعب مسلم، فحوَّلوا الأكثريّة إلى أقليّة مضطهدة ضعيفة، ولذلك، فإنَّ المسألة هي أنَّ هناك أرضاً إسلاميَّة تحوَّلت إلى أرضٍ يهوديّة، والمسألة تتعلَّق بطبيعة عزَّة المسلمين وكرامتهم وحريتهم، وأنَّك عندما تقبل أن تعطي أيَّ شرعيّة، ولو على مستوى من المراحل، لهذا الكيان الغاصب الّذي جاء ليقيم حضارة يهوديّة على أنقاض الحضارة الإسلاميّة، وليحارب الحضارة الإسلاميَّة في العالم، من هذا الموقع، إنَّ معنى أن تصالحه هو أن تعترف بكيانه، وأن تعترف له بوجوده، وأن تعتبر أيَّ هجومٍ عليه في المستقبل عدواناً عليه..

كما نسمع حديثاً في هذه الأيّام، بأنَّ المجاهدين الذين يواجهون إسرائيل هم مخربون، حتى إنَّ أغلب دول العالم عندما تتحدَّث عن حقوق الشّعب الفلسطينيّ، لا تتحدَّث عن الدّولة المستقلّة، وإنما تتحدَّث عن الحقوق المشروعة ككلمة مبهمة، ولا يزال الشعب الفلسطيني يعيش التّشريد والحصار والقتل، والعالم ساكت، لأنَّ العالم قد يفكّر في أن يعطي إسرائيل شرعيّة الامتداد لاحتواء الضّفّة الغربيّة وغزّة، على أساس أنّ السياسة الدوليّة هي التي تعطي الشرعيّة..

نحن نريد أن نربّي أولادنا ليربّوا أولادهم على أساس أنَّ إسرائيل كيان غير شرعيّ وغير قانونيّ، وأنّنا إذا لم نستطع أن نزيلها الآن، فسنوصي أحفادنا بأن يزيلوها، لأنَّ قضايا الأمّة لا تموت عندما يتحرّك المسلمون ضمن مسؤوليَّاتهم، وإلا سيأتي اليهود ليأخذوا الجولان وقسماً من الجنوب وغير ذلك، ثمّ يأتي فريق آخر إلى بلدٍ إسلاميّ هنا وبلد هناك، ومعنى ذلك أنَّ المثل الشّعبيّ يتحقَّق: "المال السّايب يعلّم النّاس الحرام".

سبب الفتنة في لبنان

وهكذا عندما نواجه المسألة في داخل لبنان، فقد كانت التوجيهات السياسيّة من الّذين صنعوا لنا لبنان على أساس التَّوجيه الدّوليّ؛ أنَّ للبنان وضعه الخاصّ، وأنَّ على المسلمين أن يؤمنوا المسيحيّين، لأنَّهم يعيشون في بحرٍ مسلمٍ كبير، وهو يقولون إنّ للمسلمين عشرين دولة، فليكن للمسيحيّين دولة ورئيس جمهوريَّة وغير ذلك.

وهكذا انطلقت الضَّمانات للمسيحيّين في كلّ مواقع الإدارة، على أساس أن نؤمنهم من الخوف، وأمنوا من الخوف، ثم بدأوا يفكّرون في أن يخوّفونا، وبدأ السياسيّون ومئات المسترئسين والمستوزرين والّذين يتحركون في أجهزة المخابرات، يعملون على تخويفنا: لا تطالبوا بغير الدستور، لأنّه مرتّب على أساس التّوازنات، لا تطالبوا بحقوقكم، فهناك وضع خاصّ للبنان. لقد ركب الناس على ظهورنا على أساس وضع لبنان الخاصّ، وبدأوا يعملون للركوب على رؤوسنا والدّخول إلى عقولنا، حتى صار التّفكير في التّغيير ممنوعاً، وصارت الكلمات جاهزةً، حيث يقال إنّك متطرّف ومتعصّب، وحتى الّذين يستهلكون الكلمات، صاروا جاهزين لكتابة التخيّلات السياسيّة في ذلك..

هذا هو سبب الفتنة، وقد انتقلت الفتنة من حربٍ إلى حرب، حتى تبقى المسألة الطائفيَّة جاهزة، وحتى لا يتغيَّر الواقع، لأنَّ هذه هي مصلحة الكثيرين في الدَّاخل والخارج.

هناك عمل دوليّ الآن على أساس التبريد العسكري، وهناك عمل عربيّ على أساس التّبريد العسكري، وهناك نوع من التّجاوب المحلّي، لأنَّ امتداد التّفجير العسكري الّذي يدمّر اللّبنانيّين جميعاً، وقد يدمِّر لبنان بالذَّات، قد يدمِّر كثيراً من المواقع السياسيَّة الإقليميّة والدَّوليّة في المنطقة.

ولذلك، فإنَّ المجتمع الدَّوليّ عندما يدعو اللّجنة الثّلاثيّة العربيّة إلى أن تعود، لم يعطها، في المرحلة الحاضرة على الأقلّ، إلا الضَّوء الأخضر لإرجاع الأمور إلى ما قبل 14 آذار، لتستمرّ عمليَّة المراوحة السياسيّة في الاجتماعات والاستشارات. والمهمّ أنَّ من يسمّونهم الكبار، يريدون للتَّفجير العسكريّ أن يهدأ، لا لأنَّ مصلحة اللّبنانيِّين تقتضي ذلك، بل لأنّهم هم الّذين أوقدوا هذه النَّار، وعندما بدأت النَّار تقترب من أصابعهم، عملوا على تخفيف شعلتها.

إنَّ مسألة تبريد الجانب العسكريّ، هي من المسائل الّتي تتَّصل بالأمن الدَّوليّ والأمن العربيّ، فيما يمكن لبعض القضايا العربيَّة والدَّوليَّة أن تحترق بهذا التَّفجير.

وهم الضَّمانات الطائفيَّة

وعلى هذا الأساس، عندما تدخل المسألة في الحوار السّياسيّ، وتكفّ آلات الحرب عن إطلاق صرخات الحرب التَّدميريَّة، ويتحدَّث النَّاس بطريقةٍ سياسيَّة، عندها يمكن أن نقول إنَّه لا يمكن للوضع اللّبنانيّ أن يصل إلى نهاياتٍ مستقبليَّةٍ سعيدة، إلا إذا جعلنا اللّبنانيّين جميعاً ينطلقون في استفتاء عام يحدّد شكل الحكم وطبيعة الحاكم، ويحدّد طبيعة العلاقات بين اللّبنانيّين، على أساس أن تكون لكلّ النّاس حرّيتهم والعدالة الّتي تضمن حقوقهم، أن لا يكون هناك ابن ستّ على أساس طائفته، وابن جارية على أساس طائفته.

وإنَّ خرافة الضّمانات التي يراد منها حماية طائفة معيّنة، هي وهم سياسيّ عشنا به مرحلة طويلة، واستطاع أن يثبت للّذين يطالبون بالضّمانات، أنَّ تطوّرات الوضع العسكريّ في كلّ حركة الفتنة اللّبنانيّة، دلَّت على أنَّ هذه الضّمانات استطاعت أن تخلق لمن يطلبونها مشاكل في كلّ واقع حياتهم، على أساس الحروب المدمِّرة الّتي عاشوها مع مواطنيهم.

إنَّ المواطن الَّذي لا يشعر بالمساواة، سوف يفكِّر في أن يستعين بالآخرين، وسوف يعمل بكلِّ الوسائل من أجل هذه الدَّولة بأيّة وسيلة. إنَّ النِّظام الطّائفيّ الّذي يجعل من الطَّوائف تحالفات سريَّة، سوف يفتح الثَّغرات الّتي تجعل كلّ النَّاس، من إقليميّين ودوليّين، ينفذون إلى البلد من خلال ذلك. إنّنا نقول لكلِّ هؤلاء الَّذين استعانوا بإسرائيل العام 82 ليخضعوا المسلمين لحكمهم: لقد سلَّمتهم إسرائيل الحكم، ولكن ماذا حصل؟ لقد هجِّروا فيما بعد الاجتياح، ثم إنَّ إسرائيل لا تفكّر في مصلحة المسلمين ولا المسيحيّين، بل في مصلحتها.

ثم حاولوا أن يستعجلوا فرنسا، على أساس أنَّ فرنسا حامية حمى المسيحيّين هنا، وجاءت الأساطيل الفرنسيَّة، وهلَّل السياسيّون هناك، وسخروا من الّذين يقولون سنقاوم، وضحكوا علينا في تحليلاتهم السياسيّة، على أساس أنَّ فرنسا جاءت لتؤكِّد قوّة الموارنة من جديد، وأنّ فرنسا سنة 89 غير فرنسا سنة الثّلاثين... ولكنّ فرنسا تفكّر في مصالحها، وقد رأت أنّه ليس من مصلحتها أن تتحرَّك بطريقة عسكريّة، وانكفأ الأسطول الفرنسيّ، لأنَّ مصالحه لا تتركّز من خلال هذا الأسلوب، ولأنَّه رأى أنّه ليس هناك ضوء أخضر كبير من الدّول العظمى.

وسقطت الحسابات، وكانوا يترقَّبون تصريحات السَّفير الأميركيّ. في هذا اليوم، ذكر اسم سوريا، ثم ذكر التّدويل، وبدأوا يستعينون بأميركا على أساس أنَّها ستتدخَّل، ولكنّها كانت تلعب لعبة مزدوجة؛ كانت تلعبها شرقيّة غربيّة لتبقى المشكلة اللّبنانيّة فيه مستمرَّةً في اهتزاز الوضع الأمنيّ والسياسيّ في لبنان، حتى تحلّ المشكلة الفلسطينيّة لحساب المصلحة الأميركيّة ـ الإسرائيليّة.

العمل لمدّ الفتنة

إنّ أميركا لا تعمل لحساب المسلمين ولا لحساب المسيحيّين، ولا تعمل لحساب العرب، بل لحساب سياستها ومصالحها المتقاطعة مع المصالح الإسرائيليَّة. ولذا، فإنَّ أميركا تعمل على أن تقوِّي جانباً من هنا، حتى إذا امتدَّ في حركة قوَّته إلى ما لا تريده، أضعفته ووقفت مع الآخر، فهي تلقي تصريحاً من هنا يقوّي جانباً، ثمّ تلقي تصريحاً آخر يقوّي الجانب الآخر.

وقد قلنا منذ البداية، إنَّ ما أثير من مسألة "حرب التَّحرير" هي لعبة أميركيَّة من أجل أن تمتدّ الفتنة اللّبنانيَّة طويلاً، على أساس أنها فقدت عناصر الامتداد سابقاً، ولا بدَّ من أن تمتدَّ لاحقاً، ولهذا قد يتحدَّث البعض عن أنَّ أميركا قد تنتج وترصد مورفي، وقد انسحبت من السَّفارة لتحدث صدمةً سياسيّةً، وإنّها تدعو إلى اللّجنة الوزاريّة حتى تنطلق لتحلَّ المشكلة اللّبنانيّة، وقد قلنا دائماً: ليست المسألة هي حجم الّذين يمثِّلون اللّجنة، بل ما هو الحجم السّياسيّ الّذي يمكن أن تعطيه أميركا في حركة الفتنة اللّبنانيَّة لهؤلاء؟

إنَّ هناك ضوءاً أخضر للمسألة الأمنيَّة ولمقدِّمات المسألة السياسيَّة، أمّا المسألة السياسيَّة في العمق، فهي مؤجَّلة، ولذلك فالمرحلة هي مرحلة تبريدٍ للأمن يلتقط فيه الناس أنفاسهم بطريقةٍ وأخرى، وقد يصابون "بكريب" أمنيّ أو "سعلة" أمنيَّة، وعلى النَّاس أن يتحرَّكوا في هذه العافية الأمنيَّة، وأن يستعدّوا للرّياح المعتدلة أو العاصفة، حسب الظّروف الدّوليَّة.


[1] [الأحزاب: 33].

[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 279.

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرِّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 8/2/1410هـ/ الموافق: 8 أيلول 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين. وقد جاء فيها:

قال الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[1]. وأهل البيت هم الحسن والحسين ورسول الله وفاطمة والإمام عليّ(ع).. وقد أراد الله لهؤلاء أن يكونوا الطَّاهرين المطهَّرين، حتى يعطوا الطّهارة للنَّاس فيما يبلغونهم من الفكر الطَّاهر، وفيما يحركونه نحو المسيرة الطَّاهرة والعلاقات الطَّاهرة والأهداف الطّاهرة، لأنَّ الله أراد لرسوله أن يعطي النَّاس طهارةً في الفكر والحركة والأهداف..

التزام بالنَّهج والخطّ

من هنا، إنَّنا نلتزم خطَّ أهل البيت(ع) في قيادتهم الإسلاميَّة، على أساس أنهم التزموا الإسلام كلَّه، ولأنّهم أرادوا للنّاس أن يسلكوا الطّريق المستقيم.. إنَّ التزامنا بأهل البيت(ع) ليس التزاماً بأشخاصهم من النّاحية الذاتيّة أو العائليّة، كما يُخيَّل إلى البعض. إنّنا نلتزم نهجهم لأنَّ نهجهم هو نهج الإسلام، ونلتزم بخطّهم لأنَّ خطَّهم هو خطّ الإسلام، ونتحرَّك وفق قيادتهم لأنَّ الله أذهب عنهم كلَّ رجس، ونحن نتطهَّر بتعاليمهم عندما نسير وفق قيادتهم..

ومن هؤلاء، الحسن بن عليّ(ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته اليوم أو غداً.. وقد قال رسول الله عنه وعن أخيه: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"[2]، وإذا كانا كذلك، فلا بدَّ من أن يكونا في المستوى الرّفيع من طاعة الله، لأنّ النبي(ص) لا يتحدَّث في كلامه بفعل قرابة، بل إنَّ الحقيقة تنطلق في كلام رسول الله، والله لا يعطي لأحدٍ درجةً عاليةً إلا إذا كان في مستوى رفيع من القرب إلى الله في إيمانه وإخلاصه. ولذلك نستوحي من هذه الكلمة، أنَّ كلّ ما قام به الإمام الحسن(ع) هو في طاعة الله، لأنَّ سيِّد شباب أهل الجنَّة لا يمكن أن ينحرف عن طاعة الله، وكذلك بالنِّسبة إلى الإمام الحسين.. ولذلك، فإنَّ هذه الكلمة تدلّنا على شرعيّة ما فعله الحسن وعلى شرعيّة ما فعله الحسين، هذا إلى جانب السِّلم، وذاك في جانب الحرب، لأنّهما ينطلقان من رؤية إسلاميَّة واضحة من خلال مصلحة الإسلام والأمَّة.

طفولة رساليَّة

وقد عاش الإمام الحسن طفولة رساليّة تغذّى فيها من خلال الحنان النّبويّ، ومن خلال الأخلاق النبويّة، لأنّ النبيّ كان يحضن الحسن والحسين ويرعاهما ويجلس إليهما، وكان يعمل على أن يبعث في روحيهما أطهر الكلمات والمعاني، وقد ربى أباهما عليّاً، إذ احتضنه وهو طفل عندما أخذه وضمّه إليه ليخفّف عن عمّه أبي طالب ثقل الأيّام.. حتّى نشأ عليّ على خلق رسول الله وآفاقه، وكانت البذرة الأولى الّتي انطلق بها عليّ في خطِّ الرّسالة، هي أخلاقه وصدقه وأمانته، فكان عليّ في مستوى القمَّة في صدقه الّذي تعلَّمه من رسول الله، وكان في مستوى القمَّة في محبّته لله الَّتي تعلَّمها من رسول الله..

وهكذا كانت السّنوات التّسع الَّتي عاشها الحسن مع رسول الله، من خلال النّضوج الرِّساليّ الكبير، حيث كان الرّسول يلقي للحسين والحسن حبَّه الإلهيّ الَّذي يجعلهما أقرب إلى الله وإلى أخلاق الله وشريعته ورسالته..

ولذلك، كانت طفولة الإمام الحسن طفولة رساليَّة.. وهكذا عاش الإمام الحسن مع عليّ(ع)، عندما كان يبكي لله ويسجد السّجدة الطّويلة التي قد يفقد فيها إحساسه بجسده خوفاً من الله، كان يراقب أباه عليّاً في عبادته، وكان يراقب أمَّه الزَّهراء في عبادتها.. ولهذا، كان الإمام الحسن يبكي من خوف الله، لأنَّ التربية الإسلاميَّة تريد للإنسان المسلم أن لا تكون علاقته بالله علاقةً عقليَّةً فقط، بل علاقةً في الشّعور والفكر وغير ذلك، أن لا تتصوَّر الحدث لتبكي على أساس أنَّك فقدت الحياة، بل لأنَّك لا تعرف ما هو مصيرك بعد الموت..

دراسة السِّلم والحرب

لا ينطلق الإسلام لتأكيد العداوة بل لتأكيد الصّداقة، فحاول أن تجعل الناس أصدقاءك، لأنَّهم يكونون إذ ذاك أصدقاء لقضاياك وأهدافك ووطنك وغير ذلك.. بعض النّاس يتصوّرون أنّه لا بدَّ من أن تتكلَّم بقوّة بوجه الآخرين لتكون قويّاً، والأمر ليس كذلك، فلا بدَّ من أن تتكلّم الكلام الطيّب على أساس طيب علاقاتك مع الآخرين.

تلك مسؤوليّتنا أمام أهل البيت؛ أن ننفتح على النّاس من خلال الانفتاح عليهم، فليس الارتباط بأهل البيت حالةً معقّدة، بل إنَّ أهل البيت يريدونك أن تنفتح على النّاس كلّهم من موقع المحبّة والرّحمة.. ولهذا، ليس هناك أسلوب حسيني أو حسني.

إنَّ مسألة التّشدّد والاعتدال لا تمثِّل خطّاً يختلف فيه المسلمون، لكنّ هناك مرحلة تفرض عليك التّشدّد، حيث لا تملك إلا أن تقف في وجه الّذين يفرضون العنف بأسلوب العنف، وقد تكون المصلحة هي أن تسالم، لأنَّ مصلحة الإسلام هي أن تسالم.

ليست القصَّة أنَّ هناك خطَّين في الإسلام، بل هناك مسألة مصلحة النَّاس الضّعفاء، فعليك أن تقدِّر مصلحتهم، فقد تكون المصلحة في الحرب عندما تؤدِّي الحرب إلى الحريّة والعدالة، وقد تكون المصلحة في السِّلم عندما تكون الحرب بلا نتيجة.

ولذلك، علينا دائماً أن ندرس المرحلة الّتي نمرّ فيها، من خلال الظروف الموضوعيَّة وطبيعة الخطّ الّذي تسير فيه، لنعرف مصلحة الإسلام من خلال الخطّ. وعلى هذا الأساس، نحن نريد لكلّ النّاس الّذين يستمعون إلى الإعلام وهو يتحدَّث عن الخطوط المتشدّدة والمعتدلة في الجمهوريَّة الإسلاميَّة، أن يعرفوا أنّ هناك اجتهاداً متنوّعاً في طريقة التّعامل مع هذا الفريق الدولي ومع ذاك، على أساس هل المصلحة هي في إقامة العلاقات مع هذا الفريق، أو أنَّ قطع العلاقات هي أفضل لمصلحة الإسلام؟! وهذا من حقّ المسلمين أن يختلفوا فيه اختلافاً اجتهاديّاً لا يسيء إلى طبيعة الحركة.

لا صلح مع إسرائيل

قد يطرح بعض الناس وهم يتحدَّثون عن الإمام الحسن(ع) مسألة الصّلح مع إسرائيل، على أساس أنَّ الصّلح أمر مبرَّر، لكن على هؤلاء أن يفهموا حقيقةً، وهي أنَّ الإمام الحسن(ع) صالح في داخل الحياة الإسلاميَّة، باعتبار أنَّ الشّعار الإسلاميّ كان يحكم الحياة الإسلاميَّة، وإن كان الخلاف في مضمون الشِّعار والَّذين يتحركون في داخله؛ كان صلحه حركة سلام في داخل السّاحة الإسلاميّة، على أساس أنَّ ذلك يخدم مصلحة الإسلام في مواجهة التّحدّيات التي قد تحيط به من خلال الأعداء الّذين يحيطون بالبلاد الإسلاميّة، وعلى أساس أن يتحرَّك الإصلاح من خلال صوتٍ إسلاميٍّ آخر، كما هو صوت الإمام الحسين بعد ذلك..

ولكن مسألة إسرائيل هي مسألة هي أنّ اليهود جاؤوا على أنقاض شعب مسلم، فحوَّلوا الأكثريّة إلى أقليّة مضطهدة ضعيفة، ولذلك، فإنَّ المسألة هي أنَّ هناك أرضاً إسلاميَّة تحوَّلت إلى أرضٍ يهوديّة، والمسألة تتعلَّق بطبيعة عزَّة المسلمين وكرامتهم وحريتهم، وأنَّك عندما تقبل أن تعطي أيَّ شرعيّة، ولو على مستوى من المراحل، لهذا الكيان الغاصب الّذي جاء ليقيم حضارة يهوديّة على أنقاض الحضارة الإسلاميّة، وليحارب الحضارة الإسلاميَّة في العالم، من هذا الموقع، إنَّ معنى أن تصالحه هو أن تعترف بكيانه، وأن تعترف له بوجوده، وأن تعتبر أيَّ هجومٍ عليه في المستقبل عدواناً عليه..

كما نسمع حديثاً في هذه الأيّام، بأنَّ المجاهدين الذين يواجهون إسرائيل هم مخربون، حتى إنَّ أغلب دول العالم عندما تتحدَّث عن حقوق الشّعب الفلسطينيّ، لا تتحدَّث عن الدّولة المستقلّة، وإنما تتحدَّث عن الحقوق المشروعة ككلمة مبهمة، ولا يزال الشعب الفلسطيني يعيش التّشريد والحصار والقتل، والعالم ساكت، لأنَّ العالم قد يفكّر في أن يعطي إسرائيل شرعيّة الامتداد لاحتواء الضّفّة الغربيّة وغزّة، على أساس أنّ السياسة الدوليّة هي التي تعطي الشرعيّة..

نحن نريد أن نربّي أولادنا ليربّوا أولادهم على أساس أنَّ إسرائيل كيان غير شرعيّ وغير قانونيّ، وأنّنا إذا لم نستطع أن نزيلها الآن، فسنوصي أحفادنا بأن يزيلوها، لأنَّ قضايا الأمّة لا تموت عندما يتحرّك المسلمون ضمن مسؤوليَّاتهم، وإلا سيأتي اليهود ليأخذوا الجولان وقسماً من الجنوب وغير ذلك، ثمّ يأتي فريق آخر إلى بلدٍ إسلاميّ هنا وبلد هناك، ومعنى ذلك أنَّ المثل الشّعبيّ يتحقَّق: "المال السّايب يعلّم النّاس الحرام".

سبب الفتنة في لبنان

وهكذا عندما نواجه المسألة في داخل لبنان، فقد كانت التوجيهات السياسيّة من الّذين صنعوا لنا لبنان على أساس التَّوجيه الدّوليّ؛ أنَّ للبنان وضعه الخاصّ، وأنَّ على المسلمين أن يؤمنوا المسيحيّين، لأنَّهم يعيشون في بحرٍ مسلمٍ كبير، وهو يقولون إنّ للمسلمين عشرين دولة، فليكن للمسيحيّين دولة ورئيس جمهوريَّة وغير ذلك.

وهكذا انطلقت الضَّمانات للمسيحيّين في كلّ مواقع الإدارة، على أساس أن نؤمنهم من الخوف، وأمنوا من الخوف، ثم بدأوا يفكّرون في أن يخوّفونا، وبدأ السياسيّون ومئات المسترئسين والمستوزرين والّذين يتحركون في أجهزة المخابرات، يعملون على تخويفنا: لا تطالبوا بغير الدستور، لأنّه مرتّب على أساس التّوازنات، لا تطالبوا بحقوقكم، فهناك وضع خاصّ للبنان. لقد ركب الناس على ظهورنا على أساس وضع لبنان الخاصّ، وبدأوا يعملون للركوب على رؤوسنا والدّخول إلى عقولنا، حتى صار التّفكير في التّغيير ممنوعاً، وصارت الكلمات جاهزةً، حيث يقال إنّك متطرّف ومتعصّب، وحتى الّذين يستهلكون الكلمات، صاروا جاهزين لكتابة التخيّلات السياسيّة في ذلك..

هذا هو سبب الفتنة، وقد انتقلت الفتنة من حربٍ إلى حرب، حتى تبقى المسألة الطائفيَّة جاهزة، وحتى لا يتغيَّر الواقع، لأنَّ هذه هي مصلحة الكثيرين في الدَّاخل والخارج.

هناك عمل دوليّ الآن على أساس التبريد العسكري، وهناك عمل عربيّ على أساس التّبريد العسكري، وهناك نوع من التّجاوب المحلّي، لأنَّ امتداد التّفجير العسكري الّذي يدمّر اللّبنانيّين جميعاً، وقد يدمِّر لبنان بالذَّات، قد يدمِّر كثيراً من المواقع السياسيَّة الإقليميّة والدَّوليّة في المنطقة.

ولذلك، فإنَّ المجتمع الدَّوليّ عندما يدعو اللّجنة الثّلاثيّة العربيّة إلى أن تعود، لم يعطها، في المرحلة الحاضرة على الأقلّ، إلا الضَّوء الأخضر لإرجاع الأمور إلى ما قبل 14 آذار، لتستمرّ عمليَّة المراوحة السياسيّة في الاجتماعات والاستشارات. والمهمّ أنَّ من يسمّونهم الكبار، يريدون للتَّفجير العسكريّ أن يهدأ، لا لأنَّ مصلحة اللّبنانيِّين تقتضي ذلك، بل لأنّهم هم الّذين أوقدوا هذه النَّار، وعندما بدأت النَّار تقترب من أصابعهم، عملوا على تخفيف شعلتها.

إنَّ مسألة تبريد الجانب العسكريّ، هي من المسائل الّتي تتَّصل بالأمن الدَّوليّ والأمن العربيّ، فيما يمكن لبعض القضايا العربيَّة والدَّوليَّة أن تحترق بهذا التَّفجير.

وهم الضَّمانات الطائفيَّة

وعلى هذا الأساس، عندما تدخل المسألة في الحوار السّياسيّ، وتكفّ آلات الحرب عن إطلاق صرخات الحرب التَّدميريَّة، ويتحدَّث النَّاس بطريقةٍ سياسيَّة، عندها يمكن أن نقول إنَّه لا يمكن للوضع اللّبنانيّ أن يصل إلى نهاياتٍ مستقبليَّةٍ سعيدة، إلا إذا جعلنا اللّبنانيّين جميعاً ينطلقون في استفتاء عام يحدّد شكل الحكم وطبيعة الحاكم، ويحدّد طبيعة العلاقات بين اللّبنانيّين، على أساس أن تكون لكلّ النّاس حرّيتهم والعدالة الّتي تضمن حقوقهم، أن لا يكون هناك ابن ستّ على أساس طائفته، وابن جارية على أساس طائفته.

وإنَّ خرافة الضّمانات التي يراد منها حماية طائفة معيّنة، هي وهم سياسيّ عشنا به مرحلة طويلة، واستطاع أن يثبت للّذين يطالبون بالضّمانات، أنَّ تطوّرات الوضع العسكريّ في كلّ حركة الفتنة اللّبنانيّة، دلَّت على أنَّ هذه الضّمانات استطاعت أن تخلق لمن يطلبونها مشاكل في كلّ واقع حياتهم، على أساس الحروب المدمِّرة الّتي عاشوها مع مواطنيهم.

إنَّ المواطن الَّذي لا يشعر بالمساواة، سوف يفكِّر في أن يستعين بالآخرين، وسوف يعمل بكلِّ الوسائل من أجل هذه الدَّولة بأيّة وسيلة. إنَّ النِّظام الطّائفيّ الّذي يجعل من الطَّوائف تحالفات سريَّة، سوف يفتح الثَّغرات الّتي تجعل كلّ النَّاس، من إقليميّين ودوليّين، ينفذون إلى البلد من خلال ذلك. إنّنا نقول لكلِّ هؤلاء الَّذين استعانوا بإسرائيل العام 82 ليخضعوا المسلمين لحكمهم: لقد سلَّمتهم إسرائيل الحكم، ولكن ماذا حصل؟ لقد هجِّروا فيما بعد الاجتياح، ثم إنَّ إسرائيل لا تفكّر في مصلحة المسلمين ولا المسيحيّين، بل في مصلحتها.

ثم حاولوا أن يستعجلوا فرنسا، على أساس أنَّ فرنسا حامية حمى المسيحيّين هنا، وجاءت الأساطيل الفرنسيَّة، وهلَّل السياسيّون هناك، وسخروا من الّذين يقولون سنقاوم، وضحكوا علينا في تحليلاتهم السياسيّة، على أساس أنَّ فرنسا جاءت لتؤكِّد قوّة الموارنة من جديد، وأنّ فرنسا سنة 89 غير فرنسا سنة الثّلاثين... ولكنّ فرنسا تفكّر في مصالحها، وقد رأت أنّه ليس من مصلحتها أن تتحرَّك بطريقة عسكريّة، وانكفأ الأسطول الفرنسيّ، لأنَّ مصالحه لا تتركّز من خلال هذا الأسلوب، ولأنَّه رأى أنّه ليس هناك ضوء أخضر كبير من الدّول العظمى.

وسقطت الحسابات، وكانوا يترقَّبون تصريحات السَّفير الأميركيّ. في هذا اليوم، ذكر اسم سوريا، ثم ذكر التّدويل، وبدأوا يستعينون بأميركا على أساس أنَّها ستتدخَّل، ولكنّها كانت تلعب لعبة مزدوجة؛ كانت تلعبها شرقيّة غربيّة لتبقى المشكلة اللّبنانيّة فيه مستمرَّةً في اهتزاز الوضع الأمنيّ والسياسيّ في لبنان، حتى تحلّ المشكلة الفلسطينيّة لحساب المصلحة الأميركيّة ـ الإسرائيليّة.

العمل لمدّ الفتنة

إنّ أميركا لا تعمل لحساب المسلمين ولا لحساب المسيحيّين، ولا تعمل لحساب العرب، بل لحساب سياستها ومصالحها المتقاطعة مع المصالح الإسرائيليَّة. ولذا، فإنَّ أميركا تعمل على أن تقوِّي جانباً من هنا، حتى إذا امتدَّ في حركة قوَّته إلى ما لا تريده، أضعفته ووقفت مع الآخر، فهي تلقي تصريحاً من هنا يقوّي جانباً، ثمّ تلقي تصريحاً آخر يقوّي الجانب الآخر.

وقد قلنا منذ البداية، إنَّ ما أثير من مسألة "حرب التَّحرير" هي لعبة أميركيَّة من أجل أن تمتدّ الفتنة اللّبنانيَّة طويلاً، على أساس أنها فقدت عناصر الامتداد سابقاً، ولا بدَّ من أن تمتدَّ لاحقاً، ولهذا قد يتحدَّث البعض عن أنَّ أميركا قد تنتج وترصد مورفي، وقد انسحبت من السَّفارة لتحدث صدمةً سياسيّةً، وإنّها تدعو إلى اللّجنة الوزاريّة حتى تنطلق لتحلَّ المشكلة اللّبنانيّة، وقد قلنا دائماً: ليست المسألة هي حجم الّذين يمثِّلون اللّجنة، بل ما هو الحجم السّياسيّ الّذي يمكن أن تعطيه أميركا في حركة الفتنة اللّبنانيَّة لهؤلاء؟

إنَّ هناك ضوءاً أخضر للمسألة الأمنيَّة ولمقدِّمات المسألة السياسيَّة، أمّا المسألة السياسيَّة في العمق، فهي مؤجَّلة، ولذلك فالمرحلة هي مرحلة تبريدٍ للأمن يلتقط فيه الناس أنفاسهم بطريقةٍ وأخرى، وقد يصابون "بكريب" أمنيّ أو "سعلة" أمنيَّة، وعلى النَّاس أن يتحرَّكوا في هذه العافية الأمنيَّة، وأن يستعدّوا للرّياح المعتدلة أو العاصفة، حسب الظّروف الدّوليَّة.


[1] [الأحزاب: 33].

[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 279.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير