محطّات رساليَّة من سيرة الإمام الكاظم(ع)

محطّات رساليَّة من سيرة الإمام الكاظم(ع)

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في حارة حريك، بتاريخ: 22/1/1415هـ/ الموافق: 01/07/1994م، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين. وهذا ما جاء في خطبته:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[1]، ويقول سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}[2]، ويقول سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[3]، ويقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[4].

في هذه الأيّام، نلتقي بمناسبات ثلاث: في اليوم الخامس والعشرين من شهر رجب، وهو يصادف هذا اليوم، كانت وفاة الإمام السّابع من أئمة أهل البيت(ع)، الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع). وفي السابع والعشرين منه، كانت ذكرى مبعث النبي(ص)، كما هو المشهور عند علماء المسلمين من الشّيعة، وكانت ذكرى الإسراء والمعراج في سنة أخرى طبعاً عند المسلمين بشكل عامّ.

ونحن عندما نعيش هذه الأجواء، لا بدَّ لنا من أن نتوقّف، ولو قليلاً، عند كل واحدة من هذه المناسبات الإسلاميَّة التي تربطنا بالرّسول(ص) وبالأئمة من أهل بيته، وبكلّ ذلك الجيل المجاهد من الصحابة الأوفياء، الذين وفوا لله ولرسوله ولكلِّ المسيرة الإسلاميَّة التي انطلقت منذ انطلق رسول الله(ص) بالدَّعوة حتى وصلت إلينا لنحملها إلى جيل جديد يكمل المسيرة من خلال فكره وتجربته وحركته وقوته، لأنّ كلّ جيل لا بدَّ من أن ينطلق من تجارب الأجيال التي سبقته، حتى يشعر بأنَّ له جذوراً في حركته، وأنَّه لم ينطلق من سطح الأرض، وإنما انطلق ليكون مع الأجيال الماضية ومع الأجيال الآتية كشجرةٍ طيّبة أصلها ثابت ثبات الرّسالة وثبات الدَّعوة وثبات الجهاد وثبات الموقف، أصلها ثابت وفرعها في السَّماء، عندما تتساقط ثمار هذا الفرع في كلّ مكانٍ في العالم وفي كلّ زمان، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها .

رساليَّة الإمام الكاظم

الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) هو الإمام السَّابع من أئمَّة أهل البيت الإثني عشر(ع)، وإذا كانت الآية نزلت في الخمسة من أهل البيت، محمَّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، فإنّها تمتدّ بإيحاءاتها إلى كلِّ أئمّة أهل البيت(ع)، لأنَّ حديثهم هو حديث رسول الله، ولأنَّ سيرتهم هي سيرة رسول الله، ولأنَّ رسالتهم في كلِّ ما يقولون وما يفعلون، هي الرّسالة الّتي انطلق بها رسول الله(ص)، فهم أهل بيته الّذين عاشوا رسالته، وكان كلّ واحدٍ منهم تجسيداً للرّسالة .

عاش الإمام الكاظم(ع) حياته وأغنى الواقع الإسلاميَّ بكلِّ فكره وفقهه وسيرته وأخلاقه وجهاده، ولكن كان الخلفاء من بني العباس يستشعرون امتداد محبّته وإمامته في حياة المسلمين الواعين الملتزمين، ولذلك فإنهم لم يرتاحوا لهذا الامتداد الرساليّ في الواقع الإسلاميّ لإمامٍ من أئمة أهل البيت(ع)، ولا سيَّما إذا كان هذا الإمام رساليّاً يعطي المجتمع الإسلاميّ في كلّ مكان فكراً إسلاميّاً أصيلاً، وفقهاً إسلاميّاً أصيلاً، وأخلاقاً إسلاميّة منفتحة على أخلاق رسول الله(ص) كما كان ينفتح على الحياة من خلال القرآن، فكان كرسول الله خلقه القرآن، ولذلك كان القدوة في حياته، كما كان صاحب الرسالة في دعوته، وكان يتميز بالأخلاق التي جعلت الناس عندما يتحدّثون عنه يقولون: حدّثني العبد الصالح، وحدّثني موسى الكاظم، باعتبار أنّه كان من الكاظمين للغيظ، يحبس غيظه في صدره، عندما يجد أنَّ ذلك هو الخلق الّذي جعله الله خلق أهل الجنّة: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[5].

وعندما يعيش الضّغوط الصَّعبة من خلال كثيرين من النّاس ممن يكيدون له أو ممن يعادونه، كان يكظم غيظه، لأنّه كان يريد أن يفتح للناس أفق المحبة في ما يعطيهم من محبة، ويعطي الناس روح العفو فيما يقدّمه إليهم من عفو، ويمنح الناس الإحسان من عطائه فيما يقدمه لهم من عطائه، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

معاناة السّجن

وهكذا نجد أنه عانى الكثير الكثير، فقد قضى مدّة طويلة من عمره قاربت الخمس عشرة سنة في سجون هارون الرّشيد، الذي كان ينقله من سجن إلى سجن؛ من سجن البصرة إلى سجن واسط إلى سجن بغداد، وكان يضيّق عليه في سجنه، ويوكل بعض الناس لكي يستمعوا إليه ماذا يقول في دعائه وهو في السِّجن، لعلّه يدعو عليه أو يدعو على سجّانيه، فكانوا يستمعون إليه وهو يقول: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد"[6]. ولهذا كان الموكلون بسجنه يبعثون بتقاريرهم إلى هارون الرّشيد ليقولوا له: ما رأينا منه إلاّ خيراً، وما سمعنا منه إلى خيراً، وما سمعنا منه دعوةً علينا أو دعوةً لنا، ولذلك فإذا لم تتسلَّمه منّا فسنطلق سراحه.

وكان وهو في سجنه، يتّصل بأصحابه ويتّصل به أصحابه، وقلنا إنّ الأساس في هذا السجن وهذا الاضطهاد، لم يكن إلا ذلك الامتداد الرّساليّ الّذي كان يملكه الإمام في المجتمع الإسلامي، وتلك القوّة الصّلبة في مواجهة الموقف.

وينقل أنّ هارون الرّشيد جاء إلى المدينة، ووقف أمام قبر رسول الله، وقال له: "السَّلام عليك يا بن العم"، كأنه يريد أن يقول للناس إنّنا أحقّ بالخلافة، لأننا أبناء عمّ رسول الله، ولم يترك الإمام له هذا الموقف، بل جاء بشكلٍ طبيعيّ، وقال: "السَّلام عليك يا أبتاه"، ليقول له إذا كانت المسألة مسألة قرابة، فإنّنا أقرب إلى رسول الله منك، وإذا كانت المسألة مسألة كفاءة، فما هي كفاءتكم في ما تدَّعون لأنفسكم من هذا الموقع. وقال له مرّة: لماذا تقولون إنكم أقرب إلى رسول الله؟ أنتم أبناء عليّ ابن عمّ رسول الله، ونحن أبناء عمّ رسول الله، وأنتم لستم أبناءه، إنكم أبناء ابنته، وأبناء البنت ليسوا أبناءً للشّخص، فقال له(ع): أسألك سؤالاً، لو كان رسول الله موجوداً، وجاء يخطب ابنتك منك، فهل تقبل؟ قال: إني أتشرف، قال: ولكنَّ رسول الله لا يخطب ابنتي منّي، لأنّ ابنتي هي ابنته.

لم يكن الإمام(ع) يريد أن يعتبر النّسب أساس الإمامة أو أساس الخلافة، ولكنّه أراد أن يردّ ذلك الادّعاء الذي انطلق به بنو العبّاس إلى النّاس باسم قرابتهم لرسول الله(ص)، كان صلب الموقف، وكان المعارض القويّ في كلّ مواقفه هناك، وقضى شهيداً في أحد سجون هارون الرّشيد في بغداد، بعد أن سممه هارون الرّشيد على يد بعض السجّانين.

الوقوف مع الحقِّ والعدل

ونحن عندما نقف أمام التَّاريخ، فإنّنا نريد أن نلتقط من الإمام الكاظم(ع) كلمتين، لأنّ الموقف لا يتَّسع لأكثر من ذلك؛ الكلمة الأولى التي توجَّه بها(ع) إلى كلّ المؤمنين في كلّ زمان ومكان، خاطب بها بعض أصحابه وهو يخاطب كلَّ مؤمن ومؤمنة، قال له: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة..."، قال: وما الإمّعة؟ قال: "أن تقول أنا مع النّاس وأنا كواحد من النّاس، إنّ رسول الله قال: يا أيّها النَّاس، إنَّما هما نجدان: نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشّرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"[7].

إنّه يريد أن يعالج هذه المسألة؛ مسألة الكثيرين من النّاس الّذين لا موقف لهم، فإذا سألتهم عن موقفهم يقولون لك: أنا مع العائلة، مع أهل البلد، مع النّاس، مع الوقت، مع العصر، فما يفعل النّاس أفعله، وما يتحرك به الناس أتحرك به، لا موقف لي، لا رأي لي. هؤلاء الناس الذين يعيشون في الحياة من دون موقف، ويواجهون الأحداث مواجهة اللامبالاة، فلا يعملون على أن يكون لهم فكرهم في ما تختلف فيه الأفكار، أو موقفهم في ما تختلف فيه المواقف، إنّ الإمام يريد أن يقول: كل إنسان في الحياة، لا بدّ من أن يكون له موقف، فهناك خير وشرّ، وهناك حقّ وباطل، ولا بدَّ لك من أن تقرّر أنت قبل أن تقرّر عائلتك، وقبل أن يقرّر أهل بلدك، وقبل أن يقرّر النّاس من حولك، لا بدّ من أن تقرّر: هل أنت مع الحقّ أو مع الباطل؟ وإذا قرَّرت موقفك من خلال قناعتك التي انطلقت من خلال فكر، أو تشاور، أو حوار، أو ما إلى ذلك، عند ذلك تحدّث مع الآخرين ليكون لك رأي في مواجهة آراء الآخرين، حتى إذا أردت أن تسير مع الآخرين الّذين يوافقونك، فإنَّك تسير على أساس أنَّك تتوافق معهم، لا على أساس أنّك تنحني لهم، ولا تقل أنا مع النّاس وأنا كواحد من الناس.. يقول الله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[8]، والنَّجد هو الطّريق: طريق الخير وطريق الشّرّ، إنما هما الحياة كلّها في حياتك الفرديّة، في حياتك الاجتماعيّة، في حياتك السياسيّة، في حياتك الاقتصاديّة، "إنّما هما نجدان: نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشّرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"، "ولكن أبلغ خيراً وقل خيراً"، فكّر في الخير والتزمه وأبلغه، اقتنع بالخير وآمن به وقله في كلِّ مجالاتك.

هذه الكلمة تمثّل خطّاً رسوليّاً انطلق فيه الإمام من خلال كلام رسول الله(ص)، ويريد لنا أن لا نكون الحياديّين الّذين لا رأي لهم، وأن لا نكون المتحرّكين مع المجتمع، بحيث يكون المجتمع هو الّذي يسيّر خطانا دون أن نكون جزءاً من قراره. اسمع المجتمع، ولكن لتكن جزءاً من قراره، عش مع وطنك، ولكن لتكن أنت جزءاً من قرار وطنك، أن لا يكون دورك دور المنفعل، ولكن أن يكون دورك دوراً فاعلاً، لأنّ الله سوف يسألك عن موقفك ما هو، لا عن موقف الآخرين، وإذا كنت تسير مع الآخرين، فالله يقول لك: ما حجّتك في السّير معهم؟ ما حجّتك في السّير مع أهلك ومع عائلتك ومع أهل بلدك؟ هل هم حجّة لك أمام الله؟ ولا بدّ لك من أن تحضّر لكلّ سؤال جواب، يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها.

أهمية الثقة بالنفس

والكلمة الثانية قالها الإمام لصاحبه هشام بن الحكم، وهو من المفكّرين الكبار المعروفين في الثّقافة الإسلاميّة من تلامذة الإمام الكاظم، كما كان من تلامذة الإمام الصّادق(ع)، قال: "يا هشام، لو كان في يدك جوزة وقال النّاس في يدك لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال النّاس إنّها جوزة، ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤة"[9].

ما هي إيحاءات هذه الكلمة؟ لا تأخذ ثقتك بنفسك من خلال كلام النّاس، ولكن لتكن ثقتك بنفسك من خلال ما تعرفه أنت من نفسك. لو قال النّاس عنك إنّك أعظم العلماء وأعظم المفكّرين وأعظم المجاهدين، ولكنّك عندما تجلس مع نفسك، لا تجد أيَّ مصداق في كلّ ما قالوه، ما قيمة أن يمدحك الناس بأنك إنسان تمتلئ علماً وجهاداً، وأنت تعرف أنّك فارغ من العلم والجهاد؟ وربما كان هؤلاء النّاس الذين يعطونك ألقاباً لا تستحقّها، ربما كانوا يضحكون عليك، ويسخرون منك، ويحاولون أن يبتزّوك في ما يقدّمون لك من مدائح وألقاب وما إلى ذلك.

ولو أنَّ النّاس قالت عنك كلّ سوء، وقالت عنك إنّك إنسان فارغ، لا علم لك، لا دين لك، لا جهاد لك، وأنت تعرف أنك تملك الكثير من ذلك، فلا تفقد ثقتك بنفسك من خلال كلام الناس السلبي عنك، ادرس نفسك، اعرف نفسك، افهم نفسك، وحاول أن تحدّد لنفسك حجمها من خلال وعيك، لا من خلال كلام النّاس عنك.

نحن نقرأ في كلام عليّ بن أبي طالب(ع)، أنّه جاءه شخص يتزلّف له (يمدحه)، وهو يعرف أنّه من أعدائه وأنّه لا يثق به، ماذا قال له عليّ(ع)؟ قال: "أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك"[10]، فأنا أعرف ما تعتقد بي، أنا أعظم مما تعتقد بي، لأني أفهم نفسي تماماً، وأقلّ من هذا الكلام الّذي تقوله، والإمام بذلك حافظ على التّوازن.

 وعندما كان الإمام يسمع بعض النّاس يمدحونه، كان يدعو الله فيقول: "اللّهمّ اجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون"[11]. وكان الإمام زين العابدين(ع) يقول: "اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمد، ولا ترفعني في النّاس درجةً، إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً، إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها"[12]. فعندما يهتف النّاس لك، لا يشغلك هتافهم، ولكن انزل إلى نفسك، وقارن بين هتافهم وما تعرفه من نفسك، وعندما يعطيك الناس مواقع العزِّ، لا تنتفخ غروراً بذلك، ولكن انزل إلى نفسك حتى تستشعر الذلّة في نفسك من خلال ما تعرفه من عيوبها وسيّئاتها، فهذا هو التوازن. ولا تستعر ثقتك بنفسك من خلال كلام الناس لتصعد عند نفسك عندما يهتف الناس لك، أو تنزل عند نفسك عندما يسبّك الناس أو يشتمونك، كن في موقع التّوازن..

لذلك، على الإنسان أن يثق بنفسه، وهذا على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمّة أيضاً، يعني مثلاً، يدور كلام في العالم أنّ المسلمين والعرب متخلّفون، حتى إنّ بعض النّاس عندما يقرأ الإعلام الخارجيّ؛ إعلام أوروبّا أو أميركا أو ما إلى ذلك، يفقد ثقته بأمّته ويفقد ثقته بنفسه. ونحن علينا أن ندرس أمَّتنا، وندرس بلدنا، ندرس ما هي نقاط الضَّعف عندنا، وما هي نقاط القوّة، فنعترف بنقاط الضّعف، ونبرز نقاط القوَّة، ونحاول أن نغيّر نقاط الضّعف إلى نقاط قوّة، لأن الآخرين قد يأتون من خلال إعلامهم ليفقدوك ثقتك بنفسك، لأنهم إذا أفقدوك ثقتك بنفسك، انهزمت أمامهم قبل أن تدخل المعركة.

نحن نريد أن تبقى لنا ثقتنا بأنفسنا، لا أن تكون ثقة انتفاخيّة من خلال الغرور، ولكن أن تكون ثقة مدروسة، من خلال أن نعرف ما لنا وما علينا وما عندنا وما ليس عندنا، وعندما يفهم الإنسان نفسه، وعندما تفهم الأمّة نفسها، فإنه لا يستطيع أحد أن يلغيها أو يسقطها. إذا لم تسقط نفسك أنت عند نفسك من الدّاخل، فلن يستطيع أحد أن يسقطك من خلال كلامه، فإن كلام النّاس يذهب مع الهواء، والحقائق هي التي تبقى في العقل والقلب والحياة.

هدف الرّسالة الإسلاميّة

هذان الدَّرسان من دروس الإمام الكاظم(ع)، نستطيع أن نعيشهما في ذكراه، لنتحرّك بهما في كلِّ قضايا حياتنا، وعندما ننطلق مع رسول الله(ص) في مبعثه، والمبعث يعني اليوم الَّذي ولد فيه الإسلام كرسالةٍ أوحى الله بها إلى رسوله حتى يبلغها للنّاس، وليخرج الناس من خلالها من الظّلمات إلى النّور، فإنَّ علينا أن ندرك أنّ يوم المبعث هو من أكثر الأيّام الإسلاميّة قيمةً وعظمةً، لأنّنا في هذا اليوم صرنا مسلمين لله سائرين في خطه بعيداً عن كل الجاهلية الجهلاء.

وهنا نعود إلى الآيات الّتي تلوناها، نجد أنَّ هدف الرّسالة إنما هو أن تكون إنساناً طاهر العقل والقلب والإحساس واليد واللّسان والواقع كلّه، وأن يكون هناك إنسان يملك العقل العميق والعلم الواسع، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}، والتزكية هي عمليّة التّطهير الدّاخلي، بأن تكون الإنسان الّذي يعيش الطهارة الروحيّة والعاطفيّة والعقليّة والشعوريّة والحركيّة، أن يزكّيك، أن تكون الإنسان الزكيّ النَّقيّ الطَّاهر الّذي ينفتح على الله بما يعيشه من خلال السَّلام الرّوحيّ مع الله، وينفتح على النّاس من خلال ما يعيشه من الخير الرّوحي تجاه الناس، وينفتح على الحياة من خلال ما يحمله من روح المسؤوليّة الطاهرة أمام الحياة، {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[13]؛ يعلِّمهم الكتاب، وهو القرآن، والحكمة هي عبارة عن التّطبيق العمليّ للكتاب، وهي، بحسب ما يقولون، تعني وضع الشَّيء في موضعه (الكلمة المناسبة في الموقع المناسب)، بأن يكون الشّخص المناسب في المكان المناسب، والحركة المناسبة في الظّرف المناسب، بحيث تحاول دائماً أن توفّق بين موقفك والظّروف المحيطة بك، فلا تطلق الكلمة كيفما كان، فقد تكون الكلمة في بعض الحالات خيراً، وقد تكون الكلمة نفسها في بعض الحالات شرّاً.

لذلك، يمكن في بعض الحالات أن يعيش النّاس حالة عصبيّة وأجواء ضاغطة، وعندما تأتي الكلمة القويّة، فإنها تحرق البلد. في هذه الحال، الجم كلمتك، ولكن لا تتركها، بل حاول أن تجعلها لموقعٍ آخر وظرفٍ آخر، وكما يقال، هناك "كلمة بتحنّن وكلمة بتجنّن"، فلا بدّ من أن تأتي بها بطريقةٍ تفتح قلوب النّاس على الحنان، وفي بعض الحالات، قد تتكلّم بهذه الكلمة وتثير الجنون، فكما أنّ هناك "كلمة بتحنّن وكلمة بتجنّن"، هناك "ظرف يحنّن وظرف يجنّن"، والحكيم هو الّذي يعرف كيف يختار الكلمة ليوفّق بين ما يريده منها والظّرف الذي يعيش فيه، فقد يكون ظرف عنف، وقد يكون ظرف حرب، وقد يكون ظرف سلام، وقد يكون ظرف عصبيّة، وقد يكون ظرفاً طبيعيّاً، فالكلمة الّتي نحكيها في الظّروف الطبيعيّة، تختلف عن الكلمة التي نحكيها في الظروف غير الطبيعية.

العقل والحكمة أساس الدّعوة

لذلك، أراد الله للمسلمين أن يتعلَّموا الكتاب، وأن يتعلَّموا كيف يحركون الكتاب في المواقع، فتقول كلمة الحقّ في المجال الذي يمكن أن تنتج حقّاً، فقد تنتج كلمة الحقّ في بعض الحالات باطلاً، فتكون "كلمة حقّ يراد بها باطل"[14]. لهذا، لا بدّ للإنسان من أن يدرس كلماته، وأن يدرس مواقفه، ففي بعض الحالات، يكون هذا الموقف خيراً، وفي حالةٍ أخرى يكون شراً، فعلى الإنسان أن يدرس مواقعه، أينما يكون.

إنّ على الإنسان أن يدرس كلماته، وأن يدرس مواقفه، وأن يدرس مواقعه، وأن يدرس علاقاته؛ أن يدرسها من خلال طبيعة الظّروف الموضوعيّة التي تختلف النتائج بحسب اختلافها، وهذا معنى أن يكون الإنسان حكيماً؛ أن يعرف كيف يحرّك معلوماته، وكيف يحرّك خطوطه في الاتجاه الصّحيح، {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فلا يصلح أن تكون مؤمناً وأحمق في الوقت نفسه، والإمام عليّ(ع) يقول: "لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه"[15]، والمقصود هو الجانب المعنويّ، فالأحمق بمجرَّد أن تخطر الكلمة في ذهنه، يقولها ثم يراجع نفسه كيف قالها، بينما يكون قلب العاقل وراء لسانه، فيكون لسانه هو الَّذي يقوده...

"لسان العاقل وراء قلبه"، أمّا العاقل، فإذا طرأت الكلمة في ذهنه، فإنّه يتدبّرها ويدرسها، ليعرف نتائجها، هل تعطي خيراً أو شرّاً؟ فإذا رآها خيراً أبداها، وإذا رآها شرّاً واراها، فلسانه وراء قلبه، وعقله هو القائد له، ولسانه هو الجنديّ التّابع له...{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[16]، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً}[17] على النّاس، لأن الله يأخذ من كل أمة شهيداً، {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً}[18]، فجعله شاهداً ومبشّراً بالجنّة وبالنّتائج الطيّبة، ونذيراً من النّار ومن النّتائج السلبيّة، وداعياً إلى الله بإذنه، لأنّ الله أذن لك بالدّعوة، وسراجاً منيراً، لأنّك تأتي لتخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور.

هذا هو عنوان الدعوة الإسلامية، وعندما انطلق الإسلام في خطّ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإنه أعطى العقل قيمته، واعتبر العقل رسولاً داخليّاً، فالعقل هو الحجة من الله على الإنسان، فسيحاسب الله الإنسان على كلّ ما عمل من خلال عقله، حتى إنّه وردت بعض الأحاديث أنّك إذا عملت عملاً وكان عقلك كبيراً، فإنّ ثوابك يزداد على هذا العمل، وذلك يعني أنّ الله يثيب النّاس على قدر عقولهم، ويحاسب النّاس على قدر عقولهم.

دور العلم في المجتمع

وهكذا، إنَّ الله جعل الحياة قائمةً على العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[19]، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[20]، وهكذا نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى يؤكّد العلم في كلّ موقع من مواقع الإنسان، ويحمّل الإنسان مسؤوليّة كلّ طاقاته في الحياة، ليقول لك: إنَّ طاقتك، سواء كانت طاقة علم أو قوّة أو جاه أو مال أو أيّ شيء، إنَّ طاقتك ليست ملكك بشكلٍ شخصيّ، ولكنَّها ملك الله وملك عباد الله الّذين يحتاجون إليها.

ولذلك، عليك أن تنفتح بطاقاتك لكلِّ من يحتاج إلى هذه الطّاقات، وبذلك اعتبر الإنسان مسؤولاً في حياته، واعتبر كلَّ واحد منّا مسؤولاً عن الحياة كلّها، فأنت مسؤول عن المعروف كيف ترفعه إلى أعلى، وعن المنكر كيف تنزله إلى أسفل، وأنت أيضاً مسؤول عن أن تنطلق مع الحقِّ في كلّ مواقفه، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[21]، {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}[22]، وأراد الله لنا أن نعيش العدل، {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[23]، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[24]، وأرادنا الله أن نبني الحياة على أساس التَّكافؤ بين النَّاس، والتَّكامل بين طاقات النَّاس، والتقدّم في كلِّ مواقع العلم، وأرادنا أن ننفتح على الحياة لنتعرّف كلَّ أسرارها، ولنحرَّك هذه الأسرار في الطّريق الَّذي ينفع مستوى النَّاس.

إنَّ الله أراد لنا من خلال رسالته، أن نصنع حضارة الإنسان في كلِّ زمانٍ ومكانٍ على أساس العقل والوعي والمعرفة والانفتاح على المسؤوليَّة في كلِّ جوانبها، فليس هناك في الحياة شيء اسمه اللامبالاة، أو اسمه الحياد بين الحقّ والباطل، أو اسمه البعد عن المسؤوليَّة. وهذا هو ما ينبغي لنا أن نتحمَّل مسؤوليَّته على مستوى العالم كلِّه، فقد ورد في الحديث: "من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"[25]، إنَّك لا تملك حريَّة أن تعيش بعيداً عن كلِّ الواقع الإسلاميّ الّذي يضجّ من حولك، ولذلك فنحن نعتبر أنفسنا، أيّها الأحبَّة، في هذا الجيل الّذي نعيش فيه ونحن مسلمون، مسؤولين عن الإسلام في الدعوة إليه، وفي العمل به، وفي إدارة المعروف والمنكر في داخل المجتمع الإسلاميّ، وفي مواجهة التحدّيات الكافرة والتحدّيات المستكبرة بكلّ المواقف وبكلّ الأوضاع.

إنَّ الإسلام أمانة الله في أعناق كلّ النّاس، ولا سيّما المسلمين، أن يقوّوه، وأن ينفتحوا عليه بالكلمة وبالفعل وبالعلاقة وبالموقع، وبكلِّ ما يستطيعه الإنسان في حياته، فلم يكن الّذين عاشوا مع النبيّ(ص) من صحابته، أو الَّذين جاؤوا بعده من الأئمّة من أهل بيته ومن التّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين، لم يكونوا وحدهم الَّذين يتحمّلون مسؤوليّة الإسلام، ولكنَّنا نتحمّل مسؤوليَّة الإسلام في بيوتنا، أن تكون بيوتنا بيوتاً مسلمة، وفي مجتمعاتنا، أن تكون مجتمعات مسلمة، وفي سياستنا، وفي اقتصادنا، وفي كلِّ الواقع الَّذي نعيش فيه.

وعندما نطلّ على مسألة الإسراء والمعراج، فإنّنا نعتبر أنها كرامة أكرم الله بها نبيَّه، وأراد له أن ينفتح على كلّ آيات الله، سواء كانت آيات الله في الأرض، أو آيات الله في السماء، ليزداد معرفةً ووعياً، ويعطي الانطباع بأنّ الإسلام دين للدّنيا في ما يحمله للإنسان من المسؤوليّة في إدارة شؤون الدّنيا، وفي معرفة كلّ آيات الله فيها، وهو دين الآخرة، في ما يحقِّقه الإنسان في عمله الصَّالح، المنطلق على أساس الإيمان، من النّتائج في الآخرة .

تحمّل مسؤوليّة الإسلام

في هذا الجوّ، مع هذه الإيحاءات لهذه الذّكريات الثلاث، كيف نواجه، أيّها الأحبّة، مسؤوليتنا في مرحلتنا المعاصرة؟ باعتبار أنّنا الجيل الإسلاميّ في كلّ العالم الإسلامي الذي سيقف غداً بين يدي رسول الله في مرحلة من مراحل الآخرة، ليقول لنا(ص): كيف أدّيتم الأمانة التي أوصلتها إليكم؟ ولنقف بين يدي الله ليقول لنا: "كيف استطعتم أن تحفظوا ديني من الّذين يكيدون له؟

علينا أن نواجه مسؤوليتنا في ذلك، فإنّ الكفر بكلّ فصائله، يتحرك في كلّ ما يعتبره مسؤوليّات له، في مواجهة كلّ التيّارات المضادّة له، كما أنَّ الاستكبار العالمي ينطلق ليدرس كلّ مصالحه في العالم، سواء كانت مصالح دينيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو أمنيّة، ليحدّد مواقفه على هذا الأساس، والكلّ يدرس مواقعه ومواقفه من خلال خطوطه التي رسمها لنفسه، ومن خلال مصالحه التي يديرها في العالم.

ونحن كمسلمين، لا بدَّ لنا من أن نواجه الموقف في ذكرى ولادة الإسلام في مبعث النّبيّ، وفي ذكرى الإسراء والمعراج الَّتي هي حركة الإسلام من خلال النبيّ، في حركة الكون كلّه، وفي ذكرى إمامٍ من أئمّة الإسلام أعطى كلّ حياته للإسلام فكراً وعلماً وجهاداً وشهادةً في سبيل الله. في هذا الموقع، لا بدّ لنا كمسلمين، من أن نتحسّس إسلامنا في فكرنا، فلا نسمح بأن يزحف إلى أفكارنا فكر غير الإسلام الأصيل الذي نأخذه من ينابيعه الأصيلة ومصادره الحقّة، ولا نأخذه كيفما كان من الجهلة ومن المتخلّفين الذين يشوّهون صورته ويفقدونه معناه.

علينا أن نحتفظ بالإسلام في حياتنا قوّة في مجتمعاتنا، وقوّة في سياساتنا، وقوّة في اقتصادنا، وقوّة في أمننا، لأنَّ الله يريد لنا أن نعدّ القوّة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[26]، وأن نقف في مواجهة كلّ الّذين يريدون أن يفرضوا علينا الذلّ، لنقول لهم إننا الأمّة العزيزة التي تؤمن بالله العزيز. ونواجه الّذين يريدون أن يفرضوا علينا الضعف، لنقول لهم: إننا الأمّة القوية التي تؤمن بالله القويّ الذي له القوّة جميعاً، فلا نسمح لأحد بأن يضعفنا.

وعي المشاريع الاستكبارية

وهكذا، أن نعمل على أساس أن نثير وعي القوّة فينا، وأن نثير وعي العزّة فينا، وأن نثير حركة الحريّة في أنفسنا، لأنّ العالم يعمل على طريقة ذئبية، ولا يعمل على طريقة إنسانيّة، وحتّى لو حدَّثونا عن حقوق الإنسان، فإنَّهم يحدّثوننا عن حقوق إنسانهم لا إنساننا، هم يريدون أن يحفظوا إنسانهم، ليكون إنسانهم هو الإنسان القويّ الّذي يعيش الرّخاء، أمّا إنساننا، فلا قيمة له ولا حساب، فإنساننا هو إنسان يستهلك منتجاتهم، ويدافع عن مصالحهم، ويسقط أمام كلّ ضغوطهم، هكذا يريدون.

لذلك، إنَّ العالم المستكبر ذئب في ثوب إنسان، كما يقول ذلك الشّاعر:

الصّيد غيرك إن سهرت فإن تنم            فالصّيد أنت ولحمك المختار

وهناك مصيدة؛ مصيدة سياسية، ومصيدة أمنية، ومصيدة ثقافية، ومصيدة أخلاقيّة واجتماعيّة، وعندما تعرف موقع المصيدة، تستطيع أن تواجهها، فالطَّير عندما يعرف الصّياد ينتبه إليه، والغزال عندما يعرف الصّياد أو يشعر بوجوده، يحاول أن يبحث عن أيّ مكان ليتفاداه، ولكنّ مشكلتنا، أنّنا عندما يأتي الصيّاد إلينا، نكون كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال حتى لا ترى خيال الصّياد، رغم أنّ الصيّاد يراها.

نحن نحاول دائماً أن نجبّن بعضنا بعضاً، وأن نستعجل الضّعف قبل أن يضعفنا الآخرون، وأن نستعجل الذلّ قبل أن يذلّنا الآخرون، وإلا فكيف نفسّر أنَّ الأمَّة لا تقف مع مصلحيها، بل تحاول أن ترجمهم بالحجارة، وأنَّ الأمّة لا تقف مع مجاهديها، بل تحاول أن تطردهم من ساحاتها؟ لماذا تنطلق في الأمّة العناوين والرموز الخائنة والظّالمة والفاسقة، والتي باعت نفسها للعدوّ وللأجنبي، بينما نجد أنّ المخلصين والمصلحين لا تنفتح الأمّة عليهم؟

لأنَّنا لا نعيش الوعي في حجم الأمّة، ولأنّ كل شخص يفكّر في نفسه، بينما القضيّة هي أن نفكّر كأمّة، لأنّ العالم يتعامل معنا كأمّة يريد أن يفتّتها ويريد أن يمزّقها. لماذا نجد أنَّ الأجهزة السياسية والمخابرات الدولية تمنع الوحدة العربية بكلّ قواها الداخلية والخارجية، وتمنع الوحدة الإسلامية والوحدة الوطنية؟ ولماذا الوحدات في العالم الثّالث ممنوعة؟

ولذلك، نجد أنّنا ننقسم عند أيّ هزّة سياسية، وإذا لم ننقسم وحدنا، فإنهم يقسّموننا إلى ما شاء الله، وهناك من يسعى إلى تقسيمنا حتى نصل إلى حدّ يمكن أن يقسّم الإنسان نفسه، بحيث يعيش عقله في داخل نفسه بطريقة، ويعيش قلبه بطريقة أخرى. لذلك، إن العالم يستعدّ لنا، وعلينا أن نستعدّ له أيضاً، نحن لا ندعو إلى أن نكون فوضويّين في العالم، ولكن ندعو إلى أن نبحث عن مواقع القوة لنقف فيها، وأن نتحمّل ضريبة القوة وضريبة المسؤولية.

محاولات تشويه الإسلام

إنَّ هناك حديثاً دائماً في العالم الغربي والعالم المستكبر عن الأصوليّة الإسلاميّة، وعن التطرّف الإسلاميّ، وعن التعصّب الإسلامي، وعن الإرهاب الإسلاميّ. من أين جاءت هذه الكلمات؟ لقد جاءت من خلال القاموس السياسيّ الغربيّ، الّذي يختار لكلِّ مرحلة ولكلّ أمّة كلمات، ويعطيها معاني معيَّنة، حتى تشوّه صورة المعارضين للسياسة الاستكباريّة.

لقد أطلقوا كلمة الأصوليّة الإسلاميّة، ولم يقصدوا منها الحركة الَّتي ترجع إلى الأصوليَّة، بل الحركة التي تعتبر العنف أساس مسيرتها ومواقفها، وتعمل على أن تلغي الآخر، والإسلام ليس كذلك. لقد كانت هناك أصوليّة، ولا تزال هناك أصوليّة يهودية تمثّلها الصهيونيّة، ولكنّ الغرب لا يتحدّث عنها، بل إنَّ أميركا تدخَّلت حتى تسقط الأمم المتَّحدة قرارها باعتبار الصّهيونيّة حركة عنصريَّة ضدّ الإنسان. ولكنّهم يتحدثون عن الإسلاميين بأنه أصوليون، ويقصدون أنّهم عنفيون، وأنّهم يلغون الناس الآخرين ولا يتعايشون معهم.

إنهم يقولون إننا متطرّفون كإسلاميين في كل مكان في العالم، لأننا نريد أن يعيش المسلمون تحت حكم الإسلام، لا تحت حكم الكفر، ويقولون إنّنا متعصبون لأننا نلتزم بالحدود الإسلامية، ويعتقدون أنَّ المرأة التي تلتزم الحجاب متعصّبة، ويعتبرون الرجل الذي لا يشرب الخمر ولا يلعب القمار متعصّباً، فهل هذا تعصّب أو التزام؟ لماذا يكون الّذي لا يشرب الخمر متعصّباً، بينما لا يكون الذي يشرب المخدّرات متعصّباً؟ ما الفرق في ذلك؟ فهذا حرام وذاك حرام؟

 إنَّ العالم الآن يشنّ حملة ضدّ مهرّبي المخدّرات ومنتجيها ومروجيها، وهو يعتبرها حملة إنسانية، لكن عندما ينطلق الإسلام ليقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[27]، فإنهم يعدّون ذلك تخلّفاً، لأنّ الغرب يعتبر الخمر أساساً، وأنّه إذا حرَّم شيئاً فعلينا أن نحرّمه، وإذا حلَّل شيئاً فعلينا أن نحلّله، ولكنّ الحرام عندنا هو ما حرّمه الله، والحلال ما أحلّه الله..

لذلك، إنهم يعتبرون هذا تعصّباً وتطرّفاً، فإذا أردت أن تحافظ على دينك، فأنت متعصّب، وإذا أردت أن تدافع عن حريّتك فأنت إرهابي. إنَّ المجاهدين في جبل عامل والبقاع الغربي في اللّغة الغربيَّة الاستكبارية، إرهابيّون، لأنهم يقفون ضد إسرائيل، ولكن إسرائيل في المنطقة الحدودية وفي داخل فلسطين ليست إرهابيَّة، بل هي تدافع عن نفسها، ونحن لا حقّ لنا في أن ندافع عن أرضنا وعن أنفسنا، ولكنّ اليهود لهم الحقّ في أن يدافعوا عن اغتصابهم للأرض وعن سيطرتهم عليها وعن ظلمهم للنّاس! هذا هو المنطق الموجود، وكما يقول المثل: لا يجتمع صيف وشتاء على سطح واحد، ولكن عند الاستكبار العالميّ، يجتمع الصّيف والشّتاء..

معنى السّماحة في الإسلام

بالأمس، كان هناك حديث لرئيس جمهوريّة فرنسا وهو يتحدَّث عن خطر الأصولية المنطلقة في العالم الإسلامي، وأنَّ على العالم الغربي المتحضّر أن يقف ضد الإسلام، ويقول ـ إذ تبرّع لنا بمدح الإسلام ـ إنَّ الإسلام سمح كريم، ولكن أتعرفون ماذا يريدون من كلمة سمح؟

يريدونه أن يسامح الّذين يضربونه على رأسه، ويسامح الّذين يصادرون ثرواته، وأن يكون كريماً مع كلّ الذين يضطهدونه، وكل الذين يستعمرونه. إنهم يريدوننا أن نكون سمحاء بهذا الشكل، وأن نكون كرماء بأوطاننا، كرماء بحرياتنا، كرماء بعزتنا، كرماء بقوتنا.

إننا كرماء فعلاً، نعطي كلّ الناس محبّة من قلوبنا، ونعطيهم كلّ ما نملكه مما يغني الإنسانيّة، لكن بشرط أن يقف الناس ليعطونا مثل ما نعطي. فأن تشعر بأنّ عليك أن تحمي حريتك ومصالحك، وأنّ عليّ ألا أحمي حريتي ومصالحي منك، فعلى أيّ أساس ذلك؟

نحن نشعر بأنّنا كمسلمين نريد أن نعيش حرّيتنا في العالم، أن تكون لنا حرّيتنا في ممارسة الإسلام، أن نكون مسلمين على مستوى الدّولة وعلى مستوى الواقع، وهذا أمر طبيعي، حتى لا يعيش المسلم ازدواجيّةً بين ما هو القانون وما هو الإسلام، هذا هو تفكيرنا.

وعلى هذا الأساس، ذكرنا أكثر من مرّة ـ ولا زلنا نذكر ـ عندما يقال عن الإسلاميّين إنهم يتحركون في حركة عنف، فإننا نعتقد أنَّ أكثر ما يتحرّك به الإسلاميون، سواء في مصر أو في الجزائر أو في تونس أو في أيّ مكان بالعالم، إنما هو ردّ فعل لعنف الأنظمة، فعندما يأتي نظام ليلغي انتخابات شعبية، فهل هذا رفق أم عنف؟ هل هذه الديمقراطية أو أنها ضد الديمقراطية؟ لماذا لم يقف هذا العالم الذي يتحدث عن الديمقراطية مع الإسلاميين في الجزائر؟ ماذا يطلب الإسلاميّون في مصر؟ إنهم يطلبون أن تكون لهم حرية الحركة السياسية، وأن يكونوا مجرّد فريق كبقية الفرقاء، ولكنّ النّظام لا يعطيهم حريتهم، ويفرض عليهم العنف. لذلك، فهم يدافعون عن أنفسهم، وعندما يتحرك العنف ويمتد، سواء في خطّ الذي يدافع عن نفسه أو الذي يهاجم، فإنه يتحول إلى حالة جنون، وهذا ما عشناه في لبنان.

لذلك، عندما تكون هناك معركة، فلن تستطيع أن تتحدث عن شخص هنا كيف قتل وشخص هناك كيف قتل، نحن لا نريد أن نبرّر كل ما يحدث، لأننا نشعر بأن هناك فوضى بدأت تتحرك، سواء كانت هنا، أو في أيّ مكان من أماكن العنف، ولكن المسألة هي أنّ الذي بدأ العنف هو الّذي يتحمّل مسؤوليّته، لا الذي كان ضحية له، أو الذي كان يدافع عن نفسه من العنف.

مواجهة الحملات الاستكبارية

إننا في ذكرى مبعث النبي(ص)، نحاول أن ننفتح من جديد على مسؤوليتنا عن الإسلام كله في العالم، ولذلك فإننا نواجه الموقف في أفغانستان الذي يدمي قلوبنا جميعاً، من خلال هذه الحرب الداخلية الدائرة بين الفصائل الإسلامية المتنازعة. إننا نقول لهم إنّكم عندما تتحركون، فإنّكم لا تتحركون إسلامياً، حتى لو كانت لأحدكم وجهة نظر تختلف عن وجهة نظر الآخر.

إننا نخشى أن تكون المخابرات الدوليّة هي التي تختفي لتشعل الفتنة هنا وهناك، فيخيّل إلينا أننا ننطلق في حركة جهاد، بينما تكون خلفياتها لعبة يلعبها الاستكبار العالمي الذي لا يريد لأفغانستان أن تربح من تاريخها الجهادي لتكون دولة إسلامية مستقرة تعطي الفرصة لأكثر من دولة إسلامية في المنطقة، حتى في الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي.

إننا نتصور أنَّ هناك لعبة استكباريَّة عالميّة تدخلها أميركا وروسيا وربما أوروبا، من أجل إبقاء الوضع متفجّراً في داخل أفغانستان، حتى يتعب الجميع، وحتى يستطيع الاستكبار العالمي أن يسيطر على الجميع، كما فعل في البوسنة والهرسك اللّتين لا تزال جراحهما تنزف، من دون أن يحرّك أحد في العالم أية مبادرة في هذا المجال. إننا لا بدَّ من أن نواجه هذا الواقع، ولا بدّ لنا من أن نعمل على دعم كلّ موقع إسلامي فيه للإسلام قوّة ورسالة وقضية، ولا سيّما الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، التي أطلقها الإمام الخميني(رضوان الله عليه) من موقع فقه واع، ومن موقع حركة قوية، ومن موقع بطولي في هذا المجال.

إن علينا أن نواجه كلّ الحملات الاستكبارية التي تريد أن تحاصر هذه الجمهورية الإسلامية، سواء في ما يثار ضدّها من مسألة حقوق الإنسان، أو ما يثار ضدها من حصار اقتصادي وثقافي وسياسي وإعلامي، إنّ علينا أن نكون قوّة لها في كلّ مكان في العالم، كما هي قوّة للمسلمين في كل مكان في العالم .

السَّعي لإسقاط فلسطين

وبعد ذلك، نريد أن نواجه بعض القضايا الّتي تتحرّك في منطقتنا، كما تتحرك في بلدنا هذا، إننا لا نزال نواجه اللعبة الدولية التي تحركت في ما تسميه قضية السلام، وفي اتفاق غزة وأريحا. إننا نريد من العرب، أو من كثير من العرب الّذين يلهثون وراء إسرائيل ليتصالحوا معها، وليعقدوا معها اتفاقات دبلوماسية وسياسية واقتصادية وثقافية، ويستعجلون ذلك، نريد منهم أن يراقبوا منظمة التحرير التي أعطت بيدها إعطاء الذّليل عندما وقّعت على الاعتراف بإسرائيل، دون أن تعطيها إسرائيل اعترافاً بفلسطين، ودون أن تعطيها اعترافاً بالدولة الفلسطينيّة، وإنما أعطتها حكماً ذاتياً تريده أن يكون سجناً للفلسطينيين، بحيث يحيط الجيش الإسرائيلي بمناطق الحكم الذاتي من بين يديها ومن خلفها، من دون أن تكون لهم أية قوة في هذا المجال، فحتى لو انسحب الإسرائيليون من الداخل، لكنهم يحيطون بمناطق الحكم الذاتي من الخارج، ويريدون للفلسطينيّين أن يقوموا بالنيابة عنهم بضرب الفلسطينيين المجاهدين.

لاحظوا منظمة التحرير التي قدّمت التنازلات بنسبة 70 أو 80 في المئة لإسرائيل، لاحظوا كيف تريد إسرائيل أن تذلها أكثر، وتريد أن تفرض عليها شروطاً أكثر، وتريد أن تحاصرها أكثر. إننا نجد أنهم يلهثون وراء الوفد الإسرائيلي دون أن يعطيهم شيئاً، لأن إسرائيل لم ترد من الاتفاق أن تعطي الفلسطينيين قوة في بلدهم، وفي بعض أرضهم، ولكنها أرادت أن تجعل من الاتفاق جسراً تعبر عليه إلى البلاد الإسلاميّة وإلى البلاد العربية، حتى تستطيع أن تكون عنصراً مقبولاً في تلك البلادـ من خلال اللعبة الاقتصادية والأمنية والسياسية وما إلى ذلك.

إنَّ كلّ ما تستهدفه إسرائيل، هو أن تجعل الفلسطينيّين بعد تماميّة الاتفاق الذليل بما لا معنى له، أن تجعلهم جسراً للبلاد العربية، حتى ينطلق الفلسطينيون كعرب ليوظفوا موقعهم العربي في البلاد العربية، من أجل فتح المجال للاقتصاد الإسرائيلي على البلاد العربية تحت لافتة الفلسطينيين.

على العرب أن يتعلَّموا ذلك، وأن يتعلَّموا كيف تعمل إسرائيل، ومعها أميركا، للضغط على الواقع العربي، حتى يضعف أكثر وحتى يذل أكثر. ونحن في هذه المناسبة، نرحّب باتفاق الفصائل الفلسطينية العشر المعارضة الرافضة للاتفاق، ولكنّنا لا نريد أن يكون الاتفاق اتفاقاً احتفالياً، بل أن يكون اتفاقاً سياسياً يعمل على إسقاط اتفاق غزّة وأريحا، وعلى تقوية الانتفاضة وتفعيلها، وعلى إيجاد برنامجٍ سياسيّ للمستقبل يكون بديلاً من البرنامج الذي سار عليه النشاط السياسي الفلسطيني، ونريد لهم أن يتكاملوا مع بعضهم البعض، فليست المسألة من يأخذ الحصة أكثر، ومن يكون تمثيله في القيادة الجديدة أكثر، بل المسألة من الذي يجاهد أكثر، ومن الذي يكافح أكثر، ومن الذي يخلص للقضية أكثر .

رفض الفتن والفوضى

وعندما نريد أن نطلّ على الواقع عندنا، فإننا نلاحظ عدّة أمور؛ الأمر الأول هو أنَّ هناك ضجّة في المدة الأخيرة، تحاول أن تثير المسألة الطائفية تارةً في ما هو الصراع المسيحي الإسلامي، كما يقولون، أو تثير المسألة المذهبيّة الأخرى في ما هو الصّراع بين المذاهب، من أجل إنتاج عملية لتعصّب جديد ولحساسيات جديدة ولأوضاع تحمل في داخلها الكثير من عوامل الاهتزاز في البلد، والكثير من عوامل الخطورة لمستقبل البلد.

ونحن في كلّ هذا الجوّ، نريد أن نقول لكلّ المعنيّين، من علماء دين وسياسيين وفعاليات اقتصادية أو اجتماعية: إنّ علينا عندما نريد أن نواجه الأحداث التي تتحرك فيها الحساسيات الطائفية من أجل إنتاجها في اللعبة السياسية في البلد، أو تتحرك فيها الحساسيات المذهبية لإنتاجها في إضعاف الواقع الإسلامي في البلد، لا بدّ لنا من أن نكون دقيقين في مجابهة الفعل في هذا الحدث أو ذاك الحدث، أو هذه المنطقة أو تلك المنطقة، بأن لا تتحرك ردود الفعل بطريقة تثير الحساسيات أكثر من جانب آخر.

نحن في هذا البلد، من موقعنا الإسلاميّ، نقولها بكلّ مسؤوليّة: نحن ضد كلّ فتنة طائفية، ونحن نجد أنّ الفتنة الطائفيّة التي تتحرّك فيها الطائفيّة كوحش يريد أن يثير الحرب بين النّاس، ويريد أن يدمّر مصالح النّاس، هي أمر محرَّم إسلامياً ومسيحياً، لأنَّ قيم الإسلام والمسيحية لا تسمح بأن يتحارب النّاس بين بعضهم البعض على أساس الطائفيّة، لأنّ اختلافنا في الدين كاختلافنا في أيّ شيء، لا بدَّ من أن ينطلق من خلال الكلمة السواء في ما نلتقي فيه، ولا بدَّ من أن ننطلق فيه من الحوار والجدال بالتي هي أحسن في ما نختلف فيه.

إنّ الحساسيات تصنع ناراً تحرق، وتدفع إلى الالتهاب في المشاعر، لذلك نحن في الوقت الذي نشجب كل حدث أو وضع يؤدي إلى فتنة طائفية أو إلى حساسيات طائفية، فإننا نريد أن نقول للذين يواجهون هذه المسألة: لا تحاولوا أن تكون كلماتكم في ردود الفعل كلمات تثير الحساسيات من جانب آخر. لقد سمعنا في هذه الأيام وفي هذا الجوّ، كلمات التطرف والاعتداء، وإنني أدعو كلّ اللّبنانيين من علماء دين وسياسيّين ومثقّفين، إلى أن يجلسوا جلسة عقلانيّة ثقافيّة، ليحدّدوا لنا من خلال طبيعة الخطوط التفصيلية، ما هو مضمون التطرف في حركتنا الدينية والسياسية والاجتماعية؟ وما هو مضمون الاعتدال أو مضمون الالتزام؟

إنني أخشى أن تكون هذه الكلمات كلمات منفوخة بالهواء المضغوط التي نثيرها دون أن نتعرّف معناها، لنلصقها بهذا تارةً وبذاك تارةً أخرى، فهذا المتطرف اليوم معتدل غداً، وهذا المعتدل اليوم متطرّف غداً، وهذا الملتزم متطرف وما إلى ذلك.

حدّدوا الكلمات التي تنطقون بها بالقاموس السياسي، حتى لا تظلموا أحداً عندما توجّهونها في هذا الاتجاه أو ذاك. لذلك نقول إنَّ بلداً تقيمه كلمة وتقعده كلمة، وتثيره كلمة وتهدئه كلمة، لا يجوز أن تكون كلماته فضفاضة لا تعطي أيّ معنى واضح يمكن للنّاس أن يتحاوروا فيه أو يلتقوا حوله. ونحن نريد لكلّ اللّبنانيين أن يلتقوا على وعي المرحلة، وأن لا يبادروا على أساس فرديّ، لأنّ البلد محكوم بتوازنات معيّنة وأوضاع معيّنة.

لذلك، لا بدَّ لكل إنسان في كلِّ موقع، من أن لا يستقلَّ بموقفه، بل لا بدَّ له من أن يتشاور مع الّذين يتحمَّلون مسؤوليَّة الموقف ومسؤوليَّة الموقع.. وأن لا ينطلق ردّ فعل ليفرض نفسه على كلّ الفريق الذي يقوم بردّ الفعل. إنّ العقل هو ما يمكن أن يحفظ البلد، والشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[28]، هو ما يمكن أن يحفظ البلد.

نحن لسنا بحاجةٍ إلى معارك جديدة تثور فيها الحساسيات الطائفية، ولسنا بحاجة إلى حساسيات جديدة تتحرك فيها الفتنة المذهبية، ليتحدَّث إنسان ما في الدائرة الإسلامية السنيَّة بما يثير الدائرة الشيعية، وليتحدّث إنسان في الدائرة الإسلامية الشيعية بما يثير الدائرة الإسلامية السنية. إن الله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نلتقي على كلمة سواء، حتى مع الذين يختلفون معنا في الدين، فكيف لا نلتقي على كلمة سواء ونطلق الكلمة السّواء كخطّ مع الذين نتفق معهم في الدين وفي القرآن؟

الحذر من العدوّ

إنَّ المسألة الّتي لا بدَّ من أن نواجهها في نهاية المطاف، هي أنّنا في ذكرى الإمام السجين، وهو الإمام موسى الكاظم(ع)، نتذكَّر سجناءنا في معتقل الخيام، ونتذكّر سجناءنا في معتقلات إسرائيل في فلسطين المحتلَّة، ونريد للأمّة كلّها أن تتذكَّرهم، ونريد للدّولة أن تتحمل مسؤوليتها تجاههم، ونريد لكلِّ النّاس أن يعيشوا معهم، لنمارس الضّغط، كلّ بحسب طاقته وقدرته.

ونريد للدّولة اللبنانيَّة إذا كانت تحترم شعبها، أن تعتبر قضيّة هؤلاء السجناء قضيتها في كلّ المحافل الدوليَّة، لأنهم هم الّذين يمثلون حركة الحرية في بلدنا وفي حاضرنا ومستقبلنا. ونحن أيضاً في هذه المرحلة، نستمع إلى تهديدات العدوّ الإسرائيلي الَّذي يتحدّث عن أنَّ من الممكن أن يكون هناك تصعيد في جنوب لبنان وفي البقاع الغربي، ونحن نعرف أنّ العدو عندما يتحدث عن تصعيد، فإنّه هو الذي يخطّط للتصعيد، لا على أساس أن المقاومة هي التي تخطّط للتصعيد.

نحن نعرف أنَّ للمقاومة الإسلامية برنامجاً دقيقاً يضع في حسابه كلّ مسؤوليته عن الناس وعن الواقع كلّه وعن حركة الجهاد، لكننا نعرف أن إسرائيل في كل حدث يمرّ بالمنطقة، تعمل على إثارة وضع أمنيّ جديد، وتتخذ من المنطقة المحتلة، ومن جبل عامل والبقاع الغربي، ساحةً للوصول إلى أهدافها، باعتبار أنَّ هناك لقاءً بين الرئيس الأسد وكلينتون، وهناك خطة إسرائيلية من أجل إيجاد وضع أمني يدخل على خطّ هذا الاتفاق.

إن علينا أن نعمل على أساس الحذر من جهة، وعدم السّقوط أمام الخوف من جهة ثانية، لأننا في الوقت الذي ندعو إلى الحذر من كلّ خطوات إسرائيل، نعرف أنها لا تملك حرية الحركة من ناحية أمنيّة، إلا إذا كانت هناك أضواء خضر من الدّول الكبرى. وفي معلوماتنا، أنَّ المسألة ليست بهذه الخطورة، ولكن علينا أن نبقى في حذر من هذه الجهة، وعلينا أن نبقى مع المجاهدين لندعمهم ولنقوّيهم، لأنهم هم الذين يحملون لواء الحرية في البلد.

ونبقى في نهاية المطاف مع واقعنا المعيشيّ، لنسجّل في هذا الموقف، كما سجّلنا في المواقف الأخرى، أن الوضع المعيشي لا يزال في نقطة النزول وفي نقطة السّقوط، فالنّاس لا يزالون يعانون مشكلتهم الغذائيّة ومشكلتهم التربويّة ومشكلتهم الاجتماعيّة، والقضيّة كلّ القضيّة، أن يقف الناس كلّ الناس، بعيداً عن أيّ فواصل طائفيّة، وعن أي فواصل مذهبيّة.

قفوا كلبنانيين يريدون أن يعيشوا بكرامة، ويريدون أن يعيشوا على أساس العزّة وعلى أساس الاكتفاء الذاتي، قفوا لتفرضوا على كلّ حكم وعلى كلّ حكومة، أن تتحرك لتتحمل مسؤوليتها في قضايا الناس الغذائية والمعيشية والتربوية. وإذا لم تتحمَّل أية حكومة مسؤوليَّتها عن شعبها في كلّ قضاياه، فإنَّنا نتساءل: ما معنى أن تبقى تحكم الشعب؟ إنَّ الحكم مسؤوليَّة لمن يعرف كيف يتحرك في خطّ المسؤوليّة بمسؤوليّة، وليس مجرّد امتياز يزهو به هذا، وينتفخ به ذاك.


[1]  [الجمعة : 2].

[2]  [الأحزاب: 45، 46].

[3]  [الإسراء: 1].

[4]  [الأحزاب: 33].

[5]  [آل عمران: 134].

[6]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 48، ص 108.

[7]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 413.

[8]  [البلد: 10].

[9]  تحف العقول، ص 386.

[10]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 19.

[11]  بحار الأنوار، ج 74، ص 66.

[12]  الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

[13]  [الجمعة: 2].

[14]  نهج البلاغة، ج 4، ص 45.

[15]  المصدر نفسه، ج 4، ص 11.

[16]  [الجمعة: 2].

[17]  [الأحزاب: 45].

[18]  [القصص: 75].

[19]  [الزمر: 9].

[20]  [طه: 114].

[21]  [الكهف: 29].

[22]  [الإسراء: 81].

[23]  [النحل: 90].

[24]  [الأنعام: 152].

[25]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 164.

[26]  [الأنفال: 60].

[27]  [المائدة: 90].

[28]  [الشورى: 38].

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في حارة حريك، بتاريخ: 22/1/1415هـ/ الموافق: 01/07/1994م، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين. وهذا ما جاء في خطبته:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[1]، ويقول سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}[2]، ويقول سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[3]، ويقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[4].

في هذه الأيّام، نلتقي بمناسبات ثلاث: في اليوم الخامس والعشرين من شهر رجب، وهو يصادف هذا اليوم، كانت وفاة الإمام السّابع من أئمة أهل البيت(ع)، الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع). وفي السابع والعشرين منه، كانت ذكرى مبعث النبي(ص)، كما هو المشهور عند علماء المسلمين من الشّيعة، وكانت ذكرى الإسراء والمعراج في سنة أخرى طبعاً عند المسلمين بشكل عامّ.

ونحن عندما نعيش هذه الأجواء، لا بدَّ لنا من أن نتوقّف، ولو قليلاً، عند كل واحدة من هذه المناسبات الإسلاميَّة التي تربطنا بالرّسول(ص) وبالأئمة من أهل بيته، وبكلّ ذلك الجيل المجاهد من الصحابة الأوفياء، الذين وفوا لله ولرسوله ولكلِّ المسيرة الإسلاميَّة التي انطلقت منذ انطلق رسول الله(ص) بالدَّعوة حتى وصلت إلينا لنحملها إلى جيل جديد يكمل المسيرة من خلال فكره وتجربته وحركته وقوته، لأنّ كلّ جيل لا بدَّ من أن ينطلق من تجارب الأجيال التي سبقته، حتى يشعر بأنَّ له جذوراً في حركته، وأنَّه لم ينطلق من سطح الأرض، وإنما انطلق ليكون مع الأجيال الماضية ومع الأجيال الآتية كشجرةٍ طيّبة أصلها ثابت ثبات الرّسالة وثبات الدَّعوة وثبات الجهاد وثبات الموقف، أصلها ثابت وفرعها في السَّماء، عندما تتساقط ثمار هذا الفرع في كلّ مكانٍ في العالم وفي كلّ زمان، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها .

رساليَّة الإمام الكاظم

الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع) هو الإمام السَّابع من أئمَّة أهل البيت الإثني عشر(ع)، وإذا كانت الآية نزلت في الخمسة من أهل البيت، محمَّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، فإنّها تمتدّ بإيحاءاتها إلى كلِّ أئمّة أهل البيت(ع)، لأنَّ حديثهم هو حديث رسول الله، ولأنَّ سيرتهم هي سيرة رسول الله، ولأنَّ رسالتهم في كلِّ ما يقولون وما يفعلون، هي الرّسالة الّتي انطلق بها رسول الله(ص)، فهم أهل بيته الّذين عاشوا رسالته، وكان كلّ واحدٍ منهم تجسيداً للرّسالة .

عاش الإمام الكاظم(ع) حياته وأغنى الواقع الإسلاميَّ بكلِّ فكره وفقهه وسيرته وأخلاقه وجهاده، ولكن كان الخلفاء من بني العباس يستشعرون امتداد محبّته وإمامته في حياة المسلمين الواعين الملتزمين، ولذلك فإنهم لم يرتاحوا لهذا الامتداد الرساليّ في الواقع الإسلاميّ لإمامٍ من أئمة أهل البيت(ع)، ولا سيَّما إذا كان هذا الإمام رساليّاً يعطي المجتمع الإسلاميّ في كلّ مكان فكراً إسلاميّاً أصيلاً، وفقهاً إسلاميّاً أصيلاً، وأخلاقاً إسلاميّة منفتحة على أخلاق رسول الله(ص) كما كان ينفتح على الحياة من خلال القرآن، فكان كرسول الله خلقه القرآن، ولذلك كان القدوة في حياته، كما كان صاحب الرسالة في دعوته، وكان يتميز بالأخلاق التي جعلت الناس عندما يتحدّثون عنه يقولون: حدّثني العبد الصالح، وحدّثني موسى الكاظم، باعتبار أنّه كان من الكاظمين للغيظ، يحبس غيظه في صدره، عندما يجد أنَّ ذلك هو الخلق الّذي جعله الله خلق أهل الجنّة: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[5].

وعندما يعيش الضّغوط الصَّعبة من خلال كثيرين من النّاس ممن يكيدون له أو ممن يعادونه، كان يكظم غيظه، لأنّه كان يريد أن يفتح للناس أفق المحبة في ما يعطيهم من محبة، ويعطي الناس روح العفو فيما يقدّمه إليهم من عفو، ويمنح الناس الإحسان من عطائه فيما يقدمه لهم من عطائه، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

معاناة السّجن

وهكذا نجد أنه عانى الكثير الكثير، فقد قضى مدّة طويلة من عمره قاربت الخمس عشرة سنة في سجون هارون الرّشيد، الذي كان ينقله من سجن إلى سجن؛ من سجن البصرة إلى سجن واسط إلى سجن بغداد، وكان يضيّق عليه في سجنه، ويوكل بعض الناس لكي يستمعوا إليه ماذا يقول في دعائه وهو في السِّجن، لعلّه يدعو عليه أو يدعو على سجّانيه، فكانوا يستمعون إليه وهو يقول: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد"[6]. ولهذا كان الموكلون بسجنه يبعثون بتقاريرهم إلى هارون الرّشيد ليقولوا له: ما رأينا منه إلاّ خيراً، وما سمعنا منه إلى خيراً، وما سمعنا منه دعوةً علينا أو دعوةً لنا، ولذلك فإذا لم تتسلَّمه منّا فسنطلق سراحه.

وكان وهو في سجنه، يتّصل بأصحابه ويتّصل به أصحابه، وقلنا إنّ الأساس في هذا السجن وهذا الاضطهاد، لم يكن إلا ذلك الامتداد الرّساليّ الّذي كان يملكه الإمام في المجتمع الإسلامي، وتلك القوّة الصّلبة في مواجهة الموقف.

وينقل أنّ هارون الرّشيد جاء إلى المدينة، ووقف أمام قبر رسول الله، وقال له: "السَّلام عليك يا بن العم"، كأنه يريد أن يقول للناس إنّنا أحقّ بالخلافة، لأننا أبناء عمّ رسول الله، ولم يترك الإمام له هذا الموقف، بل جاء بشكلٍ طبيعيّ، وقال: "السَّلام عليك يا أبتاه"، ليقول له إذا كانت المسألة مسألة قرابة، فإنّنا أقرب إلى رسول الله منك، وإذا كانت المسألة مسألة كفاءة، فما هي كفاءتكم في ما تدَّعون لأنفسكم من هذا الموقع. وقال له مرّة: لماذا تقولون إنكم أقرب إلى رسول الله؟ أنتم أبناء عليّ ابن عمّ رسول الله، ونحن أبناء عمّ رسول الله، وأنتم لستم أبناءه، إنكم أبناء ابنته، وأبناء البنت ليسوا أبناءً للشّخص، فقال له(ع): أسألك سؤالاً، لو كان رسول الله موجوداً، وجاء يخطب ابنتك منك، فهل تقبل؟ قال: إني أتشرف، قال: ولكنَّ رسول الله لا يخطب ابنتي منّي، لأنّ ابنتي هي ابنته.

لم يكن الإمام(ع) يريد أن يعتبر النّسب أساس الإمامة أو أساس الخلافة، ولكنّه أراد أن يردّ ذلك الادّعاء الذي انطلق به بنو العبّاس إلى النّاس باسم قرابتهم لرسول الله(ص)، كان صلب الموقف، وكان المعارض القويّ في كلّ مواقفه هناك، وقضى شهيداً في أحد سجون هارون الرّشيد في بغداد، بعد أن سممه هارون الرّشيد على يد بعض السجّانين.

الوقوف مع الحقِّ والعدل

ونحن عندما نقف أمام التَّاريخ، فإنّنا نريد أن نلتقط من الإمام الكاظم(ع) كلمتين، لأنّ الموقف لا يتَّسع لأكثر من ذلك؛ الكلمة الأولى التي توجَّه بها(ع) إلى كلّ المؤمنين في كلّ زمان ومكان، خاطب بها بعض أصحابه وهو يخاطب كلَّ مؤمن ومؤمنة، قال له: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة..."، قال: وما الإمّعة؟ قال: "أن تقول أنا مع النّاس وأنا كواحد من النّاس، إنّ رسول الله قال: يا أيّها النَّاس، إنَّما هما نجدان: نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشّرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"[7].

إنّه يريد أن يعالج هذه المسألة؛ مسألة الكثيرين من النّاس الّذين لا موقف لهم، فإذا سألتهم عن موقفهم يقولون لك: أنا مع العائلة، مع أهل البلد، مع النّاس، مع الوقت، مع العصر، فما يفعل النّاس أفعله، وما يتحرك به الناس أتحرك به، لا موقف لي، لا رأي لي. هؤلاء الناس الذين يعيشون في الحياة من دون موقف، ويواجهون الأحداث مواجهة اللامبالاة، فلا يعملون على أن يكون لهم فكرهم في ما تختلف فيه الأفكار، أو موقفهم في ما تختلف فيه المواقف، إنّ الإمام يريد أن يقول: كل إنسان في الحياة، لا بدّ من أن يكون له موقف، فهناك خير وشرّ، وهناك حقّ وباطل، ولا بدَّ لك من أن تقرّر أنت قبل أن تقرّر عائلتك، وقبل أن يقرّر أهل بلدك، وقبل أن يقرّر النّاس من حولك، لا بدّ من أن تقرّر: هل أنت مع الحقّ أو مع الباطل؟ وإذا قرَّرت موقفك من خلال قناعتك التي انطلقت من خلال فكر، أو تشاور، أو حوار، أو ما إلى ذلك، عند ذلك تحدّث مع الآخرين ليكون لك رأي في مواجهة آراء الآخرين، حتى إذا أردت أن تسير مع الآخرين الّذين يوافقونك، فإنَّك تسير على أساس أنَّك تتوافق معهم، لا على أساس أنّك تنحني لهم، ولا تقل أنا مع النّاس وأنا كواحد من الناس.. يقول الله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[8]، والنَّجد هو الطّريق: طريق الخير وطريق الشّرّ، إنما هما الحياة كلّها في حياتك الفرديّة، في حياتك الاجتماعيّة، في حياتك السياسيّة، في حياتك الاقتصاديّة، "إنّما هما نجدان: نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشّرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"، "ولكن أبلغ خيراً وقل خيراً"، فكّر في الخير والتزمه وأبلغه، اقتنع بالخير وآمن به وقله في كلِّ مجالاتك.

هذه الكلمة تمثّل خطّاً رسوليّاً انطلق فيه الإمام من خلال كلام رسول الله(ص)، ويريد لنا أن لا نكون الحياديّين الّذين لا رأي لهم، وأن لا نكون المتحرّكين مع المجتمع، بحيث يكون المجتمع هو الّذي يسيّر خطانا دون أن نكون جزءاً من قراره. اسمع المجتمع، ولكن لتكن جزءاً من قراره، عش مع وطنك، ولكن لتكن أنت جزءاً من قرار وطنك، أن لا يكون دورك دور المنفعل، ولكن أن يكون دورك دوراً فاعلاً، لأنّ الله سوف يسألك عن موقفك ما هو، لا عن موقف الآخرين، وإذا كنت تسير مع الآخرين، فالله يقول لك: ما حجّتك في السّير معهم؟ ما حجّتك في السّير مع أهلك ومع عائلتك ومع أهل بلدك؟ هل هم حجّة لك أمام الله؟ ولا بدّ لك من أن تحضّر لكلّ سؤال جواب، يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها.

أهمية الثقة بالنفس

والكلمة الثانية قالها الإمام لصاحبه هشام بن الحكم، وهو من المفكّرين الكبار المعروفين في الثّقافة الإسلاميّة من تلامذة الإمام الكاظم، كما كان من تلامذة الإمام الصّادق(ع)، قال: "يا هشام، لو كان في يدك جوزة وقال النّاس في يدك لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال النّاس إنّها جوزة، ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤة"[9].

ما هي إيحاءات هذه الكلمة؟ لا تأخذ ثقتك بنفسك من خلال كلام النّاس، ولكن لتكن ثقتك بنفسك من خلال ما تعرفه أنت من نفسك. لو قال النّاس عنك إنّك أعظم العلماء وأعظم المفكّرين وأعظم المجاهدين، ولكنّك عندما تجلس مع نفسك، لا تجد أيَّ مصداق في كلّ ما قالوه، ما قيمة أن يمدحك الناس بأنك إنسان تمتلئ علماً وجهاداً، وأنت تعرف أنّك فارغ من العلم والجهاد؟ وربما كان هؤلاء النّاس الذين يعطونك ألقاباً لا تستحقّها، ربما كانوا يضحكون عليك، ويسخرون منك، ويحاولون أن يبتزّوك في ما يقدّمون لك من مدائح وألقاب وما إلى ذلك.

ولو أنَّ النّاس قالت عنك كلّ سوء، وقالت عنك إنّك إنسان فارغ، لا علم لك، لا دين لك، لا جهاد لك، وأنت تعرف أنك تملك الكثير من ذلك، فلا تفقد ثقتك بنفسك من خلال كلام الناس السلبي عنك، ادرس نفسك، اعرف نفسك، افهم نفسك، وحاول أن تحدّد لنفسك حجمها من خلال وعيك، لا من خلال كلام النّاس عنك.

نحن نقرأ في كلام عليّ بن أبي طالب(ع)، أنّه جاءه شخص يتزلّف له (يمدحه)، وهو يعرف أنّه من أعدائه وأنّه لا يثق به، ماذا قال له عليّ(ع)؟ قال: "أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك"[10]، فأنا أعرف ما تعتقد بي، أنا أعظم مما تعتقد بي، لأني أفهم نفسي تماماً، وأقلّ من هذا الكلام الّذي تقوله، والإمام بذلك حافظ على التّوازن.

 وعندما كان الإمام يسمع بعض النّاس يمدحونه، كان يدعو الله فيقول: "اللّهمّ اجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون"[11]. وكان الإمام زين العابدين(ع) يقول: "اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمد، ولا ترفعني في النّاس درجةً، إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً، إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها"[12]. فعندما يهتف النّاس لك، لا يشغلك هتافهم، ولكن انزل إلى نفسك، وقارن بين هتافهم وما تعرفه من نفسك، وعندما يعطيك الناس مواقع العزِّ، لا تنتفخ غروراً بذلك، ولكن انزل إلى نفسك حتى تستشعر الذلّة في نفسك من خلال ما تعرفه من عيوبها وسيّئاتها، فهذا هو التوازن. ولا تستعر ثقتك بنفسك من خلال كلام الناس لتصعد عند نفسك عندما يهتف الناس لك، أو تنزل عند نفسك عندما يسبّك الناس أو يشتمونك، كن في موقع التّوازن..

لذلك، على الإنسان أن يثق بنفسه، وهذا على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمّة أيضاً، يعني مثلاً، يدور كلام في العالم أنّ المسلمين والعرب متخلّفون، حتى إنّ بعض النّاس عندما يقرأ الإعلام الخارجيّ؛ إعلام أوروبّا أو أميركا أو ما إلى ذلك، يفقد ثقته بأمّته ويفقد ثقته بنفسه. ونحن علينا أن ندرس أمَّتنا، وندرس بلدنا، ندرس ما هي نقاط الضَّعف عندنا، وما هي نقاط القوّة، فنعترف بنقاط الضّعف، ونبرز نقاط القوَّة، ونحاول أن نغيّر نقاط الضّعف إلى نقاط قوّة، لأن الآخرين قد يأتون من خلال إعلامهم ليفقدوك ثقتك بنفسك، لأنهم إذا أفقدوك ثقتك بنفسك، انهزمت أمامهم قبل أن تدخل المعركة.

نحن نريد أن تبقى لنا ثقتنا بأنفسنا، لا أن تكون ثقة انتفاخيّة من خلال الغرور، ولكن أن تكون ثقة مدروسة، من خلال أن نعرف ما لنا وما علينا وما عندنا وما ليس عندنا، وعندما يفهم الإنسان نفسه، وعندما تفهم الأمّة نفسها، فإنه لا يستطيع أحد أن يلغيها أو يسقطها. إذا لم تسقط نفسك أنت عند نفسك من الدّاخل، فلن يستطيع أحد أن يسقطك من خلال كلامه، فإن كلام النّاس يذهب مع الهواء، والحقائق هي التي تبقى في العقل والقلب والحياة.

هدف الرّسالة الإسلاميّة

هذان الدَّرسان من دروس الإمام الكاظم(ع)، نستطيع أن نعيشهما في ذكراه، لنتحرّك بهما في كلِّ قضايا حياتنا، وعندما ننطلق مع رسول الله(ص) في مبعثه، والمبعث يعني اليوم الَّذي ولد فيه الإسلام كرسالةٍ أوحى الله بها إلى رسوله حتى يبلغها للنّاس، وليخرج الناس من خلالها من الظّلمات إلى النّور، فإنَّ علينا أن ندرك أنّ يوم المبعث هو من أكثر الأيّام الإسلاميّة قيمةً وعظمةً، لأنّنا في هذا اليوم صرنا مسلمين لله سائرين في خطه بعيداً عن كل الجاهلية الجهلاء.

وهنا نعود إلى الآيات الّتي تلوناها، نجد أنَّ هدف الرّسالة إنما هو أن تكون إنساناً طاهر العقل والقلب والإحساس واليد واللّسان والواقع كلّه، وأن يكون هناك إنسان يملك العقل العميق والعلم الواسع، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}، والتزكية هي عمليّة التّطهير الدّاخلي، بأن تكون الإنسان الّذي يعيش الطهارة الروحيّة والعاطفيّة والعقليّة والشعوريّة والحركيّة، أن يزكّيك، أن تكون الإنسان الزكيّ النَّقيّ الطَّاهر الّذي ينفتح على الله بما يعيشه من خلال السَّلام الرّوحيّ مع الله، وينفتح على النّاس من خلال ما يعيشه من الخير الرّوحي تجاه الناس، وينفتح على الحياة من خلال ما يحمله من روح المسؤوليّة الطاهرة أمام الحياة، {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[13]؛ يعلِّمهم الكتاب، وهو القرآن، والحكمة هي عبارة عن التّطبيق العمليّ للكتاب، وهي، بحسب ما يقولون، تعني وضع الشَّيء في موضعه (الكلمة المناسبة في الموقع المناسب)، بأن يكون الشّخص المناسب في المكان المناسب، والحركة المناسبة في الظّرف المناسب، بحيث تحاول دائماً أن توفّق بين موقفك والظّروف المحيطة بك، فلا تطلق الكلمة كيفما كان، فقد تكون الكلمة في بعض الحالات خيراً، وقد تكون الكلمة نفسها في بعض الحالات شرّاً.

لذلك، يمكن في بعض الحالات أن يعيش النّاس حالة عصبيّة وأجواء ضاغطة، وعندما تأتي الكلمة القويّة، فإنها تحرق البلد. في هذه الحال، الجم كلمتك، ولكن لا تتركها، بل حاول أن تجعلها لموقعٍ آخر وظرفٍ آخر، وكما يقال، هناك "كلمة بتحنّن وكلمة بتجنّن"، فلا بدّ من أن تأتي بها بطريقةٍ تفتح قلوب النّاس على الحنان، وفي بعض الحالات، قد تتكلّم بهذه الكلمة وتثير الجنون، فكما أنّ هناك "كلمة بتحنّن وكلمة بتجنّن"، هناك "ظرف يحنّن وظرف يجنّن"، والحكيم هو الّذي يعرف كيف يختار الكلمة ليوفّق بين ما يريده منها والظّرف الذي يعيش فيه، فقد يكون ظرف عنف، وقد يكون ظرف حرب، وقد يكون ظرف سلام، وقد يكون ظرف عصبيّة، وقد يكون ظرفاً طبيعيّاً، فالكلمة الّتي نحكيها في الظّروف الطبيعيّة، تختلف عن الكلمة التي نحكيها في الظروف غير الطبيعية.

العقل والحكمة أساس الدّعوة

لذلك، أراد الله للمسلمين أن يتعلَّموا الكتاب، وأن يتعلَّموا كيف يحركون الكتاب في المواقع، فتقول كلمة الحقّ في المجال الذي يمكن أن تنتج حقّاً، فقد تنتج كلمة الحقّ في بعض الحالات باطلاً، فتكون "كلمة حقّ يراد بها باطل"[14]. لهذا، لا بدّ للإنسان من أن يدرس كلماته، وأن يدرس مواقفه، ففي بعض الحالات، يكون هذا الموقف خيراً، وفي حالةٍ أخرى يكون شراً، فعلى الإنسان أن يدرس مواقعه، أينما يكون.

إنّ على الإنسان أن يدرس كلماته، وأن يدرس مواقفه، وأن يدرس مواقعه، وأن يدرس علاقاته؛ أن يدرسها من خلال طبيعة الظّروف الموضوعيّة التي تختلف النتائج بحسب اختلافها، وهذا معنى أن يكون الإنسان حكيماً؛ أن يعرف كيف يحرّك معلوماته، وكيف يحرّك خطوطه في الاتجاه الصّحيح، {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فلا يصلح أن تكون مؤمناً وأحمق في الوقت نفسه، والإمام عليّ(ع) يقول: "لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه"[15]، والمقصود هو الجانب المعنويّ، فالأحمق بمجرَّد أن تخطر الكلمة في ذهنه، يقولها ثم يراجع نفسه كيف قالها، بينما يكون قلب العاقل وراء لسانه، فيكون لسانه هو الَّذي يقوده...

"لسان العاقل وراء قلبه"، أمّا العاقل، فإذا طرأت الكلمة في ذهنه، فإنّه يتدبّرها ويدرسها، ليعرف نتائجها، هل تعطي خيراً أو شرّاً؟ فإذا رآها خيراً أبداها، وإذا رآها شرّاً واراها، فلسانه وراء قلبه، وعقله هو القائد له، ولسانه هو الجنديّ التّابع له...{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[16]، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً}[17] على النّاس، لأن الله يأخذ من كل أمة شهيداً، {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً}[18]، فجعله شاهداً ومبشّراً بالجنّة وبالنّتائج الطيّبة، ونذيراً من النّار ومن النّتائج السلبيّة، وداعياً إلى الله بإذنه، لأنّ الله أذن لك بالدّعوة، وسراجاً منيراً، لأنّك تأتي لتخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور.

هذا هو عنوان الدعوة الإسلامية، وعندما انطلق الإسلام في خطّ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإنه أعطى العقل قيمته، واعتبر العقل رسولاً داخليّاً، فالعقل هو الحجة من الله على الإنسان، فسيحاسب الله الإنسان على كلّ ما عمل من خلال عقله، حتى إنّه وردت بعض الأحاديث أنّك إذا عملت عملاً وكان عقلك كبيراً، فإنّ ثوابك يزداد على هذا العمل، وذلك يعني أنّ الله يثيب النّاس على قدر عقولهم، ويحاسب النّاس على قدر عقولهم.

دور العلم في المجتمع

وهكذا، إنَّ الله جعل الحياة قائمةً على العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[19]، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[20]، وهكذا نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى يؤكّد العلم في كلّ موقع من مواقع الإنسان، ويحمّل الإنسان مسؤوليّة كلّ طاقاته في الحياة، ليقول لك: إنَّ طاقتك، سواء كانت طاقة علم أو قوّة أو جاه أو مال أو أيّ شيء، إنَّ طاقتك ليست ملكك بشكلٍ شخصيّ، ولكنَّها ملك الله وملك عباد الله الّذين يحتاجون إليها.

ولذلك، عليك أن تنفتح بطاقاتك لكلِّ من يحتاج إلى هذه الطّاقات، وبذلك اعتبر الإنسان مسؤولاً في حياته، واعتبر كلَّ واحد منّا مسؤولاً عن الحياة كلّها، فأنت مسؤول عن المعروف كيف ترفعه إلى أعلى، وعن المنكر كيف تنزله إلى أسفل، وأنت أيضاً مسؤول عن أن تنطلق مع الحقِّ في كلّ مواقفه، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[21]، {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}[22]، وأراد الله لنا أن نعيش العدل، {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[23]، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[24]، وأرادنا الله أن نبني الحياة على أساس التَّكافؤ بين النَّاس، والتَّكامل بين طاقات النَّاس، والتقدّم في كلِّ مواقع العلم، وأرادنا أن ننفتح على الحياة لنتعرّف كلَّ أسرارها، ولنحرَّك هذه الأسرار في الطّريق الَّذي ينفع مستوى النَّاس.

إنَّ الله أراد لنا من خلال رسالته، أن نصنع حضارة الإنسان في كلِّ زمانٍ ومكانٍ على أساس العقل والوعي والمعرفة والانفتاح على المسؤوليَّة في كلِّ جوانبها، فليس هناك في الحياة شيء اسمه اللامبالاة، أو اسمه الحياد بين الحقّ والباطل، أو اسمه البعد عن المسؤوليَّة. وهذا هو ما ينبغي لنا أن نتحمَّل مسؤوليَّته على مستوى العالم كلِّه، فقد ورد في الحديث: "من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"[25]، إنَّك لا تملك حريَّة أن تعيش بعيداً عن كلِّ الواقع الإسلاميّ الّذي يضجّ من حولك، ولذلك فنحن نعتبر أنفسنا، أيّها الأحبَّة، في هذا الجيل الّذي نعيش فيه ونحن مسلمون، مسؤولين عن الإسلام في الدعوة إليه، وفي العمل به، وفي إدارة المعروف والمنكر في داخل المجتمع الإسلاميّ، وفي مواجهة التحدّيات الكافرة والتحدّيات المستكبرة بكلّ المواقف وبكلّ الأوضاع.

إنَّ الإسلام أمانة الله في أعناق كلّ النّاس، ولا سيّما المسلمين، أن يقوّوه، وأن ينفتحوا عليه بالكلمة وبالفعل وبالعلاقة وبالموقع، وبكلِّ ما يستطيعه الإنسان في حياته، فلم يكن الّذين عاشوا مع النبيّ(ص) من صحابته، أو الَّذين جاؤوا بعده من الأئمّة من أهل بيته ومن التّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين، لم يكونوا وحدهم الَّذين يتحمّلون مسؤوليّة الإسلام، ولكنَّنا نتحمّل مسؤوليَّة الإسلام في بيوتنا، أن تكون بيوتنا بيوتاً مسلمة، وفي مجتمعاتنا، أن تكون مجتمعات مسلمة، وفي سياستنا، وفي اقتصادنا، وفي كلِّ الواقع الَّذي نعيش فيه.

وعندما نطلّ على مسألة الإسراء والمعراج، فإنّنا نعتبر أنها كرامة أكرم الله بها نبيَّه، وأراد له أن ينفتح على كلّ آيات الله، سواء كانت آيات الله في الأرض، أو آيات الله في السماء، ليزداد معرفةً ووعياً، ويعطي الانطباع بأنّ الإسلام دين للدّنيا في ما يحمله للإنسان من المسؤوليّة في إدارة شؤون الدّنيا، وفي معرفة كلّ آيات الله فيها، وهو دين الآخرة، في ما يحقِّقه الإنسان في عمله الصَّالح، المنطلق على أساس الإيمان، من النّتائج في الآخرة .

تحمّل مسؤوليّة الإسلام

في هذا الجوّ، مع هذه الإيحاءات لهذه الذّكريات الثلاث، كيف نواجه، أيّها الأحبّة، مسؤوليتنا في مرحلتنا المعاصرة؟ باعتبار أنّنا الجيل الإسلاميّ في كلّ العالم الإسلامي الذي سيقف غداً بين يدي رسول الله في مرحلة من مراحل الآخرة، ليقول لنا(ص): كيف أدّيتم الأمانة التي أوصلتها إليكم؟ ولنقف بين يدي الله ليقول لنا: "كيف استطعتم أن تحفظوا ديني من الّذين يكيدون له؟

علينا أن نواجه مسؤوليتنا في ذلك، فإنّ الكفر بكلّ فصائله، يتحرك في كلّ ما يعتبره مسؤوليّات له، في مواجهة كلّ التيّارات المضادّة له، كما أنَّ الاستكبار العالمي ينطلق ليدرس كلّ مصالحه في العالم، سواء كانت مصالح دينيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو أمنيّة، ليحدّد مواقفه على هذا الأساس، والكلّ يدرس مواقعه ومواقفه من خلال خطوطه التي رسمها لنفسه، ومن خلال مصالحه التي يديرها في العالم.

ونحن كمسلمين، لا بدَّ لنا من أن نواجه الموقف في ذكرى ولادة الإسلام في مبعث النّبيّ، وفي ذكرى الإسراء والمعراج الَّتي هي حركة الإسلام من خلال النبيّ، في حركة الكون كلّه، وفي ذكرى إمامٍ من أئمّة الإسلام أعطى كلّ حياته للإسلام فكراً وعلماً وجهاداً وشهادةً في سبيل الله. في هذا الموقع، لا بدّ لنا كمسلمين، من أن نتحسّس إسلامنا في فكرنا، فلا نسمح بأن يزحف إلى أفكارنا فكر غير الإسلام الأصيل الذي نأخذه من ينابيعه الأصيلة ومصادره الحقّة، ولا نأخذه كيفما كان من الجهلة ومن المتخلّفين الذين يشوّهون صورته ويفقدونه معناه.

علينا أن نحتفظ بالإسلام في حياتنا قوّة في مجتمعاتنا، وقوّة في سياساتنا، وقوّة في اقتصادنا، وقوّة في أمننا، لأنَّ الله يريد لنا أن نعدّ القوّة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}[26]، وأن نقف في مواجهة كلّ الّذين يريدون أن يفرضوا علينا الذلّ، لنقول لهم إننا الأمّة العزيزة التي تؤمن بالله العزيز. ونواجه الّذين يريدون أن يفرضوا علينا الضعف، لنقول لهم: إننا الأمّة القوية التي تؤمن بالله القويّ الذي له القوّة جميعاً، فلا نسمح لأحد بأن يضعفنا.

وعي المشاريع الاستكبارية

وهكذا، أن نعمل على أساس أن نثير وعي القوّة فينا، وأن نثير وعي العزّة فينا، وأن نثير حركة الحريّة في أنفسنا، لأنّ العالم يعمل على طريقة ذئبية، ولا يعمل على طريقة إنسانيّة، وحتّى لو حدَّثونا عن حقوق الإنسان، فإنَّهم يحدّثوننا عن حقوق إنسانهم لا إنساننا، هم يريدون أن يحفظوا إنسانهم، ليكون إنسانهم هو الإنسان القويّ الّذي يعيش الرّخاء، أمّا إنساننا، فلا قيمة له ولا حساب، فإنساننا هو إنسان يستهلك منتجاتهم، ويدافع عن مصالحهم، ويسقط أمام كلّ ضغوطهم، هكذا يريدون.

لذلك، إنَّ العالم المستكبر ذئب في ثوب إنسان، كما يقول ذلك الشّاعر:

الصّيد غيرك إن سهرت فإن تنم            فالصّيد أنت ولحمك المختار

وهناك مصيدة؛ مصيدة سياسية، ومصيدة أمنية، ومصيدة ثقافية، ومصيدة أخلاقيّة واجتماعيّة، وعندما تعرف موقع المصيدة، تستطيع أن تواجهها، فالطَّير عندما يعرف الصّياد ينتبه إليه، والغزال عندما يعرف الصّياد أو يشعر بوجوده، يحاول أن يبحث عن أيّ مكان ليتفاداه، ولكنّ مشكلتنا، أنّنا عندما يأتي الصيّاد إلينا، نكون كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال حتى لا ترى خيال الصّياد، رغم أنّ الصيّاد يراها.

نحن نحاول دائماً أن نجبّن بعضنا بعضاً، وأن نستعجل الضّعف قبل أن يضعفنا الآخرون، وأن نستعجل الذلّ قبل أن يذلّنا الآخرون، وإلا فكيف نفسّر أنَّ الأمَّة لا تقف مع مصلحيها، بل تحاول أن ترجمهم بالحجارة، وأنَّ الأمّة لا تقف مع مجاهديها، بل تحاول أن تطردهم من ساحاتها؟ لماذا تنطلق في الأمّة العناوين والرموز الخائنة والظّالمة والفاسقة، والتي باعت نفسها للعدوّ وللأجنبي، بينما نجد أنّ المخلصين والمصلحين لا تنفتح الأمّة عليهم؟

لأنَّنا لا نعيش الوعي في حجم الأمّة، ولأنّ كل شخص يفكّر في نفسه، بينما القضيّة هي أن نفكّر كأمّة، لأنّ العالم يتعامل معنا كأمّة يريد أن يفتّتها ويريد أن يمزّقها. لماذا نجد أنَّ الأجهزة السياسية والمخابرات الدولية تمنع الوحدة العربية بكلّ قواها الداخلية والخارجية، وتمنع الوحدة الإسلامية والوحدة الوطنية؟ ولماذا الوحدات في العالم الثّالث ممنوعة؟

ولذلك، نجد أنّنا ننقسم عند أيّ هزّة سياسية، وإذا لم ننقسم وحدنا، فإنهم يقسّموننا إلى ما شاء الله، وهناك من يسعى إلى تقسيمنا حتى نصل إلى حدّ يمكن أن يقسّم الإنسان نفسه، بحيث يعيش عقله في داخل نفسه بطريقة، ويعيش قلبه بطريقة أخرى. لذلك، إن العالم يستعدّ لنا، وعلينا أن نستعدّ له أيضاً، نحن لا ندعو إلى أن نكون فوضويّين في العالم، ولكن ندعو إلى أن نبحث عن مواقع القوة لنقف فيها، وأن نتحمّل ضريبة القوة وضريبة المسؤولية.

محاولات تشويه الإسلام

إنَّ هناك حديثاً دائماً في العالم الغربي والعالم المستكبر عن الأصوليّة الإسلاميّة، وعن التطرّف الإسلاميّ، وعن التعصّب الإسلامي، وعن الإرهاب الإسلاميّ. من أين جاءت هذه الكلمات؟ لقد جاءت من خلال القاموس السياسيّ الغربيّ، الّذي يختار لكلِّ مرحلة ولكلّ أمّة كلمات، ويعطيها معاني معيَّنة، حتى تشوّه صورة المعارضين للسياسة الاستكباريّة.

لقد أطلقوا كلمة الأصوليّة الإسلاميّة، ولم يقصدوا منها الحركة الَّتي ترجع إلى الأصوليَّة، بل الحركة التي تعتبر العنف أساس مسيرتها ومواقفها، وتعمل على أن تلغي الآخر، والإسلام ليس كذلك. لقد كانت هناك أصوليّة، ولا تزال هناك أصوليّة يهودية تمثّلها الصهيونيّة، ولكنّ الغرب لا يتحدّث عنها، بل إنَّ أميركا تدخَّلت حتى تسقط الأمم المتَّحدة قرارها باعتبار الصّهيونيّة حركة عنصريَّة ضدّ الإنسان. ولكنّهم يتحدثون عن الإسلاميين بأنه أصوليون، ويقصدون أنّهم عنفيون، وأنّهم يلغون الناس الآخرين ولا يتعايشون معهم.

إنهم يقولون إننا متطرّفون كإسلاميين في كل مكان في العالم، لأننا نريد أن يعيش المسلمون تحت حكم الإسلام، لا تحت حكم الكفر، ويقولون إنّنا متعصبون لأننا نلتزم بالحدود الإسلامية، ويعتقدون أنَّ المرأة التي تلتزم الحجاب متعصّبة، ويعتبرون الرجل الذي لا يشرب الخمر ولا يلعب القمار متعصّباً، فهل هذا تعصّب أو التزام؟ لماذا يكون الّذي لا يشرب الخمر متعصّباً، بينما لا يكون الذي يشرب المخدّرات متعصّباً؟ ما الفرق في ذلك؟ فهذا حرام وذاك حرام؟

 إنَّ العالم الآن يشنّ حملة ضدّ مهرّبي المخدّرات ومنتجيها ومروجيها، وهو يعتبرها حملة إنسانية، لكن عندما ينطلق الإسلام ليقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[27]، فإنهم يعدّون ذلك تخلّفاً، لأنّ الغرب يعتبر الخمر أساساً، وأنّه إذا حرَّم شيئاً فعلينا أن نحرّمه، وإذا حلَّل شيئاً فعلينا أن نحلّله، ولكنّ الحرام عندنا هو ما حرّمه الله، والحلال ما أحلّه الله..

لذلك، إنهم يعتبرون هذا تعصّباً وتطرّفاً، فإذا أردت أن تحافظ على دينك، فأنت متعصّب، وإذا أردت أن تدافع عن حريّتك فأنت إرهابي. إنَّ المجاهدين في جبل عامل والبقاع الغربي في اللّغة الغربيَّة الاستكبارية، إرهابيّون، لأنهم يقفون ضد إسرائيل، ولكن إسرائيل في المنطقة الحدودية وفي داخل فلسطين ليست إرهابيَّة، بل هي تدافع عن نفسها، ونحن لا حقّ لنا في أن ندافع عن أرضنا وعن أنفسنا، ولكنّ اليهود لهم الحقّ في أن يدافعوا عن اغتصابهم للأرض وعن سيطرتهم عليها وعن ظلمهم للنّاس! هذا هو المنطق الموجود، وكما يقول المثل: لا يجتمع صيف وشتاء على سطح واحد، ولكن عند الاستكبار العالميّ، يجتمع الصّيف والشّتاء..

معنى السّماحة في الإسلام

بالأمس، كان هناك حديث لرئيس جمهوريّة فرنسا وهو يتحدَّث عن خطر الأصولية المنطلقة في العالم الإسلامي، وأنَّ على العالم الغربي المتحضّر أن يقف ضد الإسلام، ويقول ـ إذ تبرّع لنا بمدح الإسلام ـ إنَّ الإسلام سمح كريم، ولكن أتعرفون ماذا يريدون من كلمة سمح؟

يريدونه أن يسامح الّذين يضربونه على رأسه، ويسامح الّذين يصادرون ثرواته، وأن يكون كريماً مع كلّ الذين يضطهدونه، وكل الذين يستعمرونه. إنهم يريدوننا أن نكون سمحاء بهذا الشكل، وأن نكون كرماء بأوطاننا، كرماء بحرياتنا، كرماء بعزتنا، كرماء بقوتنا.

إننا كرماء فعلاً، نعطي كلّ الناس محبّة من قلوبنا، ونعطيهم كلّ ما نملكه مما يغني الإنسانيّة، لكن بشرط أن يقف الناس ليعطونا مثل ما نعطي. فأن تشعر بأنّ عليك أن تحمي حريتك ومصالحك، وأنّ عليّ ألا أحمي حريتي ومصالحي منك، فعلى أيّ أساس ذلك؟

نحن نشعر بأنّنا كمسلمين نريد أن نعيش حرّيتنا في العالم، أن تكون لنا حرّيتنا في ممارسة الإسلام، أن نكون مسلمين على مستوى الدّولة وعلى مستوى الواقع، وهذا أمر طبيعي، حتى لا يعيش المسلم ازدواجيّةً بين ما هو القانون وما هو الإسلام، هذا هو تفكيرنا.

وعلى هذا الأساس، ذكرنا أكثر من مرّة ـ ولا زلنا نذكر ـ عندما يقال عن الإسلاميّين إنهم يتحركون في حركة عنف، فإننا نعتقد أنَّ أكثر ما يتحرّك به الإسلاميون، سواء في مصر أو في الجزائر أو في تونس أو في أيّ مكان بالعالم، إنما هو ردّ فعل لعنف الأنظمة، فعندما يأتي نظام ليلغي انتخابات شعبية، فهل هذا رفق أم عنف؟ هل هذه الديمقراطية أو أنها ضد الديمقراطية؟ لماذا لم يقف هذا العالم الذي يتحدث عن الديمقراطية مع الإسلاميين في الجزائر؟ ماذا يطلب الإسلاميّون في مصر؟ إنهم يطلبون أن تكون لهم حرية الحركة السياسية، وأن يكونوا مجرّد فريق كبقية الفرقاء، ولكنّ النّظام لا يعطيهم حريتهم، ويفرض عليهم العنف. لذلك، فهم يدافعون عن أنفسهم، وعندما يتحرك العنف ويمتد، سواء في خطّ الذي يدافع عن نفسه أو الذي يهاجم، فإنه يتحول إلى حالة جنون، وهذا ما عشناه في لبنان.

لذلك، عندما تكون هناك معركة، فلن تستطيع أن تتحدث عن شخص هنا كيف قتل وشخص هناك كيف قتل، نحن لا نريد أن نبرّر كل ما يحدث، لأننا نشعر بأن هناك فوضى بدأت تتحرك، سواء كانت هنا، أو في أيّ مكان من أماكن العنف، ولكن المسألة هي أنّ الذي بدأ العنف هو الّذي يتحمّل مسؤوليّته، لا الذي كان ضحية له، أو الذي كان يدافع عن نفسه من العنف.

مواجهة الحملات الاستكبارية

إننا في ذكرى مبعث النبي(ص)، نحاول أن ننفتح من جديد على مسؤوليتنا عن الإسلام كله في العالم، ولذلك فإننا نواجه الموقف في أفغانستان الذي يدمي قلوبنا جميعاً، من خلال هذه الحرب الداخلية الدائرة بين الفصائل الإسلامية المتنازعة. إننا نقول لهم إنّكم عندما تتحركون، فإنّكم لا تتحركون إسلامياً، حتى لو كانت لأحدكم وجهة نظر تختلف عن وجهة نظر الآخر.

إننا نخشى أن تكون المخابرات الدوليّة هي التي تختفي لتشعل الفتنة هنا وهناك، فيخيّل إلينا أننا ننطلق في حركة جهاد، بينما تكون خلفياتها لعبة يلعبها الاستكبار العالمي الذي لا يريد لأفغانستان أن تربح من تاريخها الجهادي لتكون دولة إسلامية مستقرة تعطي الفرصة لأكثر من دولة إسلامية في المنطقة، حتى في الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي.

إننا نتصور أنَّ هناك لعبة استكباريَّة عالميّة تدخلها أميركا وروسيا وربما أوروبا، من أجل إبقاء الوضع متفجّراً في داخل أفغانستان، حتى يتعب الجميع، وحتى يستطيع الاستكبار العالمي أن يسيطر على الجميع، كما فعل في البوسنة والهرسك اللّتين لا تزال جراحهما تنزف، من دون أن يحرّك أحد في العالم أية مبادرة في هذا المجال. إننا لا بدَّ من أن نواجه هذا الواقع، ولا بدّ لنا من أن نعمل على دعم كلّ موقع إسلامي فيه للإسلام قوّة ورسالة وقضية، ولا سيّما الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، التي أطلقها الإمام الخميني(رضوان الله عليه) من موقع فقه واع، ومن موقع حركة قوية، ومن موقع بطولي في هذا المجال.

إن علينا أن نواجه كلّ الحملات الاستكبارية التي تريد أن تحاصر هذه الجمهورية الإسلامية، سواء في ما يثار ضدّها من مسألة حقوق الإنسان، أو ما يثار ضدها من حصار اقتصادي وثقافي وسياسي وإعلامي، إنّ علينا أن نكون قوّة لها في كلّ مكان في العالم، كما هي قوّة للمسلمين في كل مكان في العالم .

السَّعي لإسقاط فلسطين

وبعد ذلك، نريد أن نواجه بعض القضايا الّتي تتحرّك في منطقتنا، كما تتحرك في بلدنا هذا، إننا لا نزال نواجه اللعبة الدولية التي تحركت في ما تسميه قضية السلام، وفي اتفاق غزة وأريحا. إننا نريد من العرب، أو من كثير من العرب الّذين يلهثون وراء إسرائيل ليتصالحوا معها، وليعقدوا معها اتفاقات دبلوماسية وسياسية واقتصادية وثقافية، ويستعجلون ذلك، نريد منهم أن يراقبوا منظمة التحرير التي أعطت بيدها إعطاء الذّليل عندما وقّعت على الاعتراف بإسرائيل، دون أن تعطيها إسرائيل اعترافاً بفلسطين، ودون أن تعطيها اعترافاً بالدولة الفلسطينيّة، وإنما أعطتها حكماً ذاتياً تريده أن يكون سجناً للفلسطينيين، بحيث يحيط الجيش الإسرائيلي بمناطق الحكم الذاتي من بين يديها ومن خلفها، من دون أن تكون لهم أية قوة في هذا المجال، فحتى لو انسحب الإسرائيليون من الداخل، لكنهم يحيطون بمناطق الحكم الذاتي من الخارج، ويريدون للفلسطينيّين أن يقوموا بالنيابة عنهم بضرب الفلسطينيين المجاهدين.

لاحظوا منظمة التحرير التي قدّمت التنازلات بنسبة 70 أو 80 في المئة لإسرائيل، لاحظوا كيف تريد إسرائيل أن تذلها أكثر، وتريد أن تفرض عليها شروطاً أكثر، وتريد أن تحاصرها أكثر. إننا نجد أنهم يلهثون وراء الوفد الإسرائيلي دون أن يعطيهم شيئاً، لأن إسرائيل لم ترد من الاتفاق أن تعطي الفلسطينيين قوة في بلدهم، وفي بعض أرضهم، ولكنها أرادت أن تجعل من الاتفاق جسراً تعبر عليه إلى البلاد الإسلاميّة وإلى البلاد العربية، حتى تستطيع أن تكون عنصراً مقبولاً في تلك البلادـ من خلال اللعبة الاقتصادية والأمنية والسياسية وما إلى ذلك.

إنَّ كلّ ما تستهدفه إسرائيل، هو أن تجعل الفلسطينيّين بعد تماميّة الاتفاق الذليل بما لا معنى له، أن تجعلهم جسراً للبلاد العربية، حتى ينطلق الفلسطينيون كعرب ليوظفوا موقعهم العربي في البلاد العربية، من أجل فتح المجال للاقتصاد الإسرائيلي على البلاد العربية تحت لافتة الفلسطينيين.

على العرب أن يتعلَّموا ذلك، وأن يتعلَّموا كيف تعمل إسرائيل، ومعها أميركا، للضغط على الواقع العربي، حتى يضعف أكثر وحتى يذل أكثر. ونحن في هذه المناسبة، نرحّب باتفاق الفصائل الفلسطينية العشر المعارضة الرافضة للاتفاق، ولكنّنا لا نريد أن يكون الاتفاق اتفاقاً احتفالياً، بل أن يكون اتفاقاً سياسياً يعمل على إسقاط اتفاق غزّة وأريحا، وعلى تقوية الانتفاضة وتفعيلها، وعلى إيجاد برنامجٍ سياسيّ للمستقبل يكون بديلاً من البرنامج الذي سار عليه النشاط السياسي الفلسطيني، ونريد لهم أن يتكاملوا مع بعضهم البعض، فليست المسألة من يأخذ الحصة أكثر، ومن يكون تمثيله في القيادة الجديدة أكثر، بل المسألة من الذي يجاهد أكثر، ومن الذي يكافح أكثر، ومن الذي يخلص للقضية أكثر .

رفض الفتن والفوضى

وعندما نريد أن نطلّ على الواقع عندنا، فإننا نلاحظ عدّة أمور؛ الأمر الأول هو أنَّ هناك ضجّة في المدة الأخيرة، تحاول أن تثير المسألة الطائفية تارةً في ما هو الصراع المسيحي الإسلامي، كما يقولون، أو تثير المسألة المذهبيّة الأخرى في ما هو الصّراع بين المذاهب، من أجل إنتاج عملية لتعصّب جديد ولحساسيات جديدة ولأوضاع تحمل في داخلها الكثير من عوامل الاهتزاز في البلد، والكثير من عوامل الخطورة لمستقبل البلد.

ونحن في كلّ هذا الجوّ، نريد أن نقول لكلّ المعنيّين، من علماء دين وسياسيين وفعاليات اقتصادية أو اجتماعية: إنّ علينا عندما نريد أن نواجه الأحداث التي تتحرك فيها الحساسيات الطائفية من أجل إنتاجها في اللعبة السياسية في البلد، أو تتحرك فيها الحساسيات المذهبية لإنتاجها في إضعاف الواقع الإسلامي في البلد، لا بدّ لنا من أن نكون دقيقين في مجابهة الفعل في هذا الحدث أو ذاك الحدث، أو هذه المنطقة أو تلك المنطقة، بأن لا تتحرك ردود الفعل بطريقة تثير الحساسيات أكثر من جانب آخر.

نحن في هذا البلد، من موقعنا الإسلاميّ، نقولها بكلّ مسؤوليّة: نحن ضد كلّ فتنة طائفية، ونحن نجد أنّ الفتنة الطائفيّة التي تتحرّك فيها الطائفيّة كوحش يريد أن يثير الحرب بين النّاس، ويريد أن يدمّر مصالح النّاس، هي أمر محرَّم إسلامياً ومسيحياً، لأنَّ قيم الإسلام والمسيحية لا تسمح بأن يتحارب النّاس بين بعضهم البعض على أساس الطائفيّة، لأنّ اختلافنا في الدين كاختلافنا في أيّ شيء، لا بدَّ من أن ينطلق من خلال الكلمة السواء في ما نلتقي فيه، ولا بدَّ من أن ننطلق فيه من الحوار والجدال بالتي هي أحسن في ما نختلف فيه.

إنّ الحساسيات تصنع ناراً تحرق، وتدفع إلى الالتهاب في المشاعر، لذلك نحن في الوقت الذي نشجب كل حدث أو وضع يؤدي إلى فتنة طائفية أو إلى حساسيات طائفية، فإننا نريد أن نقول للذين يواجهون هذه المسألة: لا تحاولوا أن تكون كلماتكم في ردود الفعل كلمات تثير الحساسيات من جانب آخر. لقد سمعنا في هذه الأيام وفي هذا الجوّ، كلمات التطرف والاعتداء، وإنني أدعو كلّ اللّبنانيين من علماء دين وسياسيّين ومثقّفين، إلى أن يجلسوا جلسة عقلانيّة ثقافيّة، ليحدّدوا لنا من خلال طبيعة الخطوط التفصيلية، ما هو مضمون التطرف في حركتنا الدينية والسياسية والاجتماعية؟ وما هو مضمون الاعتدال أو مضمون الالتزام؟

إنني أخشى أن تكون هذه الكلمات كلمات منفوخة بالهواء المضغوط التي نثيرها دون أن نتعرّف معناها، لنلصقها بهذا تارةً وبذاك تارةً أخرى، فهذا المتطرف اليوم معتدل غداً، وهذا المعتدل اليوم متطرّف غداً، وهذا الملتزم متطرف وما إلى ذلك.

حدّدوا الكلمات التي تنطقون بها بالقاموس السياسي، حتى لا تظلموا أحداً عندما توجّهونها في هذا الاتجاه أو ذاك. لذلك نقول إنَّ بلداً تقيمه كلمة وتقعده كلمة، وتثيره كلمة وتهدئه كلمة، لا يجوز أن تكون كلماته فضفاضة لا تعطي أيّ معنى واضح يمكن للنّاس أن يتحاوروا فيه أو يلتقوا حوله. ونحن نريد لكلّ اللّبنانيين أن يلتقوا على وعي المرحلة، وأن لا يبادروا على أساس فرديّ، لأنّ البلد محكوم بتوازنات معيّنة وأوضاع معيّنة.

لذلك، لا بدَّ لكل إنسان في كلِّ موقع، من أن لا يستقلَّ بموقفه، بل لا بدَّ له من أن يتشاور مع الّذين يتحمَّلون مسؤوليَّة الموقف ومسؤوليَّة الموقع.. وأن لا ينطلق ردّ فعل ليفرض نفسه على كلّ الفريق الذي يقوم بردّ الفعل. إنّ العقل هو ما يمكن أن يحفظ البلد، والشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[28]، هو ما يمكن أن يحفظ البلد.

نحن لسنا بحاجةٍ إلى معارك جديدة تثور فيها الحساسيات الطائفية، ولسنا بحاجة إلى حساسيات جديدة تتحرك فيها الفتنة المذهبية، ليتحدَّث إنسان ما في الدائرة الإسلامية السنيَّة بما يثير الدائرة الشيعية، وليتحدّث إنسان في الدائرة الإسلامية الشيعية بما يثير الدائرة الإسلامية السنية. إن الله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نلتقي على كلمة سواء، حتى مع الذين يختلفون معنا في الدين، فكيف لا نلتقي على كلمة سواء ونطلق الكلمة السّواء كخطّ مع الذين نتفق معهم في الدين وفي القرآن؟

الحذر من العدوّ

إنَّ المسألة الّتي لا بدَّ من أن نواجهها في نهاية المطاف، هي أنّنا في ذكرى الإمام السجين، وهو الإمام موسى الكاظم(ع)، نتذكَّر سجناءنا في معتقل الخيام، ونتذكّر سجناءنا في معتقلات إسرائيل في فلسطين المحتلَّة، ونريد للأمّة كلّها أن تتذكَّرهم، ونريد للدّولة أن تتحمل مسؤوليتها تجاههم، ونريد لكلِّ النّاس أن يعيشوا معهم، لنمارس الضّغط، كلّ بحسب طاقته وقدرته.

ونريد للدّولة اللبنانيَّة إذا كانت تحترم شعبها، أن تعتبر قضيّة هؤلاء السجناء قضيتها في كلّ المحافل الدوليَّة، لأنهم هم الّذين يمثلون حركة الحرية في بلدنا وفي حاضرنا ومستقبلنا. ونحن أيضاً في هذه المرحلة، نستمع إلى تهديدات العدوّ الإسرائيلي الَّذي يتحدّث عن أنَّ من الممكن أن يكون هناك تصعيد في جنوب لبنان وفي البقاع الغربي، ونحن نعرف أنّ العدو عندما يتحدث عن تصعيد، فإنّه هو الذي يخطّط للتصعيد، لا على أساس أن المقاومة هي التي تخطّط للتصعيد.

نحن نعرف أنَّ للمقاومة الإسلامية برنامجاً دقيقاً يضع في حسابه كلّ مسؤوليته عن الناس وعن الواقع كلّه وعن حركة الجهاد، لكننا نعرف أن إسرائيل في كل حدث يمرّ بالمنطقة، تعمل على إثارة وضع أمنيّ جديد، وتتخذ من المنطقة المحتلة، ومن جبل عامل والبقاع الغربي، ساحةً للوصول إلى أهدافها، باعتبار أنَّ هناك لقاءً بين الرئيس الأسد وكلينتون، وهناك خطة إسرائيلية من أجل إيجاد وضع أمني يدخل على خطّ هذا الاتفاق.

إن علينا أن نعمل على أساس الحذر من جهة، وعدم السّقوط أمام الخوف من جهة ثانية، لأننا في الوقت الذي ندعو إلى الحذر من كلّ خطوات إسرائيل، نعرف أنها لا تملك حرية الحركة من ناحية أمنيّة، إلا إذا كانت هناك أضواء خضر من الدّول الكبرى. وفي معلوماتنا، أنَّ المسألة ليست بهذه الخطورة، ولكن علينا أن نبقى في حذر من هذه الجهة، وعلينا أن نبقى مع المجاهدين لندعمهم ولنقوّيهم، لأنهم هم الذين يحملون لواء الحرية في البلد.

ونبقى في نهاية المطاف مع واقعنا المعيشيّ، لنسجّل في هذا الموقف، كما سجّلنا في المواقف الأخرى، أن الوضع المعيشي لا يزال في نقطة النزول وفي نقطة السّقوط، فالنّاس لا يزالون يعانون مشكلتهم الغذائيّة ومشكلتهم التربويّة ومشكلتهم الاجتماعيّة، والقضيّة كلّ القضيّة، أن يقف الناس كلّ الناس، بعيداً عن أيّ فواصل طائفيّة، وعن أي فواصل مذهبيّة.

قفوا كلبنانيين يريدون أن يعيشوا بكرامة، ويريدون أن يعيشوا على أساس العزّة وعلى أساس الاكتفاء الذاتي، قفوا لتفرضوا على كلّ حكم وعلى كلّ حكومة، أن تتحرك لتتحمل مسؤوليتها في قضايا الناس الغذائية والمعيشية والتربوية. وإذا لم تتحمَّل أية حكومة مسؤوليَّتها عن شعبها في كلّ قضاياه، فإنَّنا نتساءل: ما معنى أن تبقى تحكم الشعب؟ إنَّ الحكم مسؤوليَّة لمن يعرف كيف يتحرك في خطّ المسؤوليّة بمسؤوليّة، وليس مجرّد امتياز يزهو به هذا، وينتفخ به ذاك.


[1]  [الجمعة : 2].

[2]  [الأحزاب: 45، 46].

[3]  [الإسراء: 1].

[4]  [الأحزاب: 33].

[5]  [آل عمران: 134].

[6]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 48، ص 108.

[7]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 413.

[8]  [البلد: 10].

[9]  تحف العقول، ص 386.

[10]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 19.

[11]  بحار الأنوار، ج 74، ص 66.

[12]  الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

[13]  [الجمعة: 2].

[14]  نهج البلاغة، ج 4، ص 45.

[15]  المصدر نفسه، ج 4، ص 11.

[16]  [الجمعة: 2].

[17]  [الأحزاب: 45].

[18]  [القصص: 75].

[19]  [الزمر: 9].

[20]  [طه: 114].

[21]  [الكهف: 29].

[22]  [الإسراء: 81].

[23]  [النحل: 90].

[24]  [الأنعام: 152].

[25]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 164.

[26]  [الأنفال: 60].

[27]  [المائدة: 90].

[28]  [الشورى: 38].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير