لتكن مجالس عاشوراء منطلقاً للتوحد حول نهج الإصلاح

لتكن مجالس عاشوراء منطلقاً للتوحد حول نهج الإصلاح
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:


لقد ودعنا موسم عاشوراء وبقيت هناك بلدان أخرى يمتد فيها هذا الموسم إلى آخر شهر صفر، ولا بد لنا ـ أيها الأحبة ـ أمام هذه المناسبة التي استنزفنا فيها الكثير من الدموع ومن شعائر الحزن واستمعنا فيها إلى الكثير من الخطب، لا بد لنا أن نخرج بحصيلة جديدة في حياتنا بما يتصل بكل عناصر القوة في هذه الحياة حتى لا تضيع جهودنا سدى.

رسالة الإصلاح

ونتوقف في هذه المناسبة عند نقاط:

النقطة الأولى: أن لا يكون ارتباطنا بالإمام الحسين (ع) على مستوى العاطفة الشخصية فحسب، كما يحب شخص شخصاً آخر، لأن علاقتنا به ليست علاقةً شخصية، فنحن نرتبط بموقعه كإمام وكسيد شباب أهل الجنة وكثائر من أجل الحق، ونحن لا نملك إلا أن نحبه، لأن كافة عناصر الحب تجمعت في شخصه، لكننا نواليه، والموالاة حركة في الموقف، فنرتبط به كإمام يرسم لنا الخط ويتحرك في الخط الإصلاحي لأمة جده (ص) المتمثل بالأمر المعروف والنهي عن المنكر والعزة أمام كل ما يذل الإنسان في دينه ومواقفه.

لذلك فعلى كلِّ واحد منّا بعد عاشوراء أن يحمل رسالة الإصلاح في بيته ومع أصدقائه وفي موقع عمله وكل ساحات حركته، فيعتبر أن الإمام (ع) تحرك من أجل هذه العناوين الاسلامية الكبيرة، وهو ما يتطلب منا أن نقف في مواجهة الفساد وأن نصحح بقدر ما نستطيع وبالرفق لا بالعنف، لأن الإمام الحسين (ع) لم يخرج بالعنف بل بالرفق، وقد قال: "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين". كان الحسين (ع) من أكثر الناس رفقاً، وقد جاء في السيرة أن الإمام كان يبكي أثناء المواجهة في كربلاء على أولئك الجنود الذين يقاتلونه خوفاً عليهم من دخول النار بسببه.. كم هو هذا السموّ في الأخلاق والروح وفي محبة الناس، تماماً كما هو موقف رسول الله حين حاربه قومه فقال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وضمن هذا التوجه، ليحمل كل منا شعار الإصلاح في أمة رسول الله(ص) وفي كل القضايا، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهذه قضية لا بد أن نعيشها في كل مكان بالحكمة والموعظة والأسلوب الأحسن.

التوحد حول خط الحسين(ع)

النقطة الثانية تتعلق بإحياء مجالس عاشوراء في المناطق اللبنانية، حيث لاحظنا أن كل الناس حضرت عاشوراء، الناس المختلفين سياسياً أو اجتماعياً أو شخصياً، ونستفيد من ذلك أننا جميعاً نؤمن بخط الحسين(ع) وإمامته وقيادته، لقد توحدنا في حضور مجالسه، فلماذا لا نفكر أن الحسين(ع) يوحّدنا؟ لماذا لا نتوحد حول الحسين(ع) ؟ولماذا لا نجعل كل مجالسنا حسينية تنفتح على كل شعاراته الإسلامية؟! علينا أن لا نحزّب مجالس الحسين(ع) ولا نضيّقها بهذه الجماعة أو تلك، لقد كان الحسين (ع) لكل الإسلام والمسلمين فلنكن أيضاً كذلك، ولننطلق من مجالس عاشوراء لمواجهة واقعنا الصعب ومشاكلنا الكبيرة، باعتبار أن ليس هناك مشكلة لفريق دون فريق.

إن التحديات التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضغوط الاستكبار العالمي، لا يختلف على ضرورة مواجهتها فريق، عن فريق فكل مشاكلنا واحدة، لكن الجهل يُكبّل الجميع والتخلف كذلك، إننا نكتوي بنارٍ وآلامٍ واحدة، فلماذا لا نتوحد حول هذه القضايا؟ قد نختلف في آرائنا السياسية والاجتماعية حول بعض التفاصيل، فلنجمّدها أو نتنازل عنها من أجل القضايا الكبيرة، لماذا هذا التخلف؟!! نخلق مشكلة من أجل لافتة أو صورة، إن مشاكلنا كبيرة ولسنا بحاجة إلى مشاكل جديدة، لا سيما إذا كانت باسم الحسين (ع) الذي يرفض ذلك، نحن لا نقول إن جميع الناس تتحرك في هذا الاتجاه، لكن هناك ظواهر يجب أن نعالجها حتى لا تتعبنا بين وقت وآخر.

لنقدّم عاشوراء بأفضل صورة

النقطة الثالثة تتعلق بطريقة الاحتفال بعاشوراء وأسلوب تعبيرنا عن الحزن والمصاب، والناس في العالم تعبر عن الحزن بالبكاء أو باللطم أحياناً، ولكن الهادىء والمتزن لا اللطم الفولكلوري، أما ما بات موجوداً في أكثر من بلد إسلامي من ضرب الرؤوس بالسيف أو السلاسل فهو أمر مستغرب!! وأنا أسأل: هل رأيتم أحداً يضرب رأسه بالسيف مواساةً لحبيب قتل شهيداً أو غير شهيد! إنه يبكي ويأتي الناس لمواساته، فما يحدث ليس من وسائل التعبير الإنسانية عن الحزن، وليس عندنا أي حديث يقبل بذلك، وفي رأينا أن الإضرار بالجسد حرام، ونتفق في هذا الرأي مع مراجع آخرين، لكن المسألة أن هذا أسلوبٌ لا معنى له، خصوصاً مواقف الناس الذين ينذرون أولادهم لجرحهم!! وهذا نذرٌ باطل، لأنه ليس للأهل سلطة عليهم فيما العالم يسخر منا حين يشاهد تلك الصور، لنبقِ المجالس والمواكب، لكن على الشعر والكلمات أن تحمل مضموناً ثقافياً واجتماعياً وتجمع بين الجانب العاطفي والوعي حتى تتثقف الأمة، لا بد لنا أن نطور الذكرى، بحيث ندخلها المسرح والتمثيل حتى يصبح لعاشوراء امتدادٌ في العالم، فلكل جيلٍ أساليبه ووسائله، لهذا علينا أن ننتهي من هذه الممارسات، بعض العلماء يقولون إن كل إضرار بالجسد لا يجوز، وآخرون يقولون بجواز الإضرار بالجسد إذا لم يؤدّ للهلاك، وهذه الآراء تدخل في الدائرة الفقهية، ولكن هذا العمل لا معنى له ولا يشكل تعبيراً عن الحزن، ليكن حرصنا على تقديم عاشوراء بأفضل صورة، ولنجعل الذكرى تهز العالم، بحيث إذا أطلقناها في بلدان الغرب وغيرها تحدث تأثيرات بالغة لصالح الذكرى والإسلام والعناوين الإنسانية الكبيرة.

التوازن بين الفكرة والعاطفة

النقطة الرابعة تتعلق بتفاعل الناس مع الخطيب، حيث الناس تتفاعل مع الصوت، علماً أنه يجب علينا أن نتفاعل مع الخطيب المثقف والواعي والمحلل، ليقدم لنا الثورة الحسينية بطريقة منفتحة على قضايانا ومشاكلنا، فللصوت دور ولكن ليس كل الدور، وليس المطلوب استحضار أحداث لا واقع لها لإبكاء الناس، فكل مواقف عاشوراء إذا صوَّرناها بطريقة فنية مناسبة فإنها تثير العاطفة والبكاء.

طالب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل الله

وأخيراً، وبمناسبة يوم العمال، ليس فقط عمال المصانع والمزارع، بل العمال في كل الحقول، أي كل من يعمل من أجل معيشته، نقول إن الله يبارك كل العاملين، وهو سبحانه وتعالى لا يستجيب دعاء من يجلس في بيته ولا يعمل في سبيل كسب عيشه، وفي سورة الجمعة يدعو الله الناس إلى ابتغاء الرزق بعد الانتهاء من الصلاة.

إن قيمة العمل في الإسلام كبيرة وسنقرأ بعض الأحاديث الشريفة في هذا المجال.

عن الإمام الباقر(ع) قال رسول الله (ص): "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال". ويروي الصادق(ع) عن الرسول(ص):"الشاخص في طلب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل الله". وفي حديث ثالث عن الرسول(ص): "من بات كالاً من طلب الحلال ـ أي متعباً من العمل الحلال ـ بات مغفوراً له". ويقول الباقر(ع):"من طلب الدنيا حلالاً استعفافاً عن المسألة، وسعياً على عياله، وتعطفاً على جاره، لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر". وعن علي(ع):"ما غدوة أحدكم في سبيل الله بأعظم من غدوته يطلب لولده وعياله ما يصلحهم". وعن الصادق(ع): "إذا كان الرجل معسراً فيعمل بقدر ما يقوت به نفسه وأهله ولا يطلب حراماً فهو كالمجاهد في سبيل الله". وأيضاً عن الصادق(ع): "طلب الكسب فريضة بعد الفريضة فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض". وعن رسول الله(ص): "طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة".

ملعون من ألقى كَلّه على الناس

وفي هذا المجال، نتوقف عند بعض الأشخاص العاملين الذين يضيعون أموالهم بالقمار وبالأعمال المحرمة، أو الأشخاص البطّالين مما قد يجعلهم بحاجةٍ إلى العون من الآخرين، فيقول رسول الله(ص) عن هؤلاء: "ملعون ملعون من ألقى كلّه على الناس". إن هناك بعض القادرين على العمل الذين يلقون أعباء معيشتهم على الناس، وهؤلاء ملعونون بنظر الإسلام، ويقول أيضاً عن أولئك الذين يسرقون طعام الحليب لأطفالهم حين يبددون أموالهم بطرق شتى: "ملعون ملعون من ضيّع من يعول، كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعوله". فنحن مسؤولون عن طلب الرزق من حلال، وأن ننفقه في الحلال، وقد ورد في الأحاديث أن الله لا يستجيب طلب الرزق من غير العاملين. ويروى أن الإمام الصادق(ع) سأل عن فلان فقالوا إنه في البيت يعبد الله، قال(ع): من يعوله؟ قالوا فلان، عندها قال الإمام: "للذي يقوته أشدّ عبادة منه". والعمل بهذا المفهوم العبادي يحتاج إلى شروط حتى يكون المال حلالاً والمعاملات حلالاً {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} فلا تبيع المحرم لأن ثمنه سحت، والإنسان الذي يبيع المحرم بحجة تحصيل رزقه فإننا نقول له إن الرزق بيد الله، والمعونة على قدر المؤونة، والله يقسّم الرزق ومن يتقِ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.

{ومن يتوكل على الله وهو يعمل فهو حسبه إن الله بالغ أمره إن الله قد جعل لكل شيء قدراً} لنتق الله فلا نعمل إلا بالحلال، حتى يكون عملنا عبادة مقبولة عند الله كما صلاتنا. نسأل الله أن يوفق العاملين في سبيل الرزق الحلال ويكشف الغمة عن الأمة.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد اللّه، اتقوا اللّه وراقبوه في السرِّ والعلن في القضايا الصغيرة والكبيرة، وانفتحوا على اللّه في كلّ أموركم لتحصلوا على سعادة الدنيا والآخرة.

إنَّ اللّه حمّلنا مسؤولية أنفسنا والنّاس وأن نعمل بما يرضيه وبما يحقق للمسلمين الخير والكرامة، وأمامنا أكثر من قضية تتصل بالأمن الإسلامي في كلّ المواقع التي تعرض لحملات الاستكبار العالمي وعلينا أن نتحمل مسؤوليتنا في هذا المجال.

بين أحلام السلطة الفلسطينية والصناعة الصهيونية للواقع.

لا تزال القضية الفلسطينية في دوامة الضياع بفعل المأزق الذي وضعه فيها اتفاق أوسلو، فلم تتقدم خطوةً إلى الأمام بل بقيت تراوح مكانها تحت تأثير اللعبة الإسرائيلية الانتخابية التي يمارس العدو الصهيوني في ظلها الحصار المتحرك بدءاً بمشاريع المستوطنات ومصادرة المنازل في القدس وأراضي الضفة الغربية، مروراً بالتهديد باجتياح جديد في حال إعلان الدولة الفلسطينية، إلى تحميل الفلسطينيين مسؤولية عدم تنفيذ الاتفاقات، لاحتواء الرأي العام العالمي، ثم الوعود الأمريكية المعسولة والداعية إلى حق تقرير المصير التي تضاف إلى وعود سابقة لم تنفذ، وفي تأجيل جديد لموعد المفاوضات النهائية في الوقت الذي ترفض فيه أمريكا التصويت في لجنة حقوق الإنسان على حق الفلسطينيين في دولة مستقلة. وهكذا انطلقت كل هذه الضغوط لتمنع سلطة الحكم الذاتي من إعلان قيام الدولة الفلسطينية التي لا تملك أية مقومات حقيقية، بالرغم من إعلان عرفات بأنه يمارس السلطة فعلاً في الوقت الذي يعرف الجميع أنه لا يستطيع ممارسة السيادة على أي شبرٍ منها.

إن مشكلة السلطة الفلسطينية هي أنها تتحرك في الوعود والأحلام والضغوط، بينما يتحرك العدو لتغيير الواقع والوقائع، ليصل الأمر إلى نهايةٍ محدودةٍ حيث لا قدس ولا ضفة غربية ولا عودة للاجئين، بل حشر للفلسطينيين في غزة داخل سجن كبير يحوطه السجانون من جميع الجهات.

مأساة كوسوفو استثمار أمريكي مربح

ونطل على مسألة كوسوفو، حيث يُهجّر المزيد من المسلمين بفعل الفظائع الوحشية للصرب والقصف الأطلسي لمناطقهم في غياب أية خطة لعودتهم إلى بلادهم، بل انفتحت القضية على الجانب المأساوي كمسألة إنسانية تتجر بها أمريكا التي تقود الحلف الأطلسي لتنفيذ سياستها في توسيع نطاق الحلف لاستمرار سيطرتها عليه وللاستفادة من ذلك في عروض صفقات جديدة من السلاح قد تبلغ مائة مليار دولار، وللإمساك بالبلقان وإبعاد الأمم المتحدة عن دورها الطبيعي في القضايا السياسية والأمنية في العالم.

حدود القوة الأمريكية

إن أمريكا مهما امتدت فلن تملك الامتداد في أن تلعب دور الشرطي في العالم، بل إنها ستفشل إن عاجلاً أو آجلاً، كما حدث لها في أكثر من موقع في العالم، لأن للقوة حدوداً لا تملك أن تتعداها، وهذا ما نلاحظه في حرب البلقان التي لم تحقق فيها أي انتصار بالرغم من حرب الإبادة.

سوريا ولبنان لن يستجيبا للضغوط الصهيونية

ونصل إلى الجنوب، حيث استطاعت المقاومة الإسلامية إعادة هجمة التحدي على العدو في عملياتها الأخيرة الموفقة ضد جنوده وعملائه، وإسقاط رهان العدو على العملاء، بحيث لم يبق لهم إلا الهرب أو إعلان التوبة، كما لم يبقَ لجنود العدوّ إلا الانسحاب، ولعلّ طلب وزير حرب العدو من واشنطن التوسط لدى سوريا في إيقاف المقاومة الإسلامية هو الدليل على ما يعانيه العدو من المأزق في احتلاله الذي لا يملك فيه حرية الحركة، كما أنه يمثل مستوى وقاحة العدو في التحدث عن ضرورة تدخل أمريكا لحماية أمن احتلاله، وقد قامت أمريكا بهذا الدور الذي نعتقد أن سوريا لا تستجيب له كما لا يستجيب له لبنان الرسمي الذي أطلق المسؤولون الصهاينة تهديداتهم العسكرية ضده وإعلانهم بأنهم سيجعلون لبنان هدفاً عسكرياً إذا دعمت الحكومة المقاومة كما لو كانت الدولة بعيدة عن مسألة تحرير أرضها من الاحتلال.

الحذر من تحركات العدو

ويستمر العدو في قصف المدنيين من دون أن تتدخل أمريكا معه لإيقاف ذلك بل إنها تعمل لتقديم المساعدات له في الحصول على المزيد من الطائرات المتقدمة، ليبقى الأقوى في المنطقة، ولتوجيه النصائح للجميع بالابتعاد عن العنف من دون أي إدانة للعدو من قريب أو بعيد، وفي جميع الأحوال، لابد من الحذر من كل حركات العدو الذي قد يلجأ لأيِّ عملٍ أمني أو عسكري يخفف من مأزقه في انتخاباته القادمة والوقوف مع المقاومة التي تقاتله في مناطق الاحتلال.

نجاح الإصلاح مرهون بتحقيق العدالة

وأخيراً، إننا نؤكد على ضرورة الاستمرار ببرنامج الإصلاح الإداري والنهوض الاقتصادي والتوازن السياسي، ولكن مع مراعاة العدالة في صرف من يراد صرفه، وتعين من يراد تعينه وملاحقة كل قضايا الفساد بكل قوة والابتعاد عن تمييع القضايا لحساب كبير هنا على حساب صغير هناك، لأنه لا إصلاح للبلد إلا إذا كانت العدالة للجميع وعلى الجميع.

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:


لقد ودعنا موسم عاشوراء وبقيت هناك بلدان أخرى يمتد فيها هذا الموسم إلى آخر شهر صفر، ولا بد لنا ـ أيها الأحبة ـ أمام هذه المناسبة التي استنزفنا فيها الكثير من الدموع ومن شعائر الحزن واستمعنا فيها إلى الكثير من الخطب، لا بد لنا أن نخرج بحصيلة جديدة في حياتنا بما يتصل بكل عناصر القوة في هذه الحياة حتى لا تضيع جهودنا سدى.

رسالة الإصلاح

ونتوقف في هذه المناسبة عند نقاط:

النقطة الأولى: أن لا يكون ارتباطنا بالإمام الحسين (ع) على مستوى العاطفة الشخصية فحسب، كما يحب شخص شخصاً آخر، لأن علاقتنا به ليست علاقةً شخصية، فنحن نرتبط بموقعه كإمام وكسيد شباب أهل الجنة وكثائر من أجل الحق، ونحن لا نملك إلا أن نحبه، لأن كافة عناصر الحب تجمعت في شخصه، لكننا نواليه، والموالاة حركة في الموقف، فنرتبط به كإمام يرسم لنا الخط ويتحرك في الخط الإصلاحي لأمة جده (ص) المتمثل بالأمر المعروف والنهي عن المنكر والعزة أمام كل ما يذل الإنسان في دينه ومواقفه.

لذلك فعلى كلِّ واحد منّا بعد عاشوراء أن يحمل رسالة الإصلاح في بيته ومع أصدقائه وفي موقع عمله وكل ساحات حركته، فيعتبر أن الإمام (ع) تحرك من أجل هذه العناوين الاسلامية الكبيرة، وهو ما يتطلب منا أن نقف في مواجهة الفساد وأن نصحح بقدر ما نستطيع وبالرفق لا بالعنف، لأن الإمام الحسين (ع) لم يخرج بالعنف بل بالرفق، وقد قال: "فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين". كان الحسين (ع) من أكثر الناس رفقاً، وقد جاء في السيرة أن الإمام كان يبكي أثناء المواجهة في كربلاء على أولئك الجنود الذين يقاتلونه خوفاً عليهم من دخول النار بسببه.. كم هو هذا السموّ في الأخلاق والروح وفي محبة الناس، تماماً كما هو موقف رسول الله حين حاربه قومه فقال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وضمن هذا التوجه، ليحمل كل منا شعار الإصلاح في أمة رسول الله(ص) وفي كل القضايا، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهذه قضية لا بد أن نعيشها في كل مكان بالحكمة والموعظة والأسلوب الأحسن.

التوحد حول خط الحسين(ع)

النقطة الثانية تتعلق بإحياء مجالس عاشوراء في المناطق اللبنانية، حيث لاحظنا أن كل الناس حضرت عاشوراء، الناس المختلفين سياسياً أو اجتماعياً أو شخصياً، ونستفيد من ذلك أننا جميعاً نؤمن بخط الحسين(ع) وإمامته وقيادته، لقد توحدنا في حضور مجالسه، فلماذا لا نفكر أن الحسين(ع) يوحّدنا؟ لماذا لا نتوحد حول الحسين(ع) ؟ولماذا لا نجعل كل مجالسنا حسينية تنفتح على كل شعاراته الإسلامية؟! علينا أن لا نحزّب مجالس الحسين(ع) ولا نضيّقها بهذه الجماعة أو تلك، لقد كان الحسين (ع) لكل الإسلام والمسلمين فلنكن أيضاً كذلك، ولننطلق من مجالس عاشوراء لمواجهة واقعنا الصعب ومشاكلنا الكبيرة، باعتبار أن ليس هناك مشكلة لفريق دون فريق.

إن التحديات التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضغوط الاستكبار العالمي، لا يختلف على ضرورة مواجهتها فريق، عن فريق فكل مشاكلنا واحدة، لكن الجهل يُكبّل الجميع والتخلف كذلك، إننا نكتوي بنارٍ وآلامٍ واحدة، فلماذا لا نتوحد حول هذه القضايا؟ قد نختلف في آرائنا السياسية والاجتماعية حول بعض التفاصيل، فلنجمّدها أو نتنازل عنها من أجل القضايا الكبيرة، لماذا هذا التخلف؟!! نخلق مشكلة من أجل لافتة أو صورة، إن مشاكلنا كبيرة ولسنا بحاجة إلى مشاكل جديدة، لا سيما إذا كانت باسم الحسين (ع) الذي يرفض ذلك، نحن لا نقول إن جميع الناس تتحرك في هذا الاتجاه، لكن هناك ظواهر يجب أن نعالجها حتى لا تتعبنا بين وقت وآخر.

لنقدّم عاشوراء بأفضل صورة

النقطة الثالثة تتعلق بطريقة الاحتفال بعاشوراء وأسلوب تعبيرنا عن الحزن والمصاب، والناس في العالم تعبر عن الحزن بالبكاء أو باللطم أحياناً، ولكن الهادىء والمتزن لا اللطم الفولكلوري، أما ما بات موجوداً في أكثر من بلد إسلامي من ضرب الرؤوس بالسيف أو السلاسل فهو أمر مستغرب!! وأنا أسأل: هل رأيتم أحداً يضرب رأسه بالسيف مواساةً لحبيب قتل شهيداً أو غير شهيد! إنه يبكي ويأتي الناس لمواساته، فما يحدث ليس من وسائل التعبير الإنسانية عن الحزن، وليس عندنا أي حديث يقبل بذلك، وفي رأينا أن الإضرار بالجسد حرام، ونتفق في هذا الرأي مع مراجع آخرين، لكن المسألة أن هذا أسلوبٌ لا معنى له، خصوصاً مواقف الناس الذين ينذرون أولادهم لجرحهم!! وهذا نذرٌ باطل، لأنه ليس للأهل سلطة عليهم فيما العالم يسخر منا حين يشاهد تلك الصور، لنبقِ المجالس والمواكب، لكن على الشعر والكلمات أن تحمل مضموناً ثقافياً واجتماعياً وتجمع بين الجانب العاطفي والوعي حتى تتثقف الأمة، لا بد لنا أن نطور الذكرى، بحيث ندخلها المسرح والتمثيل حتى يصبح لعاشوراء امتدادٌ في العالم، فلكل جيلٍ أساليبه ووسائله، لهذا علينا أن ننتهي من هذه الممارسات، بعض العلماء يقولون إن كل إضرار بالجسد لا يجوز، وآخرون يقولون بجواز الإضرار بالجسد إذا لم يؤدّ للهلاك، وهذه الآراء تدخل في الدائرة الفقهية، ولكن هذا العمل لا معنى له ولا يشكل تعبيراً عن الحزن، ليكن حرصنا على تقديم عاشوراء بأفضل صورة، ولنجعل الذكرى تهز العالم، بحيث إذا أطلقناها في بلدان الغرب وغيرها تحدث تأثيرات بالغة لصالح الذكرى والإسلام والعناوين الإنسانية الكبيرة.

التوازن بين الفكرة والعاطفة

النقطة الرابعة تتعلق بتفاعل الناس مع الخطيب، حيث الناس تتفاعل مع الصوت، علماً أنه يجب علينا أن نتفاعل مع الخطيب المثقف والواعي والمحلل، ليقدم لنا الثورة الحسينية بطريقة منفتحة على قضايانا ومشاكلنا، فللصوت دور ولكن ليس كل الدور، وليس المطلوب استحضار أحداث لا واقع لها لإبكاء الناس، فكل مواقف عاشوراء إذا صوَّرناها بطريقة فنية مناسبة فإنها تثير العاطفة والبكاء.

طالب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل الله

وأخيراً، وبمناسبة يوم العمال، ليس فقط عمال المصانع والمزارع، بل العمال في كل الحقول، أي كل من يعمل من أجل معيشته، نقول إن الله يبارك كل العاملين، وهو سبحانه وتعالى لا يستجيب دعاء من يجلس في بيته ولا يعمل في سبيل كسب عيشه، وفي سورة الجمعة يدعو الله الناس إلى ابتغاء الرزق بعد الانتهاء من الصلاة.

إن قيمة العمل في الإسلام كبيرة وسنقرأ بعض الأحاديث الشريفة في هذا المجال.

عن الإمام الباقر(ع) قال رسول الله (ص): "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال". ويروي الصادق(ع) عن الرسول(ص):"الشاخص في طلب الرزق الحلال كالمجاهد في سبيل الله". وفي حديث ثالث عن الرسول(ص): "من بات كالاً من طلب الحلال ـ أي متعباً من العمل الحلال ـ بات مغفوراً له". ويقول الباقر(ع):"من طلب الدنيا حلالاً استعفافاً عن المسألة، وسعياً على عياله، وتعطفاً على جاره، لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر". وعن علي(ع):"ما غدوة أحدكم في سبيل الله بأعظم من غدوته يطلب لولده وعياله ما يصلحهم". وعن الصادق(ع): "إذا كان الرجل معسراً فيعمل بقدر ما يقوت به نفسه وأهله ولا يطلب حراماً فهو كالمجاهد في سبيل الله". وأيضاً عن الصادق(ع): "طلب الكسب فريضة بعد الفريضة فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض". وعن رسول الله(ص): "طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة".

ملعون من ألقى كَلّه على الناس

وفي هذا المجال، نتوقف عند بعض الأشخاص العاملين الذين يضيعون أموالهم بالقمار وبالأعمال المحرمة، أو الأشخاص البطّالين مما قد يجعلهم بحاجةٍ إلى العون من الآخرين، فيقول رسول الله(ص) عن هؤلاء: "ملعون ملعون من ألقى كلّه على الناس". إن هناك بعض القادرين على العمل الذين يلقون أعباء معيشتهم على الناس، وهؤلاء ملعونون بنظر الإسلام، ويقول أيضاً عن أولئك الذين يسرقون طعام الحليب لأطفالهم حين يبددون أموالهم بطرق شتى: "ملعون ملعون من ضيّع من يعول، كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعوله". فنحن مسؤولون عن طلب الرزق من حلال، وأن ننفقه في الحلال، وقد ورد في الأحاديث أن الله لا يستجيب طلب الرزق من غير العاملين. ويروى أن الإمام الصادق(ع) سأل عن فلان فقالوا إنه في البيت يعبد الله، قال(ع): من يعوله؟ قالوا فلان، عندها قال الإمام: "للذي يقوته أشدّ عبادة منه". والعمل بهذا المفهوم العبادي يحتاج إلى شروط حتى يكون المال حلالاً والمعاملات حلالاً {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} فلا تبيع المحرم لأن ثمنه سحت، والإنسان الذي يبيع المحرم بحجة تحصيل رزقه فإننا نقول له إن الرزق بيد الله، والمعونة على قدر المؤونة، والله يقسّم الرزق ومن يتقِ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.

{ومن يتوكل على الله وهو يعمل فهو حسبه إن الله بالغ أمره إن الله قد جعل لكل شيء قدراً} لنتق الله فلا نعمل إلا بالحلال، حتى يكون عملنا عبادة مقبولة عند الله كما صلاتنا. نسأل الله أن يوفق العاملين في سبيل الرزق الحلال ويكشف الغمة عن الأمة.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد اللّه، اتقوا اللّه وراقبوه في السرِّ والعلن في القضايا الصغيرة والكبيرة، وانفتحوا على اللّه في كلّ أموركم لتحصلوا على سعادة الدنيا والآخرة.

إنَّ اللّه حمّلنا مسؤولية أنفسنا والنّاس وأن نعمل بما يرضيه وبما يحقق للمسلمين الخير والكرامة، وأمامنا أكثر من قضية تتصل بالأمن الإسلامي في كلّ المواقع التي تعرض لحملات الاستكبار العالمي وعلينا أن نتحمل مسؤوليتنا في هذا المجال.

بين أحلام السلطة الفلسطينية والصناعة الصهيونية للواقع.

لا تزال القضية الفلسطينية في دوامة الضياع بفعل المأزق الذي وضعه فيها اتفاق أوسلو، فلم تتقدم خطوةً إلى الأمام بل بقيت تراوح مكانها تحت تأثير اللعبة الإسرائيلية الانتخابية التي يمارس العدو الصهيوني في ظلها الحصار المتحرك بدءاً بمشاريع المستوطنات ومصادرة المنازل في القدس وأراضي الضفة الغربية، مروراً بالتهديد باجتياح جديد في حال إعلان الدولة الفلسطينية، إلى تحميل الفلسطينيين مسؤولية عدم تنفيذ الاتفاقات، لاحتواء الرأي العام العالمي، ثم الوعود الأمريكية المعسولة والداعية إلى حق تقرير المصير التي تضاف إلى وعود سابقة لم تنفذ، وفي تأجيل جديد لموعد المفاوضات النهائية في الوقت الذي ترفض فيه أمريكا التصويت في لجنة حقوق الإنسان على حق الفلسطينيين في دولة مستقلة. وهكذا انطلقت كل هذه الضغوط لتمنع سلطة الحكم الذاتي من إعلان قيام الدولة الفلسطينية التي لا تملك أية مقومات حقيقية، بالرغم من إعلان عرفات بأنه يمارس السلطة فعلاً في الوقت الذي يعرف الجميع أنه لا يستطيع ممارسة السيادة على أي شبرٍ منها.

إن مشكلة السلطة الفلسطينية هي أنها تتحرك في الوعود والأحلام والضغوط، بينما يتحرك العدو لتغيير الواقع والوقائع، ليصل الأمر إلى نهايةٍ محدودةٍ حيث لا قدس ولا ضفة غربية ولا عودة للاجئين، بل حشر للفلسطينيين في غزة داخل سجن كبير يحوطه السجانون من جميع الجهات.

مأساة كوسوفو استثمار أمريكي مربح

ونطل على مسألة كوسوفو، حيث يُهجّر المزيد من المسلمين بفعل الفظائع الوحشية للصرب والقصف الأطلسي لمناطقهم في غياب أية خطة لعودتهم إلى بلادهم، بل انفتحت القضية على الجانب المأساوي كمسألة إنسانية تتجر بها أمريكا التي تقود الحلف الأطلسي لتنفيذ سياستها في توسيع نطاق الحلف لاستمرار سيطرتها عليه وللاستفادة من ذلك في عروض صفقات جديدة من السلاح قد تبلغ مائة مليار دولار، وللإمساك بالبلقان وإبعاد الأمم المتحدة عن دورها الطبيعي في القضايا السياسية والأمنية في العالم.

حدود القوة الأمريكية

إن أمريكا مهما امتدت فلن تملك الامتداد في أن تلعب دور الشرطي في العالم، بل إنها ستفشل إن عاجلاً أو آجلاً، كما حدث لها في أكثر من موقع في العالم، لأن للقوة حدوداً لا تملك أن تتعداها، وهذا ما نلاحظه في حرب البلقان التي لم تحقق فيها أي انتصار بالرغم من حرب الإبادة.

سوريا ولبنان لن يستجيبا للضغوط الصهيونية

ونصل إلى الجنوب، حيث استطاعت المقاومة الإسلامية إعادة هجمة التحدي على العدو في عملياتها الأخيرة الموفقة ضد جنوده وعملائه، وإسقاط رهان العدو على العملاء، بحيث لم يبق لهم إلا الهرب أو إعلان التوبة، كما لم يبقَ لجنود العدوّ إلا الانسحاب، ولعلّ طلب وزير حرب العدو من واشنطن التوسط لدى سوريا في إيقاف المقاومة الإسلامية هو الدليل على ما يعانيه العدو من المأزق في احتلاله الذي لا يملك فيه حرية الحركة، كما أنه يمثل مستوى وقاحة العدو في التحدث عن ضرورة تدخل أمريكا لحماية أمن احتلاله، وقد قامت أمريكا بهذا الدور الذي نعتقد أن سوريا لا تستجيب له كما لا يستجيب له لبنان الرسمي الذي أطلق المسؤولون الصهاينة تهديداتهم العسكرية ضده وإعلانهم بأنهم سيجعلون لبنان هدفاً عسكرياً إذا دعمت الحكومة المقاومة كما لو كانت الدولة بعيدة عن مسألة تحرير أرضها من الاحتلال.

الحذر من تحركات العدو

ويستمر العدو في قصف المدنيين من دون أن تتدخل أمريكا معه لإيقاف ذلك بل إنها تعمل لتقديم المساعدات له في الحصول على المزيد من الطائرات المتقدمة، ليبقى الأقوى في المنطقة، ولتوجيه النصائح للجميع بالابتعاد عن العنف من دون أي إدانة للعدو من قريب أو بعيد، وفي جميع الأحوال، لابد من الحذر من كل حركات العدو الذي قد يلجأ لأيِّ عملٍ أمني أو عسكري يخفف من مأزقه في انتخاباته القادمة والوقوف مع المقاومة التي تقاتله في مناطق الاحتلال.

نجاح الإصلاح مرهون بتحقيق العدالة

وأخيراً، إننا نؤكد على ضرورة الاستمرار ببرنامج الإصلاح الإداري والنهوض الاقتصادي والتوازن السياسي، ولكن مع مراعاة العدالة في صرف من يراد صرفه، وتعين من يراد تعينه وملاحقة كل قضايا الفساد بكل قوة والابتعاد عن تمييع القضايا لحساب كبير هنا على حساب صغير هناك، لأنه لا إصلاح للبلد إلا إذا كانت العدالة للجميع وعلى الجميع.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير