قيمة النَّصيحة في الإسلام

قيمة النَّصيحة في الإسلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمَّ سماحـة آيـة الله الـعـظمى السيّد محمد حسين فضل الله(رض) المصلّين في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ: 29 جمادى الثانية 1418هـ/ الموافق: 31 تشرين الأول 1997م .

وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة بحضور حشدٍ من الشخصيَّات العلمائيَّة والسياسيَّة والاجتماعيّة وآلاف من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

الخطبة الأولى

من العناصر الأساسيَّة في الإسلام الّتي تختصر الدّين كلّه في كلمة، عنصر "النَّصيحة"، فقد ورد عن رسول الله(ص) أنَّه قال: "الدِّين النَّصيحة لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم"[1]. وفي مقابل النَّصيحة "الغشّ"، فالغشّ والنَّصيحة صفتان متضادَّتان؛ الأولى في الجانب الإيجابيّ، والثَّانية في الجانب السَّلبي.

النَّصيحة في الإسلام

ونريد أن نتفهَّم مواقع هاتين الكلمتين، لأنَّهما تتَّصلان بإيمان المؤمن من حيث العمق، لأنَّ الله تعالى أراد للمؤمن أن ينفتح عليه بكلِّه، أن يكون كلّ عقله لله، فلا يكون فيه شيء بعيد عن الله، وأن يكون كلّ قلبه لله، فلا تكون فيه أيّة عاطفة ضدّ ما يريده الله من العاطفة، وأن تكون كلّ حياته ـ في طعامه وشرابه ولذّته وشهوته ومواقفه ومواقعه وعلاقاته ـ لله، فلا يكون فيها شيء لغير الله، لأنَّه عبد الله بكلِّه، ومن كان عبداً لله، فلا يملك لنفسه شيئاً إلا من الله ولله.

وعلى ضوء ذلك، فإنَّ الكفر بالله يمثِّل غشّاً للنّفس وابتعاداً عن النَّصيحة لله، وهكذا الشِّرك بالله والكفر برسالة رسول الله، وهكذا التمرّد على طاعة الله، كلّ ذلك يقع في دائرة الغشّ، ولا يقع في دائرة النّصيحة. وهكذا في أيّة مسألة من المسائل الّتي تتَّصل برسول الله(ص)، فالنّصح لرسول الله، بأن تلتزم رسالته في عقلك وقلبك وحياتك، وأن تدعو النَّاس إليها، وأن تجاهد في سبيل أن تكون قويَّةً أمام كلّ دعوات الضَّلال والشرك والكفر.

وأن تنصح المؤمنين، يعني أن يكون قلبك مفتوحاً لهم، ليس فيه غشٌّ لمسلم، وأن تكون أقوالك وأفعالك منفتحةً على النَّصيحة لهم، بأن لا تقول كلمةً فيها ضرر وإضعاف وإفساد لهم، وفيها فتنة بينهم، وتمكين للعدوّ عليهم، أن تكون كلماتك في مصلحة المؤمنين في كلِّ جوانبهم الفرديَّة والاجتماعيَّة والسّياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، لأنَّ النّصح للمؤمنين هو ذلك. أن تنصحهم، يعني أن تهديهم، فلا تقبل منهم ضلالةً، ولا تشجِّعهم على ضلالة، وأن تعلّم جاهلهم، وتعود مريضهم، وتساعد فقيرهم، وتؤكِّد الوحدة على القضايا الحيويَّة فيما بينهم، فمن ضرَّ أو أهمل أمر مؤمنٍ، أو وقف حياديّاً بينه وبين الظّالم له، كان موقفه في دائرة الغشّ للمؤمنين، لا في دائرة النّصح لهم.

وهكذا في كلِّ المواقف أو الكلمات الَّتي تثير الحقد والعداوة بين المؤمنين وتضعف الثِّقة فيما بينهم، وتعمل على التَّفريق بينهم ليعادي أحدهم الآخر، وليسبَّ أحدهم الآخر وليتمزَّقوا، في الوقت الَّذي يريد الله لهم أن يتَّحدوا، لأنَّ الأعداء من كلِّ جانبٍ يريدون الإيقاع بين المؤمنين لينهزموا من دون معركة، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[2].

النّصح قضيَّة الأنبياء

لذلك، إنَّني أؤكِّد دائماً من خلال مسؤوليَّتي الشَّرعيَّة على الجانب الاجتماعيّ وعلى الوحدة الاجتماعيَّة في المجتمع المؤمن، لأنَّني أبصر الأخطار التي تتوجَّه إلى المؤمنين، وخصوصاً بعد أن شعر الكافرون والمستكبرون أنَّ المؤمنين في العالم الإسلاميّ استيقظوا من رقدتهم، فعاشوا الصَّحوة الإسلاميَّة، وتخلَّصوا من ضعفهم، فتحركوا في خطِّ الجهاد الإسلاميّ والمقاومة الإسلاميَّة، وخرجوا من عزلتهم، فانفتحوا في مواقفهم السّياسيّة على العالم الإسلامي كلِّه، لذلك خطَّط المستكبرون والكافرون كي لا يعيش المسلمون وحدتهم، سواء كان ذلك في الدَّائرة الإسلاميَّة العامَّة، حيث يكفِّر كلّ مذهبٍ المذهب الآخر، ويلعن كلّ أصحاب مذهبٍ أصحاب المذهب الآخر، وفي دائرة أهل البيت(ع)، نراهم ينفذون من أجل أن يُثيروا الفتنة هنا وهناك في أكثر المواقع في العالم الإسلاميّ السَّائر في خطِّ أهل البيت(ع)، ولا أتحدَّث عن مجتمعنا هنا فحسب، ولكنّي أتحدَّث عن أكثر من مجتمعٍ تطوف به الفتنة ويتحرَّك فيه دعاة الحقد باسم المحافظة على الإسلام وعلى خطِّ أهل البيت(ع).

إنَّ النَّصيحة للمؤمنين ولأئمّة أهل البيت(ع) ولرسول الله(ص)، ولله تعالى قبل ذلك وبعده، تفرض أن ننشر المحبَّة بين المسلمين، فإذا اختلفنا فيما بيننا، فإنَّ علينا أن ننطلق جميعاً لنردّ ذلك إلى الله والرّسول، لا أن نتكاذب ونتلاعن وما إلى ذلك.

لذلك، فإنَّ مسألة أن يكون الإنسان ناصحاً في قلبه ولسانه وعمله، منفتحاً على النّصح، هي قضيَّة الأنبياء جميعاً، كان كلّ نبيّ يأتي إلى قومه ليقول لهم: إني ناصحٌ أمين، لقد أردت أن أنصح لكم. إنَّ رسالة النّبيّ ـ كلّ نبيّ ـ أن يكون النّاصح لقومه، لأنَّ تلك هي الرّسالة الّتي يريد الله للمسلمين أن ينطلقوا بها.

الغشّ من علامات الشّقاء

وفي مقابل النّصح، هناك الغشّ، فتعالوا إلى كلمات رسول الله(ص) وأهل بيته(ع) في مسألة النّصح والغشّ. في الحديث عن رسول الله(ص): "ليس منَّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره"[3]، أي خادعه. وفي حديثٍ عن عليّ(ع) أنّه قال: "الغشّ شيمة المردة"، أي الشّياطين، وفي أحاديث أخرى يقول(ع): "الغشّ يكسب المسبَّة"[4]، "الغشّ شرّ المكر"[5]، "الغشّ من أخلاق اللّئام"[6]، "الغشوش لسانه حلو وقلبه مرّ"[7]، "من علامات الشَّقاء غشّ الصَّديق"[8]، "شرّ النَّاس من يغشّ النّاس[9]".

ثم نأتي إلى الجانب التَّطبيقيّ، وهذا موجَّه إلى الّذين يبيعون ويشترون ويغشّون.. ففي روايةٍ عن رسول الله أنّه "مرّ(ص) في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيّباً! وسأله عن سعره، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه أن يدسّ يديه في الطّعام، ففعل، فأخرج طعاماً رديّاً، فقال(ص) لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين"[10]. وفي روايةٍ أخرى أنَّ رسول الله(ص) "مرّ على صبرة طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطّعام؟ قال: أصابته السَّماء يا رسول الله ـ من خلال المطر ـ فقال(ص): أفلا جعلته فوق الطّعام حتى يراه النّاس؟! ثم قال له: من غشَّنا فليس منّا"[11].

وفي كلمةٍ للإمام عليّ(ع): "المؤمن لا يغشّ أخاه ولا يخونه ولا يخذله ولا يتَّهمه"[12]، فإذا كان هذا هو حال المؤمن، فأين نحن في هذا المجال من الإيمان؟! وعن هشام بن الحكم، قال: كنت أبيع السّابري في الظّلال، فمرَّ بي أبو الحسن موسى(ع) ـ الإمام الكاظم ـ فقال لي: "يا هشام، إنَّ البيع في الظلّ غشّ.."[13]، فإذا أردت أن تبيع، فأعرض بضاعتك في النّور، لأنّ الظلَّ يحجب الكثير من صفات البضاعة. وعن "الحلبي" عن أبي عبد الله جعفر الصَّادق(ع)، سألته عن الرّجل يكون عنده لونان من طعامٍ واحدٍ، وسعرهما بشيء، وأحدهما خير من الآخر، فيخلطهما جميعاً ثم يبيعهما بسعرٍ واحد، قال(ع): "لا يصلح له أن يفعل ذلك، يغشّ به المسلمين حتّى يبيّنه"[14].. وفي حديثٍ عن رسول الله(ص) قال: "لا يحلّ لأحدٍ يبيع شيئاً إلا بيَّن ما فيه، ولا يحلّ لمن علم ذلك ألا يبيّنه"[15]، من باب النَّهي عن المنكر..

الغشُّ في تنوّعاته

نفهم من ذلك أنَّ مسألة الغشّ بعيدة عن الإسلام، والغشّ قد يكون في التجارة، وقد يكون بأشياء أخرى، بالزّواج مثلاً: بعض النّاس يريدون أن يزوّجوا ابنهم لفتاةٍ يكون أهلها متديّنين، والّذين يسألون أهله عنه، فيقول أهله عنه إنّ أخلاقه كأخلاق الأنبياء، وبعد ذلك يظهر أنّ هذا الشابّ لا يصلّي ولا يصوم، ويتناول المخدّرات أو الخمر، ويتنقّل مع العاهرات، أو قد يكون عنده عجز أو مرض معدٍ، وهو ما يؤثّر سلباً في الفتاة، ولا يفصح أهله عن هذا المرض. وقد تكون القضيّة بالعكس، فيأتي إنسان لخطبتها، فيُتحدَّث عنها أحاديث تجعلها بمقام السيّدة مريم(ع)، وبعد ذلك يظهر أنّها من أسوأ النّاس، وهو ما يخلق المشاكل الاجتماعيَّة بشكل فوق العادة.

وقد يكون هناك غشّ في السّياسة، عندما ينطلق رجال السياسة ليدخلوا الناس في أحلام ورديّة فيما يتحركون به، وإذا بالخطط التي يخطّطونها هي على عكس ذلك، والنّاس تنتخبهم وتمشي وراءهم وتقاتل من أجلهم، وهم في الواقع يكذبون على النّاس، ويعاونون أعداء النّاس وأعداء الله، وهذا الغشّ هو من أخطر أنواع الغشّ خطورةً، لأنّه يتّصل بمصائر النّاس وأوضاعهم.

ومن هنا، فإنَّ على الغشَّاش أن يلتفت إلى نفسه، ويفكِّر في أنّ الله قد يفضحه في الدّنيا قبل أن يفضحه في الآخرة، وعلى الّذين يشجّعون الغشّاش التجاريّ أو الأمنيّ أو الاجتماعيّ أو غير ذلك، أن يعرفوا أنّ النّتائج سوف تنقلب عليهم، لأنَّ الإنسان إذا غشَّ الآخرين، فالآخرون سيغشّونه أيضاً.

لذلك، وأمام هذه الأخلاق السَّلبيَّة الَّتي سمعتم خطورتها وموقعها من سخط الله ونقمته من خلال أحاديث رسول الله(ص) وأئمّة الهدى(ع)، علينا أن نجعل أنفسنا صورةً لما يريده الله لنا، بالابتعاد عمّا يكرهه الله لنا، لأنَّ المسألة تتَّصل بالدّنيا والآخرة، وتتّصل بنا أيضاً سلباً أو إيجاباً. وعندما نعرف أنَّ الرّزق من الله، وأنَّ العمر والجاه والنّجاح من الله، لأنَّ الله يملك الأمر كلَّه، فعلينا أن نحسب حساب الله في ذلك كلِّه، وندرك أنَّ الله يراقبنا عندما البيع والشّراء والزّواج، وعند الحكم والحركة في مواقع السّياسة والأمن والاقتصاد.

إنَّ على الإنسان دائماً أن لا يقدِّم رجلاً ولا يؤخِّر أخرى حتى يعلم أنَّ في ذلك لله رضى.. أيّها النّاس، كلّ حساباتنا تسقط وتموت معنا أو بعدنا، ولكنَّ حسابات الله تبقى، فلنضبط حساباتنا وأوضاعنا مع الله.. ولنكثر رصيدنا عند الله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[16]، {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ}[17]، فقدِّموا لأنفسكم لتجدوا عند الله السَّعادة في الدّنيا والآخرة.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله تعالى في كلِّ ما يتَّصل بالتزاماتكم بدينه.. لا تنحرفوا عن الخطِّ المستقيم، فإنَّ الاستقامة في الإسلام هي طريق السَّلامة، لذلك حدِّقوا بأنفسكم لتعرفوا ماذا يحلّ لكم وماذا يحرم عليم، وراقبوا أعمالكم لتعرفوا هل إنّها تتحرّك في الخطِّ المستقيم أو في الخطِّ المنحرف، افتحوا قلوبكم لبعضكم البعض من موقع أخوّة المؤمن لأخيه، ولا تُغلقوا قلوبكم عن بعضكم، لأنَّ المؤمن لا يمكن أن يغلق قلبه أو حياته في طاقاته عن المؤمن الآخر، لأنَّ الله يريد للمؤمنين أن يكونوا المتحابّين فيما بينهم، المتعاونين على الخير والتّقوى، وأن يقفوا صفّاً كالبنيان المرصوص..

كونوا الواعين الَّذين لا يلدغون من جحرٍ مرّتين، فقد قال الإمام جعفر الصَّادق(ع) وهو يتحدَّث عن صفة المؤمن: "المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيّد التّدبير لمعيشته، ولا يلسع من جحرٍ مرّتين"[18].. ونحن نُلدغ من الاستكبار العالميّ وإسرائيل، ونبقى نُدخل أيدينا في الثّقب الّذي تأتينا منه كلّ عقارب الدّنيا وأفاعيها، ونُلدغ بتمزّقاتنا وخلافاتنا، ونعود إلى المكان نفسه الّذي لُدغنا منه.. وهناك أفاعٍ وعقارب كبيرة في هذه الدّنيا، فعلينا أن نكون واعين لهذه المسألة، فتبقى عيوننا وقلوبنا مفتوحة، فتعالوا لنقف أمام الأفعى الكبيرة الّتي تتحرّك في كلّ مواقعنا الإسلاميّة لتلدغنا هنا وتلدغنا هناك، وأيّ أفعى في هذا العالم أكبر من الأفعى الأميركيّة!؟

محاولات أميركيَّة لحصار إيران

لا تزال أميركا ماضية في خطَّتها لمحاصرة إيران، بالضَّغط على الصِّين لإيقاف برنامجها النّوويّ مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة، في مقابل تقديمها للصّين معلومات متقدّمة من تكنولوجيتها النوويّة، وهي ـ أي أميركا ـ تستعدّ للضَّغط على روسيا للابتعاد عن تزويد إيران بالأسلحة المتطوّرة، من خلال تحضير قانونٍ في الكونغرس الأميركيّ يفرض العقوبات على المؤسَّسات الروسيَّة الخاصَّة والحكوميَّة الَّتي يتبيّن أنّها تمدّ إيران بتكنولوجيا الصَّواريخ، وذلك بفعل مجموعة "أيباك" التابعة للوبي اليهوديّ في أميركا.

كلّ ذلك في نطاق حملة إعلاميَّة زاعمة أنّ حصول إيران على الأسلحة البعيدة المدى يهدِّد استقرار المنطقة والملاحة في الخليج، في الوقت الَّذي تعلن إيران أنها تعمل من أجل إيجاد علاقات طبيعيّة متقدّمة مع دول الخليج والعالم العربيّ كلّه، على أساس المصالح الحيويَّة والاحترام المتبادل، ولكنّ أميركا تبقى ماضيةً في خطَّتها التي تعمل على تعقيد علاقات إيران بمحيطها العربيّ، وإدخال إسرائيل إلى الواقع العربيّ اقتصاديّاً وسياسيّاً وأمنيّاً، في الوقت الَّذي تقف إسرائيل بقوَّتها الهائلة لتهدِّد الواقع العربيّ بالسِّلاح النّوويّ والصّواريخ الأميركيّة المتقدّمة، والتّحالف مع تركيا للضَّغط على سوريا ولبنان بالذّات.

إنَّنا نجد في هذه السّياسة الأميركيّة الضّاغطة على الدّول الكبرى، خطراً على المصالح والعلاقات الدّوليّة التي قد تعيد العالم إلى ساحة الصِّراع الحادّ الّذي يؤدّي إلى واقع جديد ليس في مصلحة الإنسانيَّة، ما يفرض على الشّعوب المضطَهدة أن تقف بقوَّة للدّفاع عن مصالحها الحيويَّة في مواجهة الضَّغط الأميركيّ، بالطّريقة الّتي تشعر فيها الدّول الكبرى التي تخضع للضّغط الأميركيّ بأنها تخسر الكثير من وراء ذلك.

وإنَّنا ندعو هذه الشّعوب ـ ولا سيَّما الشّعوب الإسلاميّة ـ إلى أن تقف مع إيران بالكلمة والموقف والدّعم اللازم، إزاء حملات الضَّغط السّياسيّ والاقتصاديّ الأميركيّ، لأنَّ أميركا إذا نجحت في خطَّتها العدوانيَّة ضدّ إيران، فستعمل على مواصلة الضَّغط على كلِّ الشّعوب المناهضة للسّياسة الأميركيّة.

وعلينا أن لا ننسى ـ في هذا المجال ـ تهديد وزير الحرب الإسرائيليّ "إسحق مردخاي" لإيران بضرباتٍ وقائيَّةٍ ضدّ ما ادَّعاه من وجود صواريخ إيرانيَّة بعيدة المدى تستهدف "تل أبيب"، فيما تحدَّث التلفزيون الإسرائيلي عن تزويد إيران للمقاومة بأسلحة تتجاوز حمولة خمسين طائرة، في الوقت الّذي تمتلك إسرائيل أسلحةً نوويَّةً وكيميائيَّةً وجرثوميَّةً وصواريخ بعيدة المدى تهدِّد فيها المنطقة بكاملها، في ظلِّ تشجيعٍ أميركيّ مطلق.

خديعة أميركيَّة للعرب

أمّا على مستوى التحرّك الأميركيّ لإنجاح مؤتمر "الدّوحة"، فلا تزال أميركا تعمل للضَّغط على العرب من أجل حضور هذا المؤتمر، وقد حثَّت "أولبرايت" الإسرائيليّين والسّلطة الفلسطينيَّة على التّعجيل في المحادثات فيما بينهما، على أمل أن يكون لها تأثير إيجابيّ في المؤتمر، وهي تعمل على إقناع "نتنياهو" بتجميد الاستيطان ـ ولو صوَريّاً وشكليّاً ـ ليمرّ المؤتمر بسلام، باعتباره الهدف الرّئيس لأميركا في المنطقة في الظّروف الحاليّة، لأنها تريده جسراً للتّعاون الاقتصاديّ الإقليميّ بمشاركة إسرائيل.

إنّنا نحذِّر الدّول العربيّة من هذه الخديعة الأميركيَّة ـ الإسرائيليّة الّتي تريد أن تخدِّر العرب بالشّكليات في المسألة السياسية، في الوقت الّذي تدعم أميركا إسرائيل بالمواقف والخطوات العملية.

مخطَّط لإرباك السَّاحة اللّبنانيَّة

ونصل إلى لبنان، لنحذِّر من الخطّة الجديدة لإرباك الاستقرار الأمنيّ فيه أمام التفجيرين اللّذين نعتقد أنّ إسرائيل هي صاحبة المصلحة في حدوثهما، لأنَّ أيّ جهة شعبيّة في لبنان لا مصلحة لها في ذلك، وعلى اللّبنانيّين جميعاً أن يكونوا واعين لهذه اللّعبة الإجرامية الإسرائيلية التي فشلت في التغلّب على المقاومة، وخسرت زمام المبادرة أمامها بالرغم من الغارات الجوية، فعملت على إرباك الساحة اللبنانيّة بمتفجّرات جديدة، وقد كنّا حذّرنا في خطبة جمعة سابقة من لجوء "الموساد" إلى بعض العمليّات المتنوّعة لتغطية فشله في لبنان والأردن وإيران.. إنَّ الأمن والسِّلم الأهليّ أمانة الله في أعناق اللّبنانيّين جميعاً، فعليهم أن يتضامنوا ويتوحَّدوا في سبيل حماية الواقع كلّه.

أمّا على مستوى جهاد المقاومة، فقد استطاعت هذه المقاومة البطلة، بعمليَّاتها النّاجحة، ووعيها لحركة "الموساد"، أن تجعل العدوَّ يعترف بخسارته أمامها، فقد أعلنت صحيفة "هآرتس" أنَّ حرب الاستنزاف قفزت مائة في المائة، مشيرةً إلى حجم الخسائر بالأرواح في صفوف الجنود الصَّهاينة. وتقول الصّحيفة ـ نقلاً عن قيادة الجبهة الشّماليّة ـ إنَّ "لحزب الله تفوّقاً على الجيش الإسرائيلي، بينها الجانب الاستخباراتي الميداني والتعاون مع السكّان المحلّيين".. ولا يزال العدوّ يعمل بمختلف الأساليب للخروج من مأزقه الأمنيّ والسياسيّ والعسكريّ، وذلك بالتّفكير في كيفيَّة زيادة الخسائر في الجانب اللّبناني.

وأخيراً، إنَّ ما أُثير حول مشروعٍ إسرائيليٍّ هجوميٍّ على لبنان، في تصريحات وزير الخارجيَّة الرّوسي، ليس إلا محاولة إسرائيليّة لإرباك السَّعي الروسيّ للدّخول على خطِّ التَّسوية، وهذا ما ترفضه إسرائيل وأميركا، في الوقت الَّذي تحاول إيهامه بأنها سوف تساعده بالامتناع عن إكمال مشروعها في الهجوم على لبنان، تماماً كما لو كانت مساعيه هي السَّبب في ذلك، حتى لا يخرج صفر اليدين في زيارته للمنطقة.

إنَّ إسرائيل لا تملك أية فرصة لأيِّ عملٍ كبير في لبنان في الظروف الحالية، لأنَّها سوف تخسر الكثير من ذلك، كما أنَّ أميركا سوف تخسر الكثير في سياستها الدّاعمة لإسرائيل.

ويبقى الهمّ الاقتصادي هو الهمّ الكبير الَّذي لا بدَّ للحكومة من أن تعمل على إيجاد المخرج العمليّ للتّخفيف من صعوبته، إذا لم تتمكَّن من حلِّ المشكلة جذريّاً، لأنَّ الاستقرار الاقتصاديّ في حاجات المواطنين الحيويّة هو الأساس في استقرار البلد كلّه.


[1]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 64، ص 274.

[2]  [الأنفال: 46].

[3]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 12، ص 211.

[4]  ميزان الحكمة، محمد الرّيشهري، ج 3، ص 2258.

[5]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[6]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[7]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[8]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[9]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[10]  الكافي، ج 5، ص 161.

[11]  ميزان الحكمة، ج 3، ص 2259.

[12]  بحار الأنوار، ج 72، ص 143.

[13]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 161.

[14]  المصدر نفسه، ج 5، ص 184.

[15]  ميزان الحكمة، ج 3، ص 2258.

[16]  [البقرة: 197].

[17]  [البقرة: 110].

[18]  وسائل الشّيعة، ج 15، ص 193.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمَّ سماحـة آيـة الله الـعـظمى السيّد محمد حسين فضل الله(رض) المصلّين في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ: 29 جمادى الثانية 1418هـ/ الموافق: 31 تشرين الأول 1997م .

وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة بحضور حشدٍ من الشخصيَّات العلمائيَّة والسياسيَّة والاجتماعيّة وآلاف من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

الخطبة الأولى

من العناصر الأساسيَّة في الإسلام الّتي تختصر الدّين كلّه في كلمة، عنصر "النَّصيحة"، فقد ورد عن رسول الله(ص) أنَّه قال: "الدِّين النَّصيحة لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم"[1]. وفي مقابل النَّصيحة "الغشّ"، فالغشّ والنَّصيحة صفتان متضادَّتان؛ الأولى في الجانب الإيجابيّ، والثَّانية في الجانب السَّلبي.

النَّصيحة في الإسلام

ونريد أن نتفهَّم مواقع هاتين الكلمتين، لأنَّهما تتَّصلان بإيمان المؤمن من حيث العمق، لأنَّ الله تعالى أراد للمؤمن أن ينفتح عليه بكلِّه، أن يكون كلّ عقله لله، فلا يكون فيه شيء بعيد عن الله، وأن يكون كلّ قلبه لله، فلا تكون فيه أيّة عاطفة ضدّ ما يريده الله من العاطفة، وأن تكون كلّ حياته ـ في طعامه وشرابه ولذّته وشهوته ومواقفه ومواقعه وعلاقاته ـ لله، فلا يكون فيها شيء لغير الله، لأنَّه عبد الله بكلِّه، ومن كان عبداً لله، فلا يملك لنفسه شيئاً إلا من الله ولله.

وعلى ضوء ذلك، فإنَّ الكفر بالله يمثِّل غشّاً للنّفس وابتعاداً عن النَّصيحة لله، وهكذا الشِّرك بالله والكفر برسالة رسول الله، وهكذا التمرّد على طاعة الله، كلّ ذلك يقع في دائرة الغشّ، ولا يقع في دائرة النّصيحة. وهكذا في أيّة مسألة من المسائل الّتي تتَّصل برسول الله(ص)، فالنّصح لرسول الله، بأن تلتزم رسالته في عقلك وقلبك وحياتك، وأن تدعو النَّاس إليها، وأن تجاهد في سبيل أن تكون قويَّةً أمام كلّ دعوات الضَّلال والشرك والكفر.

وأن تنصح المؤمنين، يعني أن يكون قلبك مفتوحاً لهم، ليس فيه غشٌّ لمسلم، وأن تكون أقوالك وأفعالك منفتحةً على النَّصيحة لهم، بأن لا تقول كلمةً فيها ضرر وإضعاف وإفساد لهم، وفيها فتنة بينهم، وتمكين للعدوّ عليهم، أن تكون كلماتك في مصلحة المؤمنين في كلِّ جوانبهم الفرديَّة والاجتماعيَّة والسّياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، لأنَّ النّصح للمؤمنين هو ذلك. أن تنصحهم، يعني أن تهديهم، فلا تقبل منهم ضلالةً، ولا تشجِّعهم على ضلالة، وأن تعلّم جاهلهم، وتعود مريضهم، وتساعد فقيرهم، وتؤكِّد الوحدة على القضايا الحيويَّة فيما بينهم، فمن ضرَّ أو أهمل أمر مؤمنٍ، أو وقف حياديّاً بينه وبين الظّالم له، كان موقفه في دائرة الغشّ للمؤمنين، لا في دائرة النّصح لهم.

وهكذا في كلِّ المواقف أو الكلمات الَّتي تثير الحقد والعداوة بين المؤمنين وتضعف الثِّقة فيما بينهم، وتعمل على التَّفريق بينهم ليعادي أحدهم الآخر، وليسبَّ أحدهم الآخر وليتمزَّقوا، في الوقت الَّذي يريد الله لهم أن يتَّحدوا، لأنَّ الأعداء من كلِّ جانبٍ يريدون الإيقاع بين المؤمنين لينهزموا من دون معركة، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[2].

النّصح قضيَّة الأنبياء

لذلك، إنَّني أؤكِّد دائماً من خلال مسؤوليَّتي الشَّرعيَّة على الجانب الاجتماعيّ وعلى الوحدة الاجتماعيَّة في المجتمع المؤمن، لأنَّني أبصر الأخطار التي تتوجَّه إلى المؤمنين، وخصوصاً بعد أن شعر الكافرون والمستكبرون أنَّ المؤمنين في العالم الإسلاميّ استيقظوا من رقدتهم، فعاشوا الصَّحوة الإسلاميَّة، وتخلَّصوا من ضعفهم، فتحركوا في خطِّ الجهاد الإسلاميّ والمقاومة الإسلاميَّة، وخرجوا من عزلتهم، فانفتحوا في مواقفهم السّياسيّة على العالم الإسلامي كلِّه، لذلك خطَّط المستكبرون والكافرون كي لا يعيش المسلمون وحدتهم، سواء كان ذلك في الدَّائرة الإسلاميَّة العامَّة، حيث يكفِّر كلّ مذهبٍ المذهب الآخر، ويلعن كلّ أصحاب مذهبٍ أصحاب المذهب الآخر، وفي دائرة أهل البيت(ع)، نراهم ينفذون من أجل أن يُثيروا الفتنة هنا وهناك في أكثر المواقع في العالم الإسلاميّ السَّائر في خطِّ أهل البيت(ع)، ولا أتحدَّث عن مجتمعنا هنا فحسب، ولكنّي أتحدَّث عن أكثر من مجتمعٍ تطوف به الفتنة ويتحرَّك فيه دعاة الحقد باسم المحافظة على الإسلام وعلى خطِّ أهل البيت(ع).

إنَّ النَّصيحة للمؤمنين ولأئمّة أهل البيت(ع) ولرسول الله(ص)، ولله تعالى قبل ذلك وبعده، تفرض أن ننشر المحبَّة بين المسلمين، فإذا اختلفنا فيما بيننا، فإنَّ علينا أن ننطلق جميعاً لنردّ ذلك إلى الله والرّسول، لا أن نتكاذب ونتلاعن وما إلى ذلك.

لذلك، فإنَّ مسألة أن يكون الإنسان ناصحاً في قلبه ولسانه وعمله، منفتحاً على النّصح، هي قضيَّة الأنبياء جميعاً، كان كلّ نبيّ يأتي إلى قومه ليقول لهم: إني ناصحٌ أمين، لقد أردت أن أنصح لكم. إنَّ رسالة النّبيّ ـ كلّ نبيّ ـ أن يكون النّاصح لقومه، لأنَّ تلك هي الرّسالة الّتي يريد الله للمسلمين أن ينطلقوا بها.

الغشّ من علامات الشّقاء

وفي مقابل النّصح، هناك الغشّ، فتعالوا إلى كلمات رسول الله(ص) وأهل بيته(ع) في مسألة النّصح والغشّ. في الحديث عن رسول الله(ص): "ليس منَّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره"[3]، أي خادعه. وفي حديثٍ عن عليّ(ع) أنّه قال: "الغشّ شيمة المردة"، أي الشّياطين، وفي أحاديث أخرى يقول(ع): "الغشّ يكسب المسبَّة"[4]، "الغشّ شرّ المكر"[5]، "الغشّ من أخلاق اللّئام"[6]، "الغشوش لسانه حلو وقلبه مرّ"[7]، "من علامات الشَّقاء غشّ الصَّديق"[8]، "شرّ النَّاس من يغشّ النّاس[9]".

ثم نأتي إلى الجانب التَّطبيقيّ، وهذا موجَّه إلى الّذين يبيعون ويشترون ويغشّون.. ففي روايةٍ عن رسول الله أنّه "مرّ(ص) في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيّباً! وسأله عن سعره، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه أن يدسّ يديه في الطّعام، ففعل، فأخرج طعاماً رديّاً، فقال(ص) لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين"[10]. وفي روايةٍ أخرى أنَّ رسول الله(ص) "مرّ على صبرة طعامٍ، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطّعام؟ قال: أصابته السَّماء يا رسول الله ـ من خلال المطر ـ فقال(ص): أفلا جعلته فوق الطّعام حتى يراه النّاس؟! ثم قال له: من غشَّنا فليس منّا"[11].

وفي كلمةٍ للإمام عليّ(ع): "المؤمن لا يغشّ أخاه ولا يخونه ولا يخذله ولا يتَّهمه"[12]، فإذا كان هذا هو حال المؤمن، فأين نحن في هذا المجال من الإيمان؟! وعن هشام بن الحكم، قال: كنت أبيع السّابري في الظّلال، فمرَّ بي أبو الحسن موسى(ع) ـ الإمام الكاظم ـ فقال لي: "يا هشام، إنَّ البيع في الظلّ غشّ.."[13]، فإذا أردت أن تبيع، فأعرض بضاعتك في النّور، لأنّ الظلَّ يحجب الكثير من صفات البضاعة. وعن "الحلبي" عن أبي عبد الله جعفر الصَّادق(ع)، سألته عن الرّجل يكون عنده لونان من طعامٍ واحدٍ، وسعرهما بشيء، وأحدهما خير من الآخر، فيخلطهما جميعاً ثم يبيعهما بسعرٍ واحد، قال(ع): "لا يصلح له أن يفعل ذلك، يغشّ به المسلمين حتّى يبيّنه"[14].. وفي حديثٍ عن رسول الله(ص) قال: "لا يحلّ لأحدٍ يبيع شيئاً إلا بيَّن ما فيه، ولا يحلّ لمن علم ذلك ألا يبيّنه"[15]، من باب النَّهي عن المنكر..

الغشُّ في تنوّعاته

نفهم من ذلك أنَّ مسألة الغشّ بعيدة عن الإسلام، والغشّ قد يكون في التجارة، وقد يكون بأشياء أخرى، بالزّواج مثلاً: بعض النّاس يريدون أن يزوّجوا ابنهم لفتاةٍ يكون أهلها متديّنين، والّذين يسألون أهله عنه، فيقول أهله عنه إنّ أخلاقه كأخلاق الأنبياء، وبعد ذلك يظهر أنّ هذا الشابّ لا يصلّي ولا يصوم، ويتناول المخدّرات أو الخمر، ويتنقّل مع العاهرات، أو قد يكون عنده عجز أو مرض معدٍ، وهو ما يؤثّر سلباً في الفتاة، ولا يفصح أهله عن هذا المرض. وقد تكون القضيّة بالعكس، فيأتي إنسان لخطبتها، فيُتحدَّث عنها أحاديث تجعلها بمقام السيّدة مريم(ع)، وبعد ذلك يظهر أنّها من أسوأ النّاس، وهو ما يخلق المشاكل الاجتماعيَّة بشكل فوق العادة.

وقد يكون هناك غشّ في السّياسة، عندما ينطلق رجال السياسة ليدخلوا الناس في أحلام ورديّة فيما يتحركون به، وإذا بالخطط التي يخطّطونها هي على عكس ذلك، والنّاس تنتخبهم وتمشي وراءهم وتقاتل من أجلهم، وهم في الواقع يكذبون على النّاس، ويعاونون أعداء النّاس وأعداء الله، وهذا الغشّ هو من أخطر أنواع الغشّ خطورةً، لأنّه يتّصل بمصائر النّاس وأوضاعهم.

ومن هنا، فإنَّ على الغشَّاش أن يلتفت إلى نفسه، ويفكِّر في أنّ الله قد يفضحه في الدّنيا قبل أن يفضحه في الآخرة، وعلى الّذين يشجّعون الغشّاش التجاريّ أو الأمنيّ أو الاجتماعيّ أو غير ذلك، أن يعرفوا أنّ النّتائج سوف تنقلب عليهم، لأنَّ الإنسان إذا غشَّ الآخرين، فالآخرون سيغشّونه أيضاً.

لذلك، وأمام هذه الأخلاق السَّلبيَّة الَّتي سمعتم خطورتها وموقعها من سخط الله ونقمته من خلال أحاديث رسول الله(ص) وأئمّة الهدى(ع)، علينا أن نجعل أنفسنا صورةً لما يريده الله لنا، بالابتعاد عمّا يكرهه الله لنا، لأنَّ المسألة تتَّصل بالدّنيا والآخرة، وتتّصل بنا أيضاً سلباً أو إيجاباً. وعندما نعرف أنَّ الرّزق من الله، وأنَّ العمر والجاه والنّجاح من الله، لأنَّ الله يملك الأمر كلَّه، فعلينا أن نحسب حساب الله في ذلك كلِّه، وندرك أنَّ الله يراقبنا عندما البيع والشّراء والزّواج، وعند الحكم والحركة في مواقع السّياسة والأمن والاقتصاد.

إنَّ على الإنسان دائماً أن لا يقدِّم رجلاً ولا يؤخِّر أخرى حتى يعلم أنَّ في ذلك لله رضى.. أيّها النّاس، كلّ حساباتنا تسقط وتموت معنا أو بعدنا، ولكنَّ حسابات الله تبقى، فلنضبط حساباتنا وأوضاعنا مع الله.. ولنكثر رصيدنا عند الله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[16]، {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ}[17]، فقدِّموا لأنفسكم لتجدوا عند الله السَّعادة في الدّنيا والآخرة.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله تعالى في كلِّ ما يتَّصل بالتزاماتكم بدينه.. لا تنحرفوا عن الخطِّ المستقيم، فإنَّ الاستقامة في الإسلام هي طريق السَّلامة، لذلك حدِّقوا بأنفسكم لتعرفوا ماذا يحلّ لكم وماذا يحرم عليم، وراقبوا أعمالكم لتعرفوا هل إنّها تتحرّك في الخطِّ المستقيم أو في الخطِّ المنحرف، افتحوا قلوبكم لبعضكم البعض من موقع أخوّة المؤمن لأخيه، ولا تُغلقوا قلوبكم عن بعضكم، لأنَّ المؤمن لا يمكن أن يغلق قلبه أو حياته في طاقاته عن المؤمن الآخر، لأنَّ الله يريد للمؤمنين أن يكونوا المتحابّين فيما بينهم، المتعاونين على الخير والتّقوى، وأن يقفوا صفّاً كالبنيان المرصوص..

كونوا الواعين الَّذين لا يلدغون من جحرٍ مرّتين، فقد قال الإمام جعفر الصَّادق(ع) وهو يتحدَّث عن صفة المؤمن: "المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيّد التّدبير لمعيشته، ولا يلسع من جحرٍ مرّتين"[18].. ونحن نُلدغ من الاستكبار العالميّ وإسرائيل، ونبقى نُدخل أيدينا في الثّقب الّذي تأتينا منه كلّ عقارب الدّنيا وأفاعيها، ونُلدغ بتمزّقاتنا وخلافاتنا، ونعود إلى المكان نفسه الّذي لُدغنا منه.. وهناك أفاعٍ وعقارب كبيرة في هذه الدّنيا، فعلينا أن نكون واعين لهذه المسألة، فتبقى عيوننا وقلوبنا مفتوحة، فتعالوا لنقف أمام الأفعى الكبيرة الّتي تتحرّك في كلّ مواقعنا الإسلاميّة لتلدغنا هنا وتلدغنا هناك، وأيّ أفعى في هذا العالم أكبر من الأفعى الأميركيّة!؟

محاولات أميركيَّة لحصار إيران

لا تزال أميركا ماضية في خطَّتها لمحاصرة إيران، بالضَّغط على الصِّين لإيقاف برنامجها النّوويّ مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة، في مقابل تقديمها للصّين معلومات متقدّمة من تكنولوجيتها النوويّة، وهي ـ أي أميركا ـ تستعدّ للضَّغط على روسيا للابتعاد عن تزويد إيران بالأسلحة المتطوّرة، من خلال تحضير قانونٍ في الكونغرس الأميركيّ يفرض العقوبات على المؤسَّسات الروسيَّة الخاصَّة والحكوميَّة الَّتي يتبيّن أنّها تمدّ إيران بتكنولوجيا الصَّواريخ، وذلك بفعل مجموعة "أيباك" التابعة للوبي اليهوديّ في أميركا.

كلّ ذلك في نطاق حملة إعلاميَّة زاعمة أنّ حصول إيران على الأسلحة البعيدة المدى يهدِّد استقرار المنطقة والملاحة في الخليج، في الوقت الَّذي تعلن إيران أنها تعمل من أجل إيجاد علاقات طبيعيّة متقدّمة مع دول الخليج والعالم العربيّ كلّه، على أساس المصالح الحيويَّة والاحترام المتبادل، ولكنّ أميركا تبقى ماضيةً في خطَّتها التي تعمل على تعقيد علاقات إيران بمحيطها العربيّ، وإدخال إسرائيل إلى الواقع العربيّ اقتصاديّاً وسياسيّاً وأمنيّاً، في الوقت الَّذي تقف إسرائيل بقوَّتها الهائلة لتهدِّد الواقع العربيّ بالسِّلاح النّوويّ والصّواريخ الأميركيّة المتقدّمة، والتّحالف مع تركيا للضَّغط على سوريا ولبنان بالذّات.

إنَّنا نجد في هذه السّياسة الأميركيّة الضّاغطة على الدّول الكبرى، خطراً على المصالح والعلاقات الدّوليّة التي قد تعيد العالم إلى ساحة الصِّراع الحادّ الّذي يؤدّي إلى واقع جديد ليس في مصلحة الإنسانيَّة، ما يفرض على الشّعوب المضطَهدة أن تقف بقوَّة للدّفاع عن مصالحها الحيويَّة في مواجهة الضَّغط الأميركيّ، بالطّريقة الّتي تشعر فيها الدّول الكبرى التي تخضع للضّغط الأميركيّ بأنها تخسر الكثير من وراء ذلك.

وإنَّنا ندعو هذه الشّعوب ـ ولا سيَّما الشّعوب الإسلاميّة ـ إلى أن تقف مع إيران بالكلمة والموقف والدّعم اللازم، إزاء حملات الضَّغط السّياسيّ والاقتصاديّ الأميركيّ، لأنَّ أميركا إذا نجحت في خطَّتها العدوانيَّة ضدّ إيران، فستعمل على مواصلة الضَّغط على كلِّ الشّعوب المناهضة للسّياسة الأميركيّة.

وعلينا أن لا ننسى ـ في هذا المجال ـ تهديد وزير الحرب الإسرائيليّ "إسحق مردخاي" لإيران بضرباتٍ وقائيَّةٍ ضدّ ما ادَّعاه من وجود صواريخ إيرانيَّة بعيدة المدى تستهدف "تل أبيب"، فيما تحدَّث التلفزيون الإسرائيلي عن تزويد إيران للمقاومة بأسلحة تتجاوز حمولة خمسين طائرة، في الوقت الّذي تمتلك إسرائيل أسلحةً نوويَّةً وكيميائيَّةً وجرثوميَّةً وصواريخ بعيدة المدى تهدِّد فيها المنطقة بكاملها، في ظلِّ تشجيعٍ أميركيّ مطلق.

خديعة أميركيَّة للعرب

أمّا على مستوى التحرّك الأميركيّ لإنجاح مؤتمر "الدّوحة"، فلا تزال أميركا تعمل للضَّغط على العرب من أجل حضور هذا المؤتمر، وقد حثَّت "أولبرايت" الإسرائيليّين والسّلطة الفلسطينيَّة على التّعجيل في المحادثات فيما بينهما، على أمل أن يكون لها تأثير إيجابيّ في المؤتمر، وهي تعمل على إقناع "نتنياهو" بتجميد الاستيطان ـ ولو صوَريّاً وشكليّاً ـ ليمرّ المؤتمر بسلام، باعتباره الهدف الرّئيس لأميركا في المنطقة في الظّروف الحاليّة، لأنها تريده جسراً للتّعاون الاقتصاديّ الإقليميّ بمشاركة إسرائيل.

إنّنا نحذِّر الدّول العربيّة من هذه الخديعة الأميركيَّة ـ الإسرائيليّة الّتي تريد أن تخدِّر العرب بالشّكليات في المسألة السياسية، في الوقت الّذي تدعم أميركا إسرائيل بالمواقف والخطوات العملية.

مخطَّط لإرباك السَّاحة اللّبنانيَّة

ونصل إلى لبنان، لنحذِّر من الخطّة الجديدة لإرباك الاستقرار الأمنيّ فيه أمام التفجيرين اللّذين نعتقد أنّ إسرائيل هي صاحبة المصلحة في حدوثهما، لأنَّ أيّ جهة شعبيّة في لبنان لا مصلحة لها في ذلك، وعلى اللّبنانيّين جميعاً أن يكونوا واعين لهذه اللّعبة الإجرامية الإسرائيلية التي فشلت في التغلّب على المقاومة، وخسرت زمام المبادرة أمامها بالرغم من الغارات الجوية، فعملت على إرباك الساحة اللبنانيّة بمتفجّرات جديدة، وقد كنّا حذّرنا في خطبة جمعة سابقة من لجوء "الموساد" إلى بعض العمليّات المتنوّعة لتغطية فشله في لبنان والأردن وإيران.. إنَّ الأمن والسِّلم الأهليّ أمانة الله في أعناق اللّبنانيّين جميعاً، فعليهم أن يتضامنوا ويتوحَّدوا في سبيل حماية الواقع كلّه.

أمّا على مستوى جهاد المقاومة، فقد استطاعت هذه المقاومة البطلة، بعمليَّاتها النّاجحة، ووعيها لحركة "الموساد"، أن تجعل العدوَّ يعترف بخسارته أمامها، فقد أعلنت صحيفة "هآرتس" أنَّ حرب الاستنزاف قفزت مائة في المائة، مشيرةً إلى حجم الخسائر بالأرواح في صفوف الجنود الصَّهاينة. وتقول الصّحيفة ـ نقلاً عن قيادة الجبهة الشّماليّة ـ إنَّ "لحزب الله تفوّقاً على الجيش الإسرائيلي، بينها الجانب الاستخباراتي الميداني والتعاون مع السكّان المحلّيين".. ولا يزال العدوّ يعمل بمختلف الأساليب للخروج من مأزقه الأمنيّ والسياسيّ والعسكريّ، وذلك بالتّفكير في كيفيَّة زيادة الخسائر في الجانب اللّبناني.

وأخيراً، إنَّ ما أُثير حول مشروعٍ إسرائيليٍّ هجوميٍّ على لبنان، في تصريحات وزير الخارجيَّة الرّوسي، ليس إلا محاولة إسرائيليّة لإرباك السَّعي الروسيّ للدّخول على خطِّ التَّسوية، وهذا ما ترفضه إسرائيل وأميركا، في الوقت الَّذي تحاول إيهامه بأنها سوف تساعده بالامتناع عن إكمال مشروعها في الهجوم على لبنان، تماماً كما لو كانت مساعيه هي السَّبب في ذلك، حتى لا يخرج صفر اليدين في زيارته للمنطقة.

إنَّ إسرائيل لا تملك أية فرصة لأيِّ عملٍ كبير في لبنان في الظروف الحالية، لأنَّها سوف تخسر الكثير من ذلك، كما أنَّ أميركا سوف تخسر الكثير في سياستها الدّاعمة لإسرائيل.

ويبقى الهمّ الاقتصادي هو الهمّ الكبير الَّذي لا بدَّ للحكومة من أن تعمل على إيجاد المخرج العمليّ للتّخفيف من صعوبته، إذا لم تتمكَّن من حلِّ المشكلة جذريّاً، لأنَّ الاستقرار الاقتصاديّ في حاجات المواطنين الحيويّة هو الأساس في استقرار البلد كلّه.


[1]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 64، ص 274.

[2]  [الأنفال: 46].

[3]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 12، ص 211.

[4]  ميزان الحكمة، محمد الرّيشهري، ج 3، ص 2258.

[5]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[6]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[7]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[8]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[9]  المصدر نفسه، ج 3، ص 2258.

[10]  الكافي، ج 5، ص 161.

[11]  ميزان الحكمة، ج 3، ص 2259.

[12]  بحار الأنوار، ج 72، ص 143.

[13]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 161.

[14]  المصدر نفسه، ج 5، ص 184.

[15]  ميزان الحكمة، ج 3، ص 2258.

[16]  [البقرة: 197].

[17]  [البقرة: 110].

[18]  وسائل الشّيعة، ج 15، ص 193.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير