الزّهراء(ع) النَّموذج الأكمل للمرأة في كلِّ العصور

الزّهراء(ع) النَّموذج الأكمل للمرأة في كلِّ العصور

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمَّ سماحـة آيـة الله الـعـظمى السيِّد محمَّد حسين فضل الله المصلّين في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 22 جمادى الثّانية 1418هـ/ الموافق: 24 تشرين الأوَّل 1997م .وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة بحضور حشدٍ من الشَّخصيّات العلمائيَّة والسّياسيَّة والاجتماعيَّة وآلاف من المؤمنين. ومما جاء فيهما:

الخطبة الأولى

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[1]. لا نزال نعيش مع السيِّدة الطَّاهرة المعصومة سيّدة نساء العالمين فاطمة الزّهراء(ع)، الّتي هي من هذا البيت، والَّتي ربطت بين النبوَّة والإمامة، فكانت زوجة أوَّل إمام وكانت أمَّ الأئمَّة الباقين، وهي ابنة رسول الله(ص)، ومنها وحدها نسله. وفي بعض التّفاسير، أنَّ "قريش" قالت عن النبيّ(ص) إنَّه أبتر لا عقب له، فنزلت هذه السّورة :{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}[2]، أعطيناك النَّسل الكثير من خلال فاطمة(ع).

النّموذج الأكمل

هذه المرأة هي النَّموذج الأكمل للمرأة، وهي الَّتي أعطاها الله ـ  كما أعطى أباها وزوجها وابناها ـ الطّهر كلَّه. وعندما يتحدَّث الله عن الطّهر وعن إذهاب الرّجس، فإنَّه يريد بالطّهر طهر الحقيقة، فالباطل لا يقترب من هؤلاء، ففكرهم فكر الحقّ وطهر القلب، فالعاطفة في نبضات قلوبهم لا تنفتح إلا على ما يحبّه الله ويرضاه ومن يحبّه ويرضاه، وهي تنفتح على النّاس كلِّهم ولا تنغلق على إنسان؛ تنفتح على المؤمن من أجل أن تتحرّك معه في خطِّ الإيمان في مواقع الحركة والقوّة، وتنفتح على غير المؤمن لتهديه إلى سواء السَّبيل. والطّهر في القول والعمل، فلا يتقذَّرون في القول بأيّة كلمة باطل، ولا يتقذَّرون بأيّ عمل محرَّم.. رضاهم رضى الله، وغضبهم غضب الله، ومن هنا كانت الآية دليلاً على عصمة أهل البيت(ع).

وعندما ندرس حياتها(ع)، نجد أنَّها كانت حياة المعاناة كلِّها، لأنَّها عانت كلَّ الآلام مع أبيها في مكَّة، عندما رأت المشركين يضطهدونه ويحاصرونه ويتكلَّمون عليه بالسّوء ويقفون ضدّ دعوته، وعاشت مع أبيها في المدينة وهي ترى القوم يحاربونه من كلِّ جانبٍ ليُسقطوا رسالته وليُضعفوا قوَّته، وليمنعوه من أن يجعل رسالة الله منفتحةً على الإنسان كلِّه، وعاشت مع زوجها الفقر كلَّه في كلِّ المعاناة، وعاشت معه جهاده وهو يجاهد في سبيل الله، وكان النبيّ(ص) يخرجها بين وقتٍ وآخر في بعض مواقع الجهاد، لتعاون وتساعد في ذلك كلِّه، وعاشت المعاناة كأقسى ما تكون المعاناة بعد وفاة أبيها(ص) في حزنها الكبير عليه، وفي حزنها الكبير على الأمّة، وفيما لاقته من اضطهاد الأمّة لها ولحقّ زوجها بطريقةٍ وبأخرى. ولكنَّها مع ذلك كلِّه، كانت القويّة في نفسها، والقويّة بربها، والقويّة في منطقها، والمسؤولة في كلِّ ما تعلّمته من رسول الله(ص) وفيما ألهمها الله إيّاه.

ونحن في هذه الوقفة، نحاول أن نقرأ بعض ما رواه الرّواة عنها، فيما كانت تحدِّث به عن رسول الله(ص)، ونحن نقرأ أنَّ الرّجال كانوا يروون عنها الحديث، كما كانت النّساء يروين عنها الحديث، ما يدلّ على أنها كانت تنفتح في علمها على الجميع، من أجل أن تعطيهم علم رسول الله(ص). ففي حديثٍ يرويه صاحب "ينابيع المودَّة" عن فاطمة الزّهراء(ع)، قالت: "سمعت رسول الله(ص) في مرضه الَّذي قُبض فيه يقول، وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ـ لم يقله همساً ولا سرّاً، بل كان يقوله علناً لأصحابه ـ : أيّها النّاس، يوشك أن أُقبض قبضاً يسيراً فينطلق بي، وقد قدّمت إليكم القول معذرةً إليكم ـ أطلقت إليكم هذه الكلمة لأعذر إلى الله تعالى بأني بلّغت قومي ذلك فيما يستقبلونه من أمر ـ إلا أنّي مخلّف فيكم كتاب ربّي عزّ وجلّ، وعترتي أهل بيتي. ثم أخذ بيد عليّ(ع) فرفعها، فقال: هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض فأسألهما ماذا خلّفت فيهما"[3]؟ كيف حفظتم كتاب الله؟ وكيف حفظتم عليّاً الّذي يجسِّد كتاب الله ويحمله كما حملته، لأنَّه "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي"[4]؟ وقال "القيدوزي": "وفي "الصّواعق المحرقة"، روى هذا الحديث ثلاثون صحابيّاً، وإنَّ كثيراً من طرقه صحيح وحسن"[5].

الصَّادقة المصدّقة

ونحن نعرف أنَّ الزّهراء(ع) هي الصَّادقة المصدّقة، وقد قالت عنها زوجة أبيها عائشة: "ما رأيت أصدق منها إلا أباها"[6]. وفي ضوء هذا، فإنَّ معنى هذا الحديث، أنَّ النبيّ(ص) لم يكتفِ بالتَّنصيص على عليّ(ع) بعيد الغدير، بل إنَّه أضاف إلى ذلك التَّنصيص عليه كعدلٍ للقرآن، وكنموذجٍ من أهل بيته في آخر لحظات حياته.

وهكذا، كانت الزّهراء(ع) تتحدَّث عن بعض الأمور الّتي تتَّصل باستحباب أن لا ينام الإنسان بين طلوع الفجر وطلوع الشَّمس، فيروي "السّيوطي" في "مسند فاطمة" عن الزّهراء(ع) أنها قالت: "مرَّ بي رسول الله(ص) وأنا مضطجعة متصبِّحة.. وقال: يا بنيّ، قومي فاشهدي رزق ربّك ولا تكوني من الغافلين، فإنَّ الله يقسِّم أرزاق النّاس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس".

وعن فاطمة(ع) كما  في "خلاصة الأذكار" أنها قالت: دخل عليَّ أبي رسول الله(ص)، وإني قد افترشت الفراش وأردت أن أنام، فقال: يا فاطمة، لا تنامي حتى تعملي أربعة أشياء: حتى تختمي القرآن، وتجعلي الأنبياء شفعاءك، وتجعلي المؤمنين راضين عنك، وتعملي حجَّةً وعمرة، ودخل في الصَّلاة، فتوقَّفت على فراشي حتى أتمَّ الصّلاة، فقلت: يا رسول الله، أمرتني بأربعة أشياء لا أقدر في هذه السَّاعة على أن أفعلها! فتبسَّم رسول الله(ص) وقال: إذا قرأت {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}[7] ثلاث مرّات، فكأنَّك قد ختمت القرآن ـ لأنَّ القرآن كلّه ينطلق من خلال توحيد الله في العقيدة والعبادة والطَّاعة ـ وإذا صلّيت عليَّ وعلى الأنبياء من قبلي، فقد صرنا لك شفعاء يوم القيامة ـ لأنَّ الصَّلاة عليه وعلى آله وعلى الأنبياء تمثّل معنى الانفتاح على كلِّ رسالتهم وحركيّتهم الرساليَّة، لأنَّ الإنسان عندما يطلب من ربّه أن يصلّي عليه وعلى آله وعلى الأنبياء، فإنَّه يتذكَّر في كلِّ كلمة صلاة عليهم كيف عاشوا الرّسالات، وكيف أخلصوا لله، وكيف صبروا على الأذى في جنب الله، فـينــفـتح للنّاس باب طويل عريض على كلِّ الرّسالات، فيزدادون بذلك إيماناً ـ وإذا استغفرت للمؤمنين، فكلّهم راضون عنك ـ أن يستغفر الإنسان للمؤمنين والمؤمنات قبل أن ينام ـ وإذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر، فقد حججت واعتمرت"، لأنّه عندما يسبِّح الإنسان الله في مواقع عظمته، ويوحِّده في مواقع ربوبيّته، ويحمده في مواقع فضله، ويكبّره في مواقع عظمته وكبريائه، فكأنَّه اختصر كلَّ نتائج الحجّ والعمرة، لأنَّ قيمة الحجّ والعمرة بمقدار ما يتعرَّف الإنسان إلى ربّه أكثر، وبمقدار ما يكبّره ويهلِّله ويحمده ويسبِّحه أكثر.

وكانت(ع) تنبِّه إلى أن ينام الإنسان نظيف اليد، فتقول وهي تروي عن رسول الله(ص) في الحديث، كما جاء في "الذّريّة الطّاهرة" عن "فاطمة بنت الحسين عن أبيها عن فاطمة بنت رسول الله" قالت: "قال رسول الله(ص): لا يلومنَّ إلا نفسه من بات وفي يده غَمَر"[8]، والغَمَر هو الوسخ من اللّحم أو من الشّحم وما إلى ذلك. ونجد الزّهراء(ع) تتحدَّث عن خيار النّاس، ففي الحديث أيضاً كما في "دلائل الإمامة"، عن "فاطمة بنت الحسين عن أبيها عن فاطمة بنت رسول الله"، قالت: "قال رسول الله(ص): خياركم ألينكم مناكبه، وأكرمكم لنسائه"، يعني خير النّاس من كان أرفق بالنّاس، الَّذي يخفض جناحه، والّذي يحمل الناس في قضاياهم على منكبيه من دون أن يتعقَّد من ذلك، وخيرهم أيضاً أكرمه لنسائه، سواء كنَّ بناته أو زوجته أو أمَّه أو ما إلى ذلك.

القدوة في الحقِّ والموقف

وهكذا نجد أنَّ الزّهراء(ع) تروي عن رسول الله(ص) وتعلِّم، ما جعلها وهي في مقتبل العمر، تنفتح على ما يرفع مستوى المرأة ويعطيها المثل، ويجعلها المثل الحيَّ للإنسانة المتحركة في علمها، والخاشعة في عبادتها، والمجاهدة في مواقفها، وكانت وهي الضَّعيفة في بدنها، قويّة في منطقها وموقفها، لم تأخذها في الله لومة لائم، كانت تقف لتدافع عن حقّها وعن حقّ الأمّة في حقّ عليّ(ع)، ولتدافع بالكلمة والموقف والاحتجاج، حتى اعتُبرت أوَّل مسلمة وأوَّل امرأة في التاريخ العربيّ تقف هذا الموقف من خلال إيمانها بالقضيَّة وصلابتها أمام القضيَّة، كانت تعنّف الكبار منهم، وكانت تلين مع الصِّغار منهم، كانت تجمع النّساء حولها لتحدّثهم عن عليّ(ع) وعن جهاده وعن حقِّه، وكانت تحدِّث الرّجال عن عليّ(ع) وعمَّا مارسوه في ابتعادهم عنه.

وبذلك كان يومها يوم المرأة المسلمة العالميّ، لأنَّ المرأة تحتاج إلى القدوة في الحقّ، والعفّة في الحركة والموقف، والإخلاص لبيتها وزوجها وأولادها ومجتمعها، لذلك نريد أن نقول للرِّجال وللنِّساء: خذوا من فاطمة(ع) الطّهر كلَّه والخير كلّه والحقّ كلّه والعصمة كلّها، لأنّها كانت التَّجسيد العمليَّ لكلِّ هذه الصّفات الكبرى، لا تستغرقوا فقط في جانب المأساة، وان كانت مأساتها كبيرة، ولكن اذكروا أنَّ مأساة الزّهراء(ع) كانت في سبيل الله وفي سبيل الحقّ والمسلمين.

لذلك، لا بدَّ لكم من أن ترتفعوا إلى مستوى ما عاشته الزّهراء(ع)، عندما رُوي أنَّ عليّاً(ع) قال لها، وقد شعر بحزنها على ما واجهته من ظلم: إنَّني لو خرجت وجاهدت وأطلقت سيفي، فإنَّ الإسلام سوف يضعف ويسقط، كأنّه كان يقول لها: هل تريدين لي أن أنطلق ليضعف الإسلام، أو أن أصبر وتصبري، ليرتفع الإسلام وليجتاز كلّ هذه الصّعوبات؟ وقالت له: أصبر. وقال للنَّاس: "لأُسَلِّمَن ـ وأنا صاحب الحقّ ـ ما سلِمَت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصّة"[9].

مصلحة الإسلام أوَّلاً

وهكذا، كانت فاطمة(ع) مع وحدة الإسلام، حتى لو كانت المظلومة في ذلك، وحتى لو كان زوجها المظلوم في ذلك، لأنَّهم أهل بيت النبوّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، وهم الأمناء على الإسلام والمسؤولون عن قوَّته. وهذا ما يجب أن تتعلَّمه المرأة المسلمة والرّجل المسلم، أن نتعلَّم جميعاً أن ننظر دائماً إلى مصلحة الإسلام والمسلمين في كلِّ ما نتكلَّمه ونمارسه، وفي كلِّ موقفٍ نقفه، قلناها مراراً: ليس معنى الوحدة الإسلاميّة الّتي ندعو إليها، والّتي دعا إليها العلماء الكبار في خطِّ الأئمَّة(ع)، أن تترك ما تعتقد به أو يترك الآخر ما يعتقده، ولكن أيّها النّاس، إنّ الكفر قد أعلن حرباً عالميّةً على الإسلام، فعلينا أن نقف في مواجهته صفّاً واحداً. إنّنا نختلف في الإمامة والخلافة، ونختلف في شكل الصَّلاة وفي الوضوء، ولكن هل نختلف في أنَّ علينا أن نشهد أن "لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله"، وأن نحفظ هاتين الشّهادتين لتنطلقا في كلّ موقعٍ من مواقع الإسلام، لنحفظ المسلمين على هاتين الشّهادتين، وعلى كتاب الله، وعلى عترة أهل بيته؟!

إنَّ علينا أن نعيش الوحدة بالمحبَّة، وأن نعيش المحبَّة بالحوار فيما اختلفنا فيه، وبالاتَّفاق فيما نواجهه. إنَّ الاستكبار العالميَّ من جهة، والكفر العالميّ من جهةٍ أخرى، يريدان أن يجعلانا في دوّامة من الخلافات المذهبيَّة فيما بين المذاهب الإسلاميَّة، ليلعن بعضنا بعضاً، ويسبّ بعضنا بعضاً، ويقتل بعضنا بعضاً، من دون أيّة نتيجة للشّيعة ولا للسنّة في ذلك.

وإنَّ الاستكبار العالميَّ والكفر العالميَّ يريدان منّا حتى في داخل المذهب الواحد أن نتنازع ونتحاقد، وأن نتعادى، وأن يلعن بعضنا بعضنا الآخر، ويكفِّر بعضنا بعضنا الآخر، ويضلّل بعضنا بعضنا الآخر، أتعرفون ما معنى ذلك؟ معناه أنَّنا نريد أن نطعن الإسلام في الصَّميم، لأنَّ قوَّتنا عندما تكون ضدّ بعضنا البعض، ولأنَّ كلماتنا عندما تكون ضدّ بعضنا البعض، فإنَّ معنى ذلك أن يقتل بعضنا البعض الآخر من دون أن يحتاج الاستكبار إلى أن يقتلنا ويهزمنا، والله يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[10].

الحذر من خطط الأعداء

لذلك، علينا أن نكون واعين لطبيعة اللّعبة ولطبيعة المؤامرة، وأنَّ الأرض تهتزّ تحت أقدامنا، وأنَّ العدوّ المستكبر ـ وفي مقدَّمه أميركا وإسرائيل ـ يريد إذلالنا وإضعافنا وإسقاط قوَّتنا وسياستنا، فهل نبقى نتحدَّث كما كان أهل "قسطنطينية" يتحدَّثون عندما كان الفاتح يدقّ الأبواب ـ والفاتح الغاشم عندنا كسّر الأبواب ودخل حتى غرف النّوم ـ ويتنازعون: هل البيضة أصل الدّجاجة أم الدّجاجة أأصل البيضة؟ هل الملائكة ذكور أو إناث؟ ويختلفون ويتنازعون في هذه السّهرة وفي تلك السّهرة، ويدخل الفاتح، ولا يزالون يتنازعون في أصل البيضة والدَّجاجة وفي جنس الملائكة.. أليس بعض ما نتنازع فيه هو من هذا القبيل؟ أليس بعض ما نتحاقد فيه ونتعادى فيه هو من هذا القبيل؟ والعدو دخل البيوت، وصادر ثرواتنا، وصادر البحر والجوّ، ونحن نتناقش في هذه الأمور وفي تلك الأمور، ونظلّ نتناقش، ويمتدّ العدوّ في إضعافنا، ونسقط دون حرب؟ هل يعجبكم هذا الواقع؟

كونوا الواعين الَّذين يدرسون القضايا الكبرى في الآفاق الكبرى، لا تكونوا في موقع "ضيعويّ" صغير جدّاً، والله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ـ من أمور دينكم وشريعتكم ـ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ ـ ليحكم الله من خلال كتابه بأن تفهموا كتابه ـ وَالرَّسُولِ}[11]، من خلال سنَّته، لتفهموا سنَّته بكلِّ عقلانيَّة وموضوعيَّة واحترام أحدكم للآخر، حتى لا تشغلكم عصبيَّاتكم باسم الدّين عن كلِّ ما يواجهكم من خطرٍ كبيرٍ داهمٍ على الإسلام والمسلمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله فيما أراد الله لكم من كلِّ ما يريد لكم أن تعملوه وأن تتركوه، اتّقوا الله في كلِّ الواقع الّذي تعيشونه، وفي كلِّ مسؤوليَّاتكم في الحياة.. اتَّقوا الله بأن ترحموا الضّعفاء منكم، وأن لا يعتدي أحدكم على الآخر، ولا سيّما بالنِّسبة إلى المرأة الّتي أوصى بها رسول الله(ص)، فلم يسلّط الرّجل على امرأته، أو على ابنته، أو على أخته، أو على أمِّه، أو على أيّة امرأة أخرى، لم يسلِّطه في مواقع قوَّته على أن يمارس العنف معها بكلمة قاسية أو شتيمة، أو بإخراجٍ من بيتٍ تحت تأثير انفعالٍ أو ضرب، أو ما إلى ذلك. إنَّ الله جعل نساءكم أخواتكم في الإيمان، فعليكم أن تؤدّوا إليهنَّ ما تؤدّونه إلى الأخ في الإيمان، كما أنَّ عليهنَّ أن يؤدّين إليكم ما يجب عليهنّ في مجال الأخوّة الإيمانيَّة..

اتَّقوا الله، ولا تظلموا الضّعفاء منكم، لأنّكم بذلك تركّزون مفهوم الظّلم في الواقع، إذا كنت تظلم زوجتك أو ابنتك أو ابنك أو أختك بغير حقّ، فلماذا تتعقَّد من ظلم الكبار الَّذين هم أقوى منك؟ الظّلم شيء واحد، وإن اختلف حجمه، فإذا كنتم تكرهون الظّلم والظّالمين، فاكرهوه من أنفسكم قبل أن تكرهوه من غيركم، كما قال الإمام زين العابدين(ع) في دعائه: "اللّهم وكما كرَّهت لي أن أُظلَم، فقني من أن أظلم".. اتّقوا الله في عباده وبلاده، وواجهوا الظّالمين في داخلكم والظّالمين في خارج نطاقكم، حتى ينطلق العدل كلّه من خلال أن نكون نحن العادلين، كما يكون الآخرون كذلك. فتعالوا لندرس ماذا فعل الظّالمون بنا، لنعرف أيضاً ماذا فعلنا بأنفسنا في معاونة الظّالمين علينا.

والبداية من فلسطين، لأنها تختصر كلّ تاريخ المرحلة هذه.

محاولات حفظ أمن اليهود

لا تزال المفاوضات بين سلطة الحكم الذّاتي والصّهاينة تدور حول العنوان الإسرائيلي، وهو الأمن لليهود، الّذين يفرضون شروطه بالطّريقة الّتي يتحوَّل فيها الفلسطينيّون إلى آلاتٍ تنفِّذ خطط إسرائيل في قتل رجال الانتفاضة، ومحاصرة الإسلاميّين، وإسقاط البنية التّحتيّة لهم، وإثارة الحرب الدّاخليَّة بين الفلسطينيّين، من خلال سياسة القمع ضدّ الشّعب الفلسطيني الباحث عن حريّته واستقلاله وتقرير مصيره. وهذا هو ما تسعى إليه أميركا لتحقيق الشّروط الإسرائيليّة، لتصل إلى بعض النّتائج الإعلاميّة السياسيّة في المفاوضات، لإسقاط تحفّظات المتحفّظين في السّاحة العربيّة أمام مؤتمر "قطر" الّذي تعمل له أميركا من أجل إدخال إسرائيل في مفاصل الاقتصاد العربي، كوسيلةٍ من وسائل محاصرة بعض العرب الَّذين لا يزالون في موقف الصّمود أمام الخطة الأمريكيّة ـ الإسرائيليَّة الضَّاغطة على الواقع العربيّ كلّه.

إنّنا نحذِّر العرب ـ والفلسطينيّين خاصَّة ـ من هذه اللّعبة الأميركيَّة ـ الإسرائيليّة الّتي تُدخلهم في نفقٍ مظلمٍ لا يُعرَف مداه، بالطّريقة الّتي أدخلهم فيه اتّفاق "أوسلو"، الذي لم يحصل فيه الفلسطينيّون إلا على المزيد من القيود والمتاهات السياسيَّة والأمنيَّة، لاستكمال الاحتلال الصّهيوني لفلسطين كلِّها بموافقة فلسطينيَّة.

الضّغوط الأميركيَّة لإرباك إيران

أمَّا على مستوى الضّغوط الأميركيَّة ضدَّ إيران، فلا تزال الولايات المتَّحدة الأميركيَّة تعمل في هذه المرحلة ضدّ الجمهوريّة الإسلاميَّة على ثلاثة مستويات:

1 ـ الضّغط على روسيا والصّين لمنعهما من بيع إيران تكنولوجيا عسكريَّة، بطريقة الإغراءات والتّهديدات الاقتصاديَّة. وقد ذكرت الأنباء أنَّ الصّين قد خضعت لبعض ذلك، بإعلانها تجميد مشاريعها النّووية مع إيران، علماً أنَّ هذه المشاريع لها طابع سلميّ فحسب، ما يوحي بأنَّ أميركا لا تحارب إيران من أجل منعها من صنع السِّلاح النّوويّ، بل إنها تعمل على منعها من حلِّ مشاكلها الاقتصاديَّة باستخدام الأجهزة النوويّة في الأغراض السّلميَّة لخدمة شعبها في حاجاته الحيويَّة.

2 ـ إنَّ واشنطن تبعث برسائل وتهديدات لإيران عبر حركتها في مياه الخليج، لئلا تستمرّ في برنامج صنع القوَّة لنفسها، لأنها تخاف من تحوّل إيران إلى قوّة عسكريَّة كبرى في المنطقة ذات اكتفاءٍ ذاتيّ من ناحية السّلاح. وفي الإطار عينه، أبدى تقرير فريق استشاري في الحلف الأطلسي تخوّفاً "من أن تتحوّل إيران إلى دولة منتجة للأسلحة المتطوّرة في مدّة قياسيَّة"...

3 ـ إنَّ أميركا تعمل على إنجاح مؤتمر الدَّوحة لتطويق المؤتمر الإسلامي القادم المقرَّر عقده في طهران في كانون الأوّل المقبل، لأنَّ اقتراب الدّول العربيَّة والإسلاميَّة من إسرائيل، قد يُبعدها عن توثيق العلاقات مع إيران، بينما يمثِّل ابتعادها عن إسرائيل مزيداً من التّقارب مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة.

إنَّ خطورة الخطَّة الأميركيَّة في سياستها المؤيِّدة لإسرائيل في المنطقة، أنَّها تحاول تقطيع أوصال المنطقة سياسيّاً، وإبعاد إيران عن التّفاعل مع دولها، ولا سيَّما بالنّسبة إلى دول الخليج، وبخاصَّة السّعوديّة، الّتي بدأت تقترب من إيجاد علاقات طبيعيّة مع إيران، ما يجعلنا نأمل أن يتعرَّف الخليجيّون مدى الخطر الَّذي تمثّله هذه السّياسة الأميركيَّة المعادية للعرب والمسلمين على جميع المستويات، وأن يعمل الجميع على إفشال الخطة الأميركيّة العاملة على إفلاس العالم العربيّ والإسلاميّ، وتحويله إلى عالمٍ بعيدٍ عن الاكتفاء الذاتيّ، ليكون مجرّد سوق استهلاكيَّة للمنتجات الأميركيَّة.

وفي موازاة ذلك، لا يزال التَّحالف الأميركيّ ـ الإسرائيليّ ـ التركي يهدِّد المنطقة العربيَّة والإيرانيّة بالمزيد من التّعقيدات الأمنيّة التي قد تؤدّي ـ كما قال وزير الخارجيّة السوري ـ إلى مواجهةٍ في المنطقة، أيّاً كانت أهداف المناورات التركيّة ـ الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة، ولا سيّما بعد إعلان تركيا عن إقامة ما تسمّيه منطقة أمنيَّة في شمال العراق، كالمنطقة الأمنيَّة الَّتي أقامها العدوّ في جنوب لبنان، الأمر الَّذي يهدِّد وحدة العراق واستقلاله في المستقبل، على أساس أطماع تركيا في بعض أراضيه، هذا مع الإعلان عن استفادة تركيا من خبرات إسرائيل في هذا المجال، بمباركة أميركا الَّتي لم تحرّك ساكناً في تنكّر تركيا لحقوق الإنسان العراقي.

سقوط "فخر" الصّناعة الصهيونيَّة

أمّا على مستوى حركة المقاومة الإسلاميَّة في لبنان، فقد سجَّلت هذه المقاومة انتصاراً جديداً على دبّابة الـ"ميركافا"، التي يعتبرها العدوّ فخر صناعته العسكريَّة، فقد تحوَّلت إلى هدفٍ سهلٍ للمجاهدين، ما قد ينعكس سلباً على صفقات السّلاح الإسرائيليّة مع تركيا، التي يريد العدوّ تزويدها بمزيدٍ من هذه الدبّابات.

إنَّ العدوَّ قد عاش، ولا يزال يعيش، المأزق الأمني في الجنوب، وفق معادلة قالت عنها الـ"واشنطن تايمز": "عمليّة لحزب الله تعني خطوة إسرائيليّة إلى الوراء"، في إشارةٍ إلى تظاهرات أمّهات الجنود الصَّهاينة الّذين يحاربون في لبنان. وفي عمليّة هروب إلى الأمام، يحاول العدوّ إطلاق التّهديدات ضدّ سوريا ولبنان، بأنّ عمليّات المقاومة سوف تخلق وضعاً حسّاساً يمكن أن يؤدِّي إلى تدهور يؤثِّر في استقرار المنطقة، كما يقول وزير حرب العدوّ. ولكنّ ذلك كلَّه لا يمكن أن يؤدّي إلى أيّة نتيجة لصالحه، بفعل كلِّ التجارب السابقة في العدوان.. وإنَّ الحلَّ الوحيد له أن يرحل.

وبالنِّسبة إلى الملفّ الداخليّ، فإنَّ السّجال الإعلاميّ السّياسيّ بين المسؤولين لا يزال بين وقتٍ وآخر يعمل على إشغال المواطنين بالاستحقاق الرّئاسي الَّذي لم يحن وقته الآن، في الوقت الّذي يعرف الجميع أنّ اللّبنانيّين لا يملكون وقته ولا تقريره.. إنّنا نسألهم: لماذا لا تتركز اهتماماتهم على معالجة الواقع الاقتصاديّ الصّعب الّذي يفتك بالمواطنين بالمستوى الّذي تحوّل فيه الوضع إلى ما يشبه الانهيار في الأمور المعيشيَّة؟ ولماذا لا يكون الاهتمام الكبير بالاستحقاق الأكثر أهميَّةً على مستقبل البلد، وهو الاحتلال الإسرائيليّ الذي يتحرّك بعدوانه الوحشي على المدنيّين، ويأخذ حريَّته في حركة طيرانه في الأجواء اللّبنانيَّة حتى يبلغ مشارف بيروت في قصفه العدواني، في ظلِّ صمتٍ أميركي مطبق؟!

وأخيراً، إنَّ المسألة الأخلاقية تمثّل أكبر مشكلة للمواطن اللبنانيّ، من خلال البرامج التلفزيونية الخلاعيَّة في أفلامها وإعلاناتها التي تبتعد عن القيم الدينيَّة الروحيَّة والأخلاقيَّة في إيحاءاتها الجنسيّة المثيرة، حتى في التلفزيون الرسمي، هذا إضافةً إلى البرامج المتنوّعة التي تثير حواراً متحركاً حول بعض العناوين الحيويّة بطريقةٍ استهلاكيّةٍ تثير المشكلة بأسلوب الإثارة من دون أن تقدّم الحلّ.

إنّنا نحذِّر من هذا الخطر الإعلاميّ الذي يهدِّد البلد في الجانب الأخلاقيّ من الدّاخل، في الوقت الّذي يواجه التَّهديد من الخارج.


[1]  [الأحزاب: 33].

[2]  [الكوثر].

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 476.

[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 107.

[5]  ينابيع المودّة، القندوزي، ج 1، 123.

[6]  بحار الأنوار، ج 43، ص 54.

[7]  [الإخلاص: 1].

[8]  الذرية الطّاهرة النبوية، محمد بن أحمد الدولابي، ص 138.

[9]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 125.

[10]  [الأنفال: 46].

[11] [النساء: 59].

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمَّ سماحـة آيـة الله الـعـظمى السيِّد محمَّد حسين فضل الله المصلّين في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 22 جمادى الثّانية 1418هـ/ الموافق: 24 تشرين الأوَّل 1997م .وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة بحضور حشدٍ من الشَّخصيّات العلمائيَّة والسّياسيَّة والاجتماعيَّة وآلاف من المؤمنين. ومما جاء فيهما:

الخطبة الأولى

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[1]. لا نزال نعيش مع السيِّدة الطَّاهرة المعصومة سيّدة نساء العالمين فاطمة الزّهراء(ع)، الّتي هي من هذا البيت، والَّتي ربطت بين النبوَّة والإمامة، فكانت زوجة أوَّل إمام وكانت أمَّ الأئمَّة الباقين، وهي ابنة رسول الله(ص)، ومنها وحدها نسله. وفي بعض التّفاسير، أنَّ "قريش" قالت عن النبيّ(ص) إنَّه أبتر لا عقب له، فنزلت هذه السّورة :{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}[2]، أعطيناك النَّسل الكثير من خلال فاطمة(ع).

النّموذج الأكمل

هذه المرأة هي النَّموذج الأكمل للمرأة، وهي الَّتي أعطاها الله ـ  كما أعطى أباها وزوجها وابناها ـ الطّهر كلَّه. وعندما يتحدَّث الله عن الطّهر وعن إذهاب الرّجس، فإنَّه يريد بالطّهر طهر الحقيقة، فالباطل لا يقترب من هؤلاء، ففكرهم فكر الحقّ وطهر القلب، فالعاطفة في نبضات قلوبهم لا تنفتح إلا على ما يحبّه الله ويرضاه ومن يحبّه ويرضاه، وهي تنفتح على النّاس كلِّهم ولا تنغلق على إنسان؛ تنفتح على المؤمن من أجل أن تتحرّك معه في خطِّ الإيمان في مواقع الحركة والقوّة، وتنفتح على غير المؤمن لتهديه إلى سواء السَّبيل. والطّهر في القول والعمل، فلا يتقذَّرون في القول بأيّة كلمة باطل، ولا يتقذَّرون بأيّ عمل محرَّم.. رضاهم رضى الله، وغضبهم غضب الله، ومن هنا كانت الآية دليلاً على عصمة أهل البيت(ع).

وعندما ندرس حياتها(ع)، نجد أنَّها كانت حياة المعاناة كلِّها، لأنَّها عانت كلَّ الآلام مع أبيها في مكَّة، عندما رأت المشركين يضطهدونه ويحاصرونه ويتكلَّمون عليه بالسّوء ويقفون ضدّ دعوته، وعاشت مع أبيها في المدينة وهي ترى القوم يحاربونه من كلِّ جانبٍ ليُسقطوا رسالته وليُضعفوا قوَّته، وليمنعوه من أن يجعل رسالة الله منفتحةً على الإنسان كلِّه، وعاشت مع زوجها الفقر كلَّه في كلِّ المعاناة، وعاشت معه جهاده وهو يجاهد في سبيل الله، وكان النبيّ(ص) يخرجها بين وقتٍ وآخر في بعض مواقع الجهاد، لتعاون وتساعد في ذلك كلِّه، وعاشت المعاناة كأقسى ما تكون المعاناة بعد وفاة أبيها(ص) في حزنها الكبير عليه، وفي حزنها الكبير على الأمّة، وفيما لاقته من اضطهاد الأمّة لها ولحقّ زوجها بطريقةٍ وبأخرى. ولكنَّها مع ذلك كلِّه، كانت القويّة في نفسها، والقويّة بربها، والقويّة في منطقها، والمسؤولة في كلِّ ما تعلّمته من رسول الله(ص) وفيما ألهمها الله إيّاه.

ونحن في هذه الوقفة، نحاول أن نقرأ بعض ما رواه الرّواة عنها، فيما كانت تحدِّث به عن رسول الله(ص)، ونحن نقرأ أنَّ الرّجال كانوا يروون عنها الحديث، كما كانت النّساء يروين عنها الحديث، ما يدلّ على أنها كانت تنفتح في علمها على الجميع، من أجل أن تعطيهم علم رسول الله(ص). ففي حديثٍ يرويه صاحب "ينابيع المودَّة" عن فاطمة الزّهراء(ع)، قالت: "سمعت رسول الله(ص) في مرضه الَّذي قُبض فيه يقول، وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ـ لم يقله همساً ولا سرّاً، بل كان يقوله علناً لأصحابه ـ : أيّها النّاس، يوشك أن أُقبض قبضاً يسيراً فينطلق بي، وقد قدّمت إليكم القول معذرةً إليكم ـ أطلقت إليكم هذه الكلمة لأعذر إلى الله تعالى بأني بلّغت قومي ذلك فيما يستقبلونه من أمر ـ إلا أنّي مخلّف فيكم كتاب ربّي عزّ وجلّ، وعترتي أهل بيتي. ثم أخذ بيد عليّ(ع) فرفعها، فقال: هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض فأسألهما ماذا خلّفت فيهما"[3]؟ كيف حفظتم كتاب الله؟ وكيف حفظتم عليّاً الّذي يجسِّد كتاب الله ويحمله كما حملته، لأنَّه "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي"[4]؟ وقال "القيدوزي": "وفي "الصّواعق المحرقة"، روى هذا الحديث ثلاثون صحابيّاً، وإنَّ كثيراً من طرقه صحيح وحسن"[5].

الصَّادقة المصدّقة

ونحن نعرف أنَّ الزّهراء(ع) هي الصَّادقة المصدّقة، وقد قالت عنها زوجة أبيها عائشة: "ما رأيت أصدق منها إلا أباها"[6]. وفي ضوء هذا، فإنَّ معنى هذا الحديث، أنَّ النبيّ(ص) لم يكتفِ بالتَّنصيص على عليّ(ع) بعيد الغدير، بل إنَّه أضاف إلى ذلك التَّنصيص عليه كعدلٍ للقرآن، وكنموذجٍ من أهل بيته في آخر لحظات حياته.

وهكذا، كانت الزّهراء(ع) تتحدَّث عن بعض الأمور الّتي تتَّصل باستحباب أن لا ينام الإنسان بين طلوع الفجر وطلوع الشَّمس، فيروي "السّيوطي" في "مسند فاطمة" عن الزّهراء(ع) أنها قالت: "مرَّ بي رسول الله(ص) وأنا مضطجعة متصبِّحة.. وقال: يا بنيّ، قومي فاشهدي رزق ربّك ولا تكوني من الغافلين، فإنَّ الله يقسِّم أرزاق النّاس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس".

وعن فاطمة(ع) كما  في "خلاصة الأذكار" أنها قالت: دخل عليَّ أبي رسول الله(ص)، وإني قد افترشت الفراش وأردت أن أنام، فقال: يا فاطمة، لا تنامي حتى تعملي أربعة أشياء: حتى تختمي القرآن، وتجعلي الأنبياء شفعاءك، وتجعلي المؤمنين راضين عنك، وتعملي حجَّةً وعمرة، ودخل في الصَّلاة، فتوقَّفت على فراشي حتى أتمَّ الصّلاة، فقلت: يا رسول الله، أمرتني بأربعة أشياء لا أقدر في هذه السَّاعة على أن أفعلها! فتبسَّم رسول الله(ص) وقال: إذا قرأت {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}[7] ثلاث مرّات، فكأنَّك قد ختمت القرآن ـ لأنَّ القرآن كلّه ينطلق من خلال توحيد الله في العقيدة والعبادة والطَّاعة ـ وإذا صلّيت عليَّ وعلى الأنبياء من قبلي، فقد صرنا لك شفعاء يوم القيامة ـ لأنَّ الصَّلاة عليه وعلى آله وعلى الأنبياء تمثّل معنى الانفتاح على كلِّ رسالتهم وحركيّتهم الرساليَّة، لأنَّ الإنسان عندما يطلب من ربّه أن يصلّي عليه وعلى آله وعلى الأنبياء، فإنَّه يتذكَّر في كلِّ كلمة صلاة عليهم كيف عاشوا الرّسالات، وكيف أخلصوا لله، وكيف صبروا على الأذى في جنب الله، فـينــفـتح للنّاس باب طويل عريض على كلِّ الرّسالات، فيزدادون بذلك إيماناً ـ وإذا استغفرت للمؤمنين، فكلّهم راضون عنك ـ أن يستغفر الإنسان للمؤمنين والمؤمنات قبل أن ينام ـ وإذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر، فقد حججت واعتمرت"، لأنّه عندما يسبِّح الإنسان الله في مواقع عظمته، ويوحِّده في مواقع ربوبيّته، ويحمده في مواقع فضله، ويكبّره في مواقع عظمته وكبريائه، فكأنَّه اختصر كلَّ نتائج الحجّ والعمرة، لأنَّ قيمة الحجّ والعمرة بمقدار ما يتعرَّف الإنسان إلى ربّه أكثر، وبمقدار ما يكبّره ويهلِّله ويحمده ويسبِّحه أكثر.

وكانت(ع) تنبِّه إلى أن ينام الإنسان نظيف اليد، فتقول وهي تروي عن رسول الله(ص) في الحديث، كما جاء في "الذّريّة الطّاهرة" عن "فاطمة بنت الحسين عن أبيها عن فاطمة بنت رسول الله" قالت: "قال رسول الله(ص): لا يلومنَّ إلا نفسه من بات وفي يده غَمَر"[8]، والغَمَر هو الوسخ من اللّحم أو من الشّحم وما إلى ذلك. ونجد الزّهراء(ع) تتحدَّث عن خيار النّاس، ففي الحديث أيضاً كما في "دلائل الإمامة"، عن "فاطمة بنت الحسين عن أبيها عن فاطمة بنت رسول الله"، قالت: "قال رسول الله(ص): خياركم ألينكم مناكبه، وأكرمكم لنسائه"، يعني خير النّاس من كان أرفق بالنّاس، الَّذي يخفض جناحه، والّذي يحمل الناس في قضاياهم على منكبيه من دون أن يتعقَّد من ذلك، وخيرهم أيضاً أكرمه لنسائه، سواء كنَّ بناته أو زوجته أو أمَّه أو ما إلى ذلك.

القدوة في الحقِّ والموقف

وهكذا نجد أنَّ الزّهراء(ع) تروي عن رسول الله(ص) وتعلِّم، ما جعلها وهي في مقتبل العمر، تنفتح على ما يرفع مستوى المرأة ويعطيها المثل، ويجعلها المثل الحيَّ للإنسانة المتحركة في علمها، والخاشعة في عبادتها، والمجاهدة في مواقفها، وكانت وهي الضَّعيفة في بدنها، قويّة في منطقها وموقفها، لم تأخذها في الله لومة لائم، كانت تقف لتدافع عن حقّها وعن حقّ الأمّة في حقّ عليّ(ع)، ولتدافع بالكلمة والموقف والاحتجاج، حتى اعتُبرت أوَّل مسلمة وأوَّل امرأة في التاريخ العربيّ تقف هذا الموقف من خلال إيمانها بالقضيَّة وصلابتها أمام القضيَّة، كانت تعنّف الكبار منهم، وكانت تلين مع الصِّغار منهم، كانت تجمع النّساء حولها لتحدّثهم عن عليّ(ع) وعن جهاده وعن حقِّه، وكانت تحدِّث الرّجال عن عليّ(ع) وعمَّا مارسوه في ابتعادهم عنه.

وبذلك كان يومها يوم المرأة المسلمة العالميّ، لأنَّ المرأة تحتاج إلى القدوة في الحقّ، والعفّة في الحركة والموقف، والإخلاص لبيتها وزوجها وأولادها ومجتمعها، لذلك نريد أن نقول للرِّجال وللنِّساء: خذوا من فاطمة(ع) الطّهر كلَّه والخير كلّه والحقّ كلّه والعصمة كلّها، لأنّها كانت التَّجسيد العمليَّ لكلِّ هذه الصّفات الكبرى، لا تستغرقوا فقط في جانب المأساة، وان كانت مأساتها كبيرة، ولكن اذكروا أنَّ مأساة الزّهراء(ع) كانت في سبيل الله وفي سبيل الحقّ والمسلمين.

لذلك، لا بدَّ لكم من أن ترتفعوا إلى مستوى ما عاشته الزّهراء(ع)، عندما رُوي أنَّ عليّاً(ع) قال لها، وقد شعر بحزنها على ما واجهته من ظلم: إنَّني لو خرجت وجاهدت وأطلقت سيفي، فإنَّ الإسلام سوف يضعف ويسقط، كأنّه كان يقول لها: هل تريدين لي أن أنطلق ليضعف الإسلام، أو أن أصبر وتصبري، ليرتفع الإسلام وليجتاز كلّ هذه الصّعوبات؟ وقالت له: أصبر. وقال للنَّاس: "لأُسَلِّمَن ـ وأنا صاحب الحقّ ـ ما سلِمَت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصّة"[9].

مصلحة الإسلام أوَّلاً

وهكذا، كانت فاطمة(ع) مع وحدة الإسلام، حتى لو كانت المظلومة في ذلك، وحتى لو كان زوجها المظلوم في ذلك، لأنَّهم أهل بيت النبوّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، وهم الأمناء على الإسلام والمسؤولون عن قوَّته. وهذا ما يجب أن تتعلَّمه المرأة المسلمة والرّجل المسلم، أن نتعلَّم جميعاً أن ننظر دائماً إلى مصلحة الإسلام والمسلمين في كلِّ ما نتكلَّمه ونمارسه، وفي كلِّ موقفٍ نقفه، قلناها مراراً: ليس معنى الوحدة الإسلاميّة الّتي ندعو إليها، والّتي دعا إليها العلماء الكبار في خطِّ الأئمَّة(ع)، أن تترك ما تعتقد به أو يترك الآخر ما يعتقده، ولكن أيّها النّاس، إنّ الكفر قد أعلن حرباً عالميّةً على الإسلام، فعلينا أن نقف في مواجهته صفّاً واحداً. إنّنا نختلف في الإمامة والخلافة، ونختلف في شكل الصَّلاة وفي الوضوء، ولكن هل نختلف في أنَّ علينا أن نشهد أن "لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله"، وأن نحفظ هاتين الشّهادتين لتنطلقا في كلّ موقعٍ من مواقع الإسلام، لنحفظ المسلمين على هاتين الشّهادتين، وعلى كتاب الله، وعلى عترة أهل بيته؟!

إنَّ علينا أن نعيش الوحدة بالمحبَّة، وأن نعيش المحبَّة بالحوار فيما اختلفنا فيه، وبالاتَّفاق فيما نواجهه. إنَّ الاستكبار العالميَّ من جهة، والكفر العالميّ من جهةٍ أخرى، يريدان أن يجعلانا في دوّامة من الخلافات المذهبيَّة فيما بين المذاهب الإسلاميَّة، ليلعن بعضنا بعضاً، ويسبّ بعضنا بعضاً، ويقتل بعضنا بعضاً، من دون أيّة نتيجة للشّيعة ولا للسنّة في ذلك.

وإنَّ الاستكبار العالميَّ والكفر العالميَّ يريدان منّا حتى في داخل المذهب الواحد أن نتنازع ونتحاقد، وأن نتعادى، وأن يلعن بعضنا بعضنا الآخر، ويكفِّر بعضنا بعضنا الآخر، ويضلّل بعضنا بعضنا الآخر، أتعرفون ما معنى ذلك؟ معناه أنَّنا نريد أن نطعن الإسلام في الصَّميم، لأنَّ قوَّتنا عندما تكون ضدّ بعضنا البعض، ولأنَّ كلماتنا عندما تكون ضدّ بعضنا البعض، فإنَّ معنى ذلك أن يقتل بعضنا البعض الآخر من دون أن يحتاج الاستكبار إلى أن يقتلنا ويهزمنا، والله يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[10].

الحذر من خطط الأعداء

لذلك، علينا أن نكون واعين لطبيعة اللّعبة ولطبيعة المؤامرة، وأنَّ الأرض تهتزّ تحت أقدامنا، وأنَّ العدوّ المستكبر ـ وفي مقدَّمه أميركا وإسرائيل ـ يريد إذلالنا وإضعافنا وإسقاط قوَّتنا وسياستنا، فهل نبقى نتحدَّث كما كان أهل "قسطنطينية" يتحدَّثون عندما كان الفاتح يدقّ الأبواب ـ والفاتح الغاشم عندنا كسّر الأبواب ودخل حتى غرف النّوم ـ ويتنازعون: هل البيضة أصل الدّجاجة أم الدّجاجة أأصل البيضة؟ هل الملائكة ذكور أو إناث؟ ويختلفون ويتنازعون في هذه السّهرة وفي تلك السّهرة، ويدخل الفاتح، ولا يزالون يتنازعون في أصل البيضة والدَّجاجة وفي جنس الملائكة.. أليس بعض ما نتنازع فيه هو من هذا القبيل؟ أليس بعض ما نتحاقد فيه ونتعادى فيه هو من هذا القبيل؟ والعدو دخل البيوت، وصادر ثرواتنا، وصادر البحر والجوّ، ونحن نتناقش في هذه الأمور وفي تلك الأمور، ونظلّ نتناقش، ويمتدّ العدوّ في إضعافنا، ونسقط دون حرب؟ هل يعجبكم هذا الواقع؟

كونوا الواعين الَّذين يدرسون القضايا الكبرى في الآفاق الكبرى، لا تكونوا في موقع "ضيعويّ" صغير جدّاً، والله يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ـ من أمور دينكم وشريعتكم ـ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ ـ ليحكم الله من خلال كتابه بأن تفهموا كتابه ـ وَالرَّسُولِ}[11]، من خلال سنَّته، لتفهموا سنَّته بكلِّ عقلانيَّة وموضوعيَّة واحترام أحدكم للآخر، حتى لا تشغلكم عصبيَّاتكم باسم الدّين عن كلِّ ما يواجهكم من خطرٍ كبيرٍ داهمٍ على الإسلام والمسلمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله فيما أراد الله لكم من كلِّ ما يريد لكم أن تعملوه وأن تتركوه، اتّقوا الله في كلِّ الواقع الّذي تعيشونه، وفي كلِّ مسؤوليَّاتكم في الحياة.. اتَّقوا الله بأن ترحموا الضّعفاء منكم، وأن لا يعتدي أحدكم على الآخر، ولا سيّما بالنِّسبة إلى المرأة الّتي أوصى بها رسول الله(ص)، فلم يسلّط الرّجل على امرأته، أو على ابنته، أو على أخته، أو على أمِّه، أو على أيّة امرأة أخرى، لم يسلِّطه في مواقع قوَّته على أن يمارس العنف معها بكلمة قاسية أو شتيمة، أو بإخراجٍ من بيتٍ تحت تأثير انفعالٍ أو ضرب، أو ما إلى ذلك. إنَّ الله جعل نساءكم أخواتكم في الإيمان، فعليكم أن تؤدّوا إليهنَّ ما تؤدّونه إلى الأخ في الإيمان، كما أنَّ عليهنَّ أن يؤدّين إليكم ما يجب عليهنّ في مجال الأخوّة الإيمانيَّة..

اتَّقوا الله، ولا تظلموا الضّعفاء منكم، لأنّكم بذلك تركّزون مفهوم الظّلم في الواقع، إذا كنت تظلم زوجتك أو ابنتك أو ابنك أو أختك بغير حقّ، فلماذا تتعقَّد من ظلم الكبار الَّذين هم أقوى منك؟ الظّلم شيء واحد، وإن اختلف حجمه، فإذا كنتم تكرهون الظّلم والظّالمين، فاكرهوه من أنفسكم قبل أن تكرهوه من غيركم، كما قال الإمام زين العابدين(ع) في دعائه: "اللّهم وكما كرَّهت لي أن أُظلَم، فقني من أن أظلم".. اتّقوا الله في عباده وبلاده، وواجهوا الظّالمين في داخلكم والظّالمين في خارج نطاقكم، حتى ينطلق العدل كلّه من خلال أن نكون نحن العادلين، كما يكون الآخرون كذلك. فتعالوا لندرس ماذا فعل الظّالمون بنا، لنعرف أيضاً ماذا فعلنا بأنفسنا في معاونة الظّالمين علينا.

والبداية من فلسطين، لأنها تختصر كلّ تاريخ المرحلة هذه.

محاولات حفظ أمن اليهود

لا تزال المفاوضات بين سلطة الحكم الذّاتي والصّهاينة تدور حول العنوان الإسرائيلي، وهو الأمن لليهود، الّذين يفرضون شروطه بالطّريقة الّتي يتحوَّل فيها الفلسطينيّون إلى آلاتٍ تنفِّذ خطط إسرائيل في قتل رجال الانتفاضة، ومحاصرة الإسلاميّين، وإسقاط البنية التّحتيّة لهم، وإثارة الحرب الدّاخليَّة بين الفلسطينيّين، من خلال سياسة القمع ضدّ الشّعب الفلسطيني الباحث عن حريّته واستقلاله وتقرير مصيره. وهذا هو ما تسعى إليه أميركا لتحقيق الشّروط الإسرائيليّة، لتصل إلى بعض النّتائج الإعلاميّة السياسيّة في المفاوضات، لإسقاط تحفّظات المتحفّظين في السّاحة العربيّة أمام مؤتمر "قطر" الّذي تعمل له أميركا من أجل إدخال إسرائيل في مفاصل الاقتصاد العربي، كوسيلةٍ من وسائل محاصرة بعض العرب الَّذين لا يزالون في موقف الصّمود أمام الخطة الأمريكيّة ـ الإسرائيليَّة الضَّاغطة على الواقع العربيّ كلّه.

إنّنا نحذِّر العرب ـ والفلسطينيّين خاصَّة ـ من هذه اللّعبة الأميركيَّة ـ الإسرائيليّة الّتي تُدخلهم في نفقٍ مظلمٍ لا يُعرَف مداه، بالطّريقة الّتي أدخلهم فيه اتّفاق "أوسلو"، الذي لم يحصل فيه الفلسطينيّون إلا على المزيد من القيود والمتاهات السياسيَّة والأمنيَّة، لاستكمال الاحتلال الصّهيوني لفلسطين كلِّها بموافقة فلسطينيَّة.

الضّغوط الأميركيَّة لإرباك إيران

أمَّا على مستوى الضّغوط الأميركيَّة ضدَّ إيران، فلا تزال الولايات المتَّحدة الأميركيَّة تعمل في هذه المرحلة ضدّ الجمهوريّة الإسلاميَّة على ثلاثة مستويات:

1 ـ الضّغط على روسيا والصّين لمنعهما من بيع إيران تكنولوجيا عسكريَّة، بطريقة الإغراءات والتّهديدات الاقتصاديَّة. وقد ذكرت الأنباء أنَّ الصّين قد خضعت لبعض ذلك، بإعلانها تجميد مشاريعها النّووية مع إيران، علماً أنَّ هذه المشاريع لها طابع سلميّ فحسب، ما يوحي بأنَّ أميركا لا تحارب إيران من أجل منعها من صنع السِّلاح النّوويّ، بل إنها تعمل على منعها من حلِّ مشاكلها الاقتصاديَّة باستخدام الأجهزة النوويّة في الأغراض السّلميَّة لخدمة شعبها في حاجاته الحيويَّة.

2 ـ إنَّ واشنطن تبعث برسائل وتهديدات لإيران عبر حركتها في مياه الخليج، لئلا تستمرّ في برنامج صنع القوَّة لنفسها، لأنها تخاف من تحوّل إيران إلى قوّة عسكريَّة كبرى في المنطقة ذات اكتفاءٍ ذاتيّ من ناحية السّلاح. وفي الإطار عينه، أبدى تقرير فريق استشاري في الحلف الأطلسي تخوّفاً "من أن تتحوّل إيران إلى دولة منتجة للأسلحة المتطوّرة في مدّة قياسيَّة"...

3 ـ إنَّ أميركا تعمل على إنجاح مؤتمر الدَّوحة لتطويق المؤتمر الإسلامي القادم المقرَّر عقده في طهران في كانون الأوّل المقبل، لأنَّ اقتراب الدّول العربيَّة والإسلاميَّة من إسرائيل، قد يُبعدها عن توثيق العلاقات مع إيران، بينما يمثِّل ابتعادها عن إسرائيل مزيداً من التّقارب مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة.

إنَّ خطورة الخطَّة الأميركيَّة في سياستها المؤيِّدة لإسرائيل في المنطقة، أنَّها تحاول تقطيع أوصال المنطقة سياسيّاً، وإبعاد إيران عن التّفاعل مع دولها، ولا سيَّما بالنّسبة إلى دول الخليج، وبخاصَّة السّعوديّة، الّتي بدأت تقترب من إيجاد علاقات طبيعيّة مع إيران، ما يجعلنا نأمل أن يتعرَّف الخليجيّون مدى الخطر الَّذي تمثّله هذه السّياسة الأميركيَّة المعادية للعرب والمسلمين على جميع المستويات، وأن يعمل الجميع على إفشال الخطة الأميركيّة العاملة على إفلاس العالم العربيّ والإسلاميّ، وتحويله إلى عالمٍ بعيدٍ عن الاكتفاء الذاتيّ، ليكون مجرّد سوق استهلاكيَّة للمنتجات الأميركيَّة.

وفي موازاة ذلك، لا يزال التَّحالف الأميركيّ ـ الإسرائيليّ ـ التركي يهدِّد المنطقة العربيَّة والإيرانيّة بالمزيد من التّعقيدات الأمنيّة التي قد تؤدّي ـ كما قال وزير الخارجيّة السوري ـ إلى مواجهةٍ في المنطقة، أيّاً كانت أهداف المناورات التركيّة ـ الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة، ولا سيّما بعد إعلان تركيا عن إقامة ما تسمّيه منطقة أمنيَّة في شمال العراق، كالمنطقة الأمنيَّة الَّتي أقامها العدوّ في جنوب لبنان، الأمر الَّذي يهدِّد وحدة العراق واستقلاله في المستقبل، على أساس أطماع تركيا في بعض أراضيه، هذا مع الإعلان عن استفادة تركيا من خبرات إسرائيل في هذا المجال، بمباركة أميركا الَّتي لم تحرّك ساكناً في تنكّر تركيا لحقوق الإنسان العراقي.

سقوط "فخر" الصّناعة الصهيونيَّة

أمّا على مستوى حركة المقاومة الإسلاميَّة في لبنان، فقد سجَّلت هذه المقاومة انتصاراً جديداً على دبّابة الـ"ميركافا"، التي يعتبرها العدوّ فخر صناعته العسكريَّة، فقد تحوَّلت إلى هدفٍ سهلٍ للمجاهدين، ما قد ينعكس سلباً على صفقات السّلاح الإسرائيليّة مع تركيا، التي يريد العدوّ تزويدها بمزيدٍ من هذه الدبّابات.

إنَّ العدوَّ قد عاش، ولا يزال يعيش، المأزق الأمني في الجنوب، وفق معادلة قالت عنها الـ"واشنطن تايمز": "عمليّة لحزب الله تعني خطوة إسرائيليّة إلى الوراء"، في إشارةٍ إلى تظاهرات أمّهات الجنود الصَّهاينة الّذين يحاربون في لبنان. وفي عمليّة هروب إلى الأمام، يحاول العدوّ إطلاق التّهديدات ضدّ سوريا ولبنان، بأنّ عمليّات المقاومة سوف تخلق وضعاً حسّاساً يمكن أن يؤدِّي إلى تدهور يؤثِّر في استقرار المنطقة، كما يقول وزير حرب العدوّ. ولكنّ ذلك كلَّه لا يمكن أن يؤدّي إلى أيّة نتيجة لصالحه، بفعل كلِّ التجارب السابقة في العدوان.. وإنَّ الحلَّ الوحيد له أن يرحل.

وبالنِّسبة إلى الملفّ الداخليّ، فإنَّ السّجال الإعلاميّ السّياسيّ بين المسؤولين لا يزال بين وقتٍ وآخر يعمل على إشغال المواطنين بالاستحقاق الرّئاسي الَّذي لم يحن وقته الآن، في الوقت الّذي يعرف الجميع أنّ اللّبنانيّين لا يملكون وقته ولا تقريره.. إنّنا نسألهم: لماذا لا تتركز اهتماماتهم على معالجة الواقع الاقتصاديّ الصّعب الّذي يفتك بالمواطنين بالمستوى الّذي تحوّل فيه الوضع إلى ما يشبه الانهيار في الأمور المعيشيَّة؟ ولماذا لا يكون الاهتمام الكبير بالاستحقاق الأكثر أهميَّةً على مستقبل البلد، وهو الاحتلال الإسرائيليّ الذي يتحرّك بعدوانه الوحشي على المدنيّين، ويأخذ حريَّته في حركة طيرانه في الأجواء اللّبنانيَّة حتى يبلغ مشارف بيروت في قصفه العدواني، في ظلِّ صمتٍ أميركي مطبق؟!

وأخيراً، إنَّ المسألة الأخلاقية تمثّل أكبر مشكلة للمواطن اللبنانيّ، من خلال البرامج التلفزيونية الخلاعيَّة في أفلامها وإعلاناتها التي تبتعد عن القيم الدينيَّة الروحيَّة والأخلاقيَّة في إيحاءاتها الجنسيّة المثيرة، حتى في التلفزيون الرسمي، هذا إضافةً إلى البرامج المتنوّعة التي تثير حواراً متحركاً حول بعض العناوين الحيويّة بطريقةٍ استهلاكيّةٍ تثير المشكلة بأسلوب الإثارة من دون أن تقدّم الحلّ.

إنّنا نحذِّر من هذا الخطر الإعلاميّ الذي يهدِّد البلد في الجانب الأخلاقيّ من الدّاخل، في الوقت الّذي يواجه التَّهديد من الخارج.


[1]  [الأحزاب: 33].

[2]  [الكوثر].

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 476.

[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 107.

[5]  ينابيع المودّة، القندوزي، ج 1، 123.

[6]  بحار الأنوار، ج 43، ص 54.

[7]  [الإخلاص: 1].

[8]  الذرية الطّاهرة النبوية، محمد بن أحمد الدولابي، ص 138.

[9]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 125.

[10]  [الأنفال: 46].

[11] [النساء: 59].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير