هكذا جعل من سجنه فضاءً للسمو والعبادة : علّمنا الكاظم (ع) أن نتصدّق على أنفسنا بكفّ الأذى عن الناس

هكذا جعل من سجنه فضاءً للسمو والعبادة : علّمنا الكاظم (ع) أن نتصدّق على أنفسنا بكفّ الأذى عن الناس
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

 

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. والإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر رجب، هو واحد من أئمة أهل البيت(ع)، ولا بدّ لنا أن نعيش مع أئمتنا (ع) في كل ما عاشوه وقالوه وتحركوا به، لأنهم يجسّدون الإسلام في ذلك كله، حيث أرادهم الله تعالى أن يقدّموا للناس صورة مشرقة حقيقية للإسلام في جميع جوانبه.

ملأ مرحلته علماً

لقد أراد الله للناس أن يحيوا بالإسلام، أن يكون حياة لهم في الدنيا، لتكون الدنيا في عمر كل إنسان حياة الروح كما هي حياة الجسد، وأن يحيوا به في الآخرة، والآخرة هي دار الحيوان، من أجل أن ينفتحوا على تلك الحياة الطيبة في جنة الله. فالإسلام ليس مجرد فكر أو شريعة أو منهج أو جهاد أو عبادة، بل هو ذلك كله. ولذلك، فإننا عندما ندرس حياة أيّ إمام من أئمة أهل البيت (ع)، نرى أن حياته تجمع ذلك كله، ففي حياة الإمام الكاظم (ع)، عندما نقرأ تراثه الذي تركه لنا، مما رواه الرواة عنه، نجده قد ملأ المرحلة الإسلامية التي عاشها علماً، فواجه كل القضايا التي أُثيرت مما كان يختلف فيه الناس، ويتحدث فيه المتحدثون، وأعطى كل قضية من تلك القضايا الحلّ لما أشكل على الناس، وحدّد المنهج لما افتقدوه.

رسالته الإسلام

ولهذا، فقد كانت تلك المرحلة في حياة الإمام الكاظم (ع)، مرحلة وعي ثقافي استفاد منه أساتذة المجتمع كله. ومن المؤسف أن الكثير منا، ولا سيما مثقفينا، يجهلون ما تركه الإمام الكاظم(ع) من تراث، من الناحيتين العلمية والثقافية. هذا، ولم تقتصر حركته (ع) على مجالات العلم والثقافة، فنراه، في ما يتعلق بالواقع الاجتماعي، يلاحق الناس بمواعظه ووصاياه ونصائحه، ليسدّ ثغرة في هذا المجتمع، أو ليقوّم انحرافاً في علاقات الناس ببعضهم البعض، أو ليصحّح بعض الأساليب التي يستعملونها للوصول إلى قضاياهم، وكان يتابع كل أوضاعهم، فلا يغفل منها شيئاً.

كانت رسالته - التي هي رسالة الإسلام ـ أن يرصد حركة الناس في الأمور الصغيرة والكبيرة، ولا يتركهم يسيرون على هواهم ويخضعون لتيارات الانحراف، سواء كان انحرافاً عقيدياً أو اجتماعياً أو سياسياً، فكان يوجههم ليتمكنوا من تجاوز هذا الانحراف، وكان من خلال ذلك يوحي إلى كل العلماء من بعده أن يتحركوا في علمهم وفي حركتهم في قلب المجتمع، ليدرسوا حركة سيره في خط الاستقامة أو في خط الانحراف، لأن الله تعالى لم يعطِ الإنسان علماً إلا من أجل أن يوظفه في إصلاح المجتمع وهدايته.

التحديات زادته قوة وروحانية

وعلى الرغم ممّا عاشه الإمام(ع) من ظروف قاسية وصلت حدّ المأساة، إلاّ أنه لم يهن أو يضعف أو يسقط، بل كان يزداد قوة وروحانية وهو ينتقل من سجن إلى سجن بأمر من الخليفة العباسي هارون الرشيد، لأن "الرشيد" درس الواقع الإسلامي، ورأى أن الإمام الكاظم (ع) يحصل على الثقة الكبرى في المجتمع الإسلامي كله، بعلمه وروحانيته وأخلاقه، وبكل ما يتفاضل الناس به ويرتفع الإنسان به عندهم، وكان يثقله أن الناس لا تقدّر الإمام الكاظم (ع) كعالِم ، شأنه شأن بقية العلماء الآخرين، بل كانوا يعتقدون بإمامته وينفعلون بقداسته.

اعتراف الرشيد بعظمته وفضله

وعلى الرغم من أن الإمام(ع) لم يكن يعترف بشرعية خلافة "الرشيد"، إلا أنه كان منفتحاً يلتقيه ويحاوره ويناظره، وكان "الرشيد" لا يملك إلا أن يعظّمه. وهذا ما أشار إليه "المأمون" ابن الرشيد، الذي كان يكنّ في قلبه بعض محبة لأهل البيت(ع)، في بدايات حياته على الأقلّ، وقيل له: من أين تعلّمت التشيّع؟ - وكانت هذه الكلمة تُطلق على الذين يحبون أهل البيت ويعظّمونهم - فقال، كما روي عنه: لقد تعلّمته من أبي هارون الرشيد. وذكر ما لقيه الإمام الكاظم(ع) من تعظيم عند استقبال هارون الرشيد له، ما أدى إلى اعتراض المأمون على أبيه لجهله بالإمام، فقال له: إن الناس لو عرفوا من فضل هذا وأهل بيته ما نعرفه لما تركونا في مواقعنا، فقال له المأمون: لمَ لم تتنازل عن موقعك إذا كنت تعرف من فضله ما تقول؟ فقال له: إن الملك عقيم، ولو نازعتني عليه لأخذت الذي فيه عيناك..

سمو الروح وقوة الموقف

كان الرشيد يشعر بالخوف من الإمام الكاظم (ع)، ولذلك رأى أن يحجبه عن الناس، وبعث به أول الأمر إلى سجن أحد الولاة من أقاربه، لكن الوالي لم يلبث بعد فترة أن أرسل إلى هارون: خذ موسى بن جعفر مني، فإني بثثت عليه العيون، فرأيته لا يذكرني بسوء ولا يذكرك بسوء. وكان يقول في سجنه: "اللهم إني كنت قد سألتك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد". كان في سجنه يرتفع ويسمو بتلك الروحانية التي يعيش فيها مع الله تعالى، كما كانت كل حياته مع الله تعالى.

وهكذا، ينقل كل السجّانين، وهم كثر، أن حياته(ع) في السجن كانت عبادة دائمة يقضي بها ليله ونهاره، ولم يُنقل عنه أنه تأفف أو تضجّر أو شكا أو تألم، حتى دُسّ إليه السم في سجن "السندي بن شاهك". وجمع الرشيد الفقهاء ليشهدوا أنهم لم يجدوا فيه ضربة سيف أو أيّ أثر للتعذيب،ولكن أحد الأطباء اكتشف السمّ بعد وفاة الإمام (ع).

كان الإمام (ع)، إلى جانب علمه وحركيته وحيويته، يسمو بأخلاقه وروحانيته، وهو ما ينبغي لنا أن نتعلمه من كل إمام من أئمتنا (ع)، أن نعيش الروحانية في العلاقة بالله ومع الناس، والروحانية في تحريك العلم إلى ما ينفعهم، وفي تأكيد الأخلاق إلى ما يفتح لنا قلوبهم وعقولهم. إن الإسلام يجمع ذلك كله، وقد كان النبي (ص) والأئمة (ع) يجمعون ذلك كله، فعلينا، كعلماء وسائرين في هذا الخط، أن نقتدي بهم، بأن تكون قلوبنا مفتوحة للحق وللخير وللناس كلهم، لأن الإنسان المؤمن، عندما يعيش الإيمان في قلبه، فإنه لا يحقد على أحد أبداً.

من منهجه الأخلاقي:

ـ الكف عن أذى الناس

ونحن، في هذا الموقف، نحب أن نثير بعض كلمات الإمام الكاظم (ع) التي تمثل خطوطاً أخلاقية للإنسان في حياته، في تعامله مع نفسه ومع ربه ومع الآخرين. ففي الحديث عنه (ع)، في رواية له عن رسول الله (ص)، قال: "قال رسول الله (ص) لأبي ذر الغفاري: كُفّ أذاك عن الناس - أبعد الأذى عن روحك وذهنك، حتى إذا عشت في بيتك مع زوجك وأولادك، أو في المحلة مع جيرانك، أو في المجتمع كله، فلا يشكو منك أحد بأنك آذيته - فإنه صدقة تصدّقت بها على نفسك". ومن الطبيعي أن بلوغ هذه المرتبة، يحتاج إلى جهاد كبير ومعاناة داخلية ، لأن المسألة قد تكون في الواقع كما يقول "المتنبي":

والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفـة فلعـلة لا يظـلم

ـ الرفق بالعباد

وفي حديث آخر، يؤكد الإمام (ع) على أسلوب الرفق بالعباد، بأن لا تكون العنيف في علاقتك ومعاملاتك مع الناس، بل الإنسان الطيب السهل اللين الرفيق بالآخرين، في كلماتك ومعاملاتك وعلاقاتك، لأن هذا هو الخط الإسلامي الأصيل الذي جاء به القرآن وبلّغه رسول الله (ص)، قال: "قال رسول الله (ص): ما من عمل أحب إلى الله تعالى وإلى رسوله من الإيمان بالله تعالى والرفق بعباده، وما من عمل أبغض إلى الله تعالى من الإشراك بالله تعالى والعنف على عباده". فإذا كنت عنيفاً على بيتك وأولادك وجيرانك وعلى الناس الذين تعيش معهم في أيّ موقع، فإنك بذلك تواجه بغض الله لك، حتى لو كنت صائماً مصلياً، لأن قيمة الصلاة والصوم، هي أن يجعلانك الإنسان الطيب مع نفسك ومع الله ومع الناس.

ـ طاعة الله

وقال الإمام الكاظم (ع) لبعض ولده وهو ينصحه: "يا بني، إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها - اعرف مواقع معاصي الله، وأن الله يبغض الذين يعصونه، لأنهم يبتعدون عن مواقع رضاه، حاول وأنت تعرف مواقع المعصية، أن لا يراك الله في معصية نهاك عنها، لا في كلمة ولا في فعل - وإياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها"، فالطاعات معروفة في ما أمرك الله به وأوجبه عليك، والله يريد أن يجدك عند مواقع طاعته لتحصل على مواقع رضاه.

ـ التعامل بالجد

وفي وصية أخرى له (ع) يقول: "يا بني، عليك بالجدّ، لا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ وطاعته، فإن الله لا يُعبد حق عبادته ـ مهما صليت وصمت، لا تحسبن أنك أديت لله حقه وعبدته حق عبادته - وإياك والمزاح - والمزاح ليس محرّماً، لكن بعض الناس يغلب المزاح على حياته بحيث لا تجده إلا مزّاحاً في طريقته في الحياة - فإنه يُذهب بنور إيمانك ويستخفّ مروءتك، إياك والضجر والكسل - لا تضجر من عمل أو دراسة أو عبادة، حاول أن تكون الإنسان الذي يجدد رغبته في ما ينفعه في الدنيا والآخرة ـ فإنهما يمنعانك حظك من الدنيا والآخرة"..

ـ محاسبة النفس

وكان الإمام الكاظم (ع) يراقب الناس، فيراهم يعيشون الغفلة، بحيث يتحركون في أعمالهم وأشغالهم وقد نسوا حدود الله وأوامره ونواهيه، وارتكبوا المعاصي في غفلتهم، فكان (ع) يقول: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم - يصبح الصباح عليك وتدرس ما عملت في ليلك من خير أو شر، ويمسي المساء عليك فتدرس ما فعلت في نهارك - فإن عمِل حسناً استزاد الله، وإن عمِل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه"، أن تحدّق دائماً في نفسك قبل أن تنسى ما فعلت..

ـ استكثار الخير

وعن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: "لا تستكثروا كثير الخير - إذا عملت خيراً في عالم العطاء والعبادة والجهاد - ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السرّ حتى تعطوا من أنفسكم النَصَف، وسارعوا إلى طاعة الله - قبل أن يأتي الوقت الذي لا تستطيعون فيه الطاعة - وأصدقوا الحديث، وأدوا الأمانة، فإنما ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحل، فإنما ذلك عليكم"..

ـ عدم السباب والشتم

وسئل الإمام (ع) عن رجلين يتسابّان ـ ونحن مجتمع يدمن السباب عند كل اختلاف بين الناس ـ فقال: "البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم".. وكان من دعائه (ع): "اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب"، وكان يردد وهو المعصوم: "عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك"، أن نتذكّر الموت لنعرف كيف نركّز الحياة، ونتذكر الحساب لنتوب إلى الله، وأن نشعر بعظم ذنوبنا أمام الله وعظم العفو عنده،لنطلب منه تعالى العفو والرحمة والمغفرة.

هؤلاء هم أئمتنا الهداة (ع)، الذين يطلّون علينا من خلال كلماتهم ووصاياهم ونصائحهم، حتى نهتدي بذلك كله، لأن ذلك هو الإسلام، وهذا ما ينبغي لنا أن نقتدي به وننفتح عليه، وأن يكون إيماننا بالإمامة والأئمة (ع)، إيماناً بالخط والنهج والإسلام، لأنهم أئمة الإسلام.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في هذه الحياة الدنيا، فأحكموا أمركم فيها، ورتّبوا كل حساباتكم مع الله، لأن مشكلة الكثيرين منا أنهم معنيون بترتيب كل حساباتهم الشعبية والرسمية، ولكنهم يؤجلون حسابات الله إلى وقت غير محدّد عندهم، فإذا سألت أحدهم عن ترتيب حساباته المالية والاجتماعية والعبادية، وما إلى ذلك، مع الله، رأيته يؤجل إلى أجل غير محدود من خلال طول الأمل، ثم يأتي أجله ولم يرتّب حساباته، وهناك الموقف الصعب أمام ربك الذي دعاك إلى التقوى..

ومن التقوى أن لا تفتحوا قلوبكم لأيّ ظالم حتى لو أعطاكم ما أعطاكم، حاولوا أن تكونوا مع الصادقين العادلين حتى لو لم يكونوا قريبين منكم، وأن تكونوا ضد الظالمين حتى لو كانوا من أقربائكم، حاولوا أن تشعروا بمسؤوليتكم في هذه الدنيا كجزء من المجتمع الإسلامي، لتواجهوا كل المستكبرين، كل بحسب موقعه وقوته، لأن الله أراد لنا أن نرصد الظالمين والمستكبرين، لننكر عليهم ظلمهم واستكبارهم..

توجهات السياسة الأمريكية:

ونظل في حركة رصد ومتابعة للسياسة الأمريكية، لنتعرّف إلى الأساليب التي تعتمدها لاجتذاب العرب وجعلهم يقتربون من إسرائيل، فماذا نجد؟

ـ اختراق إسرائيلي لموريتانيا والجزائر

في موريتانيا، توقيع الاعتراف بإسرائيل تحت إشراف أمريكا، وإقامة علاقات معها على مستوى تبادل السفراء، من دون اعتبار لواقع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وسوريا ولبنان، كل ذلك من أجل الحصول على رضى أمريكا.. وفي السياق نفسه، نجد الرئيس الجزائري "بوتفليقة"، يصرّح للصحافيين الصهاينة: "أنا لست عدوّكم، ولا أكنّ لكم أيّ ضغينة".

ـ ضغوط لانفتاح اقتصادي على إسرائيل

وفي هذه الأجواء، يزور وزير التجارة الأمريكي المنطقة، ليحثّ العرب على الانفتاح على إسرائيل اقتصادياً، فيما تستمر تحضيرات واشنطن للمؤتمر الاقتصادي حول الشرق الأوسط الذي يُعقد في الربيع القادم، ليكون واجهة للتطبيع الاقتصادي الواسع..

ـ مهزلة الممر الآمن

أما الممر الآمن، فإنه يمثل نفقاً بين سجنين - الضفة الغربية وغزة - بإشراف جنود الاحتلال الذين يحددون من يسمحون له بالعبور ومن لا يسمحون له، ولكن أمريكا تحاول أن تجعل منه حدثاً كبيراً تنطلق منه إلى قمّة فلسطينية - إسرائيلية - أمريكية، للمزيد من الضغط على الفلسطينيين في المفاوضات النهائية، من خلال وعد "باراك" بإقامة دولة فلسطينية على أقل من ربع الضفة الغربية، من دون أن يكون لها حيوية الدولة، ويبقى اليهود في الضفة الغربية وفلسطين كلها..

ـ ضمان أمن إسرائيل

هذا في الوقت الذي تدعو فيه أمريكا الدول العربية في الخليج - من خلال وزير دفاعها - لشراء صفقات الأسلحة منها، بعد التهويل عليهم بالأخطار الإيرانية والعراقية المزعومة، وهي تتعهد في المقابل بتمويل كل ما تحتاجه إسرائيل من أجهزة إنذار مبكر، وغير ذلك. وقد أكدّ "كوهين": أنه "مهما كان الاتفاق الذي تتوصل إليه الأطراف، سنقوم بما يتوجب لضمان أمن إسرائيل"، وكأن الدول العربية تُدفع بطريقة غير مباشرة لضمان أمن إسرائيل..

ـ ما مبرر بقاء الجامعة العربية؟

إننا نحذّر من السياسة الأمريكية الضاغطة على الواقع العربي، من أجل محاصرة سوريا ولبنان وفلسطين، بتطويقها بالدول العربية المعترفة بإسرائيل، ونتساءل: لماذا لا تتدخل "الجامعة العربية لدى الدول العربية وتحدّ من استعجالها وهرولتها نحو الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، وذلك بهدف حماية مواقع الدول العربية التي تحتل إسرائيل أراضيها، ولتقوية أوضاعها أمام الضغوط الإسرائيلية؟ وما هو مبرر بقاء هذه الجامعة إذا كانت لا تملك الضغط في القضية الأم للواقع العربي كله؟!

ـ إندونيسيا: طريق أمريكا عبر "إسرائيل"1

وإلى جانب ذلك، نُفاجَأ بالرئيس الإندونيسي الذي يرأس "جمعية نهضة العلماء"، يتحدث، في أول تصريح له، عن الانفتاح على إسرائيل وإقامة علاقات اقتصادية معها، من دون أن يذكر القدس ولو بكلمة واحدة، وليس ذلك إلا للتقرّب من أمريكا التي جعلت الطريق إليها يمر - دائماً - بإسرائيل في علاقاتها بالدول، ونتساءل: ما هو دور "منظمة المؤتمر الإسلامي"، وما جدواها في الدفاع عن أكبر قضية إسلامية في العصر الحاضر، وهي القدس، كرمز لفلسطين كلها؟!

ـ نحو دور عراقي جديد لمواجهة إيران

وقد يكون من الطريف ما قرأناه في بعض الصحف العراقية من دعوة النظام- بلسان نجل الرئيس العراقي ـ أمريكا لإقامة حوار معه، وذلك لأنه، على حدّ زعمه، "البلد الوحيد القادر على الوقوف في وجه إيران وإلحاق الهزيمة بها"، وأنه "البلد الوحيد الذي يستطيع مواجهة السياسة الإيرانية"!!

إن هذا النظام يعرف أن إيران هي البلد الذي يقف لمواجهة السياسة الأمريكية في المنطقة، من أجل الدفاع عن حرية شعوبها، لا سيما الشعب الفلسطيني، وأن أمريكا تعمل على الاستفادة من كل التعقيدات الإقليمية والدولية لحصار إيران وإخضاعها للمصالح الأمريكية. ونحن نعرف أن الجمهورية الإسلامية لن تخضع لأمريكا، أما النظام العراقي، فسوف يبقى - في دائرة السياسة الأمريكية - في حالة اهتزاز لإقلاق الواقع السياسي في المنطقة، من دون السماح له بالاستقرار أو بالسقوط..

انتهاك حقوق المسلمين موضع إجماع دولي

ويبقى الجرح الإسلامي الكبير في الشيشان التي يدمّرها الجيش الروسي باسم محاربة "الإرهاب"، ونحن نعرف أن المسألة تتصل بالسياسة الروسية الداخلية من جهة، وبإعادة السيطرة على هذا البلد الذي يسعى نحو الاستقلال من جهة أخرى. وقد سمعنا أخيراً تصريح أمين عام الحلف الأطلسي الذي قال فيه، إن الشيشان "ليست موضع اهتمام الأطلسي الآن، وميثاق الشراكة الموقّع بينه وبين روسيا لا ينصّ على مناقشة المشكلات الداخلية"!!

إن هذا الكلام يوحي بأن المسألة عندما تتصل بالمسلمين، فإن الكل حاضر لانتهاك حقوقهم، وتبرير ذلك بدعوى "رفض الإرهاب والتطرف الديني"، ولكن من المفارقات المضحكة، أن الدولة الأمريكية والدول الأوروبية وحلفاءهما، مشغولون بقضية 13 يهودياً إيرانياً يُحاكمون في إيران بتهمة التجسس لإسرائيل، كما يُحاكم إيرانيون آخرون بالتهمة نفسها، وذلك بإثارتها في المحافل الدولية وفي الأحاديث مع المسؤولين الإيرانيين، من دون أن يتحدثوا عن أن القضية شأن داخلي يتصل بالسيادة الإيرانية على شعبها، لأن قضية اليهود عند أمريكا، حتى لو كانوا أفراداً، شيء، وقضية المسلمين، ولو كانوا شعوباً، شيء آخر.. إننا نجدد دعوتنا للشعوب الإسلامية، أن ترفع صوتها عالياً ضد المجزرة الوحشية التي يتعرّض لها الشعب الشيشاني المسلم.

شكاوى لبنان لا تلجم اعتداءات "إسرائيل"

أما في لبنان، فإن الاعتداءات الإسرائيلية تتواصل، بالقصف الجوي والمدفعي الذي يستهدف القرى والبلدات في الجنوب والبقاع الغربي، لا سيما قرية "عربصاليم"، بالإضافة الى إبعاد عائلة من قرية "دبّين".. ويذهب لبنان إلى حائط المبكى - لجنة تفاهم نيسان - لتقديم الشكوى، وتصدر القرارات، ولكن "إسرائيل" مستمرة في عدوانها، من دون أن تواجه أيّ استنكار دولي على ذلك، لأن المطلوب هو إبقاء الضغط الصهيوني على سوريا ولبنان، من أجل التسليم بالشروط الإسرائيلية قبل الانسحاب.

لبنان: الأخطار المحدقة والمواجهة المسؤولة

وأخيراً، إن حجم الضغط والعدوان الصهيونيين، يفرض علينا السعي للخروج من دوامة بعض الأسئلة الداخلية التي تتلاحق مع الملفات التي تُفتح وتُغلق لحسابات لا ترتبط بالقضية الوطنية العامة، أو من دوامة التساؤل حول: متى تُحاور المعارضة الحكومة، أو متى تتوقف المقاطعة والتراشق من بعيد؟.. إن بلداً يرى حجم ما يحيط به من الأخطار وما يُرسم حوله من أدوار، لا يستطيع النهوض لمجابهتها إذا بقي أسير المناكفات الشخصية والحسابات الفئوية التي تفضّل مصلحة الخاص على العام بدلاً من العكس..

والسؤال: متى يشعر اللبنانيون أن بلادهم تتحرك في منطقة الزلازل السياسية والاقتصادية، وأن عليهم أن يواجهوا ذلك بمسؤولية كبيرة؟

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

 

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. والإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر رجب، هو واحد من أئمة أهل البيت(ع)، ولا بدّ لنا أن نعيش مع أئمتنا (ع) في كل ما عاشوه وقالوه وتحركوا به، لأنهم يجسّدون الإسلام في ذلك كله، حيث أرادهم الله تعالى أن يقدّموا للناس صورة مشرقة حقيقية للإسلام في جميع جوانبه.

ملأ مرحلته علماً

لقد أراد الله للناس أن يحيوا بالإسلام، أن يكون حياة لهم في الدنيا، لتكون الدنيا في عمر كل إنسان حياة الروح كما هي حياة الجسد، وأن يحيوا به في الآخرة، والآخرة هي دار الحيوان، من أجل أن ينفتحوا على تلك الحياة الطيبة في جنة الله. فالإسلام ليس مجرد فكر أو شريعة أو منهج أو جهاد أو عبادة، بل هو ذلك كله. ولذلك، فإننا عندما ندرس حياة أيّ إمام من أئمة أهل البيت (ع)، نرى أن حياته تجمع ذلك كله، ففي حياة الإمام الكاظم (ع)، عندما نقرأ تراثه الذي تركه لنا، مما رواه الرواة عنه، نجده قد ملأ المرحلة الإسلامية التي عاشها علماً، فواجه كل القضايا التي أُثيرت مما كان يختلف فيه الناس، ويتحدث فيه المتحدثون، وأعطى كل قضية من تلك القضايا الحلّ لما أشكل على الناس، وحدّد المنهج لما افتقدوه.

رسالته الإسلام

ولهذا، فقد كانت تلك المرحلة في حياة الإمام الكاظم (ع)، مرحلة وعي ثقافي استفاد منه أساتذة المجتمع كله. ومن المؤسف أن الكثير منا، ولا سيما مثقفينا، يجهلون ما تركه الإمام الكاظم(ع) من تراث، من الناحيتين العلمية والثقافية. هذا، ولم تقتصر حركته (ع) على مجالات العلم والثقافة، فنراه، في ما يتعلق بالواقع الاجتماعي، يلاحق الناس بمواعظه ووصاياه ونصائحه، ليسدّ ثغرة في هذا المجتمع، أو ليقوّم انحرافاً في علاقات الناس ببعضهم البعض، أو ليصحّح بعض الأساليب التي يستعملونها للوصول إلى قضاياهم، وكان يتابع كل أوضاعهم، فلا يغفل منها شيئاً.

كانت رسالته - التي هي رسالة الإسلام ـ أن يرصد حركة الناس في الأمور الصغيرة والكبيرة، ولا يتركهم يسيرون على هواهم ويخضعون لتيارات الانحراف، سواء كان انحرافاً عقيدياً أو اجتماعياً أو سياسياً، فكان يوجههم ليتمكنوا من تجاوز هذا الانحراف، وكان من خلال ذلك يوحي إلى كل العلماء من بعده أن يتحركوا في علمهم وفي حركتهم في قلب المجتمع، ليدرسوا حركة سيره في خط الاستقامة أو في خط الانحراف، لأن الله تعالى لم يعطِ الإنسان علماً إلا من أجل أن يوظفه في إصلاح المجتمع وهدايته.

التحديات زادته قوة وروحانية

وعلى الرغم ممّا عاشه الإمام(ع) من ظروف قاسية وصلت حدّ المأساة، إلاّ أنه لم يهن أو يضعف أو يسقط، بل كان يزداد قوة وروحانية وهو ينتقل من سجن إلى سجن بأمر من الخليفة العباسي هارون الرشيد، لأن "الرشيد" درس الواقع الإسلامي، ورأى أن الإمام الكاظم (ع) يحصل على الثقة الكبرى في المجتمع الإسلامي كله، بعلمه وروحانيته وأخلاقه، وبكل ما يتفاضل الناس به ويرتفع الإنسان به عندهم، وكان يثقله أن الناس لا تقدّر الإمام الكاظم (ع) كعالِم ، شأنه شأن بقية العلماء الآخرين، بل كانوا يعتقدون بإمامته وينفعلون بقداسته.

اعتراف الرشيد بعظمته وفضله

وعلى الرغم من أن الإمام(ع) لم يكن يعترف بشرعية خلافة "الرشيد"، إلا أنه كان منفتحاً يلتقيه ويحاوره ويناظره، وكان "الرشيد" لا يملك إلا أن يعظّمه. وهذا ما أشار إليه "المأمون" ابن الرشيد، الذي كان يكنّ في قلبه بعض محبة لأهل البيت(ع)، في بدايات حياته على الأقلّ، وقيل له: من أين تعلّمت التشيّع؟ - وكانت هذه الكلمة تُطلق على الذين يحبون أهل البيت ويعظّمونهم - فقال، كما روي عنه: لقد تعلّمته من أبي هارون الرشيد. وذكر ما لقيه الإمام الكاظم(ع) من تعظيم عند استقبال هارون الرشيد له، ما أدى إلى اعتراض المأمون على أبيه لجهله بالإمام، فقال له: إن الناس لو عرفوا من فضل هذا وأهل بيته ما نعرفه لما تركونا في مواقعنا، فقال له المأمون: لمَ لم تتنازل عن موقعك إذا كنت تعرف من فضله ما تقول؟ فقال له: إن الملك عقيم، ولو نازعتني عليه لأخذت الذي فيه عيناك..

سمو الروح وقوة الموقف

كان الرشيد يشعر بالخوف من الإمام الكاظم (ع)، ولذلك رأى أن يحجبه عن الناس، وبعث به أول الأمر إلى سجن أحد الولاة من أقاربه، لكن الوالي لم يلبث بعد فترة أن أرسل إلى هارون: خذ موسى بن جعفر مني، فإني بثثت عليه العيون، فرأيته لا يذكرني بسوء ولا يذكرك بسوء. وكان يقول في سجنه: "اللهم إني كنت قد سألتك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد". كان في سجنه يرتفع ويسمو بتلك الروحانية التي يعيش فيها مع الله تعالى، كما كانت كل حياته مع الله تعالى.

وهكذا، ينقل كل السجّانين، وهم كثر، أن حياته(ع) في السجن كانت عبادة دائمة يقضي بها ليله ونهاره، ولم يُنقل عنه أنه تأفف أو تضجّر أو شكا أو تألم، حتى دُسّ إليه السم في سجن "السندي بن شاهك". وجمع الرشيد الفقهاء ليشهدوا أنهم لم يجدوا فيه ضربة سيف أو أيّ أثر للتعذيب،ولكن أحد الأطباء اكتشف السمّ بعد وفاة الإمام (ع).

كان الإمام (ع)، إلى جانب علمه وحركيته وحيويته، يسمو بأخلاقه وروحانيته، وهو ما ينبغي لنا أن نتعلمه من كل إمام من أئمتنا (ع)، أن نعيش الروحانية في العلاقة بالله ومع الناس، والروحانية في تحريك العلم إلى ما ينفعهم، وفي تأكيد الأخلاق إلى ما يفتح لنا قلوبهم وعقولهم. إن الإسلام يجمع ذلك كله، وقد كان النبي (ص) والأئمة (ع) يجمعون ذلك كله، فعلينا، كعلماء وسائرين في هذا الخط، أن نقتدي بهم، بأن تكون قلوبنا مفتوحة للحق وللخير وللناس كلهم، لأن الإنسان المؤمن، عندما يعيش الإيمان في قلبه، فإنه لا يحقد على أحد أبداً.

من منهجه الأخلاقي:

ـ الكف عن أذى الناس

ونحن، في هذا الموقف، نحب أن نثير بعض كلمات الإمام الكاظم (ع) التي تمثل خطوطاً أخلاقية للإنسان في حياته، في تعامله مع نفسه ومع ربه ومع الآخرين. ففي الحديث عنه (ع)، في رواية له عن رسول الله (ص)، قال: "قال رسول الله (ص) لأبي ذر الغفاري: كُفّ أذاك عن الناس - أبعد الأذى عن روحك وذهنك، حتى إذا عشت في بيتك مع زوجك وأولادك، أو في المحلة مع جيرانك، أو في المجتمع كله، فلا يشكو منك أحد بأنك آذيته - فإنه صدقة تصدّقت بها على نفسك". ومن الطبيعي أن بلوغ هذه المرتبة، يحتاج إلى جهاد كبير ومعاناة داخلية ، لأن المسألة قد تكون في الواقع كما يقول "المتنبي":

والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفـة فلعـلة لا يظـلم

ـ الرفق بالعباد

وفي حديث آخر، يؤكد الإمام (ع) على أسلوب الرفق بالعباد، بأن لا تكون العنيف في علاقتك ومعاملاتك مع الناس، بل الإنسان الطيب السهل اللين الرفيق بالآخرين، في كلماتك ومعاملاتك وعلاقاتك، لأن هذا هو الخط الإسلامي الأصيل الذي جاء به القرآن وبلّغه رسول الله (ص)، قال: "قال رسول الله (ص): ما من عمل أحب إلى الله تعالى وإلى رسوله من الإيمان بالله تعالى والرفق بعباده، وما من عمل أبغض إلى الله تعالى من الإشراك بالله تعالى والعنف على عباده". فإذا كنت عنيفاً على بيتك وأولادك وجيرانك وعلى الناس الذين تعيش معهم في أيّ موقع، فإنك بذلك تواجه بغض الله لك، حتى لو كنت صائماً مصلياً، لأن قيمة الصلاة والصوم، هي أن يجعلانك الإنسان الطيب مع نفسك ومع الله ومع الناس.

ـ طاعة الله

وقال الإمام الكاظم (ع) لبعض ولده وهو ينصحه: "يا بني، إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها - اعرف مواقع معاصي الله، وأن الله يبغض الذين يعصونه، لأنهم يبتعدون عن مواقع رضاه، حاول وأنت تعرف مواقع المعصية، أن لا يراك الله في معصية نهاك عنها، لا في كلمة ولا في فعل - وإياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها"، فالطاعات معروفة في ما أمرك الله به وأوجبه عليك، والله يريد أن يجدك عند مواقع طاعته لتحصل على مواقع رضاه.

ـ التعامل بالجد

وفي وصية أخرى له (ع) يقول: "يا بني، عليك بالجدّ، لا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ وطاعته، فإن الله لا يُعبد حق عبادته ـ مهما صليت وصمت، لا تحسبن أنك أديت لله حقه وعبدته حق عبادته - وإياك والمزاح - والمزاح ليس محرّماً، لكن بعض الناس يغلب المزاح على حياته بحيث لا تجده إلا مزّاحاً في طريقته في الحياة - فإنه يُذهب بنور إيمانك ويستخفّ مروءتك، إياك والضجر والكسل - لا تضجر من عمل أو دراسة أو عبادة، حاول أن تكون الإنسان الذي يجدد رغبته في ما ينفعه في الدنيا والآخرة ـ فإنهما يمنعانك حظك من الدنيا والآخرة"..

ـ محاسبة النفس

وكان الإمام الكاظم (ع) يراقب الناس، فيراهم يعيشون الغفلة، بحيث يتحركون في أعمالهم وأشغالهم وقد نسوا حدود الله وأوامره ونواهيه، وارتكبوا المعاصي في غفلتهم، فكان (ع) يقول: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم - يصبح الصباح عليك وتدرس ما عملت في ليلك من خير أو شر، ويمسي المساء عليك فتدرس ما فعلت في نهارك - فإن عمِل حسناً استزاد الله، وإن عمِل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه"، أن تحدّق دائماً في نفسك قبل أن تنسى ما فعلت..

ـ استكثار الخير

وعن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: "لا تستكثروا كثير الخير - إذا عملت خيراً في عالم العطاء والعبادة والجهاد - ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السرّ حتى تعطوا من أنفسكم النَصَف، وسارعوا إلى طاعة الله - قبل أن يأتي الوقت الذي لا تستطيعون فيه الطاعة - وأصدقوا الحديث، وأدوا الأمانة، فإنما ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحل، فإنما ذلك عليكم"..

ـ عدم السباب والشتم

وسئل الإمام (ع) عن رجلين يتسابّان ـ ونحن مجتمع يدمن السباب عند كل اختلاف بين الناس ـ فقال: "البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم".. وكان من دعائه (ع): "اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب"، وكان يردد وهو المعصوم: "عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك"، أن نتذكّر الموت لنعرف كيف نركّز الحياة، ونتذكر الحساب لنتوب إلى الله، وأن نشعر بعظم ذنوبنا أمام الله وعظم العفو عنده،لنطلب منه تعالى العفو والرحمة والمغفرة.

هؤلاء هم أئمتنا الهداة (ع)، الذين يطلّون علينا من خلال كلماتهم ووصاياهم ونصائحهم، حتى نهتدي بذلك كله، لأن ذلك هو الإسلام، وهذا ما ينبغي لنا أن نقتدي به وننفتح عليه، وأن يكون إيماننا بالإمامة والأئمة (ع)، إيماناً بالخط والنهج والإسلام، لأنهم أئمة الإسلام.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في هذه الحياة الدنيا، فأحكموا أمركم فيها، ورتّبوا كل حساباتكم مع الله، لأن مشكلة الكثيرين منا أنهم معنيون بترتيب كل حساباتهم الشعبية والرسمية، ولكنهم يؤجلون حسابات الله إلى وقت غير محدّد عندهم، فإذا سألت أحدهم عن ترتيب حساباته المالية والاجتماعية والعبادية، وما إلى ذلك، مع الله، رأيته يؤجل إلى أجل غير محدود من خلال طول الأمل، ثم يأتي أجله ولم يرتّب حساباته، وهناك الموقف الصعب أمام ربك الذي دعاك إلى التقوى..

ومن التقوى أن لا تفتحوا قلوبكم لأيّ ظالم حتى لو أعطاكم ما أعطاكم، حاولوا أن تكونوا مع الصادقين العادلين حتى لو لم يكونوا قريبين منكم، وأن تكونوا ضد الظالمين حتى لو كانوا من أقربائكم، حاولوا أن تشعروا بمسؤوليتكم في هذه الدنيا كجزء من المجتمع الإسلامي، لتواجهوا كل المستكبرين، كل بحسب موقعه وقوته، لأن الله أراد لنا أن نرصد الظالمين والمستكبرين، لننكر عليهم ظلمهم واستكبارهم..

توجهات السياسة الأمريكية:

ونظل في حركة رصد ومتابعة للسياسة الأمريكية، لنتعرّف إلى الأساليب التي تعتمدها لاجتذاب العرب وجعلهم يقتربون من إسرائيل، فماذا نجد؟

ـ اختراق إسرائيلي لموريتانيا والجزائر

في موريتانيا، توقيع الاعتراف بإسرائيل تحت إشراف أمريكا، وإقامة علاقات معها على مستوى تبادل السفراء، من دون اعتبار لواقع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وسوريا ولبنان، كل ذلك من أجل الحصول على رضى أمريكا.. وفي السياق نفسه، نجد الرئيس الجزائري "بوتفليقة"، يصرّح للصحافيين الصهاينة: "أنا لست عدوّكم، ولا أكنّ لكم أيّ ضغينة".

ـ ضغوط لانفتاح اقتصادي على إسرائيل

وفي هذه الأجواء، يزور وزير التجارة الأمريكي المنطقة، ليحثّ العرب على الانفتاح على إسرائيل اقتصادياً، فيما تستمر تحضيرات واشنطن للمؤتمر الاقتصادي حول الشرق الأوسط الذي يُعقد في الربيع القادم، ليكون واجهة للتطبيع الاقتصادي الواسع..

ـ مهزلة الممر الآمن

أما الممر الآمن، فإنه يمثل نفقاً بين سجنين - الضفة الغربية وغزة - بإشراف جنود الاحتلال الذين يحددون من يسمحون له بالعبور ومن لا يسمحون له، ولكن أمريكا تحاول أن تجعل منه حدثاً كبيراً تنطلق منه إلى قمّة فلسطينية - إسرائيلية - أمريكية، للمزيد من الضغط على الفلسطينيين في المفاوضات النهائية، من خلال وعد "باراك" بإقامة دولة فلسطينية على أقل من ربع الضفة الغربية، من دون أن يكون لها حيوية الدولة، ويبقى اليهود في الضفة الغربية وفلسطين كلها..

ـ ضمان أمن إسرائيل

هذا في الوقت الذي تدعو فيه أمريكا الدول العربية في الخليج - من خلال وزير دفاعها - لشراء صفقات الأسلحة منها، بعد التهويل عليهم بالأخطار الإيرانية والعراقية المزعومة، وهي تتعهد في المقابل بتمويل كل ما تحتاجه إسرائيل من أجهزة إنذار مبكر، وغير ذلك. وقد أكدّ "كوهين": أنه "مهما كان الاتفاق الذي تتوصل إليه الأطراف، سنقوم بما يتوجب لضمان أمن إسرائيل"، وكأن الدول العربية تُدفع بطريقة غير مباشرة لضمان أمن إسرائيل..

ـ ما مبرر بقاء الجامعة العربية؟

إننا نحذّر من السياسة الأمريكية الضاغطة على الواقع العربي، من أجل محاصرة سوريا ولبنان وفلسطين، بتطويقها بالدول العربية المعترفة بإسرائيل، ونتساءل: لماذا لا تتدخل "الجامعة العربية لدى الدول العربية وتحدّ من استعجالها وهرولتها نحو الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، وذلك بهدف حماية مواقع الدول العربية التي تحتل إسرائيل أراضيها، ولتقوية أوضاعها أمام الضغوط الإسرائيلية؟ وما هو مبرر بقاء هذه الجامعة إذا كانت لا تملك الضغط في القضية الأم للواقع العربي كله؟!

ـ إندونيسيا: طريق أمريكا عبر "إسرائيل"1

وإلى جانب ذلك، نُفاجَأ بالرئيس الإندونيسي الذي يرأس "جمعية نهضة العلماء"، يتحدث، في أول تصريح له، عن الانفتاح على إسرائيل وإقامة علاقات اقتصادية معها، من دون أن يذكر القدس ولو بكلمة واحدة، وليس ذلك إلا للتقرّب من أمريكا التي جعلت الطريق إليها يمر - دائماً - بإسرائيل في علاقاتها بالدول، ونتساءل: ما هو دور "منظمة المؤتمر الإسلامي"، وما جدواها في الدفاع عن أكبر قضية إسلامية في العصر الحاضر، وهي القدس، كرمز لفلسطين كلها؟!

ـ نحو دور عراقي جديد لمواجهة إيران

وقد يكون من الطريف ما قرأناه في بعض الصحف العراقية من دعوة النظام- بلسان نجل الرئيس العراقي ـ أمريكا لإقامة حوار معه، وذلك لأنه، على حدّ زعمه، "البلد الوحيد القادر على الوقوف في وجه إيران وإلحاق الهزيمة بها"، وأنه "البلد الوحيد الذي يستطيع مواجهة السياسة الإيرانية"!!

إن هذا النظام يعرف أن إيران هي البلد الذي يقف لمواجهة السياسة الأمريكية في المنطقة، من أجل الدفاع عن حرية شعوبها، لا سيما الشعب الفلسطيني، وأن أمريكا تعمل على الاستفادة من كل التعقيدات الإقليمية والدولية لحصار إيران وإخضاعها للمصالح الأمريكية. ونحن نعرف أن الجمهورية الإسلامية لن تخضع لأمريكا، أما النظام العراقي، فسوف يبقى - في دائرة السياسة الأمريكية - في حالة اهتزاز لإقلاق الواقع السياسي في المنطقة، من دون السماح له بالاستقرار أو بالسقوط..

انتهاك حقوق المسلمين موضع إجماع دولي

ويبقى الجرح الإسلامي الكبير في الشيشان التي يدمّرها الجيش الروسي باسم محاربة "الإرهاب"، ونحن نعرف أن المسألة تتصل بالسياسة الروسية الداخلية من جهة، وبإعادة السيطرة على هذا البلد الذي يسعى نحو الاستقلال من جهة أخرى. وقد سمعنا أخيراً تصريح أمين عام الحلف الأطلسي الذي قال فيه، إن الشيشان "ليست موضع اهتمام الأطلسي الآن، وميثاق الشراكة الموقّع بينه وبين روسيا لا ينصّ على مناقشة المشكلات الداخلية"!!

إن هذا الكلام يوحي بأن المسألة عندما تتصل بالمسلمين، فإن الكل حاضر لانتهاك حقوقهم، وتبرير ذلك بدعوى "رفض الإرهاب والتطرف الديني"، ولكن من المفارقات المضحكة، أن الدولة الأمريكية والدول الأوروبية وحلفاءهما، مشغولون بقضية 13 يهودياً إيرانياً يُحاكمون في إيران بتهمة التجسس لإسرائيل، كما يُحاكم إيرانيون آخرون بالتهمة نفسها، وذلك بإثارتها في المحافل الدولية وفي الأحاديث مع المسؤولين الإيرانيين، من دون أن يتحدثوا عن أن القضية شأن داخلي يتصل بالسيادة الإيرانية على شعبها، لأن قضية اليهود عند أمريكا، حتى لو كانوا أفراداً، شيء، وقضية المسلمين، ولو كانوا شعوباً، شيء آخر.. إننا نجدد دعوتنا للشعوب الإسلامية، أن ترفع صوتها عالياً ضد المجزرة الوحشية التي يتعرّض لها الشعب الشيشاني المسلم.

شكاوى لبنان لا تلجم اعتداءات "إسرائيل"

أما في لبنان، فإن الاعتداءات الإسرائيلية تتواصل، بالقصف الجوي والمدفعي الذي يستهدف القرى والبلدات في الجنوب والبقاع الغربي، لا سيما قرية "عربصاليم"، بالإضافة الى إبعاد عائلة من قرية "دبّين".. ويذهب لبنان إلى حائط المبكى - لجنة تفاهم نيسان - لتقديم الشكوى، وتصدر القرارات، ولكن "إسرائيل" مستمرة في عدوانها، من دون أن تواجه أيّ استنكار دولي على ذلك، لأن المطلوب هو إبقاء الضغط الصهيوني على سوريا ولبنان، من أجل التسليم بالشروط الإسرائيلية قبل الانسحاب.

لبنان: الأخطار المحدقة والمواجهة المسؤولة

وأخيراً، إن حجم الضغط والعدوان الصهيونيين، يفرض علينا السعي للخروج من دوامة بعض الأسئلة الداخلية التي تتلاحق مع الملفات التي تُفتح وتُغلق لحسابات لا ترتبط بالقضية الوطنية العامة، أو من دوامة التساؤل حول: متى تُحاور المعارضة الحكومة، أو متى تتوقف المقاطعة والتراشق من بعيد؟.. إن بلداً يرى حجم ما يحيط به من الأخطار وما يُرسم حوله من أدوار، لا يستطيع النهوض لمجابهتها إذا بقي أسير المناكفات الشخصية والحسابات الفئوية التي تفضّل مصلحة الخاص على العام بدلاً من العكس..

والسؤال: متى يشعر اللبنانيون أن بلادهم تتحرك في منطقة الزلازل السياسية والاقتصادية، وأن عليهم أن يواجهوا ذلك بمسؤولية كبيرة؟

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير