في ذكرى ولادة الإمام الحسين (ع) وأخيه العباس (رض) : الفرح الروحي لعظيم العطاء في خط الرسالة

في ذكرى ولادة الإمام الحسين (ع) وأخيه العباس (رض) : الفرح الروحي لعظيم العطاء في خط الرسالة
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

 

هذا هو شهر شعبان الذي كان رسول الله (ص) يدأب في صيامه وقيامه، في لياليه وأيامه، وهذا هو الشهر الذي نلتقي باليوم الثالث منه بولادة سيدنا الإمام الحسين بن علي (ع)، التي كانت فرحاً كبيراً لعليّ وفاطمة (عليهما السلام) بعد فرحهما بالإمام الحسن (ع)، وكانت فرحاً لرسول الله (ص) الذي أحبّ الحسن والحسين (ع)، حتى رُوي عنه في أكثر من مصدر بروايات المسلمين جميعاً أنه قال: "اللهم إني أحبهما، فأحبهما وأحبّ من يحبهما"، كما ورد عنه (ص) قوله: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وقال عن الحسين (ع): "حسين مني وأنا من حسين"، وكان يضمهما ويحضنهما ويلاعبهما، كانا أنسه الذي يأنس به ويخفف عنه كل آلامه عندما كان (ص) ينظر إليهما.

ولادة الحسين (ع): فرح الرسالة

وعندما نعيش ذكرى مولد الإمام الحسين (ع)، فإننا نفرح به، في الوقت الذي نعيش الحزن الكبير عليه، وفرحنا بالحسين(ع) هو الفرح بالرسالة التي حملها وعاش كل حياته من أجلها، وقد تحرك بطلب الإصلاح في أمّة جده(ص) ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بالكلمة الطيبة، وبالموقف الصلب، وبالجهاد الصعب. عندما نتمثل الحسين (ع)، فإننا نتمثل فيه رسول الله (ص) في كل أخلاقه وصفاته التي تمثلت في شخصيته، كان الحسين (ع) تجسيداً لجده رسول الله (ص) في روحانيته وعلمه وخلقه، وفي كل الصفات المميزة، وكان تجسيداً لعليّ (ع) في شجاعته وبطولته وإقدامه وجرأته وصلابته في الحق، كما كان تجسيداً لطهر الزهراء (ع) وصفائها ونقائها وروحانيتها.

معرفته(ع) طريق الصواب:

هكذا كان الإمام الحسين (ع) الذي كان الناس يحبونه، ولكنهم كانوا لا يعرفونه جيداً، فلم يواجهوا مسؤوليتهم في اختيار الإمام الذي تتمثل فيه كل عناصر الإمامة الحقة، سواء في شرعيته في الإمامة، أو في صفاته التي يتميّز بها عن الناس كلهم آنذاك. كانت مشكلة الإمام الحسين (ع) كمشكلة أبيه (ع)، وكمشكلة كثير من الأنبياء والمصلحين، الذين جاءوا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فاستبدلوهم بالذين جاءوا ليخرجوهم من النور إلى الظلمات، ولينحرفوا بهم عن الحق، وإلا فأين الحسين (ع) وأين يزيد، وأين عليّ (ع) وأين الذين تقدموه وحاربوه، وأين الحسن (ع) وأين معاوية؟

إن هؤلاء العظام (ع) عاشوا في زمان لم يرتفع فيه الناس إلى مستوى معرفتهم وفهمهم وتأكيد قوة الإرادة في الوقوف معهم. ومن خلال هذا، لا بد أن نستوحي من تلك المشكلة التي عاشها الأئمة (ع)، ومن قبلهم الأنبياء (ع)، كيف يجب علينا أن نميّز بين السائرين في الخط المستقيم وبين السائرين في الخط المنحرف، بين من يفتح عقول الناس على الحق وبين من يسير بالناس نحو الباطل. عندما نعيش الفرح بالحسين الرسالة والجهاد والتضحية والشهادة والقوة، فإن علينا أن نبقى معه، لا أن نذرف مجرد دموع حزينة تنطلق من إحساسنا بالمأساة.

العباس وكربلاء

ـ إقدام ونفاذ بصيرة

وفي هذا اليوم - الرابع من شعبان - نلتقي بذكرى ولادة بطل كربلاء، بطل بني هاشم، العباس بن عليّ (ع)، هذا البطل الإسلامي الكبير الذي لم يتجسد إقدامه في موقعة كربلاء فحسب، بل في علمه ووعيه وثباته وروحانيته أيضاً، وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق (ع) وهو يتحدث عن العباس أنه قال: "كان عمنا العباس نافذ البصيرة - كان يتميّز ببصيرة تجعله ينفذ إلى الأمور وينفتح على القضايا كلها، ليرتبط بالحق من خلالها. ونفاذ البصيرة، يوحي إلينا بما كان يتميز به من علم ورأي وشمولية في وعي الواقع كله - صلب الإيمان - كان إيمانه الإيمان الصلب الذي لم تضعفه أو تزلزله كل إغراءات الدنيا وإرهاباتها. وكيف لا يكون كذلك، وهو الذي عاش مع أبيه عليّ (ع) في طفولته وأول شبابه، وعاش مع أخويه الحسنين (ع) كل أجواء العلم والروحانية والسداد، وما يفتح عقول الناس على الحق، وقلوبهم على المحبة، وحياتهم على الخير.

كان العباس (ع) خلاصة عليّ والحسن والحسين (ع)، في معنى الوعي والروحانية، وفي حركة العلم وثبات الموقف وصلابة الإيمان ونفاذ البصيرة، كان ذلك كله، ولم يكن مجرد مجاهد نذكره في جهاده - جاهد مع أبي عبد الله (ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً"، ويقول الإمام زين العابدين (ع): "رحم الله العباس، فلقد آثر - من الإيثار - وأبلى وفدى أخاه بنفسه".

ـ الوفاء وصلابة الموقف

وعندما ندرس بعض اللمعات ذات الدلالة في بعض مواقفه في كربلاء، نرى أنه كان في البداية صاحب لواء الحسين (ع)، ونحن نعرف أن اللواء يُعطى للشخصية المميزة في الثبات والشرف والشجاعة. ويُقال في السيرة الكربلائية، إن الحسين (ع) جمع أصحابه وأهل بيته ليلة عاشوراء وخطبهم فقال: "أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً - اركبوا ظلام الليل كما يركب الإنسان الجمل لينجو بنفسه - وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يريدون غيري"، فقام إليه العباس، وهو الذي وجّه مسار الحديث، فبدأهم فقال: "ولمَ نفعل ذلك؟ - إن الذين يتخلون عن قيادتهم هم الذين لا تمثل القيادة أيّ معنى في حياتهم من خلال معنى الرسالة في عقولهم وشخصياتهم، إنهم الذين يحبون الحياة أكثر مما يحبون رسول الله وإمام الهدى والرسالة - لنبقى بعدك؟؟ لا أرانا الله ذلك أبداً"، لن نعيش في وقت لن تكون موجوداً فيه، نحن هنا من أجل أن نضحي ونجاهد في سبيلك، لأن التضحية والجهاد في سبيلك هما تضحية وجهاد في سبيل الله والإسلام. وتتابع أهل بيت الحسين (ع) وأصحابه بمثل هذا الكلام، وأشهدوا الله على أنهم يفدون الإمام الحسين (ع) بكل أنفسهم ومواقفهم.

ـ أمان الله خير

وفي موقف آخر للعباس (ع)، أن ابن خالة له يدعى عبد الله بن حزام، توسّط له عند ابن زياد ليعطيه أماناً له ولأخوته وجاء إلى العباس وأخبره بذلك، فكان ردّه ورّد أخوته: "أن لا حاجة لنا في الأمان، أمان الله خير من أمان ابن سمية"، نحن نرفض أن نأخذ الأمان من ابن سمية، لأن أمانه يعني أننا نحب الحياة معه، والمؤمن يطلب أمان الله، في أن يوفقه للإيمان والعمل الصالح، ليأمن في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

ومن مواقفه، أنه في بعض أيام عاشوراء، جاء الشمر بن ذي الجوشن إلى قرب معسكر الإمام الحسين (ع)، ونادى: أين بنو أختنا، أين العباس وأخوته؟ فرفضوا أن يجيبوه، فقال لهم الحسين (ع): "أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنه بعض أخوالكم"، فقال له العباس: "ما تريد"؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فاخرجوا عن الحسين واذهبوا ولكم الأمان، فقال له العباس الذي يعيش الرسالة ويعرف ماذا يمثل الشمر وما تمثل قيادته من الخيانة لله ولرسوله وللأمة كلها: "لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له"، وتكلم أخوته بمثل كلامه ثم رجعوا.

ـ الإيثار والعنفوان

وتنقل سيرته في كربلاء، أنه حمل الماء إلى المخيم عدة مرات، ولكنه في المرة الأخيرة، لم يستطع إيصال الماء، وسقط شهيداً في يوم عاشوراء، حيث كمن له شخص فقطع يمينه، ومن الطبيعي عندما تقطع يمين الشخص، وهي اليد التي يحمل فيها السيف، أن يصاب الإنسان بالضعف وخيبة الأمل والمرارة، ولكن العباس كان يزداد عنفواناً وشموخاً، وقد صوّر هذا الموقف بعض الشعراء بقوله:

والله إن قـطعتم يمـيني إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين

فأنا لا أحامي عن نفسي في هذا الموقف لأبكي عليها عندما تقطع يميني التي أحارب بها، ولكني أحامي عن ديني، فالحسين (ع) جاء من أجل الإصلاح في أمة جده (ص)، ولتغيير الواقع الإسلامي الفاسد في قيادته وفي خط الانحراف الذي سيطر عليه. وما نلاحظه، أن العباس لم يقل: "أحامي عن أخي"، ولم يتحدث عن النسب، وإنما تحدث عن القيادة وعن حماية الإمام الحسين (ع)، كونه إماماً صادق اليقين بالله وبرسوله وبالإسلام، وهو ابن رسول الله حقاً، بالجسد والروح والموقف والرسالة.

لنكن حركة في خط الإسلام:

في ذكرى مولد الإمام الحسين (ع)، لا بدّ لنا أن نولد مسلمين حسينيين منفتحين على ما عاش الحسين (ع) له واستشهد من أجله، وفي مولد العباس (ع)، علينا أن نولد بولادته من جديد، لتولد فينا بصيرته النافذة، وإيمانه الصلب، وثباته في الموقف، وإخلاصه لله ولرسوله ولرسالته، ولا بدّ أن تمنحنا هذه الذكريات القوة في خط الإسلام، عندما نسير في كل مواقعه في مواجهة كل الكافرين والمستكبرين الذين يريدون إكفاء الإسلام على وجهه وإضعافه.

لنقف وليقل كل واحد منا، سواء في ساحة المعركة المسلّحة أو ساحة المعركة الثقافية أو السياسية: إني أحامي أبداً عن ديني، ليكون كل مجتمعنا حركة في خط الإسلام، وهذا ما نقرأه دائماً في "دعاء الافتتاح": "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة". أن نكون معهم في كل المواقف، مع رسول الله (ص)، ومع عليّ (ع)، ومع الحسن والحسين وكل الأئمة(ع) ، إنهم "أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنـزيل"، {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل الأمور، فإنه تعالى أرادنا أن نحبه ونخافه وأن نراقب أنفسنا بين يديه، وهو المطلع على أسرارنا، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أن نحاسب أنفسنا في الصباح والمساء بين يديه، لنفكر في الكلمة قبلأن نتفوه بها، هل فيها رضاه أو فيها غضبه، ولنفكر في العمل قبل أن نعمله إذا كان مما يرضيه أو مما يغضبه، ولنفكر في العلاقة قبل أن ننشئها، هل هي علاقة في الخط المستقيم أو في الخط المنحرف، ولنفكر عندما نؤيد أو نرفض، عندما نواصل أو نقاطع، هل أن ذلك مما ينجينا عنده أو مما يهلكنا؟

إن الله تعالى هو المهيمن على الأمر كله، منه حياتنا وبإرادته موتنا، منه رزقنا ومنه مرضنا وشفاؤنا ونصرنا وهزيمتنا، لذلك علينا أن نجعل كل حركة فينا تتحرك بنور الله، أن تجعل نوره في عقلك وقلبك وكل حياتك، حتى لا يبقى أي ظلامٍ في الطريق وأنت تسير. إن الدنيا لا تغني عن الآخرة، لذلك لا تخلدوا إلى الأرض، وارفعوا عيونكم إلى السماء، حتى تبصروا الله تعالى في كل شمس تشرق، وفي كل قمر يطل في كل يوم، وفي كل نهر يجري، وفي كل بحر تتلاطم أمواجه، وفي كل هذه السهول المخضرّة، وقد قال الإمام عليّ (ع): "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله خلفه أو معه".

ونحن في كل قضايانا في الدنيا، سواء كانت قضايا سياسية أو أمنية أو اجتماعية، لا بدّ لنا من أن ننفتح على الله، لنطلب منه أن ينصرنا في كل معاركنا، ويساعدنا في كل أزماتنا، ويعطينا القوة في كل موقع يمكن أن تضعفنا فيه الشدائد والأهوال، فمن كان مع الله فإنه لا يسقط، لأن الله يمنحه قوة في الفكر والإحساس والإرادة والموقف.

إننا نواجه في هذه المرحلة، وفي ما سبقها من المراحل، أخطبوطاً استكبارياً يتمثل بالاستكبار العالمي، وفي مقدمته أمريكا وكل حلفائها، وبالصهيونية العالمية التي اغتصبت فلسطين، ولا بدّ لنا أن لا نغفل دائماً عن كل خطوات الاستكبار العالمي والصهيوني وألاعيبه، فماذا هناك؟

إدخال الفلسطينيين في المتاهات:

لقد بدأت المرحلة الأخيرة من حركة القضية الفلسطينية في المفاوضات النهائية، التي تلعب فيها إسرائيل من جديد دور إدخال الفلسطينيين في متاهات القضايا المثيرة للقلق، بدءاً بالقرار 242 في المسألة الفلسطينية، ليدور الجدل حولها، ولينتهي إلى رفض التفاوض حول القدس والمستوطنات وعودة اللاجئين، ليقتصر التفاوض على مسألة الحرية في الإدارة والعلاقات وتقرير المصير في دولة مضمونها فارغ من كل حقيقية.

أما اللاجئون، فإن مصيرهم التوطين في البلاد العربية أو الهجرة إلى بلاد الله الواسعة، وعلى السلطة الفلسطينية ترتيب أمورها في المساحة الصغيرة المحاطة بالمستوطنات الواقعة تحت السلطة الإسرائيلية، لتكون بمثابة بوابة السجن الكبير للشعب الفلسطيني الذي قد يسمونه "دولة"!! فهل هذا هو ما جاهد الفلسطينيون من أجله، أو ما خاض العرب أكثر من حرب لتحقيقه، والذي اهتزت المنطقة في كل قضاياها على أساسه؟؟

أمريكا وإنقاذ الكيان الصهيوني:

لقد بدأت أمريكا عملية الخداع لمنظمة التحرير من أجل إنقاذ الكيان الصهيوني من مأزقه، وإظهاره أمام الرأي العام العالمي بأنه لم يصادر حقوق الشعب الفلسطيني، لتنتزع الاعتراف بإسرائيل وبحقوقها شبه الكاملة في فلسطين من قِبَل سلطة فلسطينية، لتأخذ الشرعية لكيانها الغاصب من أصحاب الأرض. أما الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى والدول العربية، فالكل يتحرك لترتيب أوضاع السياسة الأمريكية في المنطقة بطريقة وبأخرى، معلنين بأن تحركهم لا يبتعد عن حركة أمريكا، لأنها هي التي تملك كل أوراق اللعبة.

لتعد الانتفاضة:

لذلك، لا فائدة حقيقية في المفاوضات، لأن سلطة الحكم الذاتي لا تملك أية ورقة للضغط في الحصول على حقوق الشعب الفلسطيني، بعد أن أعطت إسرائيل أغلب أوراقهاوسلّمت لأمريكا الباقي.. إننا نقول للشعب الفلسطيني إن عليه أن يدرس المستقبل دراسة واعية منفتحة على مواقعه في العزة والكرامة والحرية، وأن يرفض كل هذه اللعبة الاستسلامية المسمّاة بـ"السلام"، ولن يخسر شيئاً جديداً من ذلك، لأنه خسر كل شيء في حركة المفاوضات، وإذا كان الحاضر قد ضاق به، فإن المستقبل قد يتّسع لكل مواقع القوة في المصير..

وعلى العرب والمسلمين أن يعرفوا أن سقوط فلسطين تحت تأثير الخطة الأمريكية - الإسرائيلية المسمّاة "بالتسوية" أو "السلام"، سوف يُسقط القاعدة القوية التي يرتكزون عليها، ليعيشوا الاهتزاز السياسي والأمني والاقتصادي في كل حركتهم في المستقبل، لأن الذين يتنازلون عن أرضهم ومقدّساتهم ويستضعفون أنفسهم، لن يحترم الآخرون حقوقهم في ما يبقى لهم من الأرض.

لذا، لا بدّ أن تعود الانتفاضة فلسطينية - عربية - إسلامية على مستوى الشعوب، لأن الأنظمة قد سقطت أمام حركة السياسة الأمريكية الاستكبارية الداعمة بالمطلق لإسرائيل..

تهاويل إسرائيلية لتطويق سوريا ولبنان:

وليس بعيداً من ذلك، نلاحظ وجود حركة إعلامية سياسية يدير فيها العدو اللعبة لتطويق سوريا ولبنان، بالحديث عن الانسحاب من لبنان بطريقة غامضة، في إطار التهويل، أو بالدعوة إلى "تقديم تنازلات مؤلمة" من قِبَل سوريا، وإطلاق كلمة "رغبة" العدو في السلام أمام الرأي العام العالمي، للإيحاء بأن المشكلة هي لدى لبنان وسوريا وليست لدى إسرائيل، هذا في الوقت الذي يمارس فيه العدوّ العدوان المستمر على الجنوب، من قصف وغارات وممارسات وحشية متعددة، وفي مقدمتها الضغط المتواصل على أهلنا داخل المنطقة المحتلة، وإبعاد العائلات من هناك، وإفراغ البلدات والقرى من أهلها، كجزء من عملية الضغط على الدولة والمقاومة..

الانسحاب مسألة وقت:

وعلينا مراقبة التحرك الدبلوماسي الأمريكي في الجنوب، لنتعرّف على كل خلفياته، فقد يكون جزءاً من خطة التهويل الإسرائيلية، وربما يوحي بأن هناك طبخة إعلامية سياسية يتوزع فيها العدو الأدوار مع الأمريكيين من خلال بعض الزيارات والتصريحات المشبوهة.. إننا نعلم أن انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من لبنان هي مسألة باتت في حكم المحسومة من الناحية السياسية، وأنها تنتظر التوقيت المناسب، ولكننا نعلم - في الوقت نفسه - بأن العدوّ يحتاج في هذه المرحلة إلى مواكبة إعلامية وسياسية ودبلوماسية لخطواته التهويلية في هذا المجال، وهذا ما تقوم به جهات غربية متعددة، أبرزها الإدارة الأمريكية..

وعليه، فإننا نقول للبنانيين جميعاً، بأن عليهم الاستعداد للمرحلة القادمة، التي قد تختلف فيها الصورة كثيراً عما هي عليه الآن، بالمزيد من الوحدة الداخلية، ومن التعاون بين الدولة والمعارضة، لانتزاع الألغام الداخلية، حتى لا نسير قُدُماً في لعبة الآخرين، ولئلاّ نقع في فخّ الصدمات مجدداً، ومن أجل الوصول إلى مرحلة الاستقرار الداخلي التي يُوظف فيها الانسحاب الصهيوني في إطار خطة التحرير والتنمية الاقتصادية والسياسية، ولا يكون مدخلاً من مداخل الفوضى والصراع والفراغ..

الشعب الفلسطيني ضحية لعبة دولية:

ولا بد من الإشارة إلى ضرورة الوعي الدقيق في إثارة قضية المخيمات في الداخل والخارج، وعدم تعقيد النظرة إلى الشعب الفلسطيني الذي هو ضحية اللعبة الدولية، بالإضافة الى بعض قياداته المنحرفة، فلا تتحرك المسألة بطريقة تهويلية خالية من العدالة والتوازن، لأنها من القضايا الحسّاسة في السياسة المحلية والإقليمية، بالإضافة إلى بُعدها الإنساني..

بالإرادة المؤمنة نهزم العدوّ:

وأخيراً، نقف أمام ذكرى "يوم الشهيد"، لنحيي الشهداء في عليائهم، ولنتذكر تلك المسيرة الجهادية الطويلة التي لا تزال مستمرة من خلال حركة المقاومة، التي استطاعت أن تقدّم الدليل العملي على أن الجيش الإسرائيلي يمكن أن يهزم أمام إرادة قوية آمنت بربها وبقضيتها، وما المأزق الذي يعيشه العدو الآن والمطالبة السياسية والعسكرية والشعبية الصهيونية بضرورة الانسحاب من لبنان، إلا من ثمار وبركات هذه المسيرة الجهادية التي بوركت بدماء الشهداء.

إننا نبارك في هذه الذكرى هذه الروح الحسينية، ونشدّ على أيدي المجاهدين، ونسأل الله لهم النصر والثبات، ونؤكد على ضرورة دعم واحتضان هذه النقطة المضيئة في ليل عالمنا العربي والإسلامي المظلم..

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

 

هذا هو شهر شعبان الذي كان رسول الله (ص) يدأب في صيامه وقيامه، في لياليه وأيامه، وهذا هو الشهر الذي نلتقي باليوم الثالث منه بولادة سيدنا الإمام الحسين بن علي (ع)، التي كانت فرحاً كبيراً لعليّ وفاطمة (عليهما السلام) بعد فرحهما بالإمام الحسن (ع)، وكانت فرحاً لرسول الله (ص) الذي أحبّ الحسن والحسين (ع)، حتى رُوي عنه في أكثر من مصدر بروايات المسلمين جميعاً أنه قال: "اللهم إني أحبهما، فأحبهما وأحبّ من يحبهما"، كما ورد عنه (ص) قوله: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وقال عن الحسين (ع): "حسين مني وأنا من حسين"، وكان يضمهما ويحضنهما ويلاعبهما، كانا أنسه الذي يأنس به ويخفف عنه كل آلامه عندما كان (ص) ينظر إليهما.

ولادة الحسين (ع): فرح الرسالة

وعندما نعيش ذكرى مولد الإمام الحسين (ع)، فإننا نفرح به، في الوقت الذي نعيش الحزن الكبير عليه، وفرحنا بالحسين(ع) هو الفرح بالرسالة التي حملها وعاش كل حياته من أجلها، وقد تحرك بطلب الإصلاح في أمّة جده(ص) ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بالكلمة الطيبة، وبالموقف الصلب، وبالجهاد الصعب. عندما نتمثل الحسين (ع)، فإننا نتمثل فيه رسول الله (ص) في كل أخلاقه وصفاته التي تمثلت في شخصيته، كان الحسين (ع) تجسيداً لجده رسول الله (ص) في روحانيته وعلمه وخلقه، وفي كل الصفات المميزة، وكان تجسيداً لعليّ (ع) في شجاعته وبطولته وإقدامه وجرأته وصلابته في الحق، كما كان تجسيداً لطهر الزهراء (ع) وصفائها ونقائها وروحانيتها.

معرفته(ع) طريق الصواب:

هكذا كان الإمام الحسين (ع) الذي كان الناس يحبونه، ولكنهم كانوا لا يعرفونه جيداً، فلم يواجهوا مسؤوليتهم في اختيار الإمام الذي تتمثل فيه كل عناصر الإمامة الحقة، سواء في شرعيته في الإمامة، أو في صفاته التي يتميّز بها عن الناس كلهم آنذاك. كانت مشكلة الإمام الحسين (ع) كمشكلة أبيه (ع)، وكمشكلة كثير من الأنبياء والمصلحين، الذين جاءوا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فاستبدلوهم بالذين جاءوا ليخرجوهم من النور إلى الظلمات، ولينحرفوا بهم عن الحق، وإلا فأين الحسين (ع) وأين يزيد، وأين عليّ (ع) وأين الذين تقدموه وحاربوه، وأين الحسن (ع) وأين معاوية؟

إن هؤلاء العظام (ع) عاشوا في زمان لم يرتفع فيه الناس إلى مستوى معرفتهم وفهمهم وتأكيد قوة الإرادة في الوقوف معهم. ومن خلال هذا، لا بد أن نستوحي من تلك المشكلة التي عاشها الأئمة (ع)، ومن قبلهم الأنبياء (ع)، كيف يجب علينا أن نميّز بين السائرين في الخط المستقيم وبين السائرين في الخط المنحرف، بين من يفتح عقول الناس على الحق وبين من يسير بالناس نحو الباطل. عندما نعيش الفرح بالحسين الرسالة والجهاد والتضحية والشهادة والقوة، فإن علينا أن نبقى معه، لا أن نذرف مجرد دموع حزينة تنطلق من إحساسنا بالمأساة.

العباس وكربلاء

ـ إقدام ونفاذ بصيرة

وفي هذا اليوم - الرابع من شعبان - نلتقي بذكرى ولادة بطل كربلاء، بطل بني هاشم، العباس بن عليّ (ع)، هذا البطل الإسلامي الكبير الذي لم يتجسد إقدامه في موقعة كربلاء فحسب، بل في علمه ووعيه وثباته وروحانيته أيضاً، وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق (ع) وهو يتحدث عن العباس أنه قال: "كان عمنا العباس نافذ البصيرة - كان يتميّز ببصيرة تجعله ينفذ إلى الأمور وينفتح على القضايا كلها، ليرتبط بالحق من خلالها. ونفاذ البصيرة، يوحي إلينا بما كان يتميز به من علم ورأي وشمولية في وعي الواقع كله - صلب الإيمان - كان إيمانه الإيمان الصلب الذي لم تضعفه أو تزلزله كل إغراءات الدنيا وإرهاباتها. وكيف لا يكون كذلك، وهو الذي عاش مع أبيه عليّ (ع) في طفولته وأول شبابه، وعاش مع أخويه الحسنين (ع) كل أجواء العلم والروحانية والسداد، وما يفتح عقول الناس على الحق، وقلوبهم على المحبة، وحياتهم على الخير.

كان العباس (ع) خلاصة عليّ والحسن والحسين (ع)، في معنى الوعي والروحانية، وفي حركة العلم وثبات الموقف وصلابة الإيمان ونفاذ البصيرة، كان ذلك كله، ولم يكن مجرد مجاهد نذكره في جهاده - جاهد مع أبي عبد الله (ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً"، ويقول الإمام زين العابدين (ع): "رحم الله العباس، فلقد آثر - من الإيثار - وأبلى وفدى أخاه بنفسه".

ـ الوفاء وصلابة الموقف

وعندما ندرس بعض اللمعات ذات الدلالة في بعض مواقفه في كربلاء، نرى أنه كان في البداية صاحب لواء الحسين (ع)، ونحن نعرف أن اللواء يُعطى للشخصية المميزة في الثبات والشرف والشجاعة. ويُقال في السيرة الكربلائية، إن الحسين (ع) جمع أصحابه وأهل بيته ليلة عاشوراء وخطبهم فقال: "أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً - اركبوا ظلام الليل كما يركب الإنسان الجمل لينجو بنفسه - وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يريدون غيري"، فقام إليه العباس، وهو الذي وجّه مسار الحديث، فبدأهم فقال: "ولمَ نفعل ذلك؟ - إن الذين يتخلون عن قيادتهم هم الذين لا تمثل القيادة أيّ معنى في حياتهم من خلال معنى الرسالة في عقولهم وشخصياتهم، إنهم الذين يحبون الحياة أكثر مما يحبون رسول الله وإمام الهدى والرسالة - لنبقى بعدك؟؟ لا أرانا الله ذلك أبداً"، لن نعيش في وقت لن تكون موجوداً فيه، نحن هنا من أجل أن نضحي ونجاهد في سبيلك، لأن التضحية والجهاد في سبيلك هما تضحية وجهاد في سبيل الله والإسلام. وتتابع أهل بيت الحسين (ع) وأصحابه بمثل هذا الكلام، وأشهدوا الله على أنهم يفدون الإمام الحسين (ع) بكل أنفسهم ومواقفهم.

ـ أمان الله خير

وفي موقف آخر للعباس (ع)، أن ابن خالة له يدعى عبد الله بن حزام، توسّط له عند ابن زياد ليعطيه أماناً له ولأخوته وجاء إلى العباس وأخبره بذلك، فكان ردّه ورّد أخوته: "أن لا حاجة لنا في الأمان، أمان الله خير من أمان ابن سمية"، نحن نرفض أن نأخذ الأمان من ابن سمية، لأن أمانه يعني أننا نحب الحياة معه، والمؤمن يطلب أمان الله، في أن يوفقه للإيمان والعمل الصالح، ليأمن في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

ومن مواقفه، أنه في بعض أيام عاشوراء، جاء الشمر بن ذي الجوشن إلى قرب معسكر الإمام الحسين (ع)، ونادى: أين بنو أختنا، أين العباس وأخوته؟ فرفضوا أن يجيبوه، فقال لهم الحسين (ع): "أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنه بعض أخوالكم"، فقال له العباس: "ما تريد"؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فاخرجوا عن الحسين واذهبوا ولكم الأمان، فقال له العباس الذي يعيش الرسالة ويعرف ماذا يمثل الشمر وما تمثل قيادته من الخيانة لله ولرسوله وللأمة كلها: "لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له"، وتكلم أخوته بمثل كلامه ثم رجعوا.

ـ الإيثار والعنفوان

وتنقل سيرته في كربلاء، أنه حمل الماء إلى المخيم عدة مرات، ولكنه في المرة الأخيرة، لم يستطع إيصال الماء، وسقط شهيداً في يوم عاشوراء، حيث كمن له شخص فقطع يمينه، ومن الطبيعي عندما تقطع يمين الشخص، وهي اليد التي يحمل فيها السيف، أن يصاب الإنسان بالضعف وخيبة الأمل والمرارة، ولكن العباس كان يزداد عنفواناً وشموخاً، وقد صوّر هذا الموقف بعض الشعراء بقوله:

والله إن قـطعتم يمـيني إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين

فأنا لا أحامي عن نفسي في هذا الموقف لأبكي عليها عندما تقطع يميني التي أحارب بها، ولكني أحامي عن ديني، فالحسين (ع) جاء من أجل الإصلاح في أمة جده (ص)، ولتغيير الواقع الإسلامي الفاسد في قيادته وفي خط الانحراف الذي سيطر عليه. وما نلاحظه، أن العباس لم يقل: "أحامي عن أخي"، ولم يتحدث عن النسب، وإنما تحدث عن القيادة وعن حماية الإمام الحسين (ع)، كونه إماماً صادق اليقين بالله وبرسوله وبالإسلام، وهو ابن رسول الله حقاً، بالجسد والروح والموقف والرسالة.

لنكن حركة في خط الإسلام:

في ذكرى مولد الإمام الحسين (ع)، لا بدّ لنا أن نولد مسلمين حسينيين منفتحين على ما عاش الحسين (ع) له واستشهد من أجله، وفي مولد العباس (ع)، علينا أن نولد بولادته من جديد، لتولد فينا بصيرته النافذة، وإيمانه الصلب، وثباته في الموقف، وإخلاصه لله ولرسوله ولرسالته، ولا بدّ أن تمنحنا هذه الذكريات القوة في خط الإسلام، عندما نسير في كل مواقعه في مواجهة كل الكافرين والمستكبرين الذين يريدون إكفاء الإسلام على وجهه وإضعافه.

لنقف وليقل كل واحد منا، سواء في ساحة المعركة المسلّحة أو ساحة المعركة الثقافية أو السياسية: إني أحامي أبداً عن ديني، ليكون كل مجتمعنا حركة في خط الإسلام، وهذا ما نقرأه دائماً في "دعاء الافتتاح": "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة". أن نكون معهم في كل المواقف، مع رسول الله (ص)، ومع عليّ (ع)، ومع الحسن والحسين وكل الأئمة(ع) ، إنهم "أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنـزيل"، {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل الأمور، فإنه تعالى أرادنا أن نحبه ونخافه وأن نراقب أنفسنا بين يديه، وهو المطلع على أسرارنا، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أن نحاسب أنفسنا في الصباح والمساء بين يديه، لنفكر في الكلمة قبلأن نتفوه بها، هل فيها رضاه أو فيها غضبه، ولنفكر في العمل قبل أن نعمله إذا كان مما يرضيه أو مما يغضبه، ولنفكر في العلاقة قبل أن ننشئها، هل هي علاقة في الخط المستقيم أو في الخط المنحرف، ولنفكر عندما نؤيد أو نرفض، عندما نواصل أو نقاطع، هل أن ذلك مما ينجينا عنده أو مما يهلكنا؟

إن الله تعالى هو المهيمن على الأمر كله، منه حياتنا وبإرادته موتنا، منه رزقنا ومنه مرضنا وشفاؤنا ونصرنا وهزيمتنا، لذلك علينا أن نجعل كل حركة فينا تتحرك بنور الله، أن تجعل نوره في عقلك وقلبك وكل حياتك، حتى لا يبقى أي ظلامٍ في الطريق وأنت تسير. إن الدنيا لا تغني عن الآخرة، لذلك لا تخلدوا إلى الأرض، وارفعوا عيونكم إلى السماء، حتى تبصروا الله تعالى في كل شمس تشرق، وفي كل قمر يطل في كل يوم، وفي كل نهر يجري، وفي كل بحر تتلاطم أمواجه، وفي كل هذه السهول المخضرّة، وقد قال الإمام عليّ (ع): "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله خلفه أو معه".

ونحن في كل قضايانا في الدنيا، سواء كانت قضايا سياسية أو أمنية أو اجتماعية، لا بدّ لنا من أن ننفتح على الله، لنطلب منه أن ينصرنا في كل معاركنا، ويساعدنا في كل أزماتنا، ويعطينا القوة في كل موقع يمكن أن تضعفنا فيه الشدائد والأهوال، فمن كان مع الله فإنه لا يسقط، لأن الله يمنحه قوة في الفكر والإحساس والإرادة والموقف.

إننا نواجه في هذه المرحلة، وفي ما سبقها من المراحل، أخطبوطاً استكبارياً يتمثل بالاستكبار العالمي، وفي مقدمته أمريكا وكل حلفائها، وبالصهيونية العالمية التي اغتصبت فلسطين، ولا بدّ لنا أن لا نغفل دائماً عن كل خطوات الاستكبار العالمي والصهيوني وألاعيبه، فماذا هناك؟

إدخال الفلسطينيين في المتاهات:

لقد بدأت المرحلة الأخيرة من حركة القضية الفلسطينية في المفاوضات النهائية، التي تلعب فيها إسرائيل من جديد دور إدخال الفلسطينيين في متاهات القضايا المثيرة للقلق، بدءاً بالقرار 242 في المسألة الفلسطينية، ليدور الجدل حولها، ولينتهي إلى رفض التفاوض حول القدس والمستوطنات وعودة اللاجئين، ليقتصر التفاوض على مسألة الحرية في الإدارة والعلاقات وتقرير المصير في دولة مضمونها فارغ من كل حقيقية.

أما اللاجئون، فإن مصيرهم التوطين في البلاد العربية أو الهجرة إلى بلاد الله الواسعة، وعلى السلطة الفلسطينية ترتيب أمورها في المساحة الصغيرة المحاطة بالمستوطنات الواقعة تحت السلطة الإسرائيلية، لتكون بمثابة بوابة السجن الكبير للشعب الفلسطيني الذي قد يسمونه "دولة"!! فهل هذا هو ما جاهد الفلسطينيون من أجله، أو ما خاض العرب أكثر من حرب لتحقيقه، والذي اهتزت المنطقة في كل قضاياها على أساسه؟؟

أمريكا وإنقاذ الكيان الصهيوني:

لقد بدأت أمريكا عملية الخداع لمنظمة التحرير من أجل إنقاذ الكيان الصهيوني من مأزقه، وإظهاره أمام الرأي العام العالمي بأنه لم يصادر حقوق الشعب الفلسطيني، لتنتزع الاعتراف بإسرائيل وبحقوقها شبه الكاملة في فلسطين من قِبَل سلطة فلسطينية، لتأخذ الشرعية لكيانها الغاصب من أصحاب الأرض. أما الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى والدول العربية، فالكل يتحرك لترتيب أوضاع السياسة الأمريكية في المنطقة بطريقة وبأخرى، معلنين بأن تحركهم لا يبتعد عن حركة أمريكا، لأنها هي التي تملك كل أوراق اللعبة.

لتعد الانتفاضة:

لذلك، لا فائدة حقيقية في المفاوضات، لأن سلطة الحكم الذاتي لا تملك أية ورقة للضغط في الحصول على حقوق الشعب الفلسطيني، بعد أن أعطت إسرائيل أغلب أوراقهاوسلّمت لأمريكا الباقي.. إننا نقول للشعب الفلسطيني إن عليه أن يدرس المستقبل دراسة واعية منفتحة على مواقعه في العزة والكرامة والحرية، وأن يرفض كل هذه اللعبة الاستسلامية المسمّاة بـ"السلام"، ولن يخسر شيئاً جديداً من ذلك، لأنه خسر كل شيء في حركة المفاوضات، وإذا كان الحاضر قد ضاق به، فإن المستقبل قد يتّسع لكل مواقع القوة في المصير..

وعلى العرب والمسلمين أن يعرفوا أن سقوط فلسطين تحت تأثير الخطة الأمريكية - الإسرائيلية المسمّاة "بالتسوية" أو "السلام"، سوف يُسقط القاعدة القوية التي يرتكزون عليها، ليعيشوا الاهتزاز السياسي والأمني والاقتصادي في كل حركتهم في المستقبل، لأن الذين يتنازلون عن أرضهم ومقدّساتهم ويستضعفون أنفسهم، لن يحترم الآخرون حقوقهم في ما يبقى لهم من الأرض.

لذا، لا بدّ أن تعود الانتفاضة فلسطينية - عربية - إسلامية على مستوى الشعوب، لأن الأنظمة قد سقطت أمام حركة السياسة الأمريكية الاستكبارية الداعمة بالمطلق لإسرائيل..

تهاويل إسرائيلية لتطويق سوريا ولبنان:

وليس بعيداً من ذلك، نلاحظ وجود حركة إعلامية سياسية يدير فيها العدو اللعبة لتطويق سوريا ولبنان، بالحديث عن الانسحاب من لبنان بطريقة غامضة، في إطار التهويل، أو بالدعوة إلى "تقديم تنازلات مؤلمة" من قِبَل سوريا، وإطلاق كلمة "رغبة" العدو في السلام أمام الرأي العام العالمي، للإيحاء بأن المشكلة هي لدى لبنان وسوريا وليست لدى إسرائيل، هذا في الوقت الذي يمارس فيه العدوّ العدوان المستمر على الجنوب، من قصف وغارات وممارسات وحشية متعددة، وفي مقدمتها الضغط المتواصل على أهلنا داخل المنطقة المحتلة، وإبعاد العائلات من هناك، وإفراغ البلدات والقرى من أهلها، كجزء من عملية الضغط على الدولة والمقاومة..

الانسحاب مسألة وقت:

وعلينا مراقبة التحرك الدبلوماسي الأمريكي في الجنوب، لنتعرّف على كل خلفياته، فقد يكون جزءاً من خطة التهويل الإسرائيلية، وربما يوحي بأن هناك طبخة إعلامية سياسية يتوزع فيها العدو الأدوار مع الأمريكيين من خلال بعض الزيارات والتصريحات المشبوهة.. إننا نعلم أن انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من لبنان هي مسألة باتت في حكم المحسومة من الناحية السياسية، وأنها تنتظر التوقيت المناسب، ولكننا نعلم - في الوقت نفسه - بأن العدوّ يحتاج في هذه المرحلة إلى مواكبة إعلامية وسياسية ودبلوماسية لخطواته التهويلية في هذا المجال، وهذا ما تقوم به جهات غربية متعددة، أبرزها الإدارة الأمريكية..

وعليه، فإننا نقول للبنانيين جميعاً، بأن عليهم الاستعداد للمرحلة القادمة، التي قد تختلف فيها الصورة كثيراً عما هي عليه الآن، بالمزيد من الوحدة الداخلية، ومن التعاون بين الدولة والمعارضة، لانتزاع الألغام الداخلية، حتى لا نسير قُدُماً في لعبة الآخرين، ولئلاّ نقع في فخّ الصدمات مجدداً، ومن أجل الوصول إلى مرحلة الاستقرار الداخلي التي يُوظف فيها الانسحاب الصهيوني في إطار خطة التحرير والتنمية الاقتصادية والسياسية، ولا يكون مدخلاً من مداخل الفوضى والصراع والفراغ..

الشعب الفلسطيني ضحية لعبة دولية:

ولا بد من الإشارة إلى ضرورة الوعي الدقيق في إثارة قضية المخيمات في الداخل والخارج، وعدم تعقيد النظرة إلى الشعب الفلسطيني الذي هو ضحية اللعبة الدولية، بالإضافة الى بعض قياداته المنحرفة، فلا تتحرك المسألة بطريقة تهويلية خالية من العدالة والتوازن، لأنها من القضايا الحسّاسة في السياسة المحلية والإقليمية، بالإضافة إلى بُعدها الإنساني..

بالإرادة المؤمنة نهزم العدوّ:

وأخيراً، نقف أمام ذكرى "يوم الشهيد"، لنحيي الشهداء في عليائهم، ولنتذكر تلك المسيرة الجهادية الطويلة التي لا تزال مستمرة من خلال حركة المقاومة، التي استطاعت أن تقدّم الدليل العملي على أن الجيش الإسرائيلي يمكن أن يهزم أمام إرادة قوية آمنت بربها وبقضيتها، وما المأزق الذي يعيشه العدو الآن والمطالبة السياسية والعسكرية والشعبية الصهيونية بضرورة الانسحاب من لبنان، إلا من ثمار وبركات هذه المسيرة الجهادية التي بوركت بدماء الشهداء.

إننا نبارك في هذه الذكرى هذه الروح الحسينية، ونشدّ على أيدي المجاهدين، ونسأل الله لهم النصر والثبات، ونؤكد على ضرورة دعم واحتضان هذه النقطة المضيئة في ليل عالمنا العربي والإسلامي المظلم..

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير