التقوى كعنوان لشهر رمضان لنتحسّس في الصوم معنى التوبة والاستغفار

التقوى كعنوان لشهر رمضان لنتحسّس في الصوم معنى التوبة والاستغفار
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

 

يقول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.

تؤكد هذه الآية على أنّ الهدف من تشريع الصوم هو تحصيل التقوى، أن ينطلق الإنسان ليكون الإنسان التقي لله في كل أعماله، بحيث يراقب الله في الصغير منه والكبير، وأن تكون لديه الحساسية في أي عمل يقوم به، ليعرف مواقع رضا الله فيه وسخطه.

الصوم الروحي

ـ تذكر جوع القيامة وعطشه

وعلى ضوء هذا، يمكن أن نتصور أن الصوم على عدة أقسام، فهناك الصوم الروحي، الذي يتحسس الإنسان فيه المعاني الروحية في نفسه عندما يصوم، وهذا ما أكّد عليه رسول الله(ص) في خطبته التي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان، حيث أكّد على الصائمين أن يذكروا بجوعهم وعطشهم جوع يوم القيامة وعطشه، ليتذكر الصائم بذلك أن ليس لديه فرصة يوم القيامة ليشبع أو يرتوي قبل أن ينتهي الحساب. فإذا كان الحساب طويلاً، فإن جوعه سوف يكون طويلاً، وهكذا في عطشه، ومن الطبيعي أن الإنسان إذا عاش في نفسه حضور يوم القيامة، عاش الإحساس بخطورة المصير هناك، حيث يكون بين جنة ونار.

ـ التوبة من الذنوب

وهكذا يريد الله من الصائم ما حدثنا به رسول الله(ص): "وتوبوا إليه من ذنوبكم ـ أن يستحضر الإنسان في صومه التوبة إلى الله، بحيث يشعر بخطورة ما قام به تجاه ربه، ليتذكر ما ارتكبه من أخطاء في الماضي، في الكبير من أعماله وفي الصغير منها، والله فتح للإنسان باب التوبة، ولقد علّمنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) أن نتحدّث مع الله عن طبيعة معصيتنا، التي لم تكن تمرداً عليه: "إلهي، ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بعقوبتك متعرض، ولا بأمرك مستخفّ، ولا بوعيدك متهاون، ولكن خطيئة عرضت ـ شيء طارىء في حياتي ـ وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغرّني سترك المرخى عليّ، فقد عصيتك وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك من يستنقذني، ومن أيدي الخصماء غداً من يخلّصني، وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك عني"، أن يتوب الإنسان من صغائر ذنوبه وكبائرها ـ وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم". حاول أن تدعو الله قبل الصلاة وفي أثنائها، في ركوعك وسجودك وقنوتك، لأن للزمن ميزة في عالم استجابة الدعاء، فعلينا أن نرفع أيدينا بالدعاء، وقد أراد الله لنا أن ندعوه في كل ما أهمّنا {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون}، {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}. ولذلك، فإن علينا، في أوقات صلواتنا وأوقات صيامنا، أن ننفتح على ربنا، ونفتح قلوبنا بين يديه، ليطّلع سبحانه عليها ويرى صدق التوبة، {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون }، توبوا إلى الله في أوقات صلواتكم، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله ـ عز وجل ـ فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه..

ـ الاستغفار لله

ثم يؤكد النبي(ص) ـ حسب الرواية ـ: "أيها الناس، إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ـ كما إذا رهنت مالك عند شخص لقاء دَيْن له عليك، ألا تحاول سداده لتحرر مالك، {كل نفس بما كسبت رهينة}، كيف نفك رهن أنفسنا؟ فكوها باستغفاركم، لا تتركوا الاستغفار لله عمّا أسلفتم، في أي وقت من الأوقات، في البيت، والسيارة، وفي المحل.. ـ وظهوركم ثقيلة بأوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم، فإن الله أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين".

وهكذا نجد كيف يخسر الإنسان الذي لا يصلي ولا يسجد، الكثير من رحمة ربه ولطفه وأمنه له بالنجاة من النار.

الصوم الاجتماعي

ـ إعطاء الصدقة

إن الله يريد منّا أن نتحسّس في الصوم معاني التوبة والاستغفار، والتخفف من كل الأوزار، وأن نستحضر معاني يوم القيامة، كما يريدنا سبحانه أن نصوم الصوم الاجتماعي، بأن نتحمل مسؤولية الفئات الفقيرة والمحرومة في مجتمعنا، كلٌّ بحسب إمكاناته وطاقاته، "وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم"، بشكل إفرادي أو اجتماعي، حيث جعل الله الصدقة تطيل العمر، وتطرد المرض، وتخفف البلاء، وقد أراد للإنسان أن يتخفف في هذا الشهر الشريف من كل حقوق الله وحقوق الناس المستحقة عليه، ولذلك نجد أن الإمام زين العابدين(ع) في شهر رمضان يدعو الله أن يطهر النفوس بإخراج الزكوات، فمن حاول الشيطان أن يسيطر عليه، من خلال وعده له بالفقر إذا أخرج حقوقه الواجبة عليه، فإن عليه أن يتمرد على الشيطان وينفتح على الله، ليطهر نفسه بإخراج كل ما أراد الله له أن يخرجه من خمس أو زكاة أو غير ذلك. {الشيطان يعدكم الفقر...} ويقول لك إن لك عيالاً وتتحمل مسؤوليات وعليك أن تحسب حساب المستقبل ، لا تخرج خمسك أو زكاتك {والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً}، فكر من الذي رزقك هذا المال؟ إن الذي رزقك هذا المال جعل للفقراء حصة فيه ، فعليك أن لا تبخس حقوق الفقراء فتحبسها عنهم، وعليك أن تثق أن الذي رزقك بالأمس سوف يرزقك غداً {وفي السماء رزقكم وما توعدون}.

ـ صلة الرحم

وهكذا ورد عندنا في هذا الجانب الاجتماعي أيضاً: "صلوا أرحامكم"، أن تعملوا على صلة أرحامكم، حتى لو كان أرحامكم من القاطعين لكم، لأن الله يريد للإنسان أن يعطي حتى لو لم يأخذ، وقد ورد أيضاً في هذه الخطبة نفسها: "من وصل فيه رحمه، وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه، قطع الله رحمته عنه يوم يلقاه".

وهكذا أيّها الأحبة، نحتاج إلى أن نتمرد على نفوسنا الأمّارة بالسوء، التي تحاول أن تجعلنا نقاطع أرحامنا، أو من أمر الله أن يوصل.

ـ التحنن على الأيتام

"وتحننوا على أيتام الناس يُتحّنن على أيتامكم"، فعلينا أن نشعر بالأيتام الذين هم أمانة الله لدى المسلمين كلهم، لأنهم فقدوا من يرعاهم ومن يكفلهم، ولذلك ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "أنا وكافل اليتيم في الجنة"، بحيث يكون الكافل مع الرسول(ص) في الجنة.

وفي ضوء هذا، علينا أن نعمل على كفالة الأيتام في بيوتهم، وفي المبرّات التي ترعاهم، لأن ذلك يحتاج إلى تكافل اجتماعي، وتعاون اجتماعي، حتى يمكن لمؤسسات الأيتام، في أي موقع كانت، وإلى أية جهة انتمت، أن تعمل على رعايتهم، بما يجعلهم يواجهون الحياة في المستقبل الكبير.

ـ توقير الكبار ورحمة الصغار

"ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم"، إن الله يريد للجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم، بكل وسائل الاحترام، وبكل وسائل الرعاية، كما يريد للجيل القديم أن يرحم الجيل الصغير في قيمة تجربته، وفي الكثير من نقاط ضعفه هنا وهناك.

ـ تحسين الخلق

وهكذا يريدنا الله أن نعيش الصوم الاجتماعي في حسن الأخلاق، "من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام". ألا نتطلب جوازاً في كل سفر يمكن أن نلاقي فيه المشقّة والصعوبات؟! إنك إذا حسّنت أخلاقك مع أهلك وجيرانك وأرحامك وأصدقائك والناس من حولك، فإن حسن الأخلاق يتحول إلى جواز تتحرك فيه على الصراط، فلا تزلّ قدمك هناك. وهكذا، "من خفّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه ـ عمّن كان تحت سلطته، من العمال والموظفين ومن أهله ـ خفّف الله عليه حسابه".

ـ كف الشر

وعليك أن تكف شرك عن الناس دائماً، ولكن يتعاظم هذا المعنى الاجتماعي في كف شرك عن الناس في هذا الشهر: "ومن كفّ فيه شرّه، كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة". فالله يريدنا في هذا الشهر، أن نعيش الصوم الاجتماعي الذي يجعل منا مؤمنين صالحين نعيش إنسانيتنا في كل معانيها، في داخل أنفسنا وفي خارجها، وقال الإمام الصادق(ع): "ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا"، وقال: "وسمع رسول الله(ص) امرأة تسبّ جارية لها ـ ونحن قوم نسبّ بعضنا بعضاً في الكبير والصغير، بمناسبة وبغير مناسبة ـ وهي صائمة، فدعا رسول الله(ص) بطعام، فقال لها: كلي ـ ولم يكن المقصود من الرسول أن يجعلها تأكل، ولكن ليعطيها الموعظة بأسلوب صالح ـ فقالت: إني صائمة، قال(ص): كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك" ـ إن الصوم ليس بالامتناع عن الطعام والشراب، فالإنسان الذي يسبّ إنساناً آخر وهو صائم، فكأنه أفطر في صومه، لأن هناك إفطاراً على قسمين، فهناك إفطار مادي، بأن لا يأكل ولا يشرب، وهناك إفطار معنوي، كأن تسبّ إنساناً آخر أو تؤذيه أو تضربه،.. فأنت بذلك مفطر روحياً وإن كنت صائماً مادياً.

الصوم الأخلاقي

وهكذا، أيها الأحبة، هناك الصوم الأخلاقي، فالإنسان عليه أن يصوم، بحيث يجعل أخلاقه في خط التقوى، "وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم"، وعن فاطمة الزهراء(ع)، أنها قالت: "ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه". فالصوم هو أن تصوم حواسّك عن كل الخطوط السيئة في الأخلاق.

وهكذا ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع): "أن الصيام ليس الطعام والشراب، ولكن إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك وبطنك وفرجك، واحفظ يدك وفرجك، وأكثر من السقوط إلا من خير، وارفق بخادم". هذا هو الصوم في معناه الإنساني الأخلاقي، بحيث يعيش الإنسان إنسانيته في القيم الأخلاقية والروحية المتصلة بحياته أو بحياة الآخرين.

الصوم السياسي

وهكذا نلتقي بالصوم السياسي، وذلك بأن تصوم عن كل تأييد ودعم ومساعدة للظالمين وللمستكبرين في كلمة أو فعل أو موقف، لأن الله تعالى يقول: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}، وقد ورد في الحديث بأن الظالم والراضي بالظلم والمعين له شركاء ثلاثتهم، "من عذر ظالماً يظلمه، سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يُستجب له ولم يأجره على ظلامته".

إننا في هذا الشهر الشريف نعيش بينيدي الله وفي ضيافته وفي آفاق رحمته، فعلينا أن نعمل على أن ننمي إيماننا وأخلاقنا وروحياتنا والتزامنا في كل شيء، لأن القضية هي أن يتحرك الإنسان بصومه، ليكون الإنسان الذي ينطلق من أجل أن يحصل على رضا الله في كل شيء، وحتى لا يكون كما ورد في الحديث: "رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"، {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتّقون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وحاولوا أن تحققوا التقوى في كل كيانكم، فإنّ الله سبحانه وتعالى قال لنا: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين}، وعلينا أن نراعي الدقة في كل تصرفاتنا في هذا الشهر؛ في بيوتنا، وفي محلاتنا وفي مواقع أعمالنا، وفي مجتمعاتنا، وفي ما نقرأ ونسمع من كل الأخبار التي تردنا من هنا وهناك، أن لا نكون الحياديين أمام ما يعرض للمستضعفين من المستكبرين، لأنّ من التقوى أن تنكر المنكر بيدك ولسانك، وتباين من فعله بجهدك، وأي منكر أشد من الاستكبار ومن الظلم الذي يتحرك فيه الظالم ضدّ المظلوم مستعرضاً كل مواقع القوة عنده. علينا أن نكون جميعاً ضدّ الظلم، أينما كان، وفي أي موقع، سواء كان الظالم شخصاً أو جماعة أو حزباً أو منظمة أو دولة أو محوراً دولياً، وهذا ما نحتاج إلى مواجهته في هذا الشهر، في كل ما يعيشه المسلمون من أوضاع الظلم المتسلّطة عليهم.

الشيشان: تدمير متواصل

يقبل علينا شهر رمضان، والمسلمون يعيشون أزمات متلاحقة وحروباً قاسية وحصاراً شديداً، حيث تواصل روسيا، وبالتنسيق مع الصهيونية العالمية، تدمير الشيشان، مستخدمة كل آلتها العسكرية في قصف المدنيين والعسكريين على السواء، في حالة من التجاذب مع الدول الغربية قائمة على توازن المصالح، والمؤتمر الإسلامي لم تحقق زيارة ممثليه إلى المنطقة أي شيء، لأنه لا يملك القوة الضاغطة على روسيا بعد أن ارتبطت بعض مصالحه بمصالحها من خلال ما يمارسه عليه الغرب من ضغوطات، الأمر الذي يمنعه من القيام بأي تحرك فاعل، لاسيما في ظل المقولة التي تتحدث عن أن قضية الشيشان مسألة روسية داخلية، فنحن نرفض ذلك، لأن ما يصيب المسلمين في أية بقعةٍ ينعكس عليهم في المناطق الأخرى، فقد أصبحت هذه المسألة تحفر في الخزان الشعوري لدى المسلمين، ونحن كما نرفض أن يظلم المسلمون غيرهم، نرفض أن يُظلموا من أية جهة.

إننّا ندعو إلى أن ترفع روسيا عدوانها عن هذا الشعب المسلم، وإلاّ فإنها ستكون الخاسر الأكبر على جميع المستويات أمام الرأي العام العالمي، لا سيما أمام الأمة الإسلامية، وها نحن نسمع أن روسيا ستدفع الثمن غالياً من خلال الصوت الأمريكي الذي لا يبحث عن المعنى الإنساني والسياسي في واقع المسلمين، بل عن مصالحه الحيوية في منطقة القوقاز.

إن المأساة كبيرة، وعلى العالم الإسلامي والشعوب المستضعفة أن تقف مع هذا الشعب المقهور الذي يبحث عن حريته واستقلاله.

العالم الإسلامي بين الحصار والتمزق

ونلتقي - مع هذه المأساة - بمسألة الحصار الدولي ضد الشعب العراقي، الذي ينتقل من مأساة إلى مأساة، ومن ضغط استكباري خارجي إلى طغيان داخلي، ما زاد من معاناته ومن حالة تشريده في أكثر من مكان في العالم، تحت تأثير عناوين اللجوء التي قد يفقد معها هويته الإسلامية.. وهكذا تنتقل المشكلة إلى الحصار ضد السودان والحرب المدمرة الدائرة فيها، والأوضاع القلقة في الجزائر وأفغانستان، والحصار الاقتصادي ضد إيران، والتحالف الأمريكي - الصهيوني ضد العرب والمسلمين باسم الضغط من أجل السلام، هذا بالإضافة إلى المشاكل المعقدة في واقع المسلمين، في التمزقات المذهبية والإقليمية والقومية، ما يحطم وحدتهم ويضعف قوتهم في ساحة العالم.

أولبرايت: إنقاذ إسرائيل

وتأتي زيارة أولبرايت إلى المنطقة لتفتح نافذة على المفاوضات في المسار السوري - اللبناني، من أجل إنقاذ إسرائيل من مأزقها السياسي الأمني في أكثر من مكان، لا سيما في الرمال اللبنانية المتحركة التي غرقت فيها الأقدام الإسرائيلية، ولا ندري إلى أين تنتهي التعقيدات العالقة في هذه الدائرة بما تثيره إسرائيل من التفاصيل، وربما كانت هذه الزيارة متحركة أيضاً في نطاق الضغط على الفلسطينيين ليقبلوا الشروط الإسرائيلية الضاغطة في إعادة الانتشار وفي مفاوضات الحل النهائي، لأن الدور الأمريكي السياسي هو إعطاء المواقف لإسرائيل، والكلمات المعسولة وممارسة الضغوط المتنوعة على الفلسطينيين، ليتحقق لإسرائيل أهدافها في السيطرة السياسية والاقتصادية والأمنية على كل فلسطين، كما أن أمريكا تعمل على إتمام التسوية قبل فترة الانتخابات الرئاسية لحساباتها الداخلية، وهكذا تستمر الدوامة التي تطبق على الواقع الفلسطيني العربي بفعل الضغط الأمريكي، الأمر الذي يفرض على العرب والمسلمين المواجهة المسؤولة لذلك كله، بالوقوف مع الحقوق الشرعية للأمة كلها في قبالة الصهيونية كلها والاستكبار العالمي كله.

إسرائيل: استمرارية الاعتداءات

وليس بعيداً من ذلك، تستمر اعتداءات العدوّ على أهلنا في الجنوب قتلاً وتدميراً وحصاراً واعتقالاً، من دون أن يثير ذلك أيّ رد فعل دولي باسم حقوق الإنسان أو غير ذلك من العناوين الإنسانية والسياسية التي تحرّكها الدول الكبرى حفاظاً على مصالحها الاستراتيجية، لا على مصالح الشعوب المستضعفة.

بين سجال الداخل ومخاطر الخارج

وأخيراً أمام ما يجري في المنطقة وما قد نستقبله من تطورات تتغير فيها الصورة وتتبدل، نجد أن ما يحدث من سجال في الداخل، سواء حول قانون الانتخاب أو غيره، يمثل في بعض مظاهره مشهداً من المشاهد المسرحية في العمل السياسي، حيث يتطلع أكثر من طرف إلى الطريقة التي يتم فيها تقاسم الجبنة الانتخابية والسياسية، بلحاظ بعض التقسيمات، وبأسلوب يثير الأحقاد ويلهب الحساسيات ويوتر الأجواء، بينما نجد أن ثمة عملاً أمريكياً - إسرائيلياً لتقاسمنا جميعاً شعوباً وثروات، أو مواقع جغرافية وسياسية واقتصادية، والسؤال الكبير: متى نستيقظ من الغفلة التي نعيش فيها لنعرف أننا نتقاتل على عروش زائلة من على شرفة بركان ملتهب قد يقلب الأوضاع كلها في المنطقة رأساً على عقب؟!

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

 

يقول الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.

تؤكد هذه الآية على أنّ الهدف من تشريع الصوم هو تحصيل التقوى، أن ينطلق الإنسان ليكون الإنسان التقي لله في كل أعماله، بحيث يراقب الله في الصغير منه والكبير، وأن تكون لديه الحساسية في أي عمل يقوم به، ليعرف مواقع رضا الله فيه وسخطه.

الصوم الروحي

ـ تذكر جوع القيامة وعطشه

وعلى ضوء هذا، يمكن أن نتصور أن الصوم على عدة أقسام، فهناك الصوم الروحي، الذي يتحسس الإنسان فيه المعاني الروحية في نفسه عندما يصوم، وهذا ما أكّد عليه رسول الله(ص) في خطبته التي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان، حيث أكّد على الصائمين أن يذكروا بجوعهم وعطشهم جوع يوم القيامة وعطشه، ليتذكر الصائم بذلك أن ليس لديه فرصة يوم القيامة ليشبع أو يرتوي قبل أن ينتهي الحساب. فإذا كان الحساب طويلاً، فإن جوعه سوف يكون طويلاً، وهكذا في عطشه، ومن الطبيعي أن الإنسان إذا عاش في نفسه حضور يوم القيامة، عاش الإحساس بخطورة المصير هناك، حيث يكون بين جنة ونار.

ـ التوبة من الذنوب

وهكذا يريد الله من الصائم ما حدثنا به رسول الله(ص): "وتوبوا إليه من ذنوبكم ـ أن يستحضر الإنسان في صومه التوبة إلى الله، بحيث يشعر بخطورة ما قام به تجاه ربه، ليتذكر ما ارتكبه من أخطاء في الماضي، في الكبير من أعماله وفي الصغير منها، والله فتح للإنسان باب التوبة، ولقد علّمنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) أن نتحدّث مع الله عن طبيعة معصيتنا، التي لم تكن تمرداً عليه: "إلهي، ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بعقوبتك متعرض، ولا بأمرك مستخفّ، ولا بوعيدك متهاون، ولكن خطيئة عرضت ـ شيء طارىء في حياتي ـ وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغرّني سترك المرخى عليّ، فقد عصيتك وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك من يستنقذني، ومن أيدي الخصماء غداً من يخلّصني، وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك عني"، أن يتوب الإنسان من صغائر ذنوبه وكبائرها ـ وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم". حاول أن تدعو الله قبل الصلاة وفي أثنائها، في ركوعك وسجودك وقنوتك، لأن للزمن ميزة في عالم استجابة الدعاء، فعلينا أن نرفع أيدينا بالدعاء، وقد أراد الله لنا أن ندعوه في كل ما أهمّنا {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون}، {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}. ولذلك، فإن علينا، في أوقات صلواتنا وأوقات صيامنا، أن ننفتح على ربنا، ونفتح قلوبنا بين يديه، ليطّلع سبحانه عليها ويرى صدق التوبة، {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون }، توبوا إلى الله في أوقات صلواتكم، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله ـ عز وجل ـ فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه..

ـ الاستغفار لله

ثم يؤكد النبي(ص) ـ حسب الرواية ـ: "أيها الناس، إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ـ كما إذا رهنت مالك عند شخص لقاء دَيْن له عليك، ألا تحاول سداده لتحرر مالك، {كل نفس بما كسبت رهينة}، كيف نفك رهن أنفسنا؟ فكوها باستغفاركم، لا تتركوا الاستغفار لله عمّا أسلفتم، في أي وقت من الأوقات، في البيت، والسيارة، وفي المحل.. ـ وظهوركم ثقيلة بأوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم، فإن الله أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين".

وهكذا نجد كيف يخسر الإنسان الذي لا يصلي ولا يسجد، الكثير من رحمة ربه ولطفه وأمنه له بالنجاة من النار.

الصوم الاجتماعي

ـ إعطاء الصدقة

إن الله يريد منّا أن نتحسّس في الصوم معاني التوبة والاستغفار، والتخفف من كل الأوزار، وأن نستحضر معاني يوم القيامة، كما يريدنا سبحانه أن نصوم الصوم الاجتماعي، بأن نتحمل مسؤولية الفئات الفقيرة والمحرومة في مجتمعنا، كلٌّ بحسب إمكاناته وطاقاته، "وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم"، بشكل إفرادي أو اجتماعي، حيث جعل الله الصدقة تطيل العمر، وتطرد المرض، وتخفف البلاء، وقد أراد للإنسان أن يتخفف في هذا الشهر الشريف من كل حقوق الله وحقوق الناس المستحقة عليه، ولذلك نجد أن الإمام زين العابدين(ع) في شهر رمضان يدعو الله أن يطهر النفوس بإخراج الزكوات، فمن حاول الشيطان أن يسيطر عليه، من خلال وعده له بالفقر إذا أخرج حقوقه الواجبة عليه، فإن عليه أن يتمرد على الشيطان وينفتح على الله، ليطهر نفسه بإخراج كل ما أراد الله له أن يخرجه من خمس أو زكاة أو غير ذلك. {الشيطان يعدكم الفقر...} ويقول لك إن لك عيالاً وتتحمل مسؤوليات وعليك أن تحسب حساب المستقبل ، لا تخرج خمسك أو زكاتك {والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً}، فكر من الذي رزقك هذا المال؟ إن الذي رزقك هذا المال جعل للفقراء حصة فيه ، فعليك أن لا تبخس حقوق الفقراء فتحبسها عنهم، وعليك أن تثق أن الذي رزقك بالأمس سوف يرزقك غداً {وفي السماء رزقكم وما توعدون}.

ـ صلة الرحم

وهكذا ورد عندنا في هذا الجانب الاجتماعي أيضاً: "صلوا أرحامكم"، أن تعملوا على صلة أرحامكم، حتى لو كان أرحامكم من القاطعين لكم، لأن الله يريد للإنسان أن يعطي حتى لو لم يأخذ، وقد ورد أيضاً في هذه الخطبة نفسها: "من وصل فيه رحمه، وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه، قطع الله رحمته عنه يوم يلقاه".

وهكذا أيّها الأحبة، نحتاج إلى أن نتمرد على نفوسنا الأمّارة بالسوء، التي تحاول أن تجعلنا نقاطع أرحامنا، أو من أمر الله أن يوصل.

ـ التحنن على الأيتام

"وتحننوا على أيتام الناس يُتحّنن على أيتامكم"، فعلينا أن نشعر بالأيتام الذين هم أمانة الله لدى المسلمين كلهم، لأنهم فقدوا من يرعاهم ومن يكفلهم، ولذلك ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "أنا وكافل اليتيم في الجنة"، بحيث يكون الكافل مع الرسول(ص) في الجنة.

وفي ضوء هذا، علينا أن نعمل على كفالة الأيتام في بيوتهم، وفي المبرّات التي ترعاهم، لأن ذلك يحتاج إلى تكافل اجتماعي، وتعاون اجتماعي، حتى يمكن لمؤسسات الأيتام، في أي موقع كانت، وإلى أية جهة انتمت، أن تعمل على رعايتهم، بما يجعلهم يواجهون الحياة في المستقبل الكبير.

ـ توقير الكبار ورحمة الصغار

"ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم"، إن الله يريد للجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم، بكل وسائل الاحترام، وبكل وسائل الرعاية، كما يريد للجيل القديم أن يرحم الجيل الصغير في قيمة تجربته، وفي الكثير من نقاط ضعفه هنا وهناك.

ـ تحسين الخلق

وهكذا يريدنا الله أن نعيش الصوم الاجتماعي في حسن الأخلاق، "من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام". ألا نتطلب جوازاً في كل سفر يمكن أن نلاقي فيه المشقّة والصعوبات؟! إنك إذا حسّنت أخلاقك مع أهلك وجيرانك وأرحامك وأصدقائك والناس من حولك، فإن حسن الأخلاق يتحول إلى جواز تتحرك فيه على الصراط، فلا تزلّ قدمك هناك. وهكذا، "من خفّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه ـ عمّن كان تحت سلطته، من العمال والموظفين ومن أهله ـ خفّف الله عليه حسابه".

ـ كف الشر

وعليك أن تكف شرك عن الناس دائماً، ولكن يتعاظم هذا المعنى الاجتماعي في كف شرك عن الناس في هذا الشهر: "ومن كفّ فيه شرّه، كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة". فالله يريدنا في هذا الشهر، أن نعيش الصوم الاجتماعي الذي يجعل منا مؤمنين صالحين نعيش إنسانيتنا في كل معانيها، في داخل أنفسنا وفي خارجها، وقال الإمام الصادق(ع): "ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا"، وقال: "وسمع رسول الله(ص) امرأة تسبّ جارية لها ـ ونحن قوم نسبّ بعضنا بعضاً في الكبير والصغير، بمناسبة وبغير مناسبة ـ وهي صائمة، فدعا رسول الله(ص) بطعام، فقال لها: كلي ـ ولم يكن المقصود من الرسول أن يجعلها تأكل، ولكن ليعطيها الموعظة بأسلوب صالح ـ فقالت: إني صائمة، قال(ص): كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك" ـ إن الصوم ليس بالامتناع عن الطعام والشراب، فالإنسان الذي يسبّ إنساناً آخر وهو صائم، فكأنه أفطر في صومه، لأن هناك إفطاراً على قسمين، فهناك إفطار مادي، بأن لا يأكل ولا يشرب، وهناك إفطار معنوي، كأن تسبّ إنساناً آخر أو تؤذيه أو تضربه،.. فأنت بذلك مفطر روحياً وإن كنت صائماً مادياً.

الصوم الأخلاقي

وهكذا، أيها الأحبة، هناك الصوم الأخلاقي، فالإنسان عليه أن يصوم، بحيث يجعل أخلاقه في خط التقوى، "وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم"، وعن فاطمة الزهراء(ع)، أنها قالت: "ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه". فالصوم هو أن تصوم حواسّك عن كل الخطوط السيئة في الأخلاق.

وهكذا ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع): "أن الصيام ليس الطعام والشراب، ولكن إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك وبطنك وفرجك، واحفظ يدك وفرجك، وأكثر من السقوط إلا من خير، وارفق بخادم". هذا هو الصوم في معناه الإنساني الأخلاقي، بحيث يعيش الإنسان إنسانيته في القيم الأخلاقية والروحية المتصلة بحياته أو بحياة الآخرين.

الصوم السياسي

وهكذا نلتقي بالصوم السياسي، وذلك بأن تصوم عن كل تأييد ودعم ومساعدة للظالمين وللمستكبرين في كلمة أو فعل أو موقف، لأن الله تعالى يقول: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}، وقد ورد في الحديث بأن الظالم والراضي بالظلم والمعين له شركاء ثلاثتهم، "من عذر ظالماً يظلمه، سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يُستجب له ولم يأجره على ظلامته".

إننا في هذا الشهر الشريف نعيش بينيدي الله وفي ضيافته وفي آفاق رحمته، فعلينا أن نعمل على أن ننمي إيماننا وأخلاقنا وروحياتنا والتزامنا في كل شيء، لأن القضية هي أن يتحرك الإنسان بصومه، ليكون الإنسان الذي ينطلق من أجل أن يحصل على رضا الله في كل شيء، وحتى لا يكون كما ورد في الحديث: "رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"، {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتّقون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وحاولوا أن تحققوا التقوى في كل كيانكم، فإنّ الله سبحانه وتعالى قال لنا: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين}، وعلينا أن نراعي الدقة في كل تصرفاتنا في هذا الشهر؛ في بيوتنا، وفي محلاتنا وفي مواقع أعمالنا، وفي مجتمعاتنا، وفي ما نقرأ ونسمع من كل الأخبار التي تردنا من هنا وهناك، أن لا نكون الحياديين أمام ما يعرض للمستضعفين من المستكبرين، لأنّ من التقوى أن تنكر المنكر بيدك ولسانك، وتباين من فعله بجهدك، وأي منكر أشد من الاستكبار ومن الظلم الذي يتحرك فيه الظالم ضدّ المظلوم مستعرضاً كل مواقع القوة عنده. علينا أن نكون جميعاً ضدّ الظلم، أينما كان، وفي أي موقع، سواء كان الظالم شخصاً أو جماعة أو حزباً أو منظمة أو دولة أو محوراً دولياً، وهذا ما نحتاج إلى مواجهته في هذا الشهر، في كل ما يعيشه المسلمون من أوضاع الظلم المتسلّطة عليهم.

الشيشان: تدمير متواصل

يقبل علينا شهر رمضان، والمسلمون يعيشون أزمات متلاحقة وحروباً قاسية وحصاراً شديداً، حيث تواصل روسيا، وبالتنسيق مع الصهيونية العالمية، تدمير الشيشان، مستخدمة كل آلتها العسكرية في قصف المدنيين والعسكريين على السواء، في حالة من التجاذب مع الدول الغربية قائمة على توازن المصالح، والمؤتمر الإسلامي لم تحقق زيارة ممثليه إلى المنطقة أي شيء، لأنه لا يملك القوة الضاغطة على روسيا بعد أن ارتبطت بعض مصالحه بمصالحها من خلال ما يمارسه عليه الغرب من ضغوطات، الأمر الذي يمنعه من القيام بأي تحرك فاعل، لاسيما في ظل المقولة التي تتحدث عن أن قضية الشيشان مسألة روسية داخلية، فنحن نرفض ذلك، لأن ما يصيب المسلمين في أية بقعةٍ ينعكس عليهم في المناطق الأخرى، فقد أصبحت هذه المسألة تحفر في الخزان الشعوري لدى المسلمين، ونحن كما نرفض أن يظلم المسلمون غيرهم، نرفض أن يُظلموا من أية جهة.

إننّا ندعو إلى أن ترفع روسيا عدوانها عن هذا الشعب المسلم، وإلاّ فإنها ستكون الخاسر الأكبر على جميع المستويات أمام الرأي العام العالمي، لا سيما أمام الأمة الإسلامية، وها نحن نسمع أن روسيا ستدفع الثمن غالياً من خلال الصوت الأمريكي الذي لا يبحث عن المعنى الإنساني والسياسي في واقع المسلمين، بل عن مصالحه الحيوية في منطقة القوقاز.

إن المأساة كبيرة، وعلى العالم الإسلامي والشعوب المستضعفة أن تقف مع هذا الشعب المقهور الذي يبحث عن حريته واستقلاله.

العالم الإسلامي بين الحصار والتمزق

ونلتقي - مع هذه المأساة - بمسألة الحصار الدولي ضد الشعب العراقي، الذي ينتقل من مأساة إلى مأساة، ومن ضغط استكباري خارجي إلى طغيان داخلي، ما زاد من معاناته ومن حالة تشريده في أكثر من مكان في العالم، تحت تأثير عناوين اللجوء التي قد يفقد معها هويته الإسلامية.. وهكذا تنتقل المشكلة إلى الحصار ضد السودان والحرب المدمرة الدائرة فيها، والأوضاع القلقة في الجزائر وأفغانستان، والحصار الاقتصادي ضد إيران، والتحالف الأمريكي - الصهيوني ضد العرب والمسلمين باسم الضغط من أجل السلام، هذا بالإضافة إلى المشاكل المعقدة في واقع المسلمين، في التمزقات المذهبية والإقليمية والقومية، ما يحطم وحدتهم ويضعف قوتهم في ساحة العالم.

أولبرايت: إنقاذ إسرائيل

وتأتي زيارة أولبرايت إلى المنطقة لتفتح نافذة على المفاوضات في المسار السوري - اللبناني، من أجل إنقاذ إسرائيل من مأزقها السياسي الأمني في أكثر من مكان، لا سيما في الرمال اللبنانية المتحركة التي غرقت فيها الأقدام الإسرائيلية، ولا ندري إلى أين تنتهي التعقيدات العالقة في هذه الدائرة بما تثيره إسرائيل من التفاصيل، وربما كانت هذه الزيارة متحركة أيضاً في نطاق الضغط على الفلسطينيين ليقبلوا الشروط الإسرائيلية الضاغطة في إعادة الانتشار وفي مفاوضات الحل النهائي، لأن الدور الأمريكي السياسي هو إعطاء المواقف لإسرائيل، والكلمات المعسولة وممارسة الضغوط المتنوعة على الفلسطينيين، ليتحقق لإسرائيل أهدافها في السيطرة السياسية والاقتصادية والأمنية على كل فلسطين، كما أن أمريكا تعمل على إتمام التسوية قبل فترة الانتخابات الرئاسية لحساباتها الداخلية، وهكذا تستمر الدوامة التي تطبق على الواقع الفلسطيني العربي بفعل الضغط الأمريكي، الأمر الذي يفرض على العرب والمسلمين المواجهة المسؤولة لذلك كله، بالوقوف مع الحقوق الشرعية للأمة كلها في قبالة الصهيونية كلها والاستكبار العالمي كله.

إسرائيل: استمرارية الاعتداءات

وليس بعيداً من ذلك، تستمر اعتداءات العدوّ على أهلنا في الجنوب قتلاً وتدميراً وحصاراً واعتقالاً، من دون أن يثير ذلك أيّ رد فعل دولي باسم حقوق الإنسان أو غير ذلك من العناوين الإنسانية والسياسية التي تحرّكها الدول الكبرى حفاظاً على مصالحها الاستراتيجية، لا على مصالح الشعوب المستضعفة.

بين سجال الداخل ومخاطر الخارج

وأخيراً أمام ما يجري في المنطقة وما قد نستقبله من تطورات تتغير فيها الصورة وتتبدل، نجد أن ما يحدث من سجال في الداخل، سواء حول قانون الانتخاب أو غيره، يمثل في بعض مظاهره مشهداً من المشاهد المسرحية في العمل السياسي، حيث يتطلع أكثر من طرف إلى الطريقة التي يتم فيها تقاسم الجبنة الانتخابية والسياسية، بلحاظ بعض التقسيمات، وبأسلوب يثير الأحقاد ويلهب الحساسيات ويوتر الأجواء، بينما نجد أن ثمة عملاً أمريكياً - إسرائيلياً لتقاسمنا جميعاً شعوباً وثروات، أو مواقع جغرافية وسياسية واقتصادية، والسؤال الكبير: متى نستيقظ من الغفلة التي نعيش فيها لنعرف أننا نتقاتل على عروش زائلة من على شرفة بركان ملتهب قد يقلب الأوضاع كلها في المنطقة رأساً على عقب؟!

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير