"إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله"

"إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله"

لأنَّ حركة الأنبياء والرسل تتلخّص بالعمل لإقامة العدل:
"إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

العدل والظلم حاكمان على حركة الدين

هناك عنوانان يحكمان كل حركة الدين منذ أن أرسل الله تعالى الرسل بالرسالات، وأنزل الكتب، عنوان إيجابي أراد للناس أن يتحركوا به في كل حياتهم الفردية والاجتماعية بكل ألوانها وأنواعها، وعنوان سلبي أراد الله تعالى للناس أن يبتعدوا عنه في كل ألوان حياتهم وأوضاعهم، وهما: العدل والظلم، فكل الشريعة في محرّماتها وواجباتها تتحرك بين هذين الخطين، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى في سورة "الحديد"، حيث إن قاعدة كل الرسالات، ونداء كل الرسل، وآيات كل الكتب، وحركة كل الموازين، تتلخّص بالعدل: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.

توحيد الله من العدل

العدلُ مع الله، ومع النفس، ومع الإنسان الآخر، مع كل الطبيعة والبيئة، وهناك ظلم لله وللنفس، وظلم للإنسان وللحياة من حوله. وكلمة العدل تعني بكل اختصار أن تعطي لصاحب الحق حقه في ما له عليك من حق، والظلم هو أن تمنع صاحب الحق حقه في كل ما له من حق، فالعدل مع الله تعالى هو أن توحّده، لأن من حق الله على عباده أن يوحِّدوه، فالشرك بالله ظلم، وهذا ما تحدث به لقمان في وصيته لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم}، فأنت تظلم ربك، لا بالغلبة والقوة، ولكن بأن لا تعطي ربك حقه عليك.

أن توحّد ربك بالعقيدة فلا إله إلا هو، وتوحّده بالطاعة فلا طاعة إلا له، وأن توحّده بالعبادة فلا معبود سواه، وتوحّده بالحب فلا تحب أحداً معه إلا من خلاله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله}، لا يحبون أحداً مع الله، بل يحبون كل الناس وكل شيء من خلال الله، يحبون الرسل لأنهم رسل الله، ويحبون الأولياء لأنهم أولياء الله، ويحبون المؤمنين لأنهم آمنوا بالله، فالحب من خلال الله، والله وحده هو الحبيب في معنى عمق الحق ووحدانيته.

الإيمان بسنّة النبي(ص)

وهكذا، عدلك مع الرسول(ص) أن تؤمن بسنّته وتطيعه من خلال ما أراد الله تعالى لك أن تطيعه: "مَن أطاع الرسول فقد أطاع الله"، {قل إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله}. أما عدلك مع نفسك فهو أن تتعامل معها بما يجعلها تعيش النجاة والصلاح والخير والتوازن في الدنيا والآخرة، أن تعدل مع نفسك، أن تدفعها لينفتح عقلك على الله ورسله ورسالته، ولينفتح قلبك على الحب لا على الحقد، وعلى نيّة الخير لا نيّة الشر، وعدلك مع نفسك في طاقاتك أن تحرك هذه الطاقات فيما يرضي الله مما ينفع الناس ويمكث في الأرض ويرتفع بك درجات عند الله: {قد أفلح من زكّاها* وقد خاب من دسّاها} {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}، وهذا هو ظلم النفس، أن توجهها إلى الانحراف عن توحيد الله وطاعته، وأن تحرّكها في خط هواها لا في خط هداها...

تأدية الحقوق للناس

أما عدلك مع الناس، فأن تعتبر أن للناس عليك حقوقاً، ولك عليهم حقوق، فعليك أن تؤدي لكل ذي حق حقه، لك حق على زوجتك ولزوجتك حق عليك: {ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة}، وهكذا تمتد الحقوق في المجتمع كله، مهما اختلف في أعراقه واتجاهاته، فإن هناك حقوقاً يرتبط بها الناس ويتوازن الواقع من خلالها في جميع مواقعها في الدنيا والآخرة. فظلمك للناس بأن لا تعطيهم حقوقهم التي فرضها الله عليك، أو بأن تحرمهم حقوقهم فيما التزمت به معهم.

وقد وردت بعض الأحاديث في تنوّع الظلم، ففي الحديث: "الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه الله، فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك ـ {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ـ وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه في ما بينه وبين الله ـ فالله قد يغفر للإنسان ما ظلم به نفسه إذا تاب إلى ربه من ذلك ـ وأما الظلم الذي لا يتركه الله ـ بل يحاسب عليه ـ فالمداينة بين العباد"، وهو عبارة عمّا لهم من حقوق في ذمّة بعضهم البعض، سواء كانت حقوقاً مادية أو معنوية.

وقد ورد في بعض الأحاديث عن أمير المؤمنين(ع): "القصاص هناك شديد ليس جرحاً بالمدى ولا ضرباً بالسياط ولكنه ما يُستصغر ذلك معه"، لأن الله تعالى لا يضيع حق أحد، باعتبار أن شعار يوم القيامة: {اليوم تجزى كل نفسٍ بما كسبت لا ظلم اليوم}. وقد ورد في الذين يتعاملون مع الطغاة وينفذون أوامرهم في ظلم الناس في أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، عن شيخ من "النخع"، وهي قبيلة من قبائل اليمن، قال: قلت لأبي جعفر محمد الباقر(ع): إني لم أزل والياً من زمن الحجاج إلى يومي هذا ـ وما أكثر أنواع الحجاج في أيامنا هذه ـ فهل لي من توبة، فسكت، ثم أعدتُ عليه، فقال(ع): "لا، حتى تؤدي إلى كل ذي حقٍ حقّه".

وورد في الحديث عن رسول الله(ص) أن أشد الظلم هو ظلم الضعيف الذي لا يجد عليك ناصراً إلا الله تعالى، وفي الحديث عن الإمام علي(ع): "وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم"، وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "ما من مظلمة أشدّ من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله عز وجل". وفي بعض الكلمات أن الإمام زين العابدين(ع) قال: "أوصاني أبي الحسين بما أوصاه أبوه عند وفاته قال: يا بني، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله".

وتتحرك القضية في اتجاه آخر، وهي مسألة ظلم الناس في أكل أموالهم، فقد ورد في بعض الأحاديث: "من أكل من مال أخيه ظلماً ـ نتيجة بعض الأوضاع القانونية غير الشرعية، أو بعض الأوضاع التي يستطيعون فيها أن يلعبوا على القانون ـ ولم يردّه إليه، أكل جذوة من النار". وورد عن النبي(ص): "اتّقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة"، وورد عن الإمام علي(ع): "يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم"، عندما يقف المظلوم أمام الله تعالى ليقول: يا عدل، يا حكيم، أحكم بيني وبين فلان، فقد ظلمني حقي في نفسي أو مالي أو عرضي أو أهلي، فماذا يفعل الظالم في ذلك اليوم، {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلبٍ سليم}.

حرمة الظلم للإنسان والحيوان

وورد في بعض الأحاديث أن على الإنسان أن يفكر عندما يظلم أحداً، كأن يضرب زوجته أو ولده أو جاره أو الضعيف بغير حق، لأنه يملك قوة سياسية أو عسكرية أو اجتماعية أو عشائرية، أن يفكِّر بيوم القصاص، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، فلا بد أن يدفعه ذلك إلى الامتناع عن الظلم، وينقل في هذا المجال أن الإمام زين العابدين(ع) كان إذا ركب ناقته وامتنعت عليه، أهوى إليها بالسوط ليضربها، ثم أبعد السوط عنها وهو يقول: "آه لولا القصاص"، بهذه الروحية كان الإمام(ع) يتعامل مع الأمور، ويمدنا ذلك بدرس نستفيده، هو أن لا يعيش الإنسان روحيّة الظلم للآخرين حتى للحيوان.

وعلينا أن نعرف أنه لا فرق في حرمة الظلم بين الإنسان والحيوان، مع أنه يجوز لك أن تذبح الحيوان، لأن الله أحلّ لك ذلك، ولكن لا يجوز أن تظلمه، وقد ورد في بعض الأحاديث أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها عن الطعام والشراب حتى ماتت، ولا فرق في الظلم بين أن تظلم كافراً أو تظلم مسلماً، فالظلم لا دين له والعدل لا دين له، العدل لكل الناس ـ المسلمين والكافرين ـ وقد ورد في بعض الآثار أن الله تعالى أوحى إلى نبي في مملكة جبّار من الجبارين أن "ائتي هذا الجبار وقل له إني إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين فإني لن أدع ظلامتهم ولو كانوا كفاراً".

وأكثر الظلم أن تأكل مال اليتيم، فإن الله تعالى يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}، أما إذا كنت لا تفكر بالظلم، فإن الإمام الصادق(ع) يبيّن لك جائزتك عند الله، يقول(ع): "من أصبح لا ينوي ظلم أحد، غفر الله ما أذنب في ذلك اليوم، ما لم يسفك دماً أو يأكل مال يتيم حراماً".

إن الله تعالى يريد للناس أن يعيشوا العدل في الدنيا حتى ينطلقوا على أساس أن يحفظ كل إنسان حقه للإنسان الآخر، أن نكون العادلين مع ربنا وأنفسنا والناس من حولنا، والعادلين مع البيئة كلها، لأن في البيئة مخلوقات يريد الله لنا أن نحترمها ولا نسيء إليها، ولأن حماية البيئة والعدل معها هي حماية للناس مما يصيبهم من الأمراض والبلايا.

لنتعلّم من الإسلام كيف نؤكد إنسانيتنا في إنسانية الآخر، لنتعلّم من الإسلام أن نعيش العدل كله حتى يأمن أعداؤنا من ظلمنا وجورنا، وييأس أصدقاؤنا من ميلنا وانحطاط هوانا، فهذا هو الذي يرفع مجتمعاتنا في الدنيا، وهذا هو الذي يقرّبنا إلى الله في الآخرة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل ما تتحرّكون فيه، لتكونوا الأمة التي تقيم العدل وتسقط الظلم وتبتعد عن كل الظالمين والمستكبرين، إن علينا أن نكون في مواجهة الظلم كله، وأن نكون مع العدل كله، لأن الاستكبار هو أعلى مواقع الظلم، وبه أخرج الله تعالى إبليس من الجنة.. لذلك، فإن كل من يؤيد الظالم بكلمة أو موقف هو شريكه في كل جرائمه وظلمه، وقد ورد: "من عذر ظالماً بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره على ظلمه"، ونحن نعيش في هذه المرحلة على مستوى العالم ظلم المستكبرين الصغار والكبار، فتعالوا لنرى ماذا في هذه المرحلة من حركة المستكبرين الظالمين:

استهداف أمريكي للدول الإسلامية

القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، ولا سيما في الخليج، بدأت تدقّ ناقوس الخطر ضد شعوبها، في عملية انتداب عسكري مقنَّع للسيطرة على المواقف السياسية والأوضاع الاقتصادية، والعبث بكل ثرواتها الطبيعية، والتلويح بالضربات الوقائية لأكثر من هدف محتمل، قد تكون سوريا وليبيا وإيران في مقدمتها، تحت شعار منع حصول هذه الدول على أسلحة الدمار الشامل، والتهديد بأنها تحتفظ بحقها في الرد بقوة هائلة بما في ذلك جميع الخيارات المتوفرة لها ضد أيّ طرف يستخدم هذه الأسلحة ضد قواتها في العالم، وضد أصدقائها أو حلفائها، حتى على مستوى الاستخدام الأمريكي للأسلحة البيولوجية والكيميائية والنووية..

ومن الطريف جداً أن الدولة التي منحت أمريكا أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة، هي الدولة التي تتولى رئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن هذه القواعد تستهدف الدول الإسلامية، ولا سيما فلسطين "الشعب" وإيران وغيرهما.. لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ من هذه القواعد تأديب كل دولة أو منظمة تعمل على تأكيد حريتها واستقلالها ومعارضتها للمصالح الأمريكية الضاغطة على مصالح الشعوب، والعمل على حماية إسرائيل من ضربات الانتفاضة الفلسطينية التي تجاهد من أجل حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وزوال الاحتلال..

الديمقراطية شعار لحماية المصالح الأمريكية

ومن المضحك المبكي أن أمريكا تعلن عن مبادرة للشراكة بهدف مساعدة العرب للتكيّف مع العصر، وتعزيز الديمقراطية في العالم العربي، وتشجيع قوى الإصلاح والتغيير، وتطوير مؤسسات المجتمع المدني وحكم القانون في هذا العالم.. إننا أمام هذه المبادرة نقول: إن شعار الديمقراطية الذي ترفعه أمريكا في العالم الثالث هو من أجل حماية المصالح الأمريكية، بإيجاد حالة شكلية من التغيير الذي لا يلامس العمق في حق الشعوب في التحرك على أساس حماية ثرواتها الطبيعية واستثماراتها الاقتصادية وأسواقها الاستهلاكية من السيطرة الاستكبارية.. وإننا نعرف أن حلفاء أمريكا في العالم هم الذين يصادرون مصالح شعوبهم لحساب المصالح الأمريكية، ولكن بشكل يحمل بعض ملامح الديمقراطية..

أمريكا.. شرعنة المجازر الإسرائيلية

إن أمريكا تعرف جيداً بأن أغلب الشعوب المستضعفة، ومنها شعوب العالمين العربي والإسلامي، تحمل الكراهية للإدارة الأمريكية في مراحلها المتعاقبة، لأنها وقفت مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ومنعت العالم من حماية الشعب الفلسطيني من مجازر اليهود، وساعدت ـ ولا تزال ـ إسرائيل بعشرات المليارات من الدولارات من أجل إسقاط مواقع القوة للفلسطينيين لتحقيق الانتصار الإسرائيلي عليهم، حتى أنها صادرت مجلس الأمن ومنعته من أية إدانة لإسرائيل على ما تقوم به من مجازر وحشية ضد الشعب الفلسطيني، في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير البيوت والمزارع، والحصار الغذائي والمائي، ولا تزال تعمل على الاقتراع لمصلحة المجرم "شارون" ليكمل خطته الإجرامية، وقد عملت هذه الإدارة على تعيين مسؤول لملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي "إبرامز" الذي يقول إن "شارون هو المؤهَّل لمواجهة ومقاومة العنف الفلسطيني"، على حدّ تعبيره؟!

إن الشعوب العربية والإسلامية إذا حصلت على حرياتها السياسية من خلال إبعاد المسؤولين الذين وظّفتهم أمريكا لحماية مصالحها ضد شعوبهم، سوف تتخذ الموقف الطبيعي المضاد للسياسة الأمريكية العدوانية.. ويبقى السؤال: هل تقبل أمريكا بالتغيير الحقيقي في هذه المنطقة؟ وهل هي مستعدة لتقبّل النتائج الحاسمة، أم أنها تريد أن ترسم الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، والخليج بالذات؟؟

إلى متى الاستمرارية في حالة الاسترخاء؟!

أما السؤال الموجَّه للعالم العربي والإسلامي فهو: هل تستمر حالة الاسترخاء واللامبالاة التي تسيطر على هذين العالمين، بالإضافة إلى حالة الخضوع والاستسلام وتقديم فروض الطاعة من الآن، والتي بدأت في أكثر من عاصمة وسوف تتلوها عواصم أخرى من خلال المسؤولين في الأنظمة؟ ويبقى السؤال: أين الجامعة العربية أمام كل هذا الاستلاب للواقع العربي، ولا سيما في فلسطين؟ وأين المؤتمر الإسلامي أمام هذا التهديد لأكثر من دولة إسلامية؟ وهل يملك أصحاب القمم الاستهلاكية مواقفهم، أم نقول كما قال الشاعر:

قد أسمعت لو ناديت حيّاً

ولكن لا حياة لمن تنادي

ويبقى السؤال للذين يراهنون على أمريكا في إنقاذهم من مشاكل الطغيان الداخلي، ويبشّرون بالحرب التي سوف تجتاح هذا البلد العربي والإسلامي أو ذاك، منتظرين أن تقدّم لهم الحكم الوطني على طبق من ذهب. هل أن أمريكا التي فرضت الطغاة على شعوب بلادنا العربية والإسلامية تمثّل جمعية خيرية تصرف عشرات المليارات من الدولارات لإنقاذنا لسواد عيوننا، أم أنها تريد أن تطبق على المنطقة من جديد في عملية احتواء اقتصادي وسياسي وأمني؟ وهي التي عملت على أن تصنع لنا أكثر من دكتاتور جديد مقنّع بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان؟؟

رصد المخططات الأمريكية الإسرائيلية

إن المطلوب ـ لو استطعتم ـ أن تخططوا للتغيير على أساس مصلحة شعوبكم، لا على أساس مصالح الآخرين على حساب شعوبهم.. أن ترصدوا حركة أميركا التي هي السبب في كل مشاكلنا وحركة حلفائها المستكبرين في أكثر من عملية خداع، ونحن نروي الحديث المأثور: "إن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين"، فكيف بنا وقد لُدغنا من الجحر الاستكباري أكثر من مئة مرة؟!

إننا بحاجة إلى العيون المفتوحة جيداً على كل ما يُخطط للأمة من مخاطر على جميع المستويات، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.. وتبقى للشعوب كلمتها، لأنها هي التي تكتوي بالنار التي بدأ إشعالها في المنطقة، وهي التي سوف تعاني من كل مجازر الحرب الجديدة..

وفي هذا الجو، علينا أن لا ننسى فلسطين أمام كل هذا الاهتزاز العسكري والسياسي الذي يُراد له أن يشغلنا عنها، لتتفرّغ إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ لإسقاط الانتفاضة، وأن لا ننسى المناطق المحتلة في لبنان والجولان أمام التهديدات الإسرائيلية، وأن نتابع المخططات الإسرائيلية الجديدة في العبث بالأمن اللبناني على مستوى العودة الجديدة للعبوّات الناسفة، متسائلين عن السبب في عدم إثارة ذلك على المستوى العالمي، في الوقت الذي استغلّت فيه إسرائيل ردّ الفعل وأبعدت الضوء عن الجريمة في الفعل الذي قامت به؟

وختاماً، إنّ النار التي تحت الرماد في المنطقة قد برزت على السطح، فكيف يمكن أن نواجه كل اللهيب الذي قد يحرق الأخضر واليابس، إن المرحلة تحتاج إلى وعي في مستوى الحدث، وإلى إرادة في مستوى الخطر، وإلى وحدة في مستوى التحديات.

لأنَّ حركة الأنبياء والرسل تتلخّص بالعمل لإقامة العدل:
"إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

العدل والظلم حاكمان على حركة الدين

هناك عنوانان يحكمان كل حركة الدين منذ أن أرسل الله تعالى الرسل بالرسالات، وأنزل الكتب، عنوان إيجابي أراد للناس أن يتحركوا به في كل حياتهم الفردية والاجتماعية بكل ألوانها وأنواعها، وعنوان سلبي أراد الله تعالى للناس أن يبتعدوا عنه في كل ألوان حياتهم وأوضاعهم، وهما: العدل والظلم، فكل الشريعة في محرّماتها وواجباتها تتحرك بين هذين الخطين، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى في سورة "الحديد"، حيث إن قاعدة كل الرسالات، ونداء كل الرسل، وآيات كل الكتب، وحركة كل الموازين، تتلخّص بالعدل: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.

توحيد الله من العدل

العدلُ مع الله، ومع النفس، ومع الإنسان الآخر، مع كل الطبيعة والبيئة، وهناك ظلم لله وللنفس، وظلم للإنسان وللحياة من حوله. وكلمة العدل تعني بكل اختصار أن تعطي لصاحب الحق حقه في ما له عليك من حق، والظلم هو أن تمنع صاحب الحق حقه في كل ما له من حق، فالعدل مع الله تعالى هو أن توحّده، لأن من حق الله على عباده أن يوحِّدوه، فالشرك بالله ظلم، وهذا ما تحدث به لقمان في وصيته لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم}، فأنت تظلم ربك، لا بالغلبة والقوة، ولكن بأن لا تعطي ربك حقه عليك.

أن توحّد ربك بالعقيدة فلا إله إلا هو، وتوحّده بالطاعة فلا طاعة إلا له، وأن توحّده بالعبادة فلا معبود سواه، وتوحّده بالحب فلا تحب أحداً معه إلا من خلاله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله}، لا يحبون أحداً مع الله، بل يحبون كل الناس وكل شيء من خلال الله، يحبون الرسل لأنهم رسل الله، ويحبون الأولياء لأنهم أولياء الله، ويحبون المؤمنين لأنهم آمنوا بالله، فالحب من خلال الله، والله وحده هو الحبيب في معنى عمق الحق ووحدانيته.

الإيمان بسنّة النبي(ص)

وهكذا، عدلك مع الرسول(ص) أن تؤمن بسنّته وتطيعه من خلال ما أراد الله تعالى لك أن تطيعه: "مَن أطاع الرسول فقد أطاع الله"، {قل إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله}. أما عدلك مع نفسك فهو أن تتعامل معها بما يجعلها تعيش النجاة والصلاح والخير والتوازن في الدنيا والآخرة، أن تعدل مع نفسك، أن تدفعها لينفتح عقلك على الله ورسله ورسالته، ولينفتح قلبك على الحب لا على الحقد، وعلى نيّة الخير لا نيّة الشر، وعدلك مع نفسك في طاقاتك أن تحرك هذه الطاقات فيما يرضي الله مما ينفع الناس ويمكث في الأرض ويرتفع بك درجات عند الله: {قد أفلح من زكّاها* وقد خاب من دسّاها} {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}، وهذا هو ظلم النفس، أن توجهها إلى الانحراف عن توحيد الله وطاعته، وأن تحرّكها في خط هواها لا في خط هداها...

تأدية الحقوق للناس

أما عدلك مع الناس، فأن تعتبر أن للناس عليك حقوقاً، ولك عليهم حقوق، فعليك أن تؤدي لكل ذي حق حقه، لك حق على زوجتك ولزوجتك حق عليك: {ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة}، وهكذا تمتد الحقوق في المجتمع كله، مهما اختلف في أعراقه واتجاهاته، فإن هناك حقوقاً يرتبط بها الناس ويتوازن الواقع من خلالها في جميع مواقعها في الدنيا والآخرة. فظلمك للناس بأن لا تعطيهم حقوقهم التي فرضها الله عليك، أو بأن تحرمهم حقوقهم فيما التزمت به معهم.

وقد وردت بعض الأحاديث في تنوّع الظلم، ففي الحديث: "الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه الله، فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك ـ {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ـ وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه في ما بينه وبين الله ـ فالله قد يغفر للإنسان ما ظلم به نفسه إذا تاب إلى ربه من ذلك ـ وأما الظلم الذي لا يتركه الله ـ بل يحاسب عليه ـ فالمداينة بين العباد"، وهو عبارة عمّا لهم من حقوق في ذمّة بعضهم البعض، سواء كانت حقوقاً مادية أو معنوية.

وقد ورد في بعض الأحاديث عن أمير المؤمنين(ع): "القصاص هناك شديد ليس جرحاً بالمدى ولا ضرباً بالسياط ولكنه ما يُستصغر ذلك معه"، لأن الله تعالى لا يضيع حق أحد، باعتبار أن شعار يوم القيامة: {اليوم تجزى كل نفسٍ بما كسبت لا ظلم اليوم}. وقد ورد في الذين يتعاملون مع الطغاة وينفذون أوامرهم في ظلم الناس في أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، عن شيخ من "النخع"، وهي قبيلة من قبائل اليمن، قال: قلت لأبي جعفر محمد الباقر(ع): إني لم أزل والياً من زمن الحجاج إلى يومي هذا ـ وما أكثر أنواع الحجاج في أيامنا هذه ـ فهل لي من توبة، فسكت، ثم أعدتُ عليه، فقال(ع): "لا، حتى تؤدي إلى كل ذي حقٍ حقّه".

وورد في الحديث عن رسول الله(ص) أن أشد الظلم هو ظلم الضعيف الذي لا يجد عليك ناصراً إلا الله تعالى، وفي الحديث عن الإمام علي(ع): "وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم"، وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "ما من مظلمة أشدّ من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عوناً إلا الله عز وجل". وفي بعض الكلمات أن الإمام زين العابدين(ع) قال: "أوصاني أبي الحسين بما أوصاه أبوه عند وفاته قال: يا بني، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله".

وتتحرك القضية في اتجاه آخر، وهي مسألة ظلم الناس في أكل أموالهم، فقد ورد في بعض الأحاديث: "من أكل من مال أخيه ظلماً ـ نتيجة بعض الأوضاع القانونية غير الشرعية، أو بعض الأوضاع التي يستطيعون فيها أن يلعبوا على القانون ـ ولم يردّه إليه، أكل جذوة من النار". وورد عن النبي(ص): "اتّقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة"، وورد عن الإمام علي(ع): "يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم"، عندما يقف المظلوم أمام الله تعالى ليقول: يا عدل، يا حكيم، أحكم بيني وبين فلان، فقد ظلمني حقي في نفسي أو مالي أو عرضي أو أهلي، فماذا يفعل الظالم في ذلك اليوم، {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلبٍ سليم}.

حرمة الظلم للإنسان والحيوان

وورد في بعض الأحاديث أن على الإنسان أن يفكر عندما يظلم أحداً، كأن يضرب زوجته أو ولده أو جاره أو الضعيف بغير حق، لأنه يملك قوة سياسية أو عسكرية أو اجتماعية أو عشائرية، أن يفكِّر بيوم القصاص، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، فلا بد أن يدفعه ذلك إلى الامتناع عن الظلم، وينقل في هذا المجال أن الإمام زين العابدين(ع) كان إذا ركب ناقته وامتنعت عليه، أهوى إليها بالسوط ليضربها، ثم أبعد السوط عنها وهو يقول: "آه لولا القصاص"، بهذه الروحية كان الإمام(ع) يتعامل مع الأمور، ويمدنا ذلك بدرس نستفيده، هو أن لا يعيش الإنسان روحيّة الظلم للآخرين حتى للحيوان.

وعلينا أن نعرف أنه لا فرق في حرمة الظلم بين الإنسان والحيوان، مع أنه يجوز لك أن تذبح الحيوان، لأن الله أحلّ لك ذلك، ولكن لا يجوز أن تظلمه، وقد ورد في بعض الأحاديث أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها عن الطعام والشراب حتى ماتت، ولا فرق في الظلم بين أن تظلم كافراً أو تظلم مسلماً، فالظلم لا دين له والعدل لا دين له، العدل لكل الناس ـ المسلمين والكافرين ـ وقد ورد في بعض الآثار أن الله تعالى أوحى إلى نبي في مملكة جبّار من الجبارين أن "ائتي هذا الجبار وقل له إني إنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين فإني لن أدع ظلامتهم ولو كانوا كفاراً".

وأكثر الظلم أن تأكل مال اليتيم، فإن الله تعالى يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}، أما إذا كنت لا تفكر بالظلم، فإن الإمام الصادق(ع) يبيّن لك جائزتك عند الله، يقول(ع): "من أصبح لا ينوي ظلم أحد، غفر الله ما أذنب في ذلك اليوم، ما لم يسفك دماً أو يأكل مال يتيم حراماً".

إن الله تعالى يريد للناس أن يعيشوا العدل في الدنيا حتى ينطلقوا على أساس أن يحفظ كل إنسان حقه للإنسان الآخر، أن نكون العادلين مع ربنا وأنفسنا والناس من حولنا، والعادلين مع البيئة كلها، لأن في البيئة مخلوقات يريد الله لنا أن نحترمها ولا نسيء إليها، ولأن حماية البيئة والعدل معها هي حماية للناس مما يصيبهم من الأمراض والبلايا.

لنتعلّم من الإسلام كيف نؤكد إنسانيتنا في إنسانية الآخر، لنتعلّم من الإسلام أن نعيش العدل كله حتى يأمن أعداؤنا من ظلمنا وجورنا، وييأس أصدقاؤنا من ميلنا وانحطاط هوانا، فهذا هو الذي يرفع مجتمعاتنا في الدنيا، وهذا هو الذي يقرّبنا إلى الله في الآخرة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل ما تتحرّكون فيه، لتكونوا الأمة التي تقيم العدل وتسقط الظلم وتبتعد عن كل الظالمين والمستكبرين، إن علينا أن نكون في مواجهة الظلم كله، وأن نكون مع العدل كله، لأن الاستكبار هو أعلى مواقع الظلم، وبه أخرج الله تعالى إبليس من الجنة.. لذلك، فإن كل من يؤيد الظالم بكلمة أو موقف هو شريكه في كل جرائمه وظلمه، وقد ورد: "من عذر ظالماً بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره على ظلمه"، ونحن نعيش في هذه المرحلة على مستوى العالم ظلم المستكبرين الصغار والكبار، فتعالوا لنرى ماذا في هذه المرحلة من حركة المستكبرين الظالمين:

استهداف أمريكي للدول الإسلامية

القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، ولا سيما في الخليج، بدأت تدقّ ناقوس الخطر ضد شعوبها، في عملية انتداب عسكري مقنَّع للسيطرة على المواقف السياسية والأوضاع الاقتصادية، والعبث بكل ثرواتها الطبيعية، والتلويح بالضربات الوقائية لأكثر من هدف محتمل، قد تكون سوريا وليبيا وإيران في مقدمتها، تحت شعار منع حصول هذه الدول على أسلحة الدمار الشامل، والتهديد بأنها تحتفظ بحقها في الرد بقوة هائلة بما في ذلك جميع الخيارات المتوفرة لها ضد أيّ طرف يستخدم هذه الأسلحة ضد قواتها في العالم، وضد أصدقائها أو حلفائها، حتى على مستوى الاستخدام الأمريكي للأسلحة البيولوجية والكيميائية والنووية..

ومن الطريف جداً أن الدولة التي منحت أمريكا أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة، هي الدولة التي تتولى رئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن هذه القواعد تستهدف الدول الإسلامية، ولا سيما فلسطين "الشعب" وإيران وغيرهما.. لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ من هذه القواعد تأديب كل دولة أو منظمة تعمل على تأكيد حريتها واستقلالها ومعارضتها للمصالح الأمريكية الضاغطة على مصالح الشعوب، والعمل على حماية إسرائيل من ضربات الانتفاضة الفلسطينية التي تجاهد من أجل حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وزوال الاحتلال..

الديمقراطية شعار لحماية المصالح الأمريكية

ومن المضحك المبكي أن أمريكا تعلن عن مبادرة للشراكة بهدف مساعدة العرب للتكيّف مع العصر، وتعزيز الديمقراطية في العالم العربي، وتشجيع قوى الإصلاح والتغيير، وتطوير مؤسسات المجتمع المدني وحكم القانون في هذا العالم.. إننا أمام هذه المبادرة نقول: إن شعار الديمقراطية الذي ترفعه أمريكا في العالم الثالث هو من أجل حماية المصالح الأمريكية، بإيجاد حالة شكلية من التغيير الذي لا يلامس العمق في حق الشعوب في التحرك على أساس حماية ثرواتها الطبيعية واستثماراتها الاقتصادية وأسواقها الاستهلاكية من السيطرة الاستكبارية.. وإننا نعرف أن حلفاء أمريكا في العالم هم الذين يصادرون مصالح شعوبهم لحساب المصالح الأمريكية، ولكن بشكل يحمل بعض ملامح الديمقراطية..

أمريكا.. شرعنة المجازر الإسرائيلية

إن أمريكا تعرف جيداً بأن أغلب الشعوب المستضعفة، ومنها شعوب العالمين العربي والإسلامي، تحمل الكراهية للإدارة الأمريكية في مراحلها المتعاقبة، لأنها وقفت مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ومنعت العالم من حماية الشعب الفلسطيني من مجازر اليهود، وساعدت ـ ولا تزال ـ إسرائيل بعشرات المليارات من الدولارات من أجل إسقاط مواقع القوة للفلسطينيين لتحقيق الانتصار الإسرائيلي عليهم، حتى أنها صادرت مجلس الأمن ومنعته من أية إدانة لإسرائيل على ما تقوم به من مجازر وحشية ضد الشعب الفلسطيني، في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير البيوت والمزارع، والحصار الغذائي والمائي، ولا تزال تعمل على الاقتراع لمصلحة المجرم "شارون" ليكمل خطته الإجرامية، وقد عملت هذه الإدارة على تعيين مسؤول لملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي "إبرامز" الذي يقول إن "شارون هو المؤهَّل لمواجهة ومقاومة العنف الفلسطيني"، على حدّ تعبيره؟!

إن الشعوب العربية والإسلامية إذا حصلت على حرياتها السياسية من خلال إبعاد المسؤولين الذين وظّفتهم أمريكا لحماية مصالحها ضد شعوبهم، سوف تتخذ الموقف الطبيعي المضاد للسياسة الأمريكية العدوانية.. ويبقى السؤال: هل تقبل أمريكا بالتغيير الحقيقي في هذه المنطقة؟ وهل هي مستعدة لتقبّل النتائج الحاسمة، أم أنها تريد أن ترسم الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، والخليج بالذات؟؟

إلى متى الاستمرارية في حالة الاسترخاء؟!

أما السؤال الموجَّه للعالم العربي والإسلامي فهو: هل تستمر حالة الاسترخاء واللامبالاة التي تسيطر على هذين العالمين، بالإضافة إلى حالة الخضوع والاستسلام وتقديم فروض الطاعة من الآن، والتي بدأت في أكثر من عاصمة وسوف تتلوها عواصم أخرى من خلال المسؤولين في الأنظمة؟ ويبقى السؤال: أين الجامعة العربية أمام كل هذا الاستلاب للواقع العربي، ولا سيما في فلسطين؟ وأين المؤتمر الإسلامي أمام هذا التهديد لأكثر من دولة إسلامية؟ وهل يملك أصحاب القمم الاستهلاكية مواقفهم، أم نقول كما قال الشاعر:

قد أسمعت لو ناديت حيّاً

ولكن لا حياة لمن تنادي

ويبقى السؤال للذين يراهنون على أمريكا في إنقاذهم من مشاكل الطغيان الداخلي، ويبشّرون بالحرب التي سوف تجتاح هذا البلد العربي والإسلامي أو ذاك، منتظرين أن تقدّم لهم الحكم الوطني على طبق من ذهب. هل أن أمريكا التي فرضت الطغاة على شعوب بلادنا العربية والإسلامية تمثّل جمعية خيرية تصرف عشرات المليارات من الدولارات لإنقاذنا لسواد عيوننا، أم أنها تريد أن تطبق على المنطقة من جديد في عملية احتواء اقتصادي وسياسي وأمني؟ وهي التي عملت على أن تصنع لنا أكثر من دكتاتور جديد مقنّع بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان؟؟

رصد المخططات الأمريكية الإسرائيلية

إن المطلوب ـ لو استطعتم ـ أن تخططوا للتغيير على أساس مصلحة شعوبكم، لا على أساس مصالح الآخرين على حساب شعوبهم.. أن ترصدوا حركة أميركا التي هي السبب في كل مشاكلنا وحركة حلفائها المستكبرين في أكثر من عملية خداع، ونحن نروي الحديث المأثور: "إن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين"، فكيف بنا وقد لُدغنا من الجحر الاستكباري أكثر من مئة مرة؟!

إننا بحاجة إلى العيون المفتوحة جيداً على كل ما يُخطط للأمة من مخاطر على جميع المستويات، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.. وتبقى للشعوب كلمتها، لأنها هي التي تكتوي بالنار التي بدأ إشعالها في المنطقة، وهي التي سوف تعاني من كل مجازر الحرب الجديدة..

وفي هذا الجو، علينا أن لا ننسى فلسطين أمام كل هذا الاهتزاز العسكري والسياسي الذي يُراد له أن يشغلنا عنها، لتتفرّغ إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ لإسقاط الانتفاضة، وأن لا ننسى المناطق المحتلة في لبنان والجولان أمام التهديدات الإسرائيلية، وأن نتابع المخططات الإسرائيلية الجديدة في العبث بالأمن اللبناني على مستوى العودة الجديدة للعبوّات الناسفة، متسائلين عن السبب في عدم إثارة ذلك على المستوى العالمي، في الوقت الذي استغلّت فيه إسرائيل ردّ الفعل وأبعدت الضوء عن الجريمة في الفعل الذي قامت به؟

وختاماً، إنّ النار التي تحت الرماد في المنطقة قد برزت على السطح، فكيف يمكن أن نواجه كل اللهيب الذي قد يحرق الأخضر واليابس، إن المرحلة تحتاج إلى وعي في مستوى الحدث، وإلى إرادة في مستوى الخطر، وإلى وحدة في مستوى التحديات.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير