لأن العدل أساس الرسالات: لنجعل حياتنا حركة عدل مع الله والناس...

لأن العدل أساس الرسالات: لنجعل حياتنا حركة عدل مع الله والناس...

لأن العدل أساس الرسالات: لنجعل حياتنا حركة عدل مع الله والناس...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

العدل أساس الرسالات:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}، وقال سبحانه وهو يحدّثنا عن موسى(ع) في دعائه: {قال ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين}.

لم يهتمّ القرآن الكريم بقيمةٍ أخلاقيّة في جانبيها الإيجابي والسلبي كما اهتم بقيمة العدل، باعتباره أساس الرسالات، لأنَّه هو الذي يحفظ للإنسان إنسانيته، وهو الذي يحمي المجتمع من نفسه في علاقة أفراده بعضهم ببعض، وهو الذي يحقِّق التّوازن له في علاقات الحاكم بالمحكومين، وفي علاقات المحكومين بالحاكم، وفي خطوط العلاقة بين القوانين وتنفيذها. بالعدل تنتشر البركة في الناس، ويقوى المجتمع في كل عناصر وجوده وحركته.

وقد حدّثنا الله تعالى في كتابه الكريم عن ذلك في قوله تعالى في سورة الحديد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، وقيام النَّاس بالقسط هو قيامهم بالعدل. إنَّ معنى هذه الآية أن كل الرسالات، منذ عهد آدم(ع) إلى نبيّنا محمد (ص)، وأنّ كل الكتب، من صحف إبراهيم وموسى وعيسى(ع) ومحمد(ص)، وكل الموازين التي تزن للناس أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم، إنما وجدت من أجل هدف واحد، ألا وهو قيام الناس بالقسط.

وعلى ضوء هذا، أكَّد الإسلام العدل في الحياة كلّها، مع النفس ومع الله، مع العدوّ ومع القريب، حتى مع الحيوانات، لأن ذلك هو الذي أراد الله تعالى للحياة أن تقوم عليه.

وفي مقابل العدل، هناك الظلم الذي تختصره كلمة واحدة، وهي أن لا تعطي لكل صاحب حقٍّ حقه؛ أن لا تعطي لنفسك حقها في ما يحقِّق لها سلامة الحياة وراحتها ونجاتها في مصيرها. أن لا تظلم ربَّك؛ وظلم الله يعني أن لا تعطيه حقَّه في توحيده في العقيدة والطاعة والعبادة، وأن لا تظلم الناس حقوقهم، سواء كان الحق مالياً أو غير ذلك، سواء في بيتك مع عيالك، أو في محلّتك مع جيرانك ومع الناس الذين يتعاملون معك وتتعامل معهم، أو في كل مواقع الحياة؛ أن لا تكون الظالم، لأن الله لا يحبّ الظالمين، ولأنّه يعاقبهم، فالحساب في يوم القيامة، مقدمته هي حساب المظلومين مع الظالمين، ويقال إنّ كل مظلوم يقف يوم القيامة مع ظالمه ويقول: يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين فلان فقد ظلمني حقي، في أي شأن من شؤون الظلم المتنوّع في علاقات الناس بعضهم ببعض. وقد تكون قوياً الآن فتظلم الضعيف في بيتك أو محلتك أو موقعك، قد تنتفخ بعناصر القوة، ولكن ماذا تفعل غداً {يوم يقوم الناس لربّ العالمين}، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً}، وشعار يوم القيامة: {اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم}، فإذا كنتم أيها الناس تظلمون بعضكم بعضاً في الدنيا لأن هناك قوياً وضعيفاً، ولكن يوم القيامة ليست هناك قوّة إلا قوّة الله، والناس سواسية، فالحق أكبر من كلِّ الكبار، تلك هي المسألة التي يريدنا الله تعالى أن نعيشها ونربي أنفسنا عليها.

تنوّع الظلم:

والظلم متنوّع، عندما تغتاب إنساناً وتفضح سرَّه وعيبه فأنت ظالم له، لأنك خدشت كرامته، وهكذا عندما تقوم بالنَّميمة بين شخصٍ وآخر لتزرع الفتنة وتخرَّب العلاقة بينهما، لتفرّق زوجاً عن زوجه، وأخاً عن أخيه، فأنت ظلمتهما وظلمت المجتمع من خلال تأثيرات تلك الفتنة، وأنت ظالمٌ للناس عندما تغشّهم في معاملاتك وتأكل أموالهم بالباطل، وأنت ظالم لهم عندما تسقط كراماتهم وتشهّر بهم بما لم يعملوه ويقولوه لتسقط شأنهم بين الناس. ومن الظلم أيضاً أن تسبّ زوجتك أو أولادك أو أن تسبَّ الزوجة زوجها أو أيّ قريب لها من أرحامها وجيرانها. والله تعالى يريد للإنسان أن يمتنع عن ذلك كله، ليعطي كلّ ذي حق حقه، "عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به"، هل تحبّ أن يسبّك الناس أو أن يسيئوا إلى كرامتك أو يشهّروا بك؟ إذا كنت لا ترضى ذلك لنفسك، فلماذا ترضاه للناس؟

صنع الظالمين:

وقد ورد عن الإمام عليّ(ع) في وصيته لولده الحسن(ع): «يا بنيّ، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها». إن الإسلام يريد منك أن تكون أنت الآخر، بحيث تتقمّص شخصيّته، كما لو كنت أنت هو وهو أنت.

ويؤكّد الله تعالى مسألةً، وهي أنَّ القضيّة في التشريع الإسلامي ليست هي قضية المظلوم والظالم بما يترتّب من أثار في فعل الظالم وردة فعل المظلوم، ولكن المسألة هي مسألة المجتمع، فالظالم لا يملك قوة ذاتية، لأنّه قد يكون شخصاً واحداً، ولكن الذين يؤيّدونه ويدعمونه ويقوّونه وينتخبونه ويرفعونه على أكتافهم، هم الذين يعطونه القوة. هو شخص وعشيرته تمثِّل عشرة آلاف، فأصبح يساوي عشرة آلاف، أو الذين يؤيّدونه مئة ألف، فإن حجمه أصبح بقوة المئة ألف، أنت تعطيه قوّةً بصوتك ومالك، نحن الذين نجعل الإنسان طاغية عندما نمكّن له أسباب الطغيان، لأننا نعطيه قوّةً منا، من خلال صوتك وسلاحك وحضورك المهرجان... وإلا فإن الظالم هو شخص مثل عباد الله. ولذلك فإن الله تعالى قال للذين يركنون للظالمين ويساعدونهم ويؤيدونهم، إنكم تدخلون النار معهم، فكلُّ ما فعله الظالم أنت شريك فيه: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ـ وهو الاستسلام إليهم وتأييدهم وموالاتهم ـ فتمسّكم النار وما لكم من دون الله ـ إذا استغرقتم للظالم واستسلمتم لقوّته وأوضاعه ونسيتم ربكم ـ من أولياء يوم القيامة ثم لا تُنصرون}.

وقد أكّد النبي موسى(ع) في طريقة الشكر لله على النعم التي أنعم بها عليه: {ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً ـ معاوناً ومساعداً ـ للمجرمين}، فلو فرضنا أن هناك شخصاً ظالماً، وكان من أقربائنا، فهل نساعده أم لا؟ هل نجمع له مالاً من العشيرة والحزب والحركة لنخلّصه من العقاب أم لا؟ إذا ظلم إنسان زوجته وكان ولدنا أو أبانا أو قريباً لنا، فهل ندافع عنه أم لا؟ وهكذا عندما نكون من حزب معين أو حركة أو طائفة معيّنة، ورأينا أن شخصاً من حزبنا أو حركتنا أو طائفتنا ظلم شخصاً من غير حزبنا أو حركتنا أو طائفتنا، فهل ندافع عنه أم لا؟ وقد ورد عن الإمام زين العابدين(ع): «إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم».

وقد ورد عن النبي (ص): «من مشى مع ظالم ـ أي ساعده في ظلمه ومشاريعه ـ فقد أجرم». ويقول (ص): «من أعان ظالماًَ على ظلمه، جاء يوم القيامة وعلى جبهته مكتوب: آيس من رحمة الله». وفي حديث آخر عنه (ص): «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام»، لأن الإسلام ليس صلاة وصوماً فقط، بل هو حركة عدل مع الناس ومع الحياة. وعن الإمام الرضا(ع): «من أعان ظالماً فهو ظالم، ومن خذل ظالماً فهو عادل»، وفي الحديث عن النبي (ص): «من أعان ظالماً سلّطه الله عليه»، وعن الإمام الصادق(ع): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم».

وفي الجانب الآخر، عليك أن تكون مع المظلوم ضدَّ الظالم، وهي آخر وصية للإمام عليّ(ع) لولديه الحسنين(ع) وكلّ من بلغه كتابه: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»، وعن النبي (ص): «من أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً»، وعن الإمام عليّ(ع): «أحسن العدل نصرة المظلوم». ونقرأ مع الإمام زين العابدين(ع): «اللهم إني اعتذر إليك من مظلوم ظُلم في حضرتي ولم أنصره».

إن الإسلام يفرض على الإنسان ـ بحسب قدرته وموقعه ـ أن يكون قوة للمظلوم ضد الظالمين، وأن يكون ممن ينشر العدل، فيعدل مع نفسه ومع ربه ومع الناس من حوله، لأن ذلك هو الذي يقرّب الإنسان من الله ويرفع درجته عنده، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في كلِّ أموركم، وكونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، وواجهوا كلَّ الظالمين الذين يظلمون الناس في كلِّ أمورهم، ويعملون على مصادرة أمنهم وثرواتهم وثقافتهم واقتصادهم، من أجل أن يسقطوا الناس في إنسانيّتهم، تحت شعارات خادعة كاذبة منافقة. كونوا الأحرار ضد الذين يريدون أن يستعبدوكم، كونوا الأقوياء ضد الذين يريدون أن يستضعفوكم، لأنَّ الله لا يريد للإنسان أن يذلّ نفسه ويستضعفها ويستعبدها، لذلك لا بد لنا من أن نأخذ بأسباب القوّة والعزّة والكرامة، وذلك بأن نأخذ بأسباب الوحدة في كلِّ صراعاتنا مع الآخرين، لأن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، ولا سيّما أننا نمرّ في مرحلتنا هذه بأقسى ما مرَّت به أمّتنا في تاريخها من مواجهة في صراعاتها ضد المستكبرين الذين يبغون على الناس بغير الحق، سواء في المواقع القريبة أو البعيدة عن منطقتنا، لأن المسألة هي أن المستكبرين يعملون على محاصرة الإسلام في العالم كلّه، فماذا هناك:

المحاور الدولية تتحرك بخلفيّات صهيونية:

لا تزال القضية الفلسطينية موضع تجاذب سياسي وأمني على الصعيد الدولي، ولا سيّما الأمريكي الذي يطوِّق المنطقة العربية والإسلامية بحزام من الضغوط السياسية التي يضغط بها على إيران في مشروعها النووي السلمي، وفي سياستها المتوازنة في المسألة العراقية، من أجل دفعها إلى التنازل عن موقفها الاستراتيجي في دعم الشعب الفلسطيني ورفض الاحتلال الصهيوني.

كما يتحرَّك هذا المحور الأمريكي للضغط على سوريا ولبنان، تحت أكثر من حجّة وحجّة لا مصداقية لها في الحقوق المشروعة، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ من هذين البلدين، التنازل لإسرائيل عن الموقف المساند للفلسطينيين، وعن الإصرار على انسحابها من الأراضي الفلسطينية، إضافةً إلى الأراضي اللبنانية والسورية، لأن أمريكا لا تسمح لأيّ بلد في المناطق المحيطة بفلسطين أن يكون له أيّ حق لدى الكيان الصهيوني، فالحق كله ـ عندهم ـ لإسرائيل، وليس لأيّ بلد في المنطقة إلا الخضوع لما يخطِّط له العدو.

ولذلك، فإنَّ أمريكا ـ ومعها فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوروبي ـ تضغط بكلِّ قوة على سوريا ولبنان لتنفيذ القرار 1559 باسم احترام الشرعية الدوليّة، الذي يعرف الجميع خلفيّاته الإسرائيلية، ولكنها ليست مستعدّة للضغط على إسرائيل لتنفيذ القرارات 242 و338 و194، التي كانت أمريكا من الدول التي صوّتت عليها.

إنَّ أمريكا معروفة بالتنكّر لأيّ قرار يتَّصل بالحقِّ العربي لدى إسرائيل، ولهذا لاحظنا كيف أنّها ـ في موقف الرئيس بوش ـ تنكر على الفلسطينيين المطالبة بحقِّ العودة وتنفيذ قرار الانسحاب من الأراضي المحتلّة في الـ67، وقرار الأمم المتحدة في إزالة المستوطنات والجدار العنصري.

إنَّ المناخ الجديد الذي يحاول الوضع الدولي والعربي إثارته في المنطقة، باسم السعي نحو السلام في حل أزمة الشرق الأوسط ـ كما يسمّونها ـ لا يراد منه إلا تنفيذ الخطط الصهيونية الأمريكية على حساب الفلسطينيين، باسم الواقعية والمتغيّرات السياسية والجغرافية والأمنية. وهذا هو ما يُراد له تحريك اللعبة في الانتخابات الفلسطينية الرئاسية التي يريدها الشعب الفلسطيني حركةً من أجل التحرير، وتريدها أمريكا وإسرائيل حركةً من أجل إسقاط الانتفاضة، وتشريع الخضوع والاستسلام للاستراتيجية الإسرائيلية في احتواء الأرض الفلسطينية، والسيطرة على المستقبل الفلسطيني بشكل مباشر أو غير مباشر.

وفي هذا الجو، فقد تحدثت وسائل الإعلام عن أن هناك مخططاً إسرائيلياً لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وسوريا ولبنان، على أن يتولّى المجتمع الدولي عملية التمويل، ويؤكد وزير خارجية العدو أنه "يجب إزالة أسس العداء بإلغاء حقّ العودة"، ويبشّر بـ"تحالف القوى الإيجابية في الشرق الأوسط" ـ على حدّ تسميته ـ بالسير في المخطط الصهيوني لإخضاع الشعب الفلسطيني للقبول بذلك.

لماذا لا ترفضون التوطين؟

والسؤال الآن للّبنانيين ـ معارضةً وموالاةً ـ الذين يتحدّثون عن الشرعية الدولية في القرار 1559، ويصرخون برفض التوطين بكل حماس: لماذا لا يرفعون الصوت عالياً بمواجهة الخطة الإسرائيلية ـ الدولية ـ العربية الجديدة ذات الآليات الواقعية، لتطبيق قرارات الشرعية الدولية المانعة للتوطين، والتي هي المدخل لتنفيذ القرار الأخير، أم أن المسألة هي أنه يجوز عندنا في الواقع السياسي الضاغط لنا ما لا يجوز لإسرائيل.. إن رفض التوطين الذي يؤدي إلى الخطر على لبنان، لا بد أن يبقى هو الصوت الوحيد في المتغيّرات الحاضرة والمستقبلية في الخطة الإسرائيلية، بحيث يكون هو الشغل السياسي الكبير إلى جانب إزالة الاحتلال الإسرائيلي.

إنَّ القضية الفلسطينية هي أمّ القضايا التي تتحدَّى الواقع العربي والإسلامي كلّه، ولا سيّما أن بعض الدول العربية قد بدأ عملية التطبيع الاقتصادي في عمليّة تبريرٍ لاتفاق اقتصادي جديد مع العدوّ، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الشعب الفلسطيني يتعرّض لتهديم كل اقتصاده وبنيته التحتية من أجل حريته واستقلاله. بعض الدول العربية يفكر ببعض الملايين من الدولارات في علاقته بالعدوّ، ولكنه لا يفكر في خسارة المستقبل العربي كلّه بإزاء ذلك. فمتى يستيقظ هؤلاء الذين يمثّل موقعهم امتداد تاريخ الثورة العربية التي سقطت تحت أقدام الغزاة والمستكبرين؟!

إننا نقول للأمَّةِ كلّها، وللفلسطينيين بشكل خاص: إنَّ المسألة ليست مسألة انفعال في الحركة في خط المواجهة، ولكن عليها أن لا تخضع للخطط الدولية الضاغطة باسم المتغيّرات الدولية والواقعية السياسية، فإن التحرير هو الذي يؤكِّد للأمة معناها، "وما ضاع حق وراءه مطالب".

العراق: بين دوامتين:

أما العراق، فهو غارق في دوّامتين: دوّامة الفوضى الأمنية التي تتحرك فيها الجرائم التي تستهدف العدوان على المقدّسات وعلى الأبرياء، وقد كان آخرها الاعتداء بالتفجير الآثم الوحشي على مقام الإمام الحسين(ع) الذي حصد كثيراً من الضحايا من القتلى والجرحى، ما قد يوحي ببعض الخلفيات التكفيرية المعقّدة التي تخطِّط لإيجاد حالة طائفية مذهبية نخشى من تطوّرها إلى ردَّةِ فعل غاضبة مماثلة، الأمر الذي قد يؤدي بالعراق إلى وضعٍ لا تحمد عقباه... ولذلك، نريد أن نؤكد على كل العقلاء من العراقيين، أن يبحثوا عن الخلفيّات الكامنة وراء هؤلاء، الّذين مهما أعطوا أنفسهم أية صفة لمواجهة الاحتلال، فإنهم يتحرَّكون بالتخطيط من قِبَل الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية.

إنَّ المشكلة الحقيقية للعراق هي الاحتلال الذي لا بد من إيجاد خطة مدروسة واعية لمواجهته، بالدرجة التي توحِّد الشعب العراقي لتحقيق هذا الهدف الكبير الذي سوف يهتزُّ أمام الأحداث الدامية التي تقتل من الشعب العراقي أكثر مما تقتل من المحتلّ، ولا سيما في الأماكن المقدّسة التي تثير المشاعر وتؤدّي إلى الأخطار..

أما الدوّامة الأخرى، فهي الانتخابات التي هي ضرورة للشعب العراقي في استقلاله، ولكننا نخشى من سيطرة قوَّات الاحتلال عليها، فتنحرف عن مسارها التحريري الذي يخطط لعراق حرّ مستقل حضاري موحَّد جديد، الأمر الذي يفرض على القيادات الطليعيّة الواعية ـ ولا سيّما الإسلامية ـ أن تفتح عيونها وعقولها على الخلفيّات التي تحاول أن تصنع عراقاً مسانداً للاستراتيجية الأمريكية التي تتحدث عن عراق الحرية والديمقراطية على طريقة "كلمة حق يُراد بها باطل".

لبنان بين الطائفية والشخصانيّة:

أما لبنان، فإنه غارق في الأساليب السياسية المتحركة بين الطائفية والشخصانية، في أكثر من خلفيّة عصبيّة تتمثّل في الكلمات الحادّة التي توحي بالمستوى اللاأخلاقي الذي يثيره هذا الفريق أو ذاك، والمغلَّف بغلاف الوطنية.

إننا نقول للّبنانيين من الحكومة والمعارضة والموالاة: لماذا هذا الإلحاح على توسيع الهوّة بين اللبنانيين، في مناخ تتحرَّك فيه العواصف الأمنية والسياسية لتجتاح المنطقة كلها، وفي حالات إنسانية يصرخ فيها إنسانها صرخات الجوع والظلام والحرمان والعطش والضياع؟ وهل أُغلقت أبواب الحوار الذي يدور بينكم في المآدب بالضحكات والقفشات والمجاملات، ولكنه عندما يقترب من الجدّية ومن الوطن ومن القضايا المصيرية، فإنه يتحوّل إلى رصاص من الكلمات الحادَّة الحاقدة التي تحوّل كل فريق إلى خائن لدى الفريق الآخر؟

ويطلع الصباح، ولا يبقى أمام هذا الجدل البيزنطي إلا التوطين، والتخوين، والأصوات الضائعة في الفراغ، والزعامات التي تبحث عن امتيازاتها الانتخابية، والتاريخ الذي يعيد نفسه.. "ساعد الله لبنان".

لأن العدل أساس الرسالات: لنجعل حياتنا حركة عدل مع الله والناس...


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

العدل أساس الرسالات:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}، وقال سبحانه وهو يحدّثنا عن موسى(ع) في دعائه: {قال ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين}.

لم يهتمّ القرآن الكريم بقيمةٍ أخلاقيّة في جانبيها الإيجابي والسلبي كما اهتم بقيمة العدل، باعتباره أساس الرسالات، لأنَّه هو الذي يحفظ للإنسان إنسانيته، وهو الذي يحمي المجتمع من نفسه في علاقة أفراده بعضهم ببعض، وهو الذي يحقِّق التّوازن له في علاقات الحاكم بالمحكومين، وفي علاقات المحكومين بالحاكم، وفي خطوط العلاقة بين القوانين وتنفيذها. بالعدل تنتشر البركة في الناس، ويقوى المجتمع في كل عناصر وجوده وحركته.

وقد حدّثنا الله تعالى في كتابه الكريم عن ذلك في قوله تعالى في سورة الحديد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}، وقيام النَّاس بالقسط هو قيامهم بالعدل. إنَّ معنى هذه الآية أن كل الرسالات، منذ عهد آدم(ع) إلى نبيّنا محمد (ص)، وأنّ كل الكتب، من صحف إبراهيم وموسى وعيسى(ع) ومحمد(ص)، وكل الموازين التي تزن للناس أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم، إنما وجدت من أجل هدف واحد، ألا وهو قيام الناس بالقسط.

وعلى ضوء هذا، أكَّد الإسلام العدل في الحياة كلّها، مع النفس ومع الله، مع العدوّ ومع القريب، حتى مع الحيوانات، لأن ذلك هو الذي أراد الله تعالى للحياة أن تقوم عليه.

وفي مقابل العدل، هناك الظلم الذي تختصره كلمة واحدة، وهي أن لا تعطي لكل صاحب حقٍّ حقه؛ أن لا تعطي لنفسك حقها في ما يحقِّق لها سلامة الحياة وراحتها ونجاتها في مصيرها. أن لا تظلم ربَّك؛ وظلم الله يعني أن لا تعطيه حقَّه في توحيده في العقيدة والطاعة والعبادة، وأن لا تظلم الناس حقوقهم، سواء كان الحق مالياً أو غير ذلك، سواء في بيتك مع عيالك، أو في محلّتك مع جيرانك ومع الناس الذين يتعاملون معك وتتعامل معهم، أو في كل مواقع الحياة؛ أن لا تكون الظالم، لأن الله لا يحبّ الظالمين، ولأنّه يعاقبهم، فالحساب في يوم القيامة، مقدمته هي حساب المظلومين مع الظالمين، ويقال إنّ كل مظلوم يقف يوم القيامة مع ظالمه ويقول: يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين فلان فقد ظلمني حقي، في أي شأن من شؤون الظلم المتنوّع في علاقات الناس بعضهم ببعض. وقد تكون قوياً الآن فتظلم الضعيف في بيتك أو محلتك أو موقعك، قد تنتفخ بعناصر القوة، ولكن ماذا تفعل غداً {يوم يقوم الناس لربّ العالمين}، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً}، وشعار يوم القيامة: {اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم}، فإذا كنتم أيها الناس تظلمون بعضكم بعضاً في الدنيا لأن هناك قوياً وضعيفاً، ولكن يوم القيامة ليست هناك قوّة إلا قوّة الله، والناس سواسية، فالحق أكبر من كلِّ الكبار، تلك هي المسألة التي يريدنا الله تعالى أن نعيشها ونربي أنفسنا عليها.

تنوّع الظلم:

والظلم متنوّع، عندما تغتاب إنساناً وتفضح سرَّه وعيبه فأنت ظالم له، لأنك خدشت كرامته، وهكذا عندما تقوم بالنَّميمة بين شخصٍ وآخر لتزرع الفتنة وتخرَّب العلاقة بينهما، لتفرّق زوجاً عن زوجه، وأخاً عن أخيه، فأنت ظلمتهما وظلمت المجتمع من خلال تأثيرات تلك الفتنة، وأنت ظالمٌ للناس عندما تغشّهم في معاملاتك وتأكل أموالهم بالباطل، وأنت ظالم لهم عندما تسقط كراماتهم وتشهّر بهم بما لم يعملوه ويقولوه لتسقط شأنهم بين الناس. ومن الظلم أيضاً أن تسبّ زوجتك أو أولادك أو أن تسبَّ الزوجة زوجها أو أيّ قريب لها من أرحامها وجيرانها. والله تعالى يريد للإنسان أن يمتنع عن ذلك كله، ليعطي كلّ ذي حق حقه، "عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به"، هل تحبّ أن يسبّك الناس أو أن يسيئوا إلى كرامتك أو يشهّروا بك؟ إذا كنت لا ترضى ذلك لنفسك، فلماذا ترضاه للناس؟

صنع الظالمين:

وقد ورد عن الإمام عليّ(ع) في وصيته لولده الحسن(ع): «يا بنيّ، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها». إن الإسلام يريد منك أن تكون أنت الآخر، بحيث تتقمّص شخصيّته، كما لو كنت أنت هو وهو أنت.

ويؤكّد الله تعالى مسألةً، وهي أنَّ القضيّة في التشريع الإسلامي ليست هي قضية المظلوم والظالم بما يترتّب من أثار في فعل الظالم وردة فعل المظلوم، ولكن المسألة هي مسألة المجتمع، فالظالم لا يملك قوة ذاتية، لأنّه قد يكون شخصاً واحداً، ولكن الذين يؤيّدونه ويدعمونه ويقوّونه وينتخبونه ويرفعونه على أكتافهم، هم الذين يعطونه القوة. هو شخص وعشيرته تمثِّل عشرة آلاف، فأصبح يساوي عشرة آلاف، أو الذين يؤيّدونه مئة ألف، فإن حجمه أصبح بقوة المئة ألف، أنت تعطيه قوّةً بصوتك ومالك، نحن الذين نجعل الإنسان طاغية عندما نمكّن له أسباب الطغيان، لأننا نعطيه قوّةً منا، من خلال صوتك وسلاحك وحضورك المهرجان... وإلا فإن الظالم هو شخص مثل عباد الله. ولذلك فإن الله تعالى قال للذين يركنون للظالمين ويساعدونهم ويؤيدونهم، إنكم تدخلون النار معهم، فكلُّ ما فعله الظالم أنت شريك فيه: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ـ وهو الاستسلام إليهم وتأييدهم وموالاتهم ـ فتمسّكم النار وما لكم من دون الله ـ إذا استغرقتم للظالم واستسلمتم لقوّته وأوضاعه ونسيتم ربكم ـ من أولياء يوم القيامة ثم لا تُنصرون}.

وقد أكّد النبي موسى(ع) في طريقة الشكر لله على النعم التي أنعم بها عليه: {ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً ـ معاوناً ومساعداً ـ للمجرمين}، فلو فرضنا أن هناك شخصاً ظالماً، وكان من أقربائنا، فهل نساعده أم لا؟ هل نجمع له مالاً من العشيرة والحزب والحركة لنخلّصه من العقاب أم لا؟ إذا ظلم إنسان زوجته وكان ولدنا أو أبانا أو قريباً لنا، فهل ندافع عنه أم لا؟ وهكذا عندما نكون من حزب معين أو حركة أو طائفة معيّنة، ورأينا أن شخصاً من حزبنا أو حركتنا أو طائفتنا ظلم شخصاً من غير حزبنا أو حركتنا أو طائفتنا، فهل ندافع عنه أم لا؟ وقد ورد عن الإمام زين العابدين(ع): «إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم».

وقد ورد عن النبي (ص): «من مشى مع ظالم ـ أي ساعده في ظلمه ومشاريعه ـ فقد أجرم». ويقول (ص): «من أعان ظالماًَ على ظلمه، جاء يوم القيامة وعلى جبهته مكتوب: آيس من رحمة الله». وفي حديث آخر عنه (ص): «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام»، لأن الإسلام ليس صلاة وصوماً فقط، بل هو حركة عدل مع الناس ومع الحياة. وعن الإمام الرضا(ع): «من أعان ظالماً فهو ظالم، ومن خذل ظالماً فهو عادل»، وفي الحديث عن النبي (ص): «من أعان ظالماً سلّطه الله عليه»، وعن الإمام الصادق(ع): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم».

وفي الجانب الآخر، عليك أن تكون مع المظلوم ضدَّ الظالم، وهي آخر وصية للإمام عليّ(ع) لولديه الحسنين(ع) وكلّ من بلغه كتابه: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»، وعن النبي (ص): «من أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً»، وعن الإمام عليّ(ع): «أحسن العدل نصرة المظلوم». ونقرأ مع الإمام زين العابدين(ع): «اللهم إني اعتذر إليك من مظلوم ظُلم في حضرتي ولم أنصره».

إن الإسلام يفرض على الإنسان ـ بحسب قدرته وموقعه ـ أن يكون قوة للمظلوم ضد الظالمين، وأن يكون ممن ينشر العدل، فيعدل مع نفسه ومع ربه ومع الناس من حوله، لأن ذلك هو الذي يقرّب الإنسان من الله ويرفع درجته عنده، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في كلِّ أموركم، وكونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، وواجهوا كلَّ الظالمين الذين يظلمون الناس في كلِّ أمورهم، ويعملون على مصادرة أمنهم وثرواتهم وثقافتهم واقتصادهم، من أجل أن يسقطوا الناس في إنسانيّتهم، تحت شعارات خادعة كاذبة منافقة. كونوا الأحرار ضد الذين يريدون أن يستعبدوكم، كونوا الأقوياء ضد الذين يريدون أن يستضعفوكم، لأنَّ الله لا يريد للإنسان أن يذلّ نفسه ويستضعفها ويستعبدها، لذلك لا بد لنا من أن نأخذ بأسباب القوّة والعزّة والكرامة، وذلك بأن نأخذ بأسباب الوحدة في كلِّ صراعاتنا مع الآخرين، لأن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، ولا سيّما أننا نمرّ في مرحلتنا هذه بأقسى ما مرَّت به أمّتنا في تاريخها من مواجهة في صراعاتها ضد المستكبرين الذين يبغون على الناس بغير الحق، سواء في المواقع القريبة أو البعيدة عن منطقتنا، لأن المسألة هي أن المستكبرين يعملون على محاصرة الإسلام في العالم كلّه، فماذا هناك:

المحاور الدولية تتحرك بخلفيّات صهيونية:

لا تزال القضية الفلسطينية موضع تجاذب سياسي وأمني على الصعيد الدولي، ولا سيّما الأمريكي الذي يطوِّق المنطقة العربية والإسلامية بحزام من الضغوط السياسية التي يضغط بها على إيران في مشروعها النووي السلمي، وفي سياستها المتوازنة في المسألة العراقية، من أجل دفعها إلى التنازل عن موقفها الاستراتيجي في دعم الشعب الفلسطيني ورفض الاحتلال الصهيوني.

كما يتحرَّك هذا المحور الأمريكي للضغط على سوريا ولبنان، تحت أكثر من حجّة وحجّة لا مصداقية لها في الحقوق المشروعة، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ من هذين البلدين، التنازل لإسرائيل عن الموقف المساند للفلسطينيين، وعن الإصرار على انسحابها من الأراضي الفلسطينية، إضافةً إلى الأراضي اللبنانية والسورية، لأن أمريكا لا تسمح لأيّ بلد في المناطق المحيطة بفلسطين أن يكون له أيّ حق لدى الكيان الصهيوني، فالحق كله ـ عندهم ـ لإسرائيل، وليس لأيّ بلد في المنطقة إلا الخضوع لما يخطِّط له العدو.

ولذلك، فإنَّ أمريكا ـ ومعها فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوروبي ـ تضغط بكلِّ قوة على سوريا ولبنان لتنفيذ القرار 1559 باسم احترام الشرعية الدوليّة، الذي يعرف الجميع خلفيّاته الإسرائيلية، ولكنها ليست مستعدّة للضغط على إسرائيل لتنفيذ القرارات 242 و338 و194، التي كانت أمريكا من الدول التي صوّتت عليها.

إنَّ أمريكا معروفة بالتنكّر لأيّ قرار يتَّصل بالحقِّ العربي لدى إسرائيل، ولهذا لاحظنا كيف أنّها ـ في موقف الرئيس بوش ـ تنكر على الفلسطينيين المطالبة بحقِّ العودة وتنفيذ قرار الانسحاب من الأراضي المحتلّة في الـ67، وقرار الأمم المتحدة في إزالة المستوطنات والجدار العنصري.

إنَّ المناخ الجديد الذي يحاول الوضع الدولي والعربي إثارته في المنطقة، باسم السعي نحو السلام في حل أزمة الشرق الأوسط ـ كما يسمّونها ـ لا يراد منه إلا تنفيذ الخطط الصهيونية الأمريكية على حساب الفلسطينيين، باسم الواقعية والمتغيّرات السياسية والجغرافية والأمنية. وهذا هو ما يُراد له تحريك اللعبة في الانتخابات الفلسطينية الرئاسية التي يريدها الشعب الفلسطيني حركةً من أجل التحرير، وتريدها أمريكا وإسرائيل حركةً من أجل إسقاط الانتفاضة، وتشريع الخضوع والاستسلام للاستراتيجية الإسرائيلية في احتواء الأرض الفلسطينية، والسيطرة على المستقبل الفلسطيني بشكل مباشر أو غير مباشر.

وفي هذا الجو، فقد تحدثت وسائل الإعلام عن أن هناك مخططاً إسرائيلياً لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وسوريا ولبنان، على أن يتولّى المجتمع الدولي عملية التمويل، ويؤكد وزير خارجية العدو أنه "يجب إزالة أسس العداء بإلغاء حقّ العودة"، ويبشّر بـ"تحالف القوى الإيجابية في الشرق الأوسط" ـ على حدّ تسميته ـ بالسير في المخطط الصهيوني لإخضاع الشعب الفلسطيني للقبول بذلك.

لماذا لا ترفضون التوطين؟

والسؤال الآن للّبنانيين ـ معارضةً وموالاةً ـ الذين يتحدّثون عن الشرعية الدولية في القرار 1559، ويصرخون برفض التوطين بكل حماس: لماذا لا يرفعون الصوت عالياً بمواجهة الخطة الإسرائيلية ـ الدولية ـ العربية الجديدة ذات الآليات الواقعية، لتطبيق قرارات الشرعية الدولية المانعة للتوطين، والتي هي المدخل لتنفيذ القرار الأخير، أم أن المسألة هي أنه يجوز عندنا في الواقع السياسي الضاغط لنا ما لا يجوز لإسرائيل.. إن رفض التوطين الذي يؤدي إلى الخطر على لبنان، لا بد أن يبقى هو الصوت الوحيد في المتغيّرات الحاضرة والمستقبلية في الخطة الإسرائيلية، بحيث يكون هو الشغل السياسي الكبير إلى جانب إزالة الاحتلال الإسرائيلي.

إنَّ القضية الفلسطينية هي أمّ القضايا التي تتحدَّى الواقع العربي والإسلامي كلّه، ولا سيّما أن بعض الدول العربية قد بدأ عملية التطبيع الاقتصادي في عمليّة تبريرٍ لاتفاق اقتصادي جديد مع العدوّ، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الشعب الفلسطيني يتعرّض لتهديم كل اقتصاده وبنيته التحتية من أجل حريته واستقلاله. بعض الدول العربية يفكر ببعض الملايين من الدولارات في علاقته بالعدوّ، ولكنه لا يفكر في خسارة المستقبل العربي كلّه بإزاء ذلك. فمتى يستيقظ هؤلاء الذين يمثّل موقعهم امتداد تاريخ الثورة العربية التي سقطت تحت أقدام الغزاة والمستكبرين؟!

إننا نقول للأمَّةِ كلّها، وللفلسطينيين بشكل خاص: إنَّ المسألة ليست مسألة انفعال في الحركة في خط المواجهة، ولكن عليها أن لا تخضع للخطط الدولية الضاغطة باسم المتغيّرات الدولية والواقعية السياسية، فإن التحرير هو الذي يؤكِّد للأمة معناها، "وما ضاع حق وراءه مطالب".

العراق: بين دوامتين:

أما العراق، فهو غارق في دوّامتين: دوّامة الفوضى الأمنية التي تتحرك فيها الجرائم التي تستهدف العدوان على المقدّسات وعلى الأبرياء، وقد كان آخرها الاعتداء بالتفجير الآثم الوحشي على مقام الإمام الحسين(ع) الذي حصد كثيراً من الضحايا من القتلى والجرحى، ما قد يوحي ببعض الخلفيات التكفيرية المعقّدة التي تخطِّط لإيجاد حالة طائفية مذهبية نخشى من تطوّرها إلى ردَّةِ فعل غاضبة مماثلة، الأمر الذي قد يؤدي بالعراق إلى وضعٍ لا تحمد عقباه... ولذلك، نريد أن نؤكد على كل العقلاء من العراقيين، أن يبحثوا عن الخلفيّات الكامنة وراء هؤلاء، الّذين مهما أعطوا أنفسهم أية صفة لمواجهة الاحتلال، فإنهم يتحرَّكون بالتخطيط من قِبَل الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية.

إنَّ المشكلة الحقيقية للعراق هي الاحتلال الذي لا بد من إيجاد خطة مدروسة واعية لمواجهته، بالدرجة التي توحِّد الشعب العراقي لتحقيق هذا الهدف الكبير الذي سوف يهتزُّ أمام الأحداث الدامية التي تقتل من الشعب العراقي أكثر مما تقتل من المحتلّ، ولا سيما في الأماكن المقدّسة التي تثير المشاعر وتؤدّي إلى الأخطار..

أما الدوّامة الأخرى، فهي الانتخابات التي هي ضرورة للشعب العراقي في استقلاله، ولكننا نخشى من سيطرة قوَّات الاحتلال عليها، فتنحرف عن مسارها التحريري الذي يخطط لعراق حرّ مستقل حضاري موحَّد جديد، الأمر الذي يفرض على القيادات الطليعيّة الواعية ـ ولا سيّما الإسلامية ـ أن تفتح عيونها وعقولها على الخلفيّات التي تحاول أن تصنع عراقاً مسانداً للاستراتيجية الأمريكية التي تتحدث عن عراق الحرية والديمقراطية على طريقة "كلمة حق يُراد بها باطل".

لبنان بين الطائفية والشخصانيّة:

أما لبنان، فإنه غارق في الأساليب السياسية المتحركة بين الطائفية والشخصانية، في أكثر من خلفيّة عصبيّة تتمثّل في الكلمات الحادّة التي توحي بالمستوى اللاأخلاقي الذي يثيره هذا الفريق أو ذاك، والمغلَّف بغلاف الوطنية.

إننا نقول للّبنانيين من الحكومة والمعارضة والموالاة: لماذا هذا الإلحاح على توسيع الهوّة بين اللبنانيين، في مناخ تتحرَّك فيه العواصف الأمنية والسياسية لتجتاح المنطقة كلها، وفي حالات إنسانية يصرخ فيها إنسانها صرخات الجوع والظلام والحرمان والعطش والضياع؟ وهل أُغلقت أبواب الحوار الذي يدور بينكم في المآدب بالضحكات والقفشات والمجاملات، ولكنه عندما يقترب من الجدّية ومن الوطن ومن القضايا المصيرية، فإنه يتحوّل إلى رصاص من الكلمات الحادَّة الحاقدة التي تحوّل كل فريق إلى خائن لدى الفريق الآخر؟

ويطلع الصباح، ولا يبقى أمام هذا الجدل البيزنطي إلا التوطين، والتخوين، والأصوات الضائعة في الفراغ، والزعامات التي تبحث عن امتيازاتها الانتخابية، والتاريخ الذي يعيد نفسه.. "ساعد الله لبنان".

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير