الإسلام دين الرسالات...

الإسلام دين الرسالات...

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:




الإسلام دين الرسالات...

الإسلام في معناه التوحيدي:
يقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ}(آل عمران/19). ويقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}(آل عمران/85).

الإسلام، في معناه الواسع، هو الدّين الواحد الذي يشمل كلّ الرسالات، لأن الإسلام في معناه التوحيدي، هو أن يسلم الإنسان وجهه وعقله وقلبه وحياته لله، فلا يكون في ذاته أيّ وجود إلاّ الله، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى}(لقمان/22)، فالإنسان الذي يُسلم وجهه لله، يعني أنه يُسلم وجوده وذاته وشخصه، وكلَّ حياته له، بحيث يكون كلّه في يد الله لا في يد غيره، خاضعاً له لا لغيره.

فكلّ دين أرسل الله به رسله يتضمَّن معنى الإسلام، وقد أراد الله سبحانه للرسل أن يعلّموا الناس أن يسلموا أمرهم إليه، فلا يكون في حياتهم أيّ شيء شخصي لأنفسهم، وهذا ما عبّر عنه إمام المتقين أمير المؤمنين(ع) عندما كان يخاطب أصحابه في زمن خلافته: «وليس أمري وأمركم واحداً؛ إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم»، فأنا أريدكم أن تكونوا موحِّدين لله، عابدين مطيعين خاضعين له، بحيث تكون أموركم كلّها تحت أمر الله ونهيه.

وقد بدأت كلمةُ الإسلام منذ إبراهيم(ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}، كُن بكلِّ وجودك لي، فاستجاب لربه، {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة/131)، فأنا مسلمٌ لله بكلِّ وجودي، فلا أحد يشارك الله في هذا الوجود، ولا أراقب أحداً أمام مراقبتي لله. وهذا ما عبّرت عنه أيضاً الآية الكريمة: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ـ عندما أعبد الله في حجي وغيره ـ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ـ فأنا أحيا لتكون كل حياتي لله، وأنا عندما يأتيني الموت فإن موتي يكون في سبيل الله ـ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}(الأنعام/162-163).

ولن يقتصر هذا الإيمان الإسلامي على إبراهيم(ع) في ذاته، بل إنه أوصى به بنيه، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(البقرة/132)، لتكن كلّ حياتكم في كل تفاصيلها وامتدادها، في كلِّ أقوالها وأفعالها ومعاملاتها، لتكن لله إلى أن يأتيكم الموت. وهكذا جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران/102).

وقد كانت أمنية النبي يوسف(ع): {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(يوسف/101)، بمعنى أنني أدعوك يا رب عندما تأتيني الوفاة، أن تأتيني وأنا مسلم، خالص الإيمان لك، حتى عندما أقف بين يديك يوم القيامة، أقف بإسلامي هذا لك. {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ـ عندما كان يتحدث مع أولاده، يسألهم: عندما أموت من تعبدون من بعدي؛ هل تعبدون الأوثان كما تعبدها أقوامكم ـ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(البقرة/133). كان يريد أن يطمئن على أولاده من بعده، وأنّهم يسيرون في خطِّ الإسلام لا في خطِّ الضلال.

وهذا هو الذي أوصى به الله سبحانه وتعالى نبيّه والمسلمين: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ـ يعني مائلاً عن الباطل ـ فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(الرُّوم/30)، {صِبْغَةَ اللهِ ـ وهو الإسلام الذي صبغ الله به شخصية المؤمنين من عباده ـ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}(البقرة/138).

صفات المسلم:
وهكذا جاء عن الإمام علي(ع): «إنَّ هذا الإسلام دين الله الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه»، وعندما كان يصف(ع) رسول الله(ص) بقوله: «أرسله بحجَّةٍ كافية، وموعظةٍ شافية، ودعوة متلافية، أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبيّن به الأحكام المفصولة، فمن يبتغ غير الإسلام ديناً تتحقَّق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته، ويكون مآبه إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل».

وقد وردت بعض الأحاديث عن رسول الله(ص) في تحديد من هو المسلم من خلال علاقته بالمسلم الآخر أو بالمسلمين الآخرين؛ فهل يُكتفى في إسلام المسلم بأن يشهد الشّهادتين، وأن يؤدي صلاته وصيامه وحجَّه وعمرته وزكاته، أو أن الإسلام في حركة العلاقات بين المسلمين هو أوسع من ذلك؟ فقد ورد عن الرسول(ص): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».

ويقول (ص): «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله»، «المسلم مرآة المسلم»، بحيث يرى المسلم في أخيه المسلم المرآة التي تبيّن له عيوبه ونقائصه، وما إلى ذلك.

وقد حدّثنا رسول الله(ص) عن المجتمع المسلم: «المسلمون يدٌ على من سواهم ـ يتَّحدون عندما يواجههم الأعداء، فيكونون يداً واحدة عليهم ـ تتكافأ دماؤهم ـ فليس دم مسلم أغلى من دم مسلم آخر. ولذلك فرض الله القصاص على المسلمين عندما يقتل مسلمٌ مسلماً آخر ظلماً وعدواناً، سواء كان القاتل إنساناً حقيراً أو كان إنساناً عظيماً، وهذا ما تمثِّله عظمة الموقف في سلوك الإمام علي(ع) عندما ضربه ابن ملجم واغتاله، فقال لبني عبد المطلب، وهم عشيرته الأقربون: «يا بني عبد المطَّلب، لا ألفيَّنكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قُتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلنَّ بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: إيَّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور».

ومن هو ابن ملجم أمام الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)؟! ومع ذلك، نرى أنَّ علياً(ع) كان يريد أن يؤكّد الخطَّ الإسلامي في هذه المواقف، وهو أنّ القصاص ينال القاتل وحده حتى لو كان القاتل حقيراً والمقتول عظيماً. يقول النبي(ص): «المسلمون إخوة، لا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى». وأيضاً ورد عن رسول الله(ص): «الإسلام ثلاثة أبيات: سفلى وعليا وغرفة، فأما السفلى، فالإسلام دخل فيه عامة المسلمين فلا تسأل أحداً منهم إلاّ قال: أنا مسلم. وأما العليا فتتفاضل أعمالهم...، وأما الغرفة العليا، فالجهاد في سبيل الله لا ينالها إلاّ أفضلهم».

وجاء عن أمير المؤمنين علي(ع): «لأنسبنّ الإسلام نسبةً لم ينسبها أحدٌ قبلي ولا ينسبه أحد بعدي؛ الإسلام هو التسليم، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الأداء، والأداء هو العمل».

إسلام النّصرة والعزة والكرامة:
وفي جانب آخر، ورد الحديث عن الرسول(ص) في تضامن المسلمين واهتمامهم بأمور بعضهم البعض: «من أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس بمسلم»، كبعض الناس عندما تحصل فتن أو مشاكل بين المسلمين، لا يتدخَّل، ويعتبر أنّ ما يحصل لا يعنيه، ولكنّ هذا غير جائز، لأنَّ على المسلم أن يعتبر نفسه جزءاً من الأسرة الإسلامية، فيهتم بأمور المسلمين ليشعر بأنَّ أمورهم هي أموره، «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهر والحمَّى».

وورد عنه(ص) أيضاً: «من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين ـ إذا كان هناك مسلم يتعرَّض للعدوان، أو شعب مسلم يتعرَّض للعدوان، ونادى المسلمين أن ينصروه، فإذا لم يجيبوه ـ فلم يجبه فليس بمسلم» يخرجون من صفة الإسلام.

وعلى ضوء هذا، فإنّ الإسلام يفرض على كلِّ المسلمين أن يقفوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، لينصروا بعضهم بعضاً بكلّ ما عندهم من طاقة، ومن لم يقم بذلك، فإنّه يخرج عن الإسلام بعضهم بعضاً، لأنّ الإسلام يمثِّل وحدةً في الموقف، ووحدةً في النصرة والعزة والحرية والكرامة.

ولعلَّ أسوأ ما هناك، أنّ البعض من المسلمين، وخصوصاً من هم في موقع السلطة، ينصرون غير المسلمين على المسلمين، وهو ما نراه في بعض مسؤولي الدول العربية والإسلامية، الذين ينصرون اليهود على المسلمين، وهذا ما قام به هؤلاء عندما وقفوا مع اليهود ضد المقاومة في حرب تموز 2006، وكيف أنّ الكثير من حكام المسلمين يقفون مع أمريكا وإسرائيل ويقفون مع كل الدول التي تحارب المسلمين وتضطهدهم.

إن هؤلاء ليسوا مسلمين بمعنى الإسلام القويّ والإسلام الواحد، وإنّما هم يقفون في البيت الأول من الإسلام، وهو البيت الأسفل الذي لا يخرج عن حدود الشهادتين من دون الالتزام بإسلام القوة وإسلام الحرية وإسلام العدالة وإسلام العزَّة والكرامة.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

 

عباد الله، اتَّقوا الله، وواجهوا الموقف من موقعٍ واحد يتحدَّى الآخرين الذين يقفون من أجل إسقاط الإسلام والمسلمين، ويحفظ الأمّة في مواجهة الهجمة الاستكبارية العسكرية والاقتصادية والسياسية والأمنية، فماذا هناك:

الموقف الفرنسي: دولة إسرائيل معجزة القرن العشرين:
في دلالة على مستوى الانحطاط في المنطق الدولي، يُطالعنا الرئيس الفرنسي ساركوزي بمقولته الفريدة، أنّ قيام دولة إسرائيل معجزة، وهي الحدث الأهمّ في القرن العشرين.

لقد كنّا نتصوّر أنّ فرنسا لا تزال وفيّةً للمبادئ التي انطلقت بها ثورتها، في تأكيد الحرّية الإنسانيّة للشعوب، ورفض المجازر الوحشيّة التي يقوم بها شعب ظالمٌ ضدّ شعبٍ مظلوم، وكنّا نحسب أنّ هذه الدولة الأوروبّية قد ابتعدت عن دعم سياسة السيطرة والهيمنة على الشعوب، ومصادرة حرّياتها، ممّا لاحظناه في رفضها الاحتلال الأمريكي للعراق...لكنها اليوم تدعم هذه السياسة، وخصوصاً في دعمها لإسرائيل التي قامت على أساس تشريد شعبٍ من أرضه، بفعل المجازر الوحشيّة التي قام بها اليهود تحت إشراف الاحتلال البريطاني.

وإنّنا نسأل هذا الرئيس: هل بات تدمير الشعوب وتشريدها من أوطانها هو الحدث الأهمّ في القرن العشرين؟! وهل إنّ المعاجز تحوّلت إلى أمثال هذه الأوضاع المدمّرة لحقوق الإنسان بما لا يتصوّره عقل أو وجدان؟!

ثمّ نتساءل: لماذا لم تمنح أوروبا ـ ومنها فرنسا ـ اليهود دولةً على أراضيها ما دامت هي التي تُحمّل نفسها مسؤوليّة مآسيه في عهد النازيّة وغيرها؟ ولماذا يُحمّل الشعب الفلسطيني، والعرب والمسلمون، مسؤوليّة وحشيّة أوروبا ضدّ اليهود؟

فلسطين: لإسقاط الفتنة الداخلية:
ومن جهة أخرى، فإنّ الجميع يعرفون أنّ القنبلة النووية الإسرائيليّة كانت بفعل المساعدة الفرنسيّة، وبعض الدول الأوروبّية امتداداً إلى أمريكا، وإذا كانوا يتحدّثون عن أنّ هذه القنبلة لا تمثّل خطراً على المنطقة والعالم، فإنّهم يعرفون أنّ هذا الكيان الغاصب قد استغلّ كلّ قوّته العسكريّة في تهديد كلّ دول المنطقة، ولا سيّما لبنان؛ حتّى إن الجنرال ديغول كان قد قاطع إسرائيل بعدما تأكّد له أنّها كانت البادئة بالعدوان عام 1967.

لقد أعطت الإدارات الغربيّة القوّة الضاربة لإسرائيل، لتكون الدولة الأقوى في المنطقة كلّها، وهذا ما عرفه العالم في العدوان الإسرائيلي المتكرّر على لبنان، بدءاً من العام 1982 الذي احتُلّت فيه العاصمة بيروت، وصولاً إلى عدوان تمّوز عام 2006، الذي قتل المئات من المدنيّين وارتكب المجازر ودمّر البنى التحتيّة، وكانت فرنسا، إلى جانب أمريكا وبريطانيا، تخطّط لمساندة هذا العدوان بتأييد القرارات الظالمة للبنان في مجلس الأمن.

نعم، ربّما يكون من المعجزة، ومن أهمّ أحداث القرن العشرين، أن يقوم هذا الكيان على أساس القتل والنهب والتدمير والتشريد، ثمّ تتحرّك السياسة العالميّة في أقصى درجات الانحطاط الإنساني، من خلال القرارات الدوليّة التي تضرب بها إسرائيل كلّ يوم عرض الجدار، وشرعةِ حقوق الإنسان التي باتت حبراً على ورق، ومن خلال السكوت المطبق عن معاناة النساء والأطفال والشيوخ على معابر الموت، والمجازر التي تُرتكب بالمدنيّين بعقل بارد.

ومن جهة أخرى، وفي ظلّ انتظار العرب والسلطة الفلسطينيّة المؤتمر الذي دعا إليه الرئيس بوش، والذي لن يحقّق اتّفاقاً أو اختراقاً تاريخيّاً في عمليّة السلام، كما يصرّح رئيس وزراء العدوّ، لا تزال إسرائيل تحرّك عدوانها في الضفّة الغربيّة وغزّة، حيث تقصف وتقتل وتدمّر وتحاصر، في أكثر من عمليّة وحشيّة ضدّ المدنيّين، وتخطّط لمصادرة الأراضي في القدس في عمليّة تطويق للعرب في المدينة المقدّسة، كما يهدّد بعض جنرالات جيش العدوّ بجولة جديدة مع لبنان، لاستعادة معنويّات الجيش بعد الهزيمة التي واجهها في حربه مع المقاومة. وهذا ما يجب أن يفهمه بعض اللبنانيّين الذين يُراهنون على المجتمع الدولي، والقرار 1701، حيث لم تقرّر الأمم المتّحدة حتّى الآن وقف إطلاق النار.

وأمام كلّ ذلك، فإنّ على العرب أن يدركوا أن السلام مع كيان العدوّ ليس له أيّ واقعيّة، كما أنّ عليهم أن يعوا أهمّية المقاومة في صدّها للعدوان الإسرائيلي، كما نناشد الفلسطينيّين ، ولاسيّما الذين يحملون عنواناً إسلاميّاً، أن يتّقوا الله في عباده وبلاده، ويُسقطوا الفتنة فيما بينهم، ممّا لا يستفيد منه إلاّ العدوّ الذي تتحرّك مخابراته من فتنة إلى فتنة، لتبقى له السيطرة على الواقع كلّه، ولا يبقى هناك مجال للمقاومة التي قد تنشغل بالخلافات الداخليّة.

أمريكا: خطط ضد السلام العادل للشعوب:
وفي مشهدٍ آخر، لا يزال نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، يهدّد إيران بعواقب وخيمة في حال رفضها تغيير سياستها النووية والإقليميّة، منتقداً دورها العراقي والإقليمي المعيق لما يسمّى "عمليّة السلام".

ونحن نقول لهذا الرجل الحاقد على العرب والمسلمين، لماذا لا يتحدّث عن السياسة الحاليّة لإدارته، في خططها ضدّ السلام العادل للشعوب، وفي مصادرتها للحرّيات الإنسانيّة السياسية والاقتصاديّة من أجل مصالحها الاستراتيجية؟

إنّنا ننصح الإدارة الأمريكيّة أن تحترم الشعوب لتحصل على صداقتها، لأنّ تلك الشعوب لا تقبل الموت والقهر والذُلّ، وقد أثبتت التجربة أنّها مستعدّة لإرباك هذه الإدارة في سياستها الخرقاء، تماماً كما في العراق وأفغانستان، وحتّى في لبنان.

لبنان: تفاؤلٌ حذر:
وعلى صعيدٍ آخر، لا يزال لبنان يعيش الجدل السياسي، في اللقاءات المتنوّعة بين فريق وفريق، في الدائرة المسيحيّة أو الإسلاميّة، ويتحدّث البعض في ذلك عن الانفراج المنتظر وعن التفاؤل الحذر، في الوقت الذي يُثير بعض الذين لا يريدون للأزمة أن تجد حلاًّ توافقيّاً واقعيّاً بعض التعقيدات، ويتّخذون لأنفسهم موقعاً قضائيّاً، في الاتهامات التي تتحوّل إلى أحكام ارتجاليّة أو انفعاليّة، في عمليّة استعادة للتاريخ الدامي الذي لم يسلم منه أحد.

إنّ المشكلة هي أنّ لبنان غارق في الضباب الأسود الذي يغطّي ضوء الشمس، وفي الغيوم الملبّدة التي تحجب عن الناس وضوح الرؤية، وفي مشاكله الاقتصاديّة والسياسية ومخاوفه الأمنيّة، وفي إثاراته المذهبيّة من خلال الذين يخطّطون للفتنة، لأنّ القضيّة هي أنّ هذا البلد الصَّغير يُراد له أن يكون السَّاحة التي تتحرّك فيها طموحات الأشخاص، لتنمية زعاماتهم، وتضخيم ثرواتهم، وحشد جماعاتهم، ممّن يتحرَّكون بالعصبيّة الغرائزيّة، ولا ينفتحون على العقل الهادئ الذي يركّز الاستقرار ويوحي بالوحدة الوطنيّة ويدعو إلى لقاء الجميع على مصالح الشعب، في خطّ المواطنة التي تنفتح على الرحمة والمحبّة والإيمان.

إنّنا ندعو إلى القراءة في خريطة المنطقة، والصراعات فيها، بدلاً من القراءة في خرائط المصالح الفئويّة والشخصيّة الضيِّقة؛ وبذلك يُمكن التوصّل إلى توافق عمليّ واقعيّ أكثر.

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:




الإسلام دين الرسالات...

الإسلام في معناه التوحيدي:
يقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ}(آل عمران/19). ويقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}(آل عمران/85).

الإسلام، في معناه الواسع، هو الدّين الواحد الذي يشمل كلّ الرسالات، لأن الإسلام في معناه التوحيدي، هو أن يسلم الإنسان وجهه وعقله وقلبه وحياته لله، فلا يكون في ذاته أيّ وجود إلاّ الله، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى}(لقمان/22)، فالإنسان الذي يُسلم وجهه لله، يعني أنه يُسلم وجوده وذاته وشخصه، وكلَّ حياته له، بحيث يكون كلّه في يد الله لا في يد غيره، خاضعاً له لا لغيره.

فكلّ دين أرسل الله به رسله يتضمَّن معنى الإسلام، وقد أراد الله سبحانه للرسل أن يعلّموا الناس أن يسلموا أمرهم إليه، فلا يكون في حياتهم أيّ شيء شخصي لأنفسهم، وهذا ما عبّر عنه إمام المتقين أمير المؤمنين(ع) عندما كان يخاطب أصحابه في زمن خلافته: «وليس أمري وأمركم واحداً؛ إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم»، فأنا أريدكم أن تكونوا موحِّدين لله، عابدين مطيعين خاضعين له، بحيث تكون أموركم كلّها تحت أمر الله ونهيه.

وقد بدأت كلمةُ الإسلام منذ إبراهيم(ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}، كُن بكلِّ وجودك لي، فاستجاب لربه، {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ}(البقرة/131)، فأنا مسلمٌ لله بكلِّ وجودي، فلا أحد يشارك الله في هذا الوجود، ولا أراقب أحداً أمام مراقبتي لله. وهذا ما عبّرت عنه أيضاً الآية الكريمة: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ـ عندما أعبد الله في حجي وغيره ـ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ـ فأنا أحيا لتكون كل حياتي لله، وأنا عندما يأتيني الموت فإن موتي يكون في سبيل الله ـ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}(الأنعام/162-163).

ولن يقتصر هذا الإيمان الإسلامي على إبراهيم(ع) في ذاته، بل إنه أوصى به بنيه، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(البقرة/132)، لتكن كلّ حياتكم في كل تفاصيلها وامتدادها، في كلِّ أقوالها وأفعالها ومعاملاتها، لتكن لله إلى أن يأتيكم الموت. وهكذا جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران/102).

وقد كانت أمنية النبي يوسف(ع): {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(يوسف/101)، بمعنى أنني أدعوك يا رب عندما تأتيني الوفاة، أن تأتيني وأنا مسلم، خالص الإيمان لك، حتى عندما أقف بين يديك يوم القيامة، أقف بإسلامي هذا لك. {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ـ عندما كان يتحدث مع أولاده، يسألهم: عندما أموت من تعبدون من بعدي؛ هل تعبدون الأوثان كما تعبدها أقوامكم ـ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(البقرة/133). كان يريد أن يطمئن على أولاده من بعده، وأنّهم يسيرون في خطِّ الإسلام لا في خطِّ الضلال.

وهذا هو الذي أوصى به الله سبحانه وتعالى نبيّه والمسلمين: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ـ يعني مائلاً عن الباطل ـ فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(الرُّوم/30)، {صِبْغَةَ اللهِ ـ وهو الإسلام الذي صبغ الله به شخصية المؤمنين من عباده ـ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}(البقرة/138).

صفات المسلم:
وهكذا جاء عن الإمام علي(ع): «إنَّ هذا الإسلام دين الله الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه»، وعندما كان يصف(ع) رسول الله(ص) بقوله: «أرسله بحجَّةٍ كافية، وموعظةٍ شافية، ودعوة متلافية، أظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبيّن به الأحكام المفصولة، فمن يبتغ غير الإسلام ديناً تتحقَّق شقوته، وتنفصم عروته، وتعظم كبوته، ويكون مآبه إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل».

وقد وردت بعض الأحاديث عن رسول الله(ص) في تحديد من هو المسلم من خلال علاقته بالمسلم الآخر أو بالمسلمين الآخرين؛ فهل يُكتفى في إسلام المسلم بأن يشهد الشّهادتين، وأن يؤدي صلاته وصيامه وحجَّه وعمرته وزكاته، أو أن الإسلام في حركة العلاقات بين المسلمين هو أوسع من ذلك؟ فقد ورد عن الرسول(ص): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».

ويقول (ص): «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله»، «المسلم مرآة المسلم»، بحيث يرى المسلم في أخيه المسلم المرآة التي تبيّن له عيوبه ونقائصه، وما إلى ذلك.

وقد حدّثنا رسول الله(ص) عن المجتمع المسلم: «المسلمون يدٌ على من سواهم ـ يتَّحدون عندما يواجههم الأعداء، فيكونون يداً واحدة عليهم ـ تتكافأ دماؤهم ـ فليس دم مسلم أغلى من دم مسلم آخر. ولذلك فرض الله القصاص على المسلمين عندما يقتل مسلمٌ مسلماً آخر ظلماً وعدواناً، سواء كان القاتل إنساناً حقيراً أو كان إنساناً عظيماً، وهذا ما تمثِّله عظمة الموقف في سلوك الإمام علي(ع) عندما ضربه ابن ملجم واغتاله، فقال لبني عبد المطلب، وهم عشيرته الأقربون: «يا بني عبد المطَّلب، لا ألفيَّنكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قُتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلنَّ بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: إيَّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور».

ومن هو ابن ملجم أمام الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)؟! ومع ذلك، نرى أنَّ علياً(ع) كان يريد أن يؤكّد الخطَّ الإسلامي في هذه المواقف، وهو أنّ القصاص ينال القاتل وحده حتى لو كان القاتل حقيراً والمقتول عظيماً. يقول النبي(ص): «المسلمون إخوة، لا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى». وأيضاً ورد عن رسول الله(ص): «الإسلام ثلاثة أبيات: سفلى وعليا وغرفة، فأما السفلى، فالإسلام دخل فيه عامة المسلمين فلا تسأل أحداً منهم إلاّ قال: أنا مسلم. وأما العليا فتتفاضل أعمالهم...، وأما الغرفة العليا، فالجهاد في سبيل الله لا ينالها إلاّ أفضلهم».

وجاء عن أمير المؤمنين علي(ع): «لأنسبنّ الإسلام نسبةً لم ينسبها أحدٌ قبلي ولا ينسبه أحد بعدي؛ الإسلام هو التسليم، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الأداء، والأداء هو العمل».

إسلام النّصرة والعزة والكرامة:
وفي جانب آخر، ورد الحديث عن الرسول(ص) في تضامن المسلمين واهتمامهم بأمور بعضهم البعض: «من أصبح لا يهتمُّ بأمور المسلمين فليس بمسلم»، كبعض الناس عندما تحصل فتن أو مشاكل بين المسلمين، لا يتدخَّل، ويعتبر أنّ ما يحصل لا يعنيه، ولكنّ هذا غير جائز، لأنَّ على المسلم أن يعتبر نفسه جزءاً من الأسرة الإسلامية، فيهتم بأمور المسلمين ليشعر بأنَّ أمورهم هي أموره، «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهر والحمَّى».

وورد عنه(ص) أيضاً: «من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين ـ إذا كان هناك مسلم يتعرَّض للعدوان، أو شعب مسلم يتعرَّض للعدوان، ونادى المسلمين أن ينصروه، فإذا لم يجيبوه ـ فلم يجبه فليس بمسلم» يخرجون من صفة الإسلام.

وعلى ضوء هذا، فإنّ الإسلام يفرض على كلِّ المسلمين أن يقفوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، لينصروا بعضهم بعضاً بكلّ ما عندهم من طاقة، ومن لم يقم بذلك، فإنّه يخرج عن الإسلام بعضهم بعضاً، لأنّ الإسلام يمثِّل وحدةً في الموقف، ووحدةً في النصرة والعزة والحرية والكرامة.

ولعلَّ أسوأ ما هناك، أنّ البعض من المسلمين، وخصوصاً من هم في موقع السلطة، ينصرون غير المسلمين على المسلمين، وهو ما نراه في بعض مسؤولي الدول العربية والإسلامية، الذين ينصرون اليهود على المسلمين، وهذا ما قام به هؤلاء عندما وقفوا مع اليهود ضد المقاومة في حرب تموز 2006، وكيف أنّ الكثير من حكام المسلمين يقفون مع أمريكا وإسرائيل ويقفون مع كل الدول التي تحارب المسلمين وتضطهدهم.

إن هؤلاء ليسوا مسلمين بمعنى الإسلام القويّ والإسلام الواحد، وإنّما هم يقفون في البيت الأول من الإسلام، وهو البيت الأسفل الذي لا يخرج عن حدود الشهادتين من دون الالتزام بإسلام القوة وإسلام الحرية وإسلام العدالة وإسلام العزَّة والكرامة.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

 

عباد الله، اتَّقوا الله، وواجهوا الموقف من موقعٍ واحد يتحدَّى الآخرين الذين يقفون من أجل إسقاط الإسلام والمسلمين، ويحفظ الأمّة في مواجهة الهجمة الاستكبارية العسكرية والاقتصادية والسياسية والأمنية، فماذا هناك:

الموقف الفرنسي: دولة إسرائيل معجزة القرن العشرين:
في دلالة على مستوى الانحطاط في المنطق الدولي، يُطالعنا الرئيس الفرنسي ساركوزي بمقولته الفريدة، أنّ قيام دولة إسرائيل معجزة، وهي الحدث الأهمّ في القرن العشرين.

لقد كنّا نتصوّر أنّ فرنسا لا تزال وفيّةً للمبادئ التي انطلقت بها ثورتها، في تأكيد الحرّية الإنسانيّة للشعوب، ورفض المجازر الوحشيّة التي يقوم بها شعب ظالمٌ ضدّ شعبٍ مظلوم، وكنّا نحسب أنّ هذه الدولة الأوروبّية قد ابتعدت عن دعم سياسة السيطرة والهيمنة على الشعوب، ومصادرة حرّياتها، ممّا لاحظناه في رفضها الاحتلال الأمريكي للعراق...لكنها اليوم تدعم هذه السياسة، وخصوصاً في دعمها لإسرائيل التي قامت على أساس تشريد شعبٍ من أرضه، بفعل المجازر الوحشيّة التي قام بها اليهود تحت إشراف الاحتلال البريطاني.

وإنّنا نسأل هذا الرئيس: هل بات تدمير الشعوب وتشريدها من أوطانها هو الحدث الأهمّ في القرن العشرين؟! وهل إنّ المعاجز تحوّلت إلى أمثال هذه الأوضاع المدمّرة لحقوق الإنسان بما لا يتصوّره عقل أو وجدان؟!

ثمّ نتساءل: لماذا لم تمنح أوروبا ـ ومنها فرنسا ـ اليهود دولةً على أراضيها ما دامت هي التي تُحمّل نفسها مسؤوليّة مآسيه في عهد النازيّة وغيرها؟ ولماذا يُحمّل الشعب الفلسطيني، والعرب والمسلمون، مسؤوليّة وحشيّة أوروبا ضدّ اليهود؟

فلسطين: لإسقاط الفتنة الداخلية:
ومن جهة أخرى، فإنّ الجميع يعرفون أنّ القنبلة النووية الإسرائيليّة كانت بفعل المساعدة الفرنسيّة، وبعض الدول الأوروبّية امتداداً إلى أمريكا، وإذا كانوا يتحدّثون عن أنّ هذه القنبلة لا تمثّل خطراً على المنطقة والعالم، فإنّهم يعرفون أنّ هذا الكيان الغاصب قد استغلّ كلّ قوّته العسكريّة في تهديد كلّ دول المنطقة، ولا سيّما لبنان؛ حتّى إن الجنرال ديغول كان قد قاطع إسرائيل بعدما تأكّد له أنّها كانت البادئة بالعدوان عام 1967.

لقد أعطت الإدارات الغربيّة القوّة الضاربة لإسرائيل، لتكون الدولة الأقوى في المنطقة كلّها، وهذا ما عرفه العالم في العدوان الإسرائيلي المتكرّر على لبنان، بدءاً من العام 1982 الذي احتُلّت فيه العاصمة بيروت، وصولاً إلى عدوان تمّوز عام 2006، الذي قتل المئات من المدنيّين وارتكب المجازر ودمّر البنى التحتيّة، وكانت فرنسا، إلى جانب أمريكا وبريطانيا، تخطّط لمساندة هذا العدوان بتأييد القرارات الظالمة للبنان في مجلس الأمن.

نعم، ربّما يكون من المعجزة، ومن أهمّ أحداث القرن العشرين، أن يقوم هذا الكيان على أساس القتل والنهب والتدمير والتشريد، ثمّ تتحرّك السياسة العالميّة في أقصى درجات الانحطاط الإنساني، من خلال القرارات الدوليّة التي تضرب بها إسرائيل كلّ يوم عرض الجدار، وشرعةِ حقوق الإنسان التي باتت حبراً على ورق، ومن خلال السكوت المطبق عن معاناة النساء والأطفال والشيوخ على معابر الموت، والمجازر التي تُرتكب بالمدنيّين بعقل بارد.

ومن جهة أخرى، وفي ظلّ انتظار العرب والسلطة الفلسطينيّة المؤتمر الذي دعا إليه الرئيس بوش، والذي لن يحقّق اتّفاقاً أو اختراقاً تاريخيّاً في عمليّة السلام، كما يصرّح رئيس وزراء العدوّ، لا تزال إسرائيل تحرّك عدوانها في الضفّة الغربيّة وغزّة، حيث تقصف وتقتل وتدمّر وتحاصر، في أكثر من عمليّة وحشيّة ضدّ المدنيّين، وتخطّط لمصادرة الأراضي في القدس في عمليّة تطويق للعرب في المدينة المقدّسة، كما يهدّد بعض جنرالات جيش العدوّ بجولة جديدة مع لبنان، لاستعادة معنويّات الجيش بعد الهزيمة التي واجهها في حربه مع المقاومة. وهذا ما يجب أن يفهمه بعض اللبنانيّين الذين يُراهنون على المجتمع الدولي، والقرار 1701، حيث لم تقرّر الأمم المتّحدة حتّى الآن وقف إطلاق النار.

وأمام كلّ ذلك، فإنّ على العرب أن يدركوا أن السلام مع كيان العدوّ ليس له أيّ واقعيّة، كما أنّ عليهم أن يعوا أهمّية المقاومة في صدّها للعدوان الإسرائيلي، كما نناشد الفلسطينيّين ، ولاسيّما الذين يحملون عنواناً إسلاميّاً، أن يتّقوا الله في عباده وبلاده، ويُسقطوا الفتنة فيما بينهم، ممّا لا يستفيد منه إلاّ العدوّ الذي تتحرّك مخابراته من فتنة إلى فتنة، لتبقى له السيطرة على الواقع كلّه، ولا يبقى هناك مجال للمقاومة التي قد تنشغل بالخلافات الداخليّة.

أمريكا: خطط ضد السلام العادل للشعوب:
وفي مشهدٍ آخر، لا يزال نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، يهدّد إيران بعواقب وخيمة في حال رفضها تغيير سياستها النووية والإقليميّة، منتقداً دورها العراقي والإقليمي المعيق لما يسمّى "عمليّة السلام".

ونحن نقول لهذا الرجل الحاقد على العرب والمسلمين، لماذا لا يتحدّث عن السياسة الحاليّة لإدارته، في خططها ضدّ السلام العادل للشعوب، وفي مصادرتها للحرّيات الإنسانيّة السياسية والاقتصاديّة من أجل مصالحها الاستراتيجية؟

إنّنا ننصح الإدارة الأمريكيّة أن تحترم الشعوب لتحصل على صداقتها، لأنّ تلك الشعوب لا تقبل الموت والقهر والذُلّ، وقد أثبتت التجربة أنّها مستعدّة لإرباك هذه الإدارة في سياستها الخرقاء، تماماً كما في العراق وأفغانستان، وحتّى في لبنان.

لبنان: تفاؤلٌ حذر:
وعلى صعيدٍ آخر، لا يزال لبنان يعيش الجدل السياسي، في اللقاءات المتنوّعة بين فريق وفريق، في الدائرة المسيحيّة أو الإسلاميّة، ويتحدّث البعض في ذلك عن الانفراج المنتظر وعن التفاؤل الحذر، في الوقت الذي يُثير بعض الذين لا يريدون للأزمة أن تجد حلاًّ توافقيّاً واقعيّاً بعض التعقيدات، ويتّخذون لأنفسهم موقعاً قضائيّاً، في الاتهامات التي تتحوّل إلى أحكام ارتجاليّة أو انفعاليّة، في عمليّة استعادة للتاريخ الدامي الذي لم يسلم منه أحد.

إنّ المشكلة هي أنّ لبنان غارق في الضباب الأسود الذي يغطّي ضوء الشمس، وفي الغيوم الملبّدة التي تحجب عن الناس وضوح الرؤية، وفي مشاكله الاقتصاديّة والسياسية ومخاوفه الأمنيّة، وفي إثاراته المذهبيّة من خلال الذين يخطّطون للفتنة، لأنّ القضيّة هي أنّ هذا البلد الصَّغير يُراد له أن يكون السَّاحة التي تتحرّك فيها طموحات الأشخاص، لتنمية زعاماتهم، وتضخيم ثرواتهم، وحشد جماعاتهم، ممّن يتحرَّكون بالعصبيّة الغرائزيّة، ولا ينفتحون على العقل الهادئ الذي يركّز الاستقرار ويوحي بالوحدة الوطنيّة ويدعو إلى لقاء الجميع على مصالح الشعب، في خطّ المواطنة التي تنفتح على الرحمة والمحبّة والإيمان.

إنّنا ندعو إلى القراءة في خريطة المنطقة، والصراعات فيها، بدلاً من القراءة في خرائط المصالح الفئويّة والشخصيّة الضيِّقة؛ وبذلك يُمكن التوصّل إلى توافق عمليّ واقعيّ أكثر.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير