إطاعة أوامر الله واجتناب نواهيه والتآخي والإصلاح

إطاعة أوامر الله واجتناب نواهيه والتآخي والإصلاح

لبناء المجتمع المسلم المتوازن والمتراحم:
إطاعة أوامر الله واجتناب نواهيه والتآخي والإصلاح


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الإخوة الإيمانية

كيف يريد الله للمجتمع المؤمن الذي يتمثل بالمؤمنين، أن يعيش في سلوكه العملي وفي علاقته بين أفراده؟ وكيف يريد لهذا المجتمع أن ينفتح عليه وأن يؤكد دائماً إيمانه به، وأن يعيش في إحساسه ومشاعره الخشية منه، بحيث يتمثل كل فرد فيه عظمة الله في نفسه، فيرتعش قلبه لذكر الله، تماماً كما هو الإنسان عندما يتذكر شخصية عظيمة تخاف وترجى؟

في البداية، أراد الله أن ينشىء بين المؤمنين عقد أخوة، بحيث أراد للمؤمن أن يستشعر أخوة المؤمن الآخر، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات/10)، لأنّ الأخوَّة الطبيعية تنطلق من الاتفاق بالنسب، ولكن الأخوّة بين المؤمنين تنطلق من الإيمان بالله، ومن خلال الارتباط به والعلاقة به، لذلك فهي علاقة أقوى من علاقة الأخوة النسبية، لأن الأخوة في النسب ينطلقون من خلال العلاقة بأبٍ واحد وأم واحدة، ولكنّ الأخوة في الإيمان ينطلقون من خلال خالق الأم والأب، وخالق الناس جميعاً، ومبدع الخلق في القانون الذي يحكم مسألة التوالد والتناسل.

ولذلك، فإنّ الأخوة في الإيمان تنطلق من العقل أولاً، من خلال العقيدة التوحيدية بالله، وتتحرك في القلب ثانياً من خلال المحبة لله، وتتحرّك في الحياة ثالثةً من خلال الحركة في طاعة الله.

الإصلاح بين المؤمنين:

ويؤكّد الله سبحانه وتعالى أن من مسؤولية هذه الأخوة الإيمانية، أن يتابع الإنسان المؤمن علاقات المؤمنين بعضهم ببعض، فإذا رأى خلافاً بين مؤمن وآخر، سواء كان ذلك بين الأزواج، أو بين الأخوان المؤمنين، فإنّ عليه أن يبادر إلى الإصلاح بين المختلفين، لتعود الأخوة عميقةً فيما بينهم، من دون أن تؤثر الخلافات عليها. حتّى إنّ الله توجّه إلى المجتمع المسلم كلّه طالباً منه التدخّل في حال حصل خلاف بين جهتين مسلمتين، كأن يحدث خلاف بين طائفتين أو حزبين أو عشيرتين، ليصلحوا بينهما، وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات/9)، فعلى المؤمنين أن يبادروا إلى الإصلاح بينهما، حتى يبقى المجتمع المؤمن يعيش السلام بين فئاته وأفراده، وحتى لا تؤدي الاختلافات بين الأفرقاء إلى إسقاط المجتمع المؤمن وإفساده. وهكذا يريد الله من المجتمع المؤمن أن يتحرّك في الانفتاح على الله والخوف منه، والخشية من عقابه، والامتثال لعظمته وطاعته في ما أمر به.

وقد أكد تعالى ذلك في سورة الأنفال: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال:1)، أي بادروا إلى طاعة الله في ما أمر به في كتابه، وإطاعة الرسول في ما أمر به في سنته، لأنّ من أطاع الرسول فقد أطاع الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران/31).

المؤمن الحقيقي:

من هم المؤمنون؟ يقول تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ـ دخلها الخوف والخشية، وارتجفت من خلال تمثلها لعظمة الله، مالك السماوات والأرض، المهيمن على الأمر كله، الذي له العزّة {فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا}(فاطر/10) ـ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ ـ تدبّروها، وانفتحوا على الله وعلى مسؤوليتهم من خلالها ـ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ـ فيزداد إيمانهم، لأنّ الله جعل آياته نوراً يضيء عقل الإنسان وقلبه وحياته، كما جاء في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(المائدة/15-16) ـ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال/2)، فإذا خافوا من المستقبل ومن التحديات غير المحسوبة، فإنّهم يتوكلون على الله من أجل أن يحميهم مما قد يأتي به الغيب ولا يعرفون عاقبته.

وهكذا، يتحدّث الله عن صفات هؤلاء المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ـ فكل من يتَّصف بهذه الصفات الروحية والثقافية والعملية ـ أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا ـ لأنَّ الإيمان ليس كلمةً، إنّما هو عقل ينفتح على عظمة الله، ويتحرّك في التدبر بآيات الله، ويطيع الله ورسوله ـ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال/3-4).

صفات المنافقين:

وهناك نقطة عالجها القرآن الكريم في بعض النماذج التي تدّعي الإيمان، ولكنّها لا تلتزم به التزاماً عملياً، وقد تحدّث الله عنهم في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ ـ يشهدون الشهادتين ـ وَأَطَعْنَا ـ يعبِّرون عن استعدادهم للطاعة، ولكنهم عندما يدخلون في التجربة التي يعرف فيها الصادق من الكاذب ـ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ـ يعرضون عن الإيمان بالله وبالرسول، ويتنكرون لإعلانهم عن طاعتهم الله والرسول ـ وَمَا أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ ـ لأنّهم يعرضون عن خط الإيمان ـ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ـ إذا حدث خلاف بين فريقين، ودعوا إلى الاحتكام إلى الشرع، لأن الله أراد للمؤمنين أن يحتكموا إلى شرعه، وهذا ما أكّده في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء/65) ـ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ـ يعرضون ويقولون نريد أن نحتكم إلى المحاكم القانونية المدنية، أمّا المحاكم الشرعية، فنحن لا نريد أن نحتكم إليها ـ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ ـ إذا كان الشرع يحكم لهم احتكموا إلى الشرع ـ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ـ ولكن إذا كان الحق للخصم فإنّهم لا يتقبلونه ـ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ـ وهو النفاق ـ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُون} (النور:47-50).

وهذه ليست من صفات المؤمنين، لأنّ المؤمنين هم الذين: {إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ}(النور/51-52).

التوبة النصوح:

وأخيراً، هناك دعوة من الله موجّهة إلى المؤمنين الذين يعملون السيئات، وهي أنّ الله فتح لهم باب التوبة الخالصة النصوح، التوبة التي يعزم الإنسان فيها أن لا يعود إلى فعل السيئات، ولا إلى معصية الله في ما أمر. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التَّحريم/8).

وهكذا فتح الله لنا باب التوبة بأوسع مما بين السماء والأرض، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(الشُّورى/25).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا مسؤوليتكم بكلّ قوة وتقوى ووحدة، لأنّ الله يريد لنا أن نعتصم بحبله جميعاً، وأن لا نتفرق، ويريد للمؤمنين أن يكونوا كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً. فماذا هناك؟

مؤتمر أنابوليس: تحرر عربي من القضية الفلسطينية:

في تداعيات مؤتمر أنابوليس، مزيد من عمليّات الاغتيال الإسرائيليّة للفلسطينيين، ومزيدٌ من عمليّات الاستيطان في القدس، وتأكيدات إسرائيليّة جديدة على لسان وزيرة خارجيّة العدوّ، بأنّ إصرار كيانها على حضور الدول العربيّة في هذا المؤتمر انطلق من سببين: الأوّل، دعم هذه الدول لأبي مازن في تنازلاته فيما يتعلّق بجملة من القضايا المصيريّة الحيويّة للشعب الفلسطيني، حيث لا يستطيع تقديم مثل هذه التنازلات من دون دعم عربي، والثاني: رصّ صفّ هذه الدول المسمّاة «معتدلة» ضدّ إيران.

إنّنا نلاحظ أنّ حضور الدول العربيّة لم يكن بمبادرة ذاتية أملتها خطّة حقيقية للسلام، قيل إنّها جاءت بعد المساعي التي أكّدتها قرارات مؤتمر وزراء الخارجيّة في القاهرة، بل كان ـ في الحقيقة ـ بدعوة مشتركة من إسرائيل وأمريكا تهدف إلى دعم أبي مازن في تنازلاته، وليس لدى العرب بعامة ـ في خلفيّاتهم السياسية ـ مانعٌ من تقديم أكثر من تنازل استراتيجي في القضيّة الفلسطينيّة ليتحرّروا منها، ما يؤدّي إلى أن تكون الدولة الفلسطينيّة الموعودة ـ لو قامت ـ مجرّد دولة واقعة تحت رحمة إسرائيل، وغير صالحة للحياة، لأنّها لا تملك مقومات التحرر من الهيمنة الإسرائيلية السياسية والاقتصادية.

إيران: علاقات استراتيجية ـ إسلامية مع العرب:

أمّا في السبب الآخر، والمتمثل بتحذير «المعتدلين» العرب من الخطر الإيراني الأكبر، بحسب تعبير وزيرة خارجيّة العدوّ، فقد اتَّضح للعالم حرصَ إيران على إقامة أمتن العلاقات وأقواها مع الدول العربيّة، بما فيها مصر والأردن، وأنّ من يقف عائقاً أمام تعزيز هذه العلاقات هي الإدارة الأمريكية التي تسعى جاهدةً لمنع أيّ تكامل اقتصادي وسياسي وأمني بين إيران والدول العربيّة بعامة، وبين ضفّتي الخليج على وجه الخصوص.

إنّنا في الوقت الذي نرحّب بالاندفاعة الأخيرة التي تمثّلت بحضور الرئيس الإيراني قمّة دول مجلس التعاون الخليجي، نرى في الاقتراحات التي تقدّم بها الرئيس نجاد للقمّة لناحية تأسيس منظّمة للتعاون بين إيران ودول المجلس، في مجالات الطاقة والاستثمار والمجالات العلميّة والاقتصاديّة والسياحيّة وغيرها، خطوةً متقدّمة لتعزيز علاقات الصداقة بين الجانبين، بما يؤكّد عمق العلاقة الإسلاميّة، ويقطع الطريق على كلّ من يحاول وضع العصيّ في دواليب هذه العجلة، والتي نعتقد أنّها ستواصل سيرها إلى الأمام، على الرغم من مكائد الأعداء والمتضرّرين.

وإذا كان البعض يفسّر هذه الاقتراحات بأنّها من أجل تفادي الحرب الأمريكية على إيران، فإنّنا نعتقد أن هذا التحليل خاطئ؛ لأنّ بناء علاقات الصداقة التي أسست لها إيران، كانت سابقةً على هذه التطوّرات، وخصوصاً علاقتها بالسعوديّة، في عمليّة تعاون متحرّكة على مستوى أكثر من قضيّة في العالم الإسلامي.

وإنّنا أمام كلّ ذلك، ندعو الشعب الفلسطيني بخاصّة، والعالم العربي والإسلامي بعامةٍ، إلى أن يدرسوا الأمور بروح المسؤوليّة، بما ينقذ القضيّة الفلسطينيّة، وأن يعرفوا جيّداً ـ انطلاقاً من التجارب الماضية والحاضرة ـ أنّ إسرائيل هي العدوّ، وأنّ أيّة دولة إسلاميّة ـ بما فيها إيران ـ لا يمكن أن تكون عدوّاً للعرب والمسلمين، ولاسيّما للفلسطينيين الذين تلتزم إيران مساعدتهم في قضيّة التحرّر، في الوقت الذي أهمل قضيّتهم أكثر العرب والمسلمين.

المجتمع الدولي: لعزل إيران عن الساحة الدبلوماسية:

وإنّنا نثمّن ـ في هذا المجال ـ تصريح أمين عام الجامعة العربيّة عمرو موسى، الذي تساءل فيه: «عما يجعلنا نتحدّث عن إيران ولا نتحدّث عن إسرائيل»، ونبّه إلى أنّ كلّ جهد نووي سلمي في إطار العضويّة في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ومتّفق عليه مع الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، يعدّ أمراً مشروعاً ومقبولاً؛ وهو بذلك إنما يغمز من قناة إسرائيل التي لم توقّع حتّى الآن على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، في الوقت الذي تملأ العالم صراخاً وضجيجاً ضدّ المشروع النووي الإيراني السلمي. واللافت في هذا المجال، الحماس الفرنسي الهستيري لإصدار العقوبات الاقتصادية ضد إيران، خضوعاً لأمريكا وإسرائيل.

وفي خطّ موازٍ، وجّهت الاستخبارات المركزيّة الأمريكية ضربةً سياسيّةً موجعةً إلى إدارة الرئيس بوش، في تأكيدها أنّ إيران كانت قد أوقفت برنامجها النووي العسكري في خريف العام 2003، معتبرةً أن طهران أقلّ تصميماً اليوم على صنع قنبلة نووية، ومستبعِدةً أن تتمكّن إيران من صنع سلاحٍ نووي قبل العام 2015، وأنّها حتّى الآن لم تستأنف ذلك.

ولكنّ بعض المسؤولين الأمريكيين اعتبر أنّ ذلك جاء نتيجة استراتيجيّة عزل إيران عن الساحة الدبلوماسيّة المترافق مع مواصلة المفاوضات، وأنّ على المجتمع الدولي أن يزيد الضغوط على إيران لكي تنجح تلك الاستراتيجيّة. وفي هذا المنطق دلالة واضحة على المأزق الذي سبّبه تقرير وكالة الاستخبارات للإدارة الأمريكية، لأنّها أكّدت أنّ إيران أوقفت برنامجها للتسلّح النووي قبل أن تتحرّك الضغوطات الدوليّة من جهة، والعقوباتُ الاقتصاديّة في مجلس الأمن من جهة أخرى.

ومن خلال ذلك، نستطيع أن نؤكّد أنّ الموقف الأمريكي والأوروبي، ولاسيّما البريطاني والفرنسي، هو موقف سياسي للضغط على إيران للخضوع لحملها على القبول بالشروط السياسية التي تفرضها الدول الكبرى، ولمنعها من الحصول على التطوّر العلمي في الجانب النووي، كجزءٍ من السياسات الغربيّة التي لا تريد للدول الإسلامية والعربيّة أن تحصل على الاستقلال العلمي في كل ما يتّصل بحاجات الناس في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، لكي تبقى الحاجة إلى الغرب في الكبيرة والصغيرة، على خلفيّة أن يبقى المسلمون في حال فقر دائمٍ إلى الغرب وتبعية له.

وهذا ما ينبغي لدول المنطقة أن تفهمه جيّداً وأن تخطّط للتمرّد عليه، لأنّ الاستقلال هو استقلال الحاجات لا استقلال السياسات فحسب؛ بل إنّ هذا من ذاك.

وفي ضوء ذلك كلّه، فإنّ صناعة المستقبل تفرض علينا أن تكون أولوية التركيز هي على بناء قاعدة التقدّم الحضاري العلمي وعلى التطوّر التقني، وعلى إعداد العلماء المتخصّصين في كلّ الاختصاصات الضروريّة للوصول إلى الدرجة العليا في حركة الحضارة في كلّ شؤونها.

لبنان: النأي بالسلم الأهلي عن ساحة التجاذب السياسي:

وأخيراً، إنّنا نعتقد أنّ ثمّة نافذةً قد فتحت للتوافق في الاستحقاق الرئاسي في لبنان، ولكنّ المسألة لا تزال تواجه جدلاً في صورة المستقبل، وفي استمرار أزمة الثقة بين الأفرقاء، الأمر الذي يستدعي معاجلةً متواصلةً لذلك كلّه، وكذلك للتصريحات الاستهلاكيّة التي تدخل في باب الاستعراض السياسي والمجاملات الوطنيّة.

ولقد كنّا ولا نزال نؤكّد ضرورة أن يتّسم الخطاب الديني بعامة، ولا سيّما ذاك الذي ينطلق من مواقع تملك صفةً رسميّة، بالحكمة والموضوعيّة اللتين تتيحان لهذه المواقع أن تبقى على مسافة واحدة من الجميع، لتقوم بدورها على المستوى الوطني العام الذي يحافظ على العيش المشترك، ولا يستعدي طائفةً على أخرى، أو شخصيّةً فاعلةً في هذا الموقع على شخصيّة فاعلة في ذلك الموقع؛ لتبقى بعيدةً عن السقوط والإسقاط في المتاهات التي سقط فيها الخطاب السياسي الرسمي وغير الرسمي في تلاوينه ومظاهره، ولا سيّما مع وجود جدلٍ كبير حول كثير من القضايا الدستوريّة والميثاقيّة ممّا يختلف فيه الناس.

إنّنا نعتقد أنّ الأزمة اللبنانية كانت، ولا تزال، بالغة التعقيد داخليّاً وخارجيّاً، بحيث يكون تحميل طرفٍ بمفرده مسؤوليّة الأزمة واستمرارها نوعاً من التبسيط السياسي الذي قد يزيد الأزمة تعقيداً والجدل إثارةً.

إنّنا نريد لكلّ اللبنانيّين ـ من كلّ الأطياف ـ ألا يعتبروا السلم الأهلي والعيش المشترك موقع اختلاف وتجاذب، فهما فوق الأحزاب والطوائف والأشخاص والاتجاهات، ولا يجوز تالياً لأحد العبث بهما.

وفي الختام، إنّ الناس قلقون على مستقبلهم، فعلى الجميع ـ إذا كانوا مخلصين للناس وللوطن ـ أن يزيحوا هذا القلق المخيف الذي يثيره بعض الداخل والخارج في الكهوف والمغارات المظلمة التي لا تنفتح على أيّة ثغرةٍ من الضوء.

لبناء المجتمع المسلم المتوازن والمتراحم:
إطاعة أوامر الله واجتناب نواهيه والتآخي والإصلاح


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الإخوة الإيمانية

كيف يريد الله للمجتمع المؤمن الذي يتمثل بالمؤمنين، أن يعيش في سلوكه العملي وفي علاقته بين أفراده؟ وكيف يريد لهذا المجتمع أن ينفتح عليه وأن يؤكد دائماً إيمانه به، وأن يعيش في إحساسه ومشاعره الخشية منه، بحيث يتمثل كل فرد فيه عظمة الله في نفسه، فيرتعش قلبه لذكر الله، تماماً كما هو الإنسان عندما يتذكر شخصية عظيمة تخاف وترجى؟

في البداية، أراد الله أن ينشىء بين المؤمنين عقد أخوة، بحيث أراد للمؤمن أن يستشعر أخوة المؤمن الآخر، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات/10)، لأنّ الأخوَّة الطبيعية تنطلق من الاتفاق بالنسب، ولكن الأخوّة بين المؤمنين تنطلق من الإيمان بالله، ومن خلال الارتباط به والعلاقة به، لذلك فهي علاقة أقوى من علاقة الأخوة النسبية، لأن الأخوة في النسب ينطلقون من خلال العلاقة بأبٍ واحد وأم واحدة، ولكنّ الأخوة في الإيمان ينطلقون من خلال خالق الأم والأب، وخالق الناس جميعاً، ومبدع الخلق في القانون الذي يحكم مسألة التوالد والتناسل.

ولذلك، فإنّ الأخوة في الإيمان تنطلق من العقل أولاً، من خلال العقيدة التوحيدية بالله، وتتحرك في القلب ثانياً من خلال المحبة لله، وتتحرّك في الحياة ثالثةً من خلال الحركة في طاعة الله.

الإصلاح بين المؤمنين:

ويؤكّد الله سبحانه وتعالى أن من مسؤولية هذه الأخوة الإيمانية، أن يتابع الإنسان المؤمن علاقات المؤمنين بعضهم ببعض، فإذا رأى خلافاً بين مؤمن وآخر، سواء كان ذلك بين الأزواج، أو بين الأخوان المؤمنين، فإنّ عليه أن يبادر إلى الإصلاح بين المختلفين، لتعود الأخوة عميقةً فيما بينهم، من دون أن تؤثر الخلافات عليها. حتّى إنّ الله توجّه إلى المجتمع المسلم كلّه طالباً منه التدخّل في حال حصل خلاف بين جهتين مسلمتين، كأن يحدث خلاف بين طائفتين أو حزبين أو عشيرتين، ليصلحوا بينهما، وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات/9)، فعلى المؤمنين أن يبادروا إلى الإصلاح بينهما، حتى يبقى المجتمع المؤمن يعيش السلام بين فئاته وأفراده، وحتى لا تؤدي الاختلافات بين الأفرقاء إلى إسقاط المجتمع المؤمن وإفساده. وهكذا يريد الله من المجتمع المؤمن أن يتحرّك في الانفتاح على الله والخوف منه، والخشية من عقابه، والامتثال لعظمته وطاعته في ما أمر به.

وقد أكد تعالى ذلك في سورة الأنفال: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال:1)، أي بادروا إلى طاعة الله في ما أمر به في كتابه، وإطاعة الرسول في ما أمر به في سنته، لأنّ من أطاع الرسول فقد أطاع الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران/31).

المؤمن الحقيقي:

من هم المؤمنون؟ يقول تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ـ دخلها الخوف والخشية، وارتجفت من خلال تمثلها لعظمة الله، مالك السماوات والأرض، المهيمن على الأمر كله، الذي له العزّة {فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا}(فاطر/10) ـ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ ـ تدبّروها، وانفتحوا على الله وعلى مسؤوليتهم من خلالها ـ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ـ فيزداد إيمانهم، لأنّ الله جعل آياته نوراً يضيء عقل الإنسان وقلبه وحياته، كما جاء في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(المائدة/15-16) ـ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال/2)، فإذا خافوا من المستقبل ومن التحديات غير المحسوبة، فإنّهم يتوكلون على الله من أجل أن يحميهم مما قد يأتي به الغيب ولا يعرفون عاقبته.

وهكذا، يتحدّث الله عن صفات هؤلاء المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ـ فكل من يتَّصف بهذه الصفات الروحية والثقافية والعملية ـ أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا ـ لأنَّ الإيمان ليس كلمةً، إنّما هو عقل ينفتح على عظمة الله، ويتحرّك في التدبر بآيات الله، ويطيع الله ورسوله ـ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال/3-4).

صفات المنافقين:

وهناك نقطة عالجها القرآن الكريم في بعض النماذج التي تدّعي الإيمان، ولكنّها لا تلتزم به التزاماً عملياً، وقد تحدّث الله عنهم في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ ـ يشهدون الشهادتين ـ وَأَطَعْنَا ـ يعبِّرون عن استعدادهم للطاعة، ولكنهم عندما يدخلون في التجربة التي يعرف فيها الصادق من الكاذب ـ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ـ يعرضون عن الإيمان بالله وبالرسول، ويتنكرون لإعلانهم عن طاعتهم الله والرسول ـ وَمَا أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ ـ لأنّهم يعرضون عن خط الإيمان ـ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ـ إذا حدث خلاف بين فريقين، ودعوا إلى الاحتكام إلى الشرع، لأن الله أراد للمؤمنين أن يحتكموا إلى شرعه، وهذا ما أكّده في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء/65) ـ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ـ يعرضون ويقولون نريد أن نحتكم إلى المحاكم القانونية المدنية، أمّا المحاكم الشرعية، فنحن لا نريد أن نحتكم إليها ـ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ ـ إذا كان الشرع يحكم لهم احتكموا إلى الشرع ـ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ـ ولكن إذا كان الحق للخصم فإنّهم لا يتقبلونه ـ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ـ وهو النفاق ـ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُون} (النور:47-50).

وهذه ليست من صفات المؤمنين، لأنّ المؤمنين هم الذين: {إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ}(النور/51-52).

التوبة النصوح:

وأخيراً، هناك دعوة من الله موجّهة إلى المؤمنين الذين يعملون السيئات، وهي أنّ الله فتح لهم باب التوبة الخالصة النصوح، التوبة التي يعزم الإنسان فيها أن لا يعود إلى فعل السيئات، ولا إلى معصية الله في ما أمر. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التَّحريم/8).

وهكذا فتح الله لنا باب التوبة بأوسع مما بين السماء والأرض، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(الشُّورى/25).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا مسؤوليتكم بكلّ قوة وتقوى ووحدة، لأنّ الله يريد لنا أن نعتصم بحبله جميعاً، وأن لا نتفرق، ويريد للمؤمنين أن يكونوا كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً. فماذا هناك؟

مؤتمر أنابوليس: تحرر عربي من القضية الفلسطينية:

في تداعيات مؤتمر أنابوليس، مزيد من عمليّات الاغتيال الإسرائيليّة للفلسطينيين، ومزيدٌ من عمليّات الاستيطان في القدس، وتأكيدات إسرائيليّة جديدة على لسان وزيرة خارجيّة العدوّ، بأنّ إصرار كيانها على حضور الدول العربيّة في هذا المؤتمر انطلق من سببين: الأوّل، دعم هذه الدول لأبي مازن في تنازلاته فيما يتعلّق بجملة من القضايا المصيريّة الحيويّة للشعب الفلسطيني، حيث لا يستطيع تقديم مثل هذه التنازلات من دون دعم عربي، والثاني: رصّ صفّ هذه الدول المسمّاة «معتدلة» ضدّ إيران.

إنّنا نلاحظ أنّ حضور الدول العربيّة لم يكن بمبادرة ذاتية أملتها خطّة حقيقية للسلام، قيل إنّها جاءت بعد المساعي التي أكّدتها قرارات مؤتمر وزراء الخارجيّة في القاهرة، بل كان ـ في الحقيقة ـ بدعوة مشتركة من إسرائيل وأمريكا تهدف إلى دعم أبي مازن في تنازلاته، وليس لدى العرب بعامة ـ في خلفيّاتهم السياسية ـ مانعٌ من تقديم أكثر من تنازل استراتيجي في القضيّة الفلسطينيّة ليتحرّروا منها، ما يؤدّي إلى أن تكون الدولة الفلسطينيّة الموعودة ـ لو قامت ـ مجرّد دولة واقعة تحت رحمة إسرائيل، وغير صالحة للحياة، لأنّها لا تملك مقومات التحرر من الهيمنة الإسرائيلية السياسية والاقتصادية.

إيران: علاقات استراتيجية ـ إسلامية مع العرب:

أمّا في السبب الآخر، والمتمثل بتحذير «المعتدلين» العرب من الخطر الإيراني الأكبر، بحسب تعبير وزيرة خارجيّة العدوّ، فقد اتَّضح للعالم حرصَ إيران على إقامة أمتن العلاقات وأقواها مع الدول العربيّة، بما فيها مصر والأردن، وأنّ من يقف عائقاً أمام تعزيز هذه العلاقات هي الإدارة الأمريكية التي تسعى جاهدةً لمنع أيّ تكامل اقتصادي وسياسي وأمني بين إيران والدول العربيّة بعامة، وبين ضفّتي الخليج على وجه الخصوص.

إنّنا في الوقت الذي نرحّب بالاندفاعة الأخيرة التي تمثّلت بحضور الرئيس الإيراني قمّة دول مجلس التعاون الخليجي، نرى في الاقتراحات التي تقدّم بها الرئيس نجاد للقمّة لناحية تأسيس منظّمة للتعاون بين إيران ودول المجلس، في مجالات الطاقة والاستثمار والمجالات العلميّة والاقتصاديّة والسياحيّة وغيرها، خطوةً متقدّمة لتعزيز علاقات الصداقة بين الجانبين، بما يؤكّد عمق العلاقة الإسلاميّة، ويقطع الطريق على كلّ من يحاول وضع العصيّ في دواليب هذه العجلة، والتي نعتقد أنّها ستواصل سيرها إلى الأمام، على الرغم من مكائد الأعداء والمتضرّرين.

وإذا كان البعض يفسّر هذه الاقتراحات بأنّها من أجل تفادي الحرب الأمريكية على إيران، فإنّنا نعتقد أن هذا التحليل خاطئ؛ لأنّ بناء علاقات الصداقة التي أسست لها إيران، كانت سابقةً على هذه التطوّرات، وخصوصاً علاقتها بالسعوديّة، في عمليّة تعاون متحرّكة على مستوى أكثر من قضيّة في العالم الإسلامي.

وإنّنا أمام كلّ ذلك، ندعو الشعب الفلسطيني بخاصّة، والعالم العربي والإسلامي بعامةٍ، إلى أن يدرسوا الأمور بروح المسؤوليّة، بما ينقذ القضيّة الفلسطينيّة، وأن يعرفوا جيّداً ـ انطلاقاً من التجارب الماضية والحاضرة ـ أنّ إسرائيل هي العدوّ، وأنّ أيّة دولة إسلاميّة ـ بما فيها إيران ـ لا يمكن أن تكون عدوّاً للعرب والمسلمين، ولاسيّما للفلسطينيين الذين تلتزم إيران مساعدتهم في قضيّة التحرّر، في الوقت الذي أهمل قضيّتهم أكثر العرب والمسلمين.

المجتمع الدولي: لعزل إيران عن الساحة الدبلوماسية:

وإنّنا نثمّن ـ في هذا المجال ـ تصريح أمين عام الجامعة العربيّة عمرو موسى، الذي تساءل فيه: «عما يجعلنا نتحدّث عن إيران ولا نتحدّث عن إسرائيل»، ونبّه إلى أنّ كلّ جهد نووي سلمي في إطار العضويّة في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ومتّفق عليه مع الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، يعدّ أمراً مشروعاً ومقبولاً؛ وهو بذلك إنما يغمز من قناة إسرائيل التي لم توقّع حتّى الآن على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، في الوقت الذي تملأ العالم صراخاً وضجيجاً ضدّ المشروع النووي الإيراني السلمي. واللافت في هذا المجال، الحماس الفرنسي الهستيري لإصدار العقوبات الاقتصادية ضد إيران، خضوعاً لأمريكا وإسرائيل.

وفي خطّ موازٍ، وجّهت الاستخبارات المركزيّة الأمريكية ضربةً سياسيّةً موجعةً إلى إدارة الرئيس بوش، في تأكيدها أنّ إيران كانت قد أوقفت برنامجها النووي العسكري في خريف العام 2003، معتبرةً أن طهران أقلّ تصميماً اليوم على صنع قنبلة نووية، ومستبعِدةً أن تتمكّن إيران من صنع سلاحٍ نووي قبل العام 2015، وأنّها حتّى الآن لم تستأنف ذلك.

ولكنّ بعض المسؤولين الأمريكيين اعتبر أنّ ذلك جاء نتيجة استراتيجيّة عزل إيران عن الساحة الدبلوماسيّة المترافق مع مواصلة المفاوضات، وأنّ على المجتمع الدولي أن يزيد الضغوط على إيران لكي تنجح تلك الاستراتيجيّة. وفي هذا المنطق دلالة واضحة على المأزق الذي سبّبه تقرير وكالة الاستخبارات للإدارة الأمريكية، لأنّها أكّدت أنّ إيران أوقفت برنامجها للتسلّح النووي قبل أن تتحرّك الضغوطات الدوليّة من جهة، والعقوباتُ الاقتصاديّة في مجلس الأمن من جهة أخرى.

ومن خلال ذلك، نستطيع أن نؤكّد أنّ الموقف الأمريكي والأوروبي، ولاسيّما البريطاني والفرنسي، هو موقف سياسي للضغط على إيران للخضوع لحملها على القبول بالشروط السياسية التي تفرضها الدول الكبرى، ولمنعها من الحصول على التطوّر العلمي في الجانب النووي، كجزءٍ من السياسات الغربيّة التي لا تريد للدول الإسلامية والعربيّة أن تحصل على الاستقلال العلمي في كل ما يتّصل بحاجات الناس في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، لكي تبقى الحاجة إلى الغرب في الكبيرة والصغيرة، على خلفيّة أن يبقى المسلمون في حال فقر دائمٍ إلى الغرب وتبعية له.

وهذا ما ينبغي لدول المنطقة أن تفهمه جيّداً وأن تخطّط للتمرّد عليه، لأنّ الاستقلال هو استقلال الحاجات لا استقلال السياسات فحسب؛ بل إنّ هذا من ذاك.

وفي ضوء ذلك كلّه، فإنّ صناعة المستقبل تفرض علينا أن تكون أولوية التركيز هي على بناء قاعدة التقدّم الحضاري العلمي وعلى التطوّر التقني، وعلى إعداد العلماء المتخصّصين في كلّ الاختصاصات الضروريّة للوصول إلى الدرجة العليا في حركة الحضارة في كلّ شؤونها.

لبنان: النأي بالسلم الأهلي عن ساحة التجاذب السياسي:

وأخيراً، إنّنا نعتقد أنّ ثمّة نافذةً قد فتحت للتوافق في الاستحقاق الرئاسي في لبنان، ولكنّ المسألة لا تزال تواجه جدلاً في صورة المستقبل، وفي استمرار أزمة الثقة بين الأفرقاء، الأمر الذي يستدعي معاجلةً متواصلةً لذلك كلّه، وكذلك للتصريحات الاستهلاكيّة التي تدخل في باب الاستعراض السياسي والمجاملات الوطنيّة.

ولقد كنّا ولا نزال نؤكّد ضرورة أن يتّسم الخطاب الديني بعامة، ولا سيّما ذاك الذي ينطلق من مواقع تملك صفةً رسميّة، بالحكمة والموضوعيّة اللتين تتيحان لهذه المواقع أن تبقى على مسافة واحدة من الجميع، لتقوم بدورها على المستوى الوطني العام الذي يحافظ على العيش المشترك، ولا يستعدي طائفةً على أخرى، أو شخصيّةً فاعلةً في هذا الموقع على شخصيّة فاعلة في ذلك الموقع؛ لتبقى بعيدةً عن السقوط والإسقاط في المتاهات التي سقط فيها الخطاب السياسي الرسمي وغير الرسمي في تلاوينه ومظاهره، ولا سيّما مع وجود جدلٍ كبير حول كثير من القضايا الدستوريّة والميثاقيّة ممّا يختلف فيه الناس.

إنّنا نعتقد أنّ الأزمة اللبنانية كانت، ولا تزال، بالغة التعقيد داخليّاً وخارجيّاً، بحيث يكون تحميل طرفٍ بمفرده مسؤوليّة الأزمة واستمرارها نوعاً من التبسيط السياسي الذي قد يزيد الأزمة تعقيداً والجدل إثارةً.

إنّنا نريد لكلّ اللبنانيّين ـ من كلّ الأطياف ـ ألا يعتبروا السلم الأهلي والعيش المشترك موقع اختلاف وتجاذب، فهما فوق الأحزاب والطوائف والأشخاص والاتجاهات، ولا يجوز تالياً لأحد العبث بهما.

وفي الختام، إنّ الناس قلقون على مستقبلهم، فعلى الجميع ـ إذا كانوا مخلصين للناس وللوطن ـ أن يزيحوا هذا القلق المخيف الذي يثيره بعض الداخل والخارج في الكهوف والمغارات المظلمة التي لا تنفتح على أيّة ثغرةٍ من الضوء.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير