الإمام العسكريّ.. خُلُقٌ يشهد به الأعداء والأتباع

الإمام العسكريّ.. خُلُقٌ يشهد به الأعداء والأتباع

حديثنا في هذه اللّيلة عن الإمام الحسن بن علي العسكريّ(ع). ولعلّ القيمة في هذا الحديث، هي أنَّ القليل من الناس من يعرفون بشكل واضح خصائص حياة الأئمَّة المتأخّرين(ع) وأفكارهم وموقعهم، ومنهم الإمام العسكريّ(ع).

ونريد في هذا اللّقاء، بالرّغم من الظّروف الصّعبة الّتي يعيشها النّاس في هذا البلد والمنطقة، أن نطلّ على حياة الإمام الحسن العسكريّ(ع)، الَّذي يذكر في تاريخه أنّه ولد في شهر رمضان أو ربيع الآخر، سنة اثنين وثلاثين ومائتين للهجرة، وانتقل إلى جوار ربّه في يوم الجمعة، لثماني ليالٍ خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ستّين ومائتين، وكان من أصغر الأئمّة(ع) عمراً، فقد كان عمره ثمانية وعشرين سنة يوم وافاه الأجل.

مكانتـه في المجتمـع الإسلاميّ

وفي البداية، نحبّ أن نطلّ على ما نقله كتّاب سيرته من مكانته في المجتمع الإسلاميّ آنذاك، حيث إنّه كان يملك امتداداً من التّعظيم والإجلال في مواقع المجتمع كلّها، بما في ذلك الوزراء والقوّاد وطبقات المجتمع، حتى إنَّ بعض الَّذين كانوا ينصبون له العداء يشهدون بذلك.

وهناك وثيقة تاريخيَّة تنقل هذا الجوّ من بعض أولاد رجال الدّولة، حيث يروي (أحمد بن عبيد الله بن خاقان)، وكان أبوه وزيراً للمعتمد العباسي على الضّياع والخراج، أنّه جرى في مجلسه ذكر العلويّة، أي المنتسبين إلى الإمام عليّ(ع) ومذاهبهم، وكان شديد النَّصب، أي شديد العداوة لأهل البيت(ع)، فقال: "ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلويّة، مثل الحسن بن علي بن محمّد بن الرّضا، في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر ـ أي الموقع الكبير، فلقد كان في سنّ الشَّباب وكان هناك شيوخ من بني هاشم، وكانوا يقدّمونه عليهم ـ وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة النّاس". وهذا ما يبعث على التأمّل، إذ كيف يبلغ إنسان في خطّ مضادّ لموقع الخلافة هذه المنزلة العالية، لأنَّ هناك الكثير من الناس ممن كان يعتبر الإمام(ع) أحقّ بالخلافة، لو كانت ابتعدت عن بني العبّاس؟ فمن أين يحصل إنسان في هذه السنّ، وفي هذا الواقع الّذي يمتلئ بالّذين ينصبون العداوة لأهل البيت(ع)، على هذه المكانة؟

وربّما نقرأ في أكثر من حديثٍ من أحاديث الإمام العسكريّ(ع)، حديثه عن ناصبي العداء لهم الَّذين كثروا في عهده، وكانوا يتحركون بأكثر من أسلوب، ما جعل الإمام(ع) يركّز على ضرورة توعية السّائرين في خطّ أهل البيت(ع)، حتى لا يثير هؤلاء أمامهم الشّبهات، فلا بدَّ من أن يكون الإمام(ع) قد سيطر على الواقع من خلال الثقافة الّتي كان يحرّكها في ذلك الواقع، والسّموّ الروحيّ والأخلاقيّ والنّشاط الحركيّ في المجتمع، بالمستوى الذي لم يستطع أيّ أحد أن يسجّل عليه أيّة نقطة ضعف، ما جعله يفرض نفسه على الواقع كلّه.

ونتابع حديث (أحمد بن خاقان) الَّذي ينقل عن أبيه الَّذي كان من الشّخصيّات المبرزة في الدّولة، فيقول: "فإني كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يوم مجلسه للنّاس، إذ دخل عليه حجّابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا في الباب ـ ونعرف من هذا أنّ الأئمّة(ع) كانوا يلتقون بعض الشّخصيّات في الدّولة ويزورونهم، وذلك من أجل القيام ببعض مصالح المسلمين، ومراعاة الظّروف الحرجة المحيطة بهم ـ فقال بصوتٍ عال: ائذنوا له، فتعجّبت مما سمعت منهم أنهم جسروا ـ (أي تجرّأوا) ـ يكنّون رجلاً على أبي بحضرته، ولم يكن عنده إلا خليفة، أو وليّ عهد، أو من أمر السّلطان، أن يكنّى ـ فأن تذكر شخصاً بكنيته، فهذا مظهر من مظاهر التكريم، كما قال الشّاعر:

أكنّيـه حين أناديـه لأكرمـه          ولا ألقّبـه والسّوأة اللّقب

ـ فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيّد البدن، حديث السنّ، له دلالة وهيبة، فلمّا نظر إليه أبي، قام يمشي إليه خطى، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلمّا دنا منه، عانقه وقبّل وجهه وصدره، وأخذ بيده، وأجلسه على مصلاّه الَّذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلّمه ويفدّيه بنفسه، وأنا متعجّب مما أرى منه، إذ دخل عليه الحاجب، فقال: (الموفّق) ـ وهو أخو المعتمد العباسي ـ قد جاء. وكان الموفّق إذا دخل على أبي، تقدّم حجّابه وخاصّة قوّاده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدّار سماطين ـ (أي صفين متقابلين) ـ إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدّثه، حتى نظر إلى غلمان الخاصَّة ـ أي خدم الموفّق ـ قال حينئذٍ: إذا شئت ـ (أي أن تذهب) ـ جعلني الله فداك. ثم قال لحجّابه: خذوا به خلف السّماطين حتى لا يراه هذا ـ يعني الموفّق ـ فقام، وقام أبي وعانقه ومضى، فقلت لحجَّاب أبي وغلمانه: ويلكم، مَن هذا الذي كنّيتموه على أبي وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علويّ يقال له الحسن بن عليّ، يعرف بابن الرّضا، فازددت تعجّباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي، وما رأيت فيه حتى كان اللّيل، وكانت عادته أن يصلّي العتمة ـ (أي العشاء الآخرة) ـ ثم يجلس، فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات ـ (أي المراجعات) ـ وما يرفعه إلى السّلطان، فلمّا صلَّى وجلس، جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد، لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه، فإن أذنت لي سألتك عنها، فقال: قد أذنت لك يا بنيّ، فقُل ما أحببت، قلت: يا أبه، مَن الرّجل الّذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتَّبجيل، وفديته بنفسك وأبويك، فقال: يا بنيّ، ذاك إمام الرافضة ـ (أي الشيعة) ـ ذلك الحسن بن علي المعروف بابن الرّضا، فسكت ساعةً، ثم قال: يا بنيّ، لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العبّاس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنَّ هذا ليستحقّها في فضله، وعفافه، وهديه، وصيانته، وزهده، وعبادته، وجميل أخلاقه، وصلاحه".

فمع أنَّ هذا الرّجل هو وزير من وزراء الخلافة، نراه يحمل هذا التَّقدير والتعظيم الكبيرين للإمام(ع)، ثم يمضي قائلاً: "ولو رأيت أباه ـ أي الإمام الهادي(ع) ـ رأيت رجلاً جزلاً ـ (أي سخيّ العطاء) ـ نبيلاً فاضلاً. فازددت قلقاً وتفكّراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه، واستزدته في قوله وفعله فيه ما قال، فلم يكن لي همّة بعد ذلك إلا السّؤال عن خبره والبحث عن أمره ـ فلقد بدأت بعد هذه المعلومات عنه، أتفحّص حقيقة هذا الرجل العظيم ـ فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام، والمحلّ الرّفيع، والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي، إذ لم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلا وهو يحسن القول فيه والثّناء عليه"[1].

إنَّ هذا النّصّ يعتبر وثيقة تاريخيَّة تدلّ على مدى مكانة الإمام(ع) في المجتمع كلّه، سواء عند من يدين بإمامته أو عند من يعارضها، وليس لذلك من تفسير سوى أنَّ الإمام(ع) استطاع أن يفرض نفسه على المجتمع كلّه، من خلال الملكات القدسيّة الّتي كان يتمتّع بها في جميع جوانب المعرفة والروحانيّة والصَّلاح والخلق الرفيع.

سجـن الإمـام(ع)

وقد ذكر في تاريخ الإمام العسكريّ(ع) أنّ الخليفة العباسي حبسه، ونحن نعرف أنّ الأئمّة(ع) كانوا يُسجنون في عهد بني العبّاس، حيث كان هؤلاء يعرفون أنّ الأئمة من أهل البيت(ع) يملكون امتداداً روحيّاً ينفتح على امتداد سياسيّ معرفيّ، يحمله النّاس في نفوسهم لأهل البيت(ع)، لأنهم يعتبرونهم في موقع الإمامة، وربّما يرون أنّ لهم الشرعيّة في موقع السّلطة، ولذلك، كانوا يوكّلون عناصر مخابراتهم لرصد حركة كلّ إمام، بغية محاصرته، مخافة انفتاحه على المجتمع، وتخويف النّاس من اللّقاء به، وربّما كانوا بين وقت وآخر يعملون على إيذاء هذا الإمام أو ذاك، بزجّه في السّجن.

وهنا، ينقل التّاريخ لنا كيف كان تأثير الإمام(ع) في السِّجن، ففي الرّواية عن عليّ بن محمد عن محمد بن إسماعيل العلوي، قال: "حبس أبو محمد عند علي بن نارمش، وهو أنصب الناس وأشدّهم على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده إلا يوماً حتى وضع خدّيه له ـ كناية عن الخضوع والتذلّل ـ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده وهو أحسن النّاس بصيرةً، وأحسنهم فيه قولاً"[2]. وقد كان تأثير الإمام العسكريّ(ع) الرّوحيّ في هذا الرّجل قويّاً، ووصل إلى درجة أنّه استطاع فيها أن يقلب تفكيره كلّه ووجدانه كلّه، وإذا به يتحوَّل من عدوٍّ لدود إلى صديق حميم، بل تحوَّل إلى داعية إلى الإمام(ع).

وفي رواية بهذا الاتجاه أيضاً: "دخل العباسيّون على صالح بن وصيف ـ وهو الّذي يتولّى سجن الإمام ـ ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه النّاحية ـ أي ناحية الأئمَّة من مخالفيهم ـ على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمد ـ وكأنهم يشجّعونه على التّضييق على الإمام(ع) ـ فقال لهم صالح: وما أصنع ـ فلقد أعيتني الوسائل كلّها ـ وقد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصَّلاة والصّيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجلٍ يصوم النّهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم، ولا يتشاغل، وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمَّا سمعوا ذلك، انصرفوا خائبين"[3].

وهذا يدلّ على مدى قوّة التّأثير الروحيّ الّذي كان الإمام العسكري(ع) يتمتّع به، من دون أن يتكلّم مع الآخرين أو يدخل معهم في أيِّ حوار، وتلك هي خصوصيَّة أهل البيت(ع)، الَّذين يملكون من الملكات القدسيَّة الّتي حباهم الله إيّاها، ما يفيضون به على كلِّ النّاس الَّذين يعيشون معهم بكلّ المعرفة لله والرّوحانيّة والخلق العالي الّذي يجتذبون النّاس به إلى الخطّ الأصيل الّذي يمثّلونه، وهو خطّ الإسلام في منهج أهل البيت(ع).

وفي سيرته(ع)، أنّه بلغ عدد الرّواة عنه (149)، حدّثوا عنه بلا واسطة، مع الاختلاف في وثاقتهم ومنازلهم، ما يدلّ على اهتمام المجتمع الثقافي آنذاك بالمكانة العلميَّة الّتي يمثّلها الإمام الحسن العسكريّ(ع)، لأنَّ الرّواة ليسوا مجرّد أشخاص يسألون، بل كانوا يمثّلون أساتذة المجتمع في الثقافة الإسلاميّة، ومواقع المعرفة فيه.

كلمـاته في التّوحيـد

ونحاول هنا إثارة بعض الكلمات التي وردت عن الإمام الحسن العسكريّ(ع) في شؤون العقيدة والتفسير والأخلاق، لأنَّ علاقتنا بالأئمَّة(ع)، كما ذكرنا أكثر من مرّة، هي علاقة السَّير على منهاجهم، والانفتاح على علمهم، والتحرّك في الواقع الّذي يصنعونه ويديرونه ويقودونه.

ففي باب التّوحيد، هناك عدّة أحاديث في جانب العقيدة بالله سبحانه وتعالى، حيث كان الجدل يدور في المراحل الّتي عاش فيها الأئمَّة من أهل البيت(ع)، منذ عهد الإمام الباقر(ع) حتى عهد الإمام العسكري(ع)، حول صفات الله، فكان بعضهم يتحدّث عن أنَّ الله جسم، والبعض يتحدّث عنه على أنّه صورة وما إلى ذلك، وكان الأئمّة(ع) يتبعون في توجيه الناس منهجاً يعتمد لغة القرآن بأسلوبه ومفرداته في العقيدة، ليوجّهوا الناس إلى الأخذ بالعناوين الكبرى في العقيدة من القرآن، وأن لا ينطلقوا من خلال أسلوب الفلسفة، لأنّ هذا الأسلوب، بالرغم مما يحمله من إيجابيّات، فإنه لا يملك أن يتحدّث عن الله سبحانه وتعالى كما هو الحديث عن صفاء العقيدة، لأنَّ التعقيدات الفلسفيّة قد تردّ الشّبهات، ولكنَّها لا تستطيع أن تبني العقيدة.

فعن يعقوب بن إسحاق، قال: "كتبت إلى أبي محمد(ع) أسأله: كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه؟ فوقّع(ع): يا أبا يوسف، جلّ سيّدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يُرى ـ {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}[4]. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[5] ـ قال: وسألته: هل رأى رسول الله(ص) ربّه؟ فوقّع(ع): إنّ الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ"[6].

فلقد رأى رسول الله(ص) ربّه، ولكنّه لم يره بالعين الباصرة، بل بعين قلبه، لأنَّ القلوب تبصر من الحقائق ما لا تستطيع العيون أن تبصره: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[7]. فمشكلة بعض النّاس أنهم يملكون العيون المفتوحة والقلوب العمياء، والخطورة، كلّ الخطورة، أن يكون القلب أعمى.

وعن الكليني عن سهل: (والراوي هنا قد لا يكون موثوقاً، ولكنَّ الرواية موثوقة، لأنها تتفق مع روايات صحيحة، ولأنها لا تشتمل على ما يدعو إلى الكذب): "قال: كتبت إلى أبي محمد(ع) سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيِّدي أصحابنا في التوحيد ـ وهذا يدلّ على أنَّ الجدل الكلامي في التوحيد كان يدور حتى في أوساط أتباع أهل البيت(ع) ـ منهم من يقول: هو جسم، ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيّدي أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه، فعلت متطوّلاً على عبدك ـ والعبوديّة هنا من باب التّواضع ـ فوقّع بخطّه(ع): سألت عن التّوحيد، وهذا منكم معزول، الله واحد أحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك، وليس بجسم، ويصوّر ما يشاء وليس بصورة، جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره، ليس كمثله شيء، وهو السّميع البصير"[8].

فلقد أراد الإمام العسكريّ(ع) أن يقول للسَّائل أن لا يستغرق في الجدل الكلاميّ والتعقيدات الفلسفيّة عندما يتحدَّث عن الله سبحانه وتعالى، ولكن طلب إليه أن يقرأ كتاب الله فيما أنزله من آياته، فهو أعرف بنفسه من مخلوقاته كلّها، لأنّ المخلوق لا يستطيع أن يعرف من ربّه إلا ما عرّفه ربّه، وإلا، فما يمكن أن يدركه العقل من صفاته، فهو ليس بجسم، لأنه خالق الأجسام، وهو ليس بصورة، لأنه خالق الصّورة ومبدعها.

وقد جاء عن المسعودي في (إثبات الوصيَّة)، بإسناده عن أبي هاشم الجعفري، قال: "سأل محمّد بن صالح الأرمني، أبا محمّد عليه السلام عن قول الله تعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[9]. فقال: هل يمحو إلا ما كان، وهل يثبت إلا ما لم يكن؟ فقلت في نفسي: هذا خلاف قول هشام، إنّه لا يعلم بالشَّيء حتى يكون. فالله سبحانه وتعالى ـ حسب هذا القول ـ إنما يعلم الأشياء بعد أن تتكوَّن، والإمام(ع) يقول إن الله يعلم بالأشياء قبل وجودها ـ فنظر إليّ أبو محمد ـ فكأنّ الإمام(ع) عرف ما في نفسه.

وهناك أحاديث كثيرة عن الإمام العسكريّ وعن الأئمَّة(ع)، تذكر أنَّ بعض الناس كان يسمع الجواب من الإمام عما كان يدور في ذهنه وهو يفكّر، أي لم يطرح السّؤال بعد، حيث إنَّ الملكة القدسيَّة تجعله(ع) يعرف ما يضمر هؤلاء من قبل أن يتحدَّثوا به ـ وقال: تعالى الجبّار، العالم بالأشياء قبل كونها، الخالق إذ لا مخلوق، والرّبّ إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه، فقلت: أشهد أنّك حجّة الله ووليّه بقسط، وأنك على منهاج أمير المؤمنين"[10].. فلقد أكّد له أنَّ المخلوقين يحتاجون إلى معرفة الأشياء في صورتها الوجوديّة، أما الله، فهو الَّذي يخلق الوجود، فهو يعرف ما يريد أن يخلقه قبل أن يخلقه.

ملاحقـة الأفكـار المنحرفـة

وهناك قصَّة ينقلها ابن شهرآشوب في (المناقب) عن أبي القاسم الكوفي في كتاب (التّبديل)، تدلّ على أنَّ الإمام العسكريّ(ع) كان يلاحق التطوّر الثقافي في مواجهة الفكر الإسلاميّ، بحيث كان يلاحق المفكّرين في زمانه، وخصوصاً الَّذين يعملون على هدم الأسس العقيديّة والثقافيّة للإسلام، ومنهم فيلسوف العراق، ويُقال أيضاً فيلسوف العرب (يعقوب ابن إسحاق الكندي)، فيروي ابن شهرآشوب عن الكندي: "أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغّل نفسه بذلك، وتفرَّد به في منـزله، وإنَّ بعض تلامذته دخل يوماً على الحسن العسكري، فقال له أبو محمّد(ع): أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمَّا أخذ فيه من تشاغله القرآن؟ فقال التّلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منَّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمّد(ع): أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فصر إليه، وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ـ فالشَّرط الأوّل أن تدخل قلبه، لتستطيع أن تدخل عقله، وهذا أسلوب من أساليب الحوار في القرآن، وهو أنَّك إذا أردت أن تدخل في حوار فكريّ مع شخص آخر تختلف معه، لتقنعه بما أنت فيه، أو لتناقشه فيما هو فيه، فعليك أوّلاً أن تفتح قلبه بالكلمة الحلوة، والإطلالة الحلوة، والأسلوب الحلو، لا أن تكفّره وتزندقه وتجهّله، {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[11]، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[12] ـ فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن ـ (أي الّذي يوحي لك بهذه الأفكار) ـ هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني الّتي قد ظننت أنّك قد ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك: إنّه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع ـ وعظمة أهل البيت(ع) أنهم لا ينكرون على الَّذين يختلفون معهم صفاتهم الإيجابيّة، خلافاً لما هو دائر بيننا، فإذا اختلفنا مع شخص، فلا نتحدّث عنه بخير، ولو بنسبة واحد في المائة، فمع أنَّ الكندي ألّف كتاباً في تناقض القرآن، وهو أمر خطير، لكنَّ الإمام(ع) يقول لتلميذه إنّه سيقول لك من الجائز، لأنه رجل مفكّر، ولأنه رجل منسجم مع نفسه، فإذا جئته بفكرة معقولة، فإنها سوف تدخل عقله، ولا يتعصّب في رفضها، ويتشبّث بقناعاته ـ فإذا أوجب ذلك ـ فإذا رأيته استجاب للمسألة ـ فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الّذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه.

فصار الرّجل إلى الكندي، وتلطَّف إلى أن ألقى إليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه، فتفكَّر في نفسه، ورأى ذلك محتملاً في اللّغة، وسائغاً في النظر ـ فاللّغة العربيَّة مرنة متحرّكة، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنّه الحقيقة وهو من المجاز، وقد يفهم أنّ المراد هو المعنى اللغوي، والمقصود هو المعنى الكنائي ـ فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنـزلة، فعرّفني من أين لك هذا. فقال: أمرني به أبو محمّد(ع)، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا الأمر إلا من ذلك البيت ـ الّذي زقّ أهله العلم زقّاً، والّذين يعيشون صفاء الحقيقة واستقامة التفكير والجدل من أجل الوصول إلى الحقيقة ـ ثم إنه دعا بالنّار وأحرق جميع ما كان ألّفه[13].

فالإمام العسكريّ(ع) كان يتابع بدقّة ما يجري في السّاحة الفكريّة في عهده، ويناقش الأفكار المنحرفة الّتي تطرح هنا وهناك، وكان يواجهها بالحجَّة وبالأسلوب العلميّ، لأنّه يعرف أنَّ شخصاً مثل الكنديّ الّذي هو فيلسوف العراق، لا يمكن أن تردَّه عمَّا هو فيه بالأساليب السلبيَّة، كالشّتائم والتكفير والتّضليل وما إلى ذلك، مما يستخدمه المتفلسفون الَّذين لا يملكون الحجّة على ما يواجهون به الّذين يختلفون معهم.

وهناك حديث آخر أيضاً يحاول الإمام(ع) أن يردَّ فيه بعض الشّبهات، فعن الكليني بإسناده عن إسحاق بن محمد النخعي، قال: "سأل الفهفكي أبا محمّد(ع) ـ السؤال المطروح دائماً: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[14]. فلماذا جعل الله المرأة الطرف الضّعيف وأنقص من حقّها، وجعل الرّجل الطّرف القويّ وجعل له الحظّ الأوفر؟ ـ قال: ما بال المرأة المسكينة الضَّعيفة، تأخذ سهماً واحداً، ويأخذ الرّجل سهمين؟! فقال أبو محمد(ع): إنَّ المرأة ليس عليها جهاد ـ بينما الرّجل عليه جهاد، وكان الرّجل في الجهاد يأخذ سلاحه، فلم تكن الدّولة تعطي المقاتل سلاحاً، بل يشتريه، ويحمل معه مؤونته وراحلته ـولا نفقة ـ فلا يجب عليها أن تنفق على الرّجل ولا على أولادها، بل الرّجل هو الّذي ينفق عليها ـ ولا عليها معقلة، إنّما ذلك على الرّجال ـ فإذا قتل شخص إنساناً خطأً، فإنّ الدية تتحمّلها العاقلة، وهي الرجال من الأقرباء، أمّا النّساء، فلا يدفعن الدّية، فالله عندما أعطى الرّجل، أعطاه بمقدار ما أخذ منه، فقد حمّله مسؤوليّة الجهاد ونفقة العائلة ونفقة الزّوجة، وجعله مشاركاً في الدية الّتي تكون على العائلة، أمّا المرأة، فإنّه لم يلزمها بذلك. ومعنى ذلك، أنَّ حصّة المرأة أصبحت أكثر من حصّة الرّجل، وكأنَّ الإمام(ع) يريد أن يقول له: ليست المسألة هي أنه كم أعطاك، لكن كم أخذ منك، فمن الرابح في الطرفين في المحصِّلة؟ إنَّ المرأة إذا تزوّجت تأخذ مهراً وتأخذ النَّفقة، فلا تنفق من مالها، ثم إنَّ نفقة الأولاد على الرَّجل أيضاً، فمالها يبقى ثابتاً لا يتحرّك.

ولذا، قلنا لبعض الصّحافيّين من باب النكتة، إنّه يجب على الرّجال المطالبة بالمساواة مع النساء، باعتبار أنَّ حصّة المرأة أكبر، يقول ـ فقلت في نفسي: قد قيل لي إنَّ ابن أبي العوجاء قد سأل أبا عبد الله(ع) عن هذه المسألة، فأجابه بهذا الجواب ـ والإمام العسكريّ(ع) التقط ما في نفسه قبل أن يتحدَّث به ـ فأقبل أبو محمّد(ع) فقال: نعم، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء، والجواب منّا واحد ـ فنحن لا نختلف والإمام الصَّادق(ع)، فجوابنا واحد ـ إذا كان معنى المسألة واحداً، جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا؛ وأوّلنا وآخرنا في العلم سواء ـ ليس هناك إمام أفضل من إمام ـ ولرسول الله(ص) ولأمير المؤمنين(ع) فضلهما"[15].

وهذه حقيقية إيمانيّة لا بدّ من أن ننتبه إليها، وهي أنَّ الإمام(ع) يؤكّد في هذه الرواية، أنّ الأئمّة(ع) حتى لو صدر عن بعضهم، ولم يصدر عن البعض الآخر إلا أقلّ من ذلك، بسبب الظروف التي تتّسع لبعض وتضيق عن آخر، إلا أنَّ قاعدة العلم واحدة للأوّل وللآخر.

موقـف الشّيعة من الأئمـّة(ع)

وهناك مشكلة، وهي أنَّ بعض الأحاديث الواردة، تدلّ على أنّ بعض الناس كان يشكّك في الإمام(ع)، كما كان يحدث في حياة أكثر من إمام، حيث كانوا يقفون على بعض الأئمَّة، ولا يتعدّونهم إلى غيرهم، وقد سمّوا بـ(الواقفة)، فقد "كتب إليه بعض الشّيعة"، والواقع الشّيعي آنذاك كانت تؤثّر فيه مؤثّرات كثيرة، حتى في قضيّة الإمامة، من خلال الأخلاقيّة الّتي يعيشها بعض الناس في إخلاصهم للخطّ، أو ابتعادهم عنه، والتاريخ يعيد نفسه، فكتب(ع): "إنّما خاطب الله العاقل ـ ولم يخاطب الّذين لا يعقلون، لأنهم لا ينفتحون على خطاب الله: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}[16] ـوالنّاس فيَّ على طبقات: المستبصر على سبيل نجاة ـ فهناك من يعيش البصيرة في عقله وقلبه وروحه، من أجل أن ينجو عندما يقف بين يدي الله، ويحاول أن ينطلق على أساس الحجَّة والبرهان، وهو يبحث عنهما، فإذا التقى بهما في عمق بصيرته، انفتح على نتائج الحقيقة ـ متمسّك بالحقّ، متعلّق بفرع الأصل، غير شاكّ ولا مرتاب، لا يجد عنّي ملجأً ـ عندما تطبق عليه الدّروب، فإنّه يلجأ إليّ، لأنّه يعرف أنَّ الحقيقة عندي، وأنَّ الهدى هنا ـ وطبقة لم تأخذ الحقّ من أهله ـ يعني أنها أخذت العلم ممّن لا يملك العلم، أو ممن لا يملك مسؤوليَّته، وهذا هو حال الكثير من الناس ممن قد تجده يتزيّا بزيّ العلماء، ولكنَّه لا يملك تقوى العلم، ولا يملك عمقه، ولا يملك الطَّريقة والموقع الّذي ينفتح فيه على العلم ـ وطبقة لم تأخذ الحقّ من أهله، فهم كراكب البحر، يموج عند موجه، ويسكن عند السّكون ـ فليس عنده قاعدة ثابتة ينطلق منها، ولا أرض يقف عليها، كما قال الشّاعر:

إذا الـرّيـح مـالـت    مـال حيـث تميــل

ـ فهؤلاء هم الضَّائعون، وطبقة استحوذ عليهم الشّيطان، شأنهم الردّ على أهل الحقّ ـ فلديهم عقد كثيرة، وينطلقون من عقدهم النفسيَّة ـ ودفع الحقّ بالباطل، حسداً من عند أنفسهم ـ وما أكثر الحاسدين الّذين يتحرّك الحسد في نفوسهم، لينطلق في تصرّفاتهم وسلوكيّاتهم! ـ فدع من ذهب يميناً وشمالاً، فإنَّ الرّاعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها بأهون سعي، وإيّاك والإذاعة ـ لأنّه كانت هناك بعض الأمور السريّة الّتي تحمي الحقّ ـوطلب الرّئاسة، فإنّهما يدعوان إلى الهلكة"[17].

وخرج في بعض توقيعاته عند اختلاف قومٍ من شيعته في أمره ـ وانظروا كيف كان الإمام(ع) يعيش المرارة من الذين يحيطون به، أو ممن يحسبون من أتباع أهل البيت(ع) ـ قال(ع): "ما مُني أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيت به من شكّ هذه العصابة فيّ، فإن كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه، ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع، فللشكّ موضع ـ فقد تحصل لدى البعض شبهات وشكّ في بعض الأمور، لكنَّه يحاول أن يتحرّك من أجل أن يزيل الشّكّ ليلتقي بالحقيقة ـ وإن كان متَّصلاً ما اتَّصلت أمور الله، فما معنى هذا الشّكّ؟"[18]، لأنّ الشّكّ لا ينطلق من قاعدة.

وقال لشيعته وهو يوصيهم، والوصيّة هي للشّيعة في الخطّ الإسلامي، لأنّ التشيّع ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، بل هو الخطّ الأصيل للإسلام، وهذه الوصيّة مرويّة أيضاً عن الإمام الصَّادق(ع) مع بعض التّغيير في الألفاظ: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ في معرفته وطاعته وعبادته ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السّجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد(ص). صلّوا في عشائرهم ـ يعني هؤلاء الّذين يجاورونكم وتختلفون معهم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع النّاس، قيل هذا شيعي، فيسرّني ذلك ـ لأنّه سائر على الحقّ والاستقامة في خطِّ الإسلام ـاتّقوا الله وكونوا زيناً ـ نتزيَّن به ـ ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلَّ مودّة ـ اجعلوا النّاس يحبّوننا، فلا تتحدَّثوا مع النّاس بالحقد والبغضاء والسّباب وما إلى ذلك ـ وادفعوا عنّا كلّ قبيح، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوءٍ فما نحن كذلك، لنا حقّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب".

هذه وصيّته، فهل نعمل بوصيَّته؟ إنها تمثّل الخطّ الإسلاميّ في عالم العبادة، وفي عالم السّلوك الاجتماعيّ الّذي يجعل الإنسان في مجتمعه خيراً لكلِّ مجتمعه، سواء مع النّاس الّذين يلتقي معهم في الخطّ، أو مع الّذين يختلف معهم. وهكذا، أن يكون الإنسان زيناً لمن ينتمي إليهم، ولا يكون شيناً عليهم، وذلك هو نهج رسول الله(ص): {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[19]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[20]، "أكثروا ذكر الله ـ حتى يعيش الإيمان الحيّ المتحرّك في عقولكم وفي قلوبكم، لأنَّكم إذا ذكرتم الله، ذكّرتم أنفسكم بمسؤوليَّاتكم، وإذا نسيتم الله، نسيتم أنفسكم، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}[21] ـوذكر الموت، وتلاوة القرآن، والصَّلاة على النبي، فإنّ الصَّلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ـ والخطاب لنا ـ ما وصّيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السّلام"[22]، وعليك السَّلام أيّها الإمام البرّ التقي.

وقال في نهاية المطاف عن الَّذين يستهينون ببعض الذّنوب: "من الذّنوب التي لا تغفر قول الرّجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا"[23]. وقال(ع): "إيّاكم ومحقّرات الذّنوب، فإنّها تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه"[24]، ثم قال(ع): "الإشراك في النّاس أخفى من دبيب النّمل على المسح الأسود في اللّيلة المظلمة"[25]، لأنَّ الكثير من الناس قد يشركون بالله وهم لا يشعرون، عندما ينفتحون على رضا الناس عنهم، بعيداً عن رضا الله عنهم، ولذلك، فهم يقصدون الناس بالعمل، ليرفعوا درجتهم عندهم، ولا يقصدون الله ليتقرّبوا به إليه. وقد جاء ـ أيها الأحبّة ـ في سيرة الإمام(ع)، أنه عندما مرض، أرسلت إليه السّلطة الكثير من الأطبّاء لمعالجته والبقاء إلى جانبه، حتّى إذا قبضه الله إلى جواره، أرسل الخليفة إلى العلماء والقضاة لينظروا إليه، وليشهدوا أنّه مات حتف أنفه، حتى لا تتّهم الخلافة بقتله.

ويذكر المؤرِّخون أنّه عندما أعلنت وفاته، ضجَّت سامرّاء ضجَّةً واحدة، وانطلق كلّ النّاس في تشييعه، وأرسل الخليفة إلى بيته من يفحص هل له ولد، ويفحص جواريه هل إنَّ إحداهنّ حامل، لأنهم كانوا يريدون أن يطمئنوا لانقطاع الإمامة، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أخفى وليّه بالطَّريقة التي حفظ بها هذا الوليّ الّذي ينتظره العالم كلّه، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.

وصلّى الله على الإمام الحسن العسكريّ(ع)، وعلى آبائه(ع)، وعلى ولده(ع)؛ حجَّة الله في الأرض، سائلين الله أن ينفعنا ببركته وبركة آبائه، وأن يرزقنا شفاعتهم، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[26].

وهذه هي بعض آثار الإمام العسكريّ(ع)، الّتي نريد أن ننفتح عليها لنـزداد علماً من علمه، ووعياً مما يعطينا من عناصر الوعي. وقد كنت ولا أزال أقول لكم: لا تقتصروا في علاقاتكم بالأئمَّة من أهل البيت(ع) على جانب المأساة، ولكن انطلقوا إلى جانب العلم الذي علّموه، والهدي الّذي أرادوا لنا الاهتداء به، والنّهج الذي نسير عليه: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"[27]، أن نتعلّم علومهم، وأن ننهج نهجهم، وأن نطلق سيرتهم كلّها للعالم كلّه، ولا سيَّما العالم المعاصر، ليعرف من هم أهل البيت(ع)، لأنَّ الكثيرين، حتى ممن ينتمون إلى أهل البيت(ع)، لا يعرفون من هم أهل البيت(ع) علماً وروحانيّةً وحركةً ومنهجاً.

*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 503، 504.

[2]  المصدر نفسه، ج 1، ص 508.

[3]  المصدر نفسه، ج 1، ص 512.

[4]  [الأنعام: 103].

[5]  [الشورى: 11].

[6]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 4، ص 44.

[7]  [الحجّ: 46].

[8]  الكافي، ج 1، ص 103.

[9]  [الرّعد: 39].

[10]  إثبات الوصيّة، ص:341.

[11]  [النّحل: 125].

[12]  [الإسراء: 53].

[13]  مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3، ص 526.

[14]  [النّساء: 11].

[15]  الكافي، ج 7، ص 85.

[16]  [البقرة: 7].

[17]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 487.

[18]  المصدر نفسه، ص 487.

[19]  [القلم: 4].

[20]  [آل عمران: 159].

[21]  [الحشر: 19].

[22]  ميزان الحكمة، محمد الرّيشهري، ج 4، ص 3547.

[23]  الخصال، الشّيخ الصّدوق، ص23.

[24]  في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنيّة.

[25]  تحف العقول، ص 487.

[26]  [الشّعراء: 88 ، 89].

[27]  عيون المعجزات، حسين بن عبد الوهاب، ص 1.


حديثنا في هذه اللّيلة عن الإمام الحسن بن علي العسكريّ(ع). ولعلّ القيمة في هذا الحديث، هي أنَّ القليل من الناس من يعرفون بشكل واضح خصائص حياة الأئمَّة المتأخّرين(ع) وأفكارهم وموقعهم، ومنهم الإمام العسكريّ(ع).

ونريد في هذا اللّقاء، بالرّغم من الظّروف الصّعبة الّتي يعيشها النّاس في هذا البلد والمنطقة، أن نطلّ على حياة الإمام الحسن العسكريّ(ع)، الَّذي يذكر في تاريخه أنّه ولد في شهر رمضان أو ربيع الآخر، سنة اثنين وثلاثين ومائتين للهجرة، وانتقل إلى جوار ربّه في يوم الجمعة، لثماني ليالٍ خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ستّين ومائتين، وكان من أصغر الأئمّة(ع) عمراً، فقد كان عمره ثمانية وعشرين سنة يوم وافاه الأجل.

مكانتـه في المجتمـع الإسلاميّ

وفي البداية، نحبّ أن نطلّ على ما نقله كتّاب سيرته من مكانته في المجتمع الإسلاميّ آنذاك، حيث إنّه كان يملك امتداداً من التّعظيم والإجلال في مواقع المجتمع كلّها، بما في ذلك الوزراء والقوّاد وطبقات المجتمع، حتى إنَّ بعض الَّذين كانوا ينصبون له العداء يشهدون بذلك.

وهناك وثيقة تاريخيَّة تنقل هذا الجوّ من بعض أولاد رجال الدّولة، حيث يروي (أحمد بن عبيد الله بن خاقان)، وكان أبوه وزيراً للمعتمد العباسي على الضّياع والخراج، أنّه جرى في مجلسه ذكر العلويّة، أي المنتسبين إلى الإمام عليّ(ع) ومذاهبهم، وكان شديد النَّصب، أي شديد العداوة لأهل البيت(ع)، فقال: "ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلويّة، مثل الحسن بن علي بن محمّد بن الرّضا، في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر ـ أي الموقع الكبير، فلقد كان في سنّ الشَّباب وكان هناك شيوخ من بني هاشم، وكانوا يقدّمونه عليهم ـ وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة النّاس". وهذا ما يبعث على التأمّل، إذ كيف يبلغ إنسان في خطّ مضادّ لموقع الخلافة هذه المنزلة العالية، لأنَّ هناك الكثير من الناس ممن كان يعتبر الإمام(ع) أحقّ بالخلافة، لو كانت ابتعدت عن بني العبّاس؟ فمن أين يحصل إنسان في هذه السنّ، وفي هذا الواقع الّذي يمتلئ بالّذين ينصبون العداوة لأهل البيت(ع)، على هذه المكانة؟

وربّما نقرأ في أكثر من حديثٍ من أحاديث الإمام العسكريّ(ع)، حديثه عن ناصبي العداء لهم الَّذين كثروا في عهده، وكانوا يتحركون بأكثر من أسلوب، ما جعل الإمام(ع) يركّز على ضرورة توعية السّائرين في خطّ أهل البيت(ع)، حتى لا يثير هؤلاء أمامهم الشّبهات، فلا بدَّ من أن يكون الإمام(ع) قد سيطر على الواقع من خلال الثقافة الّتي كان يحرّكها في ذلك الواقع، والسّموّ الروحيّ والأخلاقيّ والنّشاط الحركيّ في المجتمع، بالمستوى الذي لم يستطع أيّ أحد أن يسجّل عليه أيّة نقطة ضعف، ما جعله يفرض نفسه على الواقع كلّه.

ونتابع حديث (أحمد بن خاقان) الَّذي ينقل عن أبيه الَّذي كان من الشّخصيّات المبرزة في الدّولة، فيقول: "فإني كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يوم مجلسه للنّاس، إذ دخل عليه حجّابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا في الباب ـ ونعرف من هذا أنّ الأئمّة(ع) كانوا يلتقون بعض الشّخصيّات في الدّولة ويزورونهم، وذلك من أجل القيام ببعض مصالح المسلمين، ومراعاة الظّروف الحرجة المحيطة بهم ـ فقال بصوتٍ عال: ائذنوا له، فتعجّبت مما سمعت منهم أنهم جسروا ـ (أي تجرّأوا) ـ يكنّون رجلاً على أبي بحضرته، ولم يكن عنده إلا خليفة، أو وليّ عهد، أو من أمر السّلطان، أن يكنّى ـ فأن تذكر شخصاً بكنيته، فهذا مظهر من مظاهر التكريم، كما قال الشّاعر:

أكنّيـه حين أناديـه لأكرمـه          ولا ألقّبـه والسّوأة اللّقب

ـ فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيّد البدن، حديث السنّ، له دلالة وهيبة، فلمّا نظر إليه أبي، قام يمشي إليه خطى، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلمّا دنا منه، عانقه وقبّل وجهه وصدره، وأخذ بيده، وأجلسه على مصلاّه الَّذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلّمه ويفدّيه بنفسه، وأنا متعجّب مما أرى منه، إذ دخل عليه الحاجب، فقال: (الموفّق) ـ وهو أخو المعتمد العباسي ـ قد جاء. وكان الموفّق إذا دخل على أبي، تقدّم حجّابه وخاصّة قوّاده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدّار سماطين ـ (أي صفين متقابلين) ـ إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدّثه، حتى نظر إلى غلمان الخاصَّة ـ أي خدم الموفّق ـ قال حينئذٍ: إذا شئت ـ (أي أن تذهب) ـ جعلني الله فداك. ثم قال لحجّابه: خذوا به خلف السّماطين حتى لا يراه هذا ـ يعني الموفّق ـ فقام، وقام أبي وعانقه ومضى، فقلت لحجَّاب أبي وغلمانه: ويلكم، مَن هذا الذي كنّيتموه على أبي وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علويّ يقال له الحسن بن عليّ، يعرف بابن الرّضا، فازددت تعجّباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي، وما رأيت فيه حتى كان اللّيل، وكانت عادته أن يصلّي العتمة ـ (أي العشاء الآخرة) ـ ثم يجلس، فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات ـ (أي المراجعات) ـ وما يرفعه إلى السّلطان، فلمّا صلَّى وجلس، جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد، لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه، فإن أذنت لي سألتك عنها، فقال: قد أذنت لك يا بنيّ، فقُل ما أحببت، قلت: يا أبه، مَن الرّجل الّذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتَّبجيل، وفديته بنفسك وأبويك، فقال: يا بنيّ، ذاك إمام الرافضة ـ (أي الشيعة) ـ ذلك الحسن بن علي المعروف بابن الرّضا، فسكت ساعةً، ثم قال: يا بنيّ، لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العبّاس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنَّ هذا ليستحقّها في فضله، وعفافه، وهديه، وصيانته، وزهده، وعبادته، وجميل أخلاقه، وصلاحه".

فمع أنَّ هذا الرّجل هو وزير من وزراء الخلافة، نراه يحمل هذا التَّقدير والتعظيم الكبيرين للإمام(ع)، ثم يمضي قائلاً: "ولو رأيت أباه ـ أي الإمام الهادي(ع) ـ رأيت رجلاً جزلاً ـ (أي سخيّ العطاء) ـ نبيلاً فاضلاً. فازددت قلقاً وتفكّراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه، واستزدته في قوله وفعله فيه ما قال، فلم يكن لي همّة بعد ذلك إلا السّؤال عن خبره والبحث عن أمره ـ فلقد بدأت بعد هذه المعلومات عنه، أتفحّص حقيقة هذا الرجل العظيم ـ فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام، والمحلّ الرّفيع، والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي، إذ لم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلا وهو يحسن القول فيه والثّناء عليه"[1].

إنَّ هذا النّصّ يعتبر وثيقة تاريخيَّة تدلّ على مدى مكانة الإمام(ع) في المجتمع كلّه، سواء عند من يدين بإمامته أو عند من يعارضها، وليس لذلك من تفسير سوى أنَّ الإمام(ع) استطاع أن يفرض نفسه على المجتمع كلّه، من خلال الملكات القدسيّة الّتي كان يتمتّع بها في جميع جوانب المعرفة والروحانيّة والصَّلاح والخلق الرفيع.

سجـن الإمـام(ع)

وقد ذكر في تاريخ الإمام العسكريّ(ع) أنّ الخليفة العباسي حبسه، ونحن نعرف أنّ الأئمّة(ع) كانوا يُسجنون في عهد بني العبّاس، حيث كان هؤلاء يعرفون أنّ الأئمة من أهل البيت(ع) يملكون امتداداً روحيّاً ينفتح على امتداد سياسيّ معرفيّ، يحمله النّاس في نفوسهم لأهل البيت(ع)، لأنهم يعتبرونهم في موقع الإمامة، وربّما يرون أنّ لهم الشرعيّة في موقع السّلطة، ولذلك، كانوا يوكّلون عناصر مخابراتهم لرصد حركة كلّ إمام، بغية محاصرته، مخافة انفتاحه على المجتمع، وتخويف النّاس من اللّقاء به، وربّما كانوا بين وقت وآخر يعملون على إيذاء هذا الإمام أو ذاك، بزجّه في السّجن.

وهنا، ينقل التّاريخ لنا كيف كان تأثير الإمام(ع) في السِّجن، ففي الرّواية عن عليّ بن محمد عن محمد بن إسماعيل العلوي، قال: "حبس أبو محمد عند علي بن نارمش، وهو أنصب الناس وأشدّهم على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده إلا يوماً حتى وضع خدّيه له ـ كناية عن الخضوع والتذلّل ـ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده وهو أحسن النّاس بصيرةً، وأحسنهم فيه قولاً"[2]. وقد كان تأثير الإمام العسكريّ(ع) الرّوحيّ في هذا الرّجل قويّاً، ووصل إلى درجة أنّه استطاع فيها أن يقلب تفكيره كلّه ووجدانه كلّه، وإذا به يتحوَّل من عدوٍّ لدود إلى صديق حميم، بل تحوَّل إلى داعية إلى الإمام(ع).

وفي رواية بهذا الاتجاه أيضاً: "دخل العباسيّون على صالح بن وصيف ـ وهو الّذي يتولّى سجن الإمام ـ ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه النّاحية ـ أي ناحية الأئمَّة من مخالفيهم ـ على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمد ـ وكأنهم يشجّعونه على التّضييق على الإمام(ع) ـ فقال لهم صالح: وما أصنع ـ فلقد أعيتني الوسائل كلّها ـ وقد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصَّلاة والصّيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجلٍ يصوم النّهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم، ولا يتشاغل، وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمَّا سمعوا ذلك، انصرفوا خائبين"[3].

وهذا يدلّ على مدى قوّة التّأثير الروحيّ الّذي كان الإمام العسكري(ع) يتمتّع به، من دون أن يتكلّم مع الآخرين أو يدخل معهم في أيِّ حوار، وتلك هي خصوصيَّة أهل البيت(ع)، الَّذين يملكون من الملكات القدسيَّة الّتي حباهم الله إيّاها، ما يفيضون به على كلِّ النّاس الَّذين يعيشون معهم بكلّ المعرفة لله والرّوحانيّة والخلق العالي الّذي يجتذبون النّاس به إلى الخطّ الأصيل الّذي يمثّلونه، وهو خطّ الإسلام في منهج أهل البيت(ع).

وفي سيرته(ع)، أنّه بلغ عدد الرّواة عنه (149)، حدّثوا عنه بلا واسطة، مع الاختلاف في وثاقتهم ومنازلهم، ما يدلّ على اهتمام المجتمع الثقافي آنذاك بالمكانة العلميَّة الّتي يمثّلها الإمام الحسن العسكريّ(ع)، لأنَّ الرّواة ليسوا مجرّد أشخاص يسألون، بل كانوا يمثّلون أساتذة المجتمع في الثقافة الإسلاميّة، ومواقع المعرفة فيه.

كلمـاته في التّوحيـد

ونحاول هنا إثارة بعض الكلمات التي وردت عن الإمام الحسن العسكريّ(ع) في شؤون العقيدة والتفسير والأخلاق، لأنَّ علاقتنا بالأئمَّة(ع)، كما ذكرنا أكثر من مرّة، هي علاقة السَّير على منهاجهم، والانفتاح على علمهم، والتحرّك في الواقع الّذي يصنعونه ويديرونه ويقودونه.

ففي باب التّوحيد، هناك عدّة أحاديث في جانب العقيدة بالله سبحانه وتعالى، حيث كان الجدل يدور في المراحل الّتي عاش فيها الأئمَّة من أهل البيت(ع)، منذ عهد الإمام الباقر(ع) حتى عهد الإمام العسكري(ع)، حول صفات الله، فكان بعضهم يتحدّث عن أنَّ الله جسم، والبعض يتحدّث عنه على أنّه صورة وما إلى ذلك، وكان الأئمّة(ع) يتبعون في توجيه الناس منهجاً يعتمد لغة القرآن بأسلوبه ومفرداته في العقيدة، ليوجّهوا الناس إلى الأخذ بالعناوين الكبرى في العقيدة من القرآن، وأن لا ينطلقوا من خلال أسلوب الفلسفة، لأنّ هذا الأسلوب، بالرغم مما يحمله من إيجابيّات، فإنه لا يملك أن يتحدّث عن الله سبحانه وتعالى كما هو الحديث عن صفاء العقيدة، لأنَّ التعقيدات الفلسفيّة قد تردّ الشّبهات، ولكنَّها لا تستطيع أن تبني العقيدة.

فعن يعقوب بن إسحاق، قال: "كتبت إلى أبي محمد(ع) أسأله: كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه؟ فوقّع(ع): يا أبا يوسف، جلّ سيّدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يُرى ـ {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}[4]. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[5] ـ قال: وسألته: هل رأى رسول الله(ص) ربّه؟ فوقّع(ع): إنّ الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ"[6].

فلقد رأى رسول الله(ص) ربّه، ولكنّه لم يره بالعين الباصرة، بل بعين قلبه، لأنَّ القلوب تبصر من الحقائق ما لا تستطيع العيون أن تبصره: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[7]. فمشكلة بعض النّاس أنهم يملكون العيون المفتوحة والقلوب العمياء، والخطورة، كلّ الخطورة، أن يكون القلب أعمى.

وعن الكليني عن سهل: (والراوي هنا قد لا يكون موثوقاً، ولكنَّ الرواية موثوقة، لأنها تتفق مع روايات صحيحة، ولأنها لا تشتمل على ما يدعو إلى الكذب): "قال: كتبت إلى أبي محمد(ع) سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيِّدي أصحابنا في التوحيد ـ وهذا يدلّ على أنَّ الجدل الكلامي في التوحيد كان يدور حتى في أوساط أتباع أهل البيت(ع) ـ منهم من يقول: هو جسم، ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيّدي أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه، فعلت متطوّلاً على عبدك ـ والعبوديّة هنا من باب التّواضع ـ فوقّع بخطّه(ع): سألت عن التّوحيد، وهذا منكم معزول، الله واحد أحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك، وليس بجسم، ويصوّر ما يشاء وليس بصورة، جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره، ليس كمثله شيء، وهو السّميع البصير"[8].

فلقد أراد الإمام العسكريّ(ع) أن يقول للسَّائل أن لا يستغرق في الجدل الكلاميّ والتعقيدات الفلسفيّة عندما يتحدَّث عن الله سبحانه وتعالى، ولكن طلب إليه أن يقرأ كتاب الله فيما أنزله من آياته، فهو أعرف بنفسه من مخلوقاته كلّها، لأنّ المخلوق لا يستطيع أن يعرف من ربّه إلا ما عرّفه ربّه، وإلا، فما يمكن أن يدركه العقل من صفاته، فهو ليس بجسم، لأنه خالق الأجسام، وهو ليس بصورة، لأنه خالق الصّورة ومبدعها.

وقد جاء عن المسعودي في (إثبات الوصيَّة)، بإسناده عن أبي هاشم الجعفري، قال: "سأل محمّد بن صالح الأرمني، أبا محمّد عليه السلام عن قول الله تعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[9]. فقال: هل يمحو إلا ما كان، وهل يثبت إلا ما لم يكن؟ فقلت في نفسي: هذا خلاف قول هشام، إنّه لا يعلم بالشَّيء حتى يكون. فالله سبحانه وتعالى ـ حسب هذا القول ـ إنما يعلم الأشياء بعد أن تتكوَّن، والإمام(ع) يقول إن الله يعلم بالأشياء قبل وجودها ـ فنظر إليّ أبو محمد ـ فكأنّ الإمام(ع) عرف ما في نفسه.

وهناك أحاديث كثيرة عن الإمام العسكريّ وعن الأئمَّة(ع)، تذكر أنَّ بعض الناس كان يسمع الجواب من الإمام عما كان يدور في ذهنه وهو يفكّر، أي لم يطرح السّؤال بعد، حيث إنَّ الملكة القدسيَّة تجعله(ع) يعرف ما يضمر هؤلاء من قبل أن يتحدَّثوا به ـ وقال: تعالى الجبّار، العالم بالأشياء قبل كونها، الخالق إذ لا مخلوق، والرّبّ إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه، فقلت: أشهد أنّك حجّة الله ووليّه بقسط، وأنك على منهاج أمير المؤمنين"[10].. فلقد أكّد له أنَّ المخلوقين يحتاجون إلى معرفة الأشياء في صورتها الوجوديّة، أما الله، فهو الَّذي يخلق الوجود، فهو يعرف ما يريد أن يخلقه قبل أن يخلقه.

ملاحقـة الأفكـار المنحرفـة

وهناك قصَّة ينقلها ابن شهرآشوب في (المناقب) عن أبي القاسم الكوفي في كتاب (التّبديل)، تدلّ على أنَّ الإمام العسكريّ(ع) كان يلاحق التطوّر الثقافي في مواجهة الفكر الإسلاميّ، بحيث كان يلاحق المفكّرين في زمانه، وخصوصاً الَّذين يعملون على هدم الأسس العقيديّة والثقافيّة للإسلام، ومنهم فيلسوف العراق، ويُقال أيضاً فيلسوف العرب (يعقوب ابن إسحاق الكندي)، فيروي ابن شهرآشوب عن الكندي: "أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغّل نفسه بذلك، وتفرَّد به في منـزله، وإنَّ بعض تلامذته دخل يوماً على الحسن العسكري، فقال له أبو محمّد(ع): أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمَّا أخذ فيه من تشاغله القرآن؟ فقال التّلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منَّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمّد(ع): أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فصر إليه، وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ـ فالشَّرط الأوّل أن تدخل قلبه، لتستطيع أن تدخل عقله، وهذا أسلوب من أساليب الحوار في القرآن، وهو أنَّك إذا أردت أن تدخل في حوار فكريّ مع شخص آخر تختلف معه، لتقنعه بما أنت فيه، أو لتناقشه فيما هو فيه، فعليك أوّلاً أن تفتح قلبه بالكلمة الحلوة، والإطلالة الحلوة، والأسلوب الحلو، لا أن تكفّره وتزندقه وتجهّله، {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[11]، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[12] ـ فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن ـ (أي الّذي يوحي لك بهذه الأفكار) ـ هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني الّتي قد ظننت أنّك قد ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك: إنّه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع ـ وعظمة أهل البيت(ع) أنهم لا ينكرون على الَّذين يختلفون معهم صفاتهم الإيجابيّة، خلافاً لما هو دائر بيننا، فإذا اختلفنا مع شخص، فلا نتحدّث عنه بخير، ولو بنسبة واحد في المائة، فمع أنَّ الكندي ألّف كتاباً في تناقض القرآن، وهو أمر خطير، لكنَّ الإمام(ع) يقول لتلميذه إنّه سيقول لك من الجائز، لأنه رجل مفكّر، ولأنه رجل منسجم مع نفسه، فإذا جئته بفكرة معقولة، فإنها سوف تدخل عقله، ولا يتعصّب في رفضها، ويتشبّث بقناعاته ـ فإذا أوجب ذلك ـ فإذا رأيته استجاب للمسألة ـ فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الّذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه.

فصار الرّجل إلى الكندي، وتلطَّف إلى أن ألقى إليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه، فتفكَّر في نفسه، ورأى ذلك محتملاً في اللّغة، وسائغاً في النظر ـ فاللّغة العربيَّة مرنة متحرّكة، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنّه الحقيقة وهو من المجاز، وقد يفهم أنّ المراد هو المعنى اللغوي، والمقصود هو المعنى الكنائي ـ فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنـزلة، فعرّفني من أين لك هذا. فقال: أمرني به أبو محمّد(ع)، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا الأمر إلا من ذلك البيت ـ الّذي زقّ أهله العلم زقّاً، والّذين يعيشون صفاء الحقيقة واستقامة التفكير والجدل من أجل الوصول إلى الحقيقة ـ ثم إنه دعا بالنّار وأحرق جميع ما كان ألّفه[13].

فالإمام العسكريّ(ع) كان يتابع بدقّة ما يجري في السّاحة الفكريّة في عهده، ويناقش الأفكار المنحرفة الّتي تطرح هنا وهناك، وكان يواجهها بالحجَّة وبالأسلوب العلميّ، لأنّه يعرف أنَّ شخصاً مثل الكنديّ الّذي هو فيلسوف العراق، لا يمكن أن تردَّه عمَّا هو فيه بالأساليب السلبيَّة، كالشّتائم والتكفير والتّضليل وما إلى ذلك، مما يستخدمه المتفلسفون الَّذين لا يملكون الحجّة على ما يواجهون به الّذين يختلفون معهم.

وهناك حديث آخر أيضاً يحاول الإمام(ع) أن يردَّ فيه بعض الشّبهات، فعن الكليني بإسناده عن إسحاق بن محمد النخعي، قال: "سأل الفهفكي أبا محمّد(ع) ـ السؤال المطروح دائماً: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[14]. فلماذا جعل الله المرأة الطرف الضّعيف وأنقص من حقّها، وجعل الرّجل الطّرف القويّ وجعل له الحظّ الأوفر؟ ـ قال: ما بال المرأة المسكينة الضَّعيفة، تأخذ سهماً واحداً، ويأخذ الرّجل سهمين؟! فقال أبو محمد(ع): إنَّ المرأة ليس عليها جهاد ـ بينما الرّجل عليه جهاد، وكان الرّجل في الجهاد يأخذ سلاحه، فلم تكن الدّولة تعطي المقاتل سلاحاً، بل يشتريه، ويحمل معه مؤونته وراحلته ـولا نفقة ـ فلا يجب عليها أن تنفق على الرّجل ولا على أولادها، بل الرّجل هو الّذي ينفق عليها ـ ولا عليها معقلة، إنّما ذلك على الرّجال ـ فإذا قتل شخص إنساناً خطأً، فإنّ الدية تتحمّلها العاقلة، وهي الرجال من الأقرباء، أمّا النّساء، فلا يدفعن الدّية، فالله عندما أعطى الرّجل، أعطاه بمقدار ما أخذ منه، فقد حمّله مسؤوليّة الجهاد ونفقة العائلة ونفقة الزّوجة، وجعله مشاركاً في الدية الّتي تكون على العائلة، أمّا المرأة، فإنّه لم يلزمها بذلك. ومعنى ذلك، أنَّ حصّة المرأة أصبحت أكثر من حصّة الرّجل، وكأنَّ الإمام(ع) يريد أن يقول له: ليست المسألة هي أنه كم أعطاك، لكن كم أخذ منك، فمن الرابح في الطرفين في المحصِّلة؟ إنَّ المرأة إذا تزوّجت تأخذ مهراً وتأخذ النَّفقة، فلا تنفق من مالها، ثم إنَّ نفقة الأولاد على الرَّجل أيضاً، فمالها يبقى ثابتاً لا يتحرّك.

ولذا، قلنا لبعض الصّحافيّين من باب النكتة، إنّه يجب على الرّجال المطالبة بالمساواة مع النساء، باعتبار أنَّ حصّة المرأة أكبر، يقول ـ فقلت في نفسي: قد قيل لي إنَّ ابن أبي العوجاء قد سأل أبا عبد الله(ع) عن هذه المسألة، فأجابه بهذا الجواب ـ والإمام العسكريّ(ع) التقط ما في نفسه قبل أن يتحدَّث به ـ فأقبل أبو محمّد(ع) فقال: نعم، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء، والجواب منّا واحد ـ فنحن لا نختلف والإمام الصَّادق(ع)، فجوابنا واحد ـ إذا كان معنى المسألة واحداً، جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا؛ وأوّلنا وآخرنا في العلم سواء ـ ليس هناك إمام أفضل من إمام ـ ولرسول الله(ص) ولأمير المؤمنين(ع) فضلهما"[15].

وهذه حقيقية إيمانيّة لا بدّ من أن ننتبه إليها، وهي أنَّ الإمام(ع) يؤكّد في هذه الرواية، أنّ الأئمّة(ع) حتى لو صدر عن بعضهم، ولم يصدر عن البعض الآخر إلا أقلّ من ذلك، بسبب الظروف التي تتّسع لبعض وتضيق عن آخر، إلا أنَّ قاعدة العلم واحدة للأوّل وللآخر.

موقـف الشّيعة من الأئمـّة(ع)

وهناك مشكلة، وهي أنَّ بعض الأحاديث الواردة، تدلّ على أنّ بعض الناس كان يشكّك في الإمام(ع)، كما كان يحدث في حياة أكثر من إمام، حيث كانوا يقفون على بعض الأئمَّة، ولا يتعدّونهم إلى غيرهم، وقد سمّوا بـ(الواقفة)، فقد "كتب إليه بعض الشّيعة"، والواقع الشّيعي آنذاك كانت تؤثّر فيه مؤثّرات كثيرة، حتى في قضيّة الإمامة، من خلال الأخلاقيّة الّتي يعيشها بعض الناس في إخلاصهم للخطّ، أو ابتعادهم عنه، والتاريخ يعيد نفسه، فكتب(ع): "إنّما خاطب الله العاقل ـ ولم يخاطب الّذين لا يعقلون، لأنهم لا ينفتحون على خطاب الله: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}[16] ـوالنّاس فيَّ على طبقات: المستبصر على سبيل نجاة ـ فهناك من يعيش البصيرة في عقله وقلبه وروحه، من أجل أن ينجو عندما يقف بين يدي الله، ويحاول أن ينطلق على أساس الحجَّة والبرهان، وهو يبحث عنهما، فإذا التقى بهما في عمق بصيرته، انفتح على نتائج الحقيقة ـ متمسّك بالحقّ، متعلّق بفرع الأصل، غير شاكّ ولا مرتاب، لا يجد عنّي ملجأً ـ عندما تطبق عليه الدّروب، فإنّه يلجأ إليّ، لأنّه يعرف أنَّ الحقيقة عندي، وأنَّ الهدى هنا ـ وطبقة لم تأخذ الحقّ من أهله ـ يعني أنها أخذت العلم ممّن لا يملك العلم، أو ممن لا يملك مسؤوليَّته، وهذا هو حال الكثير من الناس ممن قد تجده يتزيّا بزيّ العلماء، ولكنَّه لا يملك تقوى العلم، ولا يملك عمقه، ولا يملك الطَّريقة والموقع الّذي ينفتح فيه على العلم ـ وطبقة لم تأخذ الحقّ من أهله، فهم كراكب البحر، يموج عند موجه، ويسكن عند السّكون ـ فليس عنده قاعدة ثابتة ينطلق منها، ولا أرض يقف عليها، كما قال الشّاعر:

إذا الـرّيـح مـالـت    مـال حيـث تميــل

ـ فهؤلاء هم الضَّائعون، وطبقة استحوذ عليهم الشّيطان، شأنهم الردّ على أهل الحقّ ـ فلديهم عقد كثيرة، وينطلقون من عقدهم النفسيَّة ـ ودفع الحقّ بالباطل، حسداً من عند أنفسهم ـ وما أكثر الحاسدين الّذين يتحرّك الحسد في نفوسهم، لينطلق في تصرّفاتهم وسلوكيّاتهم! ـ فدع من ذهب يميناً وشمالاً، فإنَّ الرّاعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها بأهون سعي، وإيّاك والإذاعة ـ لأنّه كانت هناك بعض الأمور السريّة الّتي تحمي الحقّ ـوطلب الرّئاسة، فإنّهما يدعوان إلى الهلكة"[17].

وخرج في بعض توقيعاته عند اختلاف قومٍ من شيعته في أمره ـ وانظروا كيف كان الإمام(ع) يعيش المرارة من الذين يحيطون به، أو ممن يحسبون من أتباع أهل البيت(ع) ـ قال(ع): "ما مُني أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيت به من شكّ هذه العصابة فيّ، فإن كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه، ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع، فللشكّ موضع ـ فقد تحصل لدى البعض شبهات وشكّ في بعض الأمور، لكنَّه يحاول أن يتحرّك من أجل أن يزيل الشّكّ ليلتقي بالحقيقة ـ وإن كان متَّصلاً ما اتَّصلت أمور الله، فما معنى هذا الشّكّ؟"[18]، لأنّ الشّكّ لا ينطلق من قاعدة.

وقال لشيعته وهو يوصيهم، والوصيّة هي للشّيعة في الخطّ الإسلامي، لأنّ التشيّع ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، بل هو الخطّ الأصيل للإسلام، وهذه الوصيّة مرويّة أيضاً عن الإمام الصَّادق(ع) مع بعض التّغيير في الألفاظ: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ في معرفته وطاعته وعبادته ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السّجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد(ص). صلّوا في عشائرهم ـ يعني هؤلاء الّذين يجاورونكم وتختلفون معهم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع النّاس، قيل هذا شيعي، فيسرّني ذلك ـ لأنّه سائر على الحقّ والاستقامة في خطِّ الإسلام ـاتّقوا الله وكونوا زيناً ـ نتزيَّن به ـ ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلَّ مودّة ـ اجعلوا النّاس يحبّوننا، فلا تتحدَّثوا مع النّاس بالحقد والبغضاء والسّباب وما إلى ذلك ـ وادفعوا عنّا كلّ قبيح، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوءٍ فما نحن كذلك، لنا حقّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب".

هذه وصيّته، فهل نعمل بوصيَّته؟ إنها تمثّل الخطّ الإسلاميّ في عالم العبادة، وفي عالم السّلوك الاجتماعيّ الّذي يجعل الإنسان في مجتمعه خيراً لكلِّ مجتمعه، سواء مع النّاس الّذين يلتقي معهم في الخطّ، أو مع الّذين يختلف معهم. وهكذا، أن يكون الإنسان زيناً لمن ينتمي إليهم، ولا يكون شيناً عليهم، وذلك هو نهج رسول الله(ص): {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[19]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[20]، "أكثروا ذكر الله ـ حتى يعيش الإيمان الحيّ المتحرّك في عقولكم وفي قلوبكم، لأنَّكم إذا ذكرتم الله، ذكّرتم أنفسكم بمسؤوليَّاتكم، وإذا نسيتم الله، نسيتم أنفسكم، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}[21] ـوذكر الموت، وتلاوة القرآن، والصَّلاة على النبي، فإنّ الصَّلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ـ والخطاب لنا ـ ما وصّيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السّلام"[22]، وعليك السَّلام أيّها الإمام البرّ التقي.

وقال في نهاية المطاف عن الَّذين يستهينون ببعض الذّنوب: "من الذّنوب التي لا تغفر قول الرّجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا"[23]. وقال(ع): "إيّاكم ومحقّرات الذّنوب، فإنّها تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه"[24]، ثم قال(ع): "الإشراك في النّاس أخفى من دبيب النّمل على المسح الأسود في اللّيلة المظلمة"[25]، لأنَّ الكثير من الناس قد يشركون بالله وهم لا يشعرون، عندما ينفتحون على رضا الناس عنهم، بعيداً عن رضا الله عنهم، ولذلك، فهم يقصدون الناس بالعمل، ليرفعوا درجتهم عندهم، ولا يقصدون الله ليتقرّبوا به إليه. وقد جاء ـ أيها الأحبّة ـ في سيرة الإمام(ع)، أنه عندما مرض، أرسلت إليه السّلطة الكثير من الأطبّاء لمعالجته والبقاء إلى جانبه، حتّى إذا قبضه الله إلى جواره، أرسل الخليفة إلى العلماء والقضاة لينظروا إليه، وليشهدوا أنّه مات حتف أنفه، حتى لا تتّهم الخلافة بقتله.

ويذكر المؤرِّخون أنّه عندما أعلنت وفاته، ضجَّت سامرّاء ضجَّةً واحدة، وانطلق كلّ النّاس في تشييعه، وأرسل الخليفة إلى بيته من يفحص هل له ولد، ويفحص جواريه هل إنَّ إحداهنّ حامل، لأنهم كانوا يريدون أن يطمئنوا لانقطاع الإمامة، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أخفى وليّه بالطَّريقة التي حفظ بها هذا الوليّ الّذي ينتظره العالم كلّه، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.

وصلّى الله على الإمام الحسن العسكريّ(ع)، وعلى آبائه(ع)، وعلى ولده(ع)؛ حجَّة الله في الأرض، سائلين الله أن ينفعنا ببركته وبركة آبائه، وأن يرزقنا شفاعتهم، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[26].

وهذه هي بعض آثار الإمام العسكريّ(ع)، الّتي نريد أن ننفتح عليها لنـزداد علماً من علمه، ووعياً مما يعطينا من عناصر الوعي. وقد كنت ولا أزال أقول لكم: لا تقتصروا في علاقاتكم بالأئمَّة من أهل البيت(ع) على جانب المأساة، ولكن انطلقوا إلى جانب العلم الذي علّموه، والهدي الّذي أرادوا لنا الاهتداء به، والنّهج الذي نسير عليه: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"[27]، أن نتعلّم علومهم، وأن ننهج نهجهم، وأن نطلق سيرتهم كلّها للعالم كلّه، ولا سيَّما العالم المعاصر، ليعرف من هم أهل البيت(ع)، لأنَّ الكثيرين، حتى ممن ينتمون إلى أهل البيت(ع)، لا يعرفون من هم أهل البيت(ع) علماً وروحانيّةً وحركةً ومنهجاً.

*ندوة الشّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 503، 504.

[2]  المصدر نفسه، ج 1، ص 508.

[3]  المصدر نفسه، ج 1، ص 512.

[4]  [الأنعام: 103].

[5]  [الشورى: 11].

[6]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 4، ص 44.

[7]  [الحجّ: 46].

[8]  الكافي، ج 1، ص 103.

[9]  [الرّعد: 39].

[10]  إثبات الوصيّة، ص:341.

[11]  [النّحل: 125].

[12]  [الإسراء: 53].

[13]  مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3، ص 526.

[14]  [النّساء: 11].

[15]  الكافي، ج 7، ص 85.

[16]  [البقرة: 7].

[17]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 487.

[18]  المصدر نفسه، ص 487.

[19]  [القلم: 4].

[20]  [آل عمران: 159].

[21]  [الحشر: 19].

[22]  ميزان الحكمة، محمد الرّيشهري، ج 4، ص 3547.

[23]  الخصال، الشّيخ الصّدوق، ص23.

[24]  في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنيّة.

[25]  تحف العقول، ص 487.

[26]  [الشّعراء: 88 ، 89].

[27]  عيون المعجزات، حسين بن عبد الوهاب، ص 1.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير