تحدّيات الهجرة في صدر الدَّعوة الإسلاميَّة

تحدّيات الهجرة في صدر الدَّعوة الإسلاميَّة

حديثنا اليوم عن عنوان كانت أهميّته وفاعليّته وحركيّته في صدر الدّعوة الإسلاميَّة، وقد تحرّك في واقع المسلمين في مدى المسيرة الإسلاميَّة، واستطاع المسلمون أن يحصلوا على الامتداد في العالم الإسلامي من خلاله. وفي عصرنا هذا، أصبح في أكثر من موقع إسلامي، ضرورة سياسيّة واقتصاديّة وعلميّة، وهو عنوان الهجرة، في أن تهاجر من بلدك الّذي ولدت وعشت فيه، وكانت لك فيه كلّ ملاعب الصّبا وكلّ مواقع الحركة وكل الذكريات، فتنتقل منه إلى بلد آخر، قد يكون غريباً عنك، لغةً وثقافةً وديناً وسياسة، وذلك لأنّك لا تملك أن تجد في بلدك ما يحمي لك إنسانيّتك.

الموازنة بين الإيجابيّات والسلبيّات

وقد عبَّر الإمام عليّ(ع) عن معنى القيمة في المكان، وأنه لا يمثّل موقعاً يحتوي الإنسان ويجمّده، بل إن المكان بالنسبة إليه، هو الموقع الذي يجد فيه الإنسان معنى إنسانيته، بحيث تنمو إنسانيّته فيه وتتأصّل، وتلك هي الكلمة الرّائدة في نهج البلاغة في قوله(ع): "ليس بلد بأحقّ بك من بلد، خير البلاد ما حملك"[1]، فإذا لم يحملك بلدك، ولم يحم إنسانيّتك وعزّتك وكرامتك، بل قد يسقطها جميعاً، فانتقل إلى بلد تجد فيه ذلك كله أو بعض ذلك.

ولا بدَّ لنا ـ أيها الأحبة ـ من أن ندرس الجوانب الإيجابية والسلبية في الهجرة، لأننا في كلّ ما نعيشه في العالم، مما نقوم به أو يقوم به الآخرون، نعيش في نطاق المحدود، لأنّ المطلق هو الله وحده، وكل شيء مادي محدود في طبيعته المادية، فأنت لا تربح شيئاً إلا لتخسر شيئاً في مكانه. ولذلك، فليس هناك شيء إيجابي بالمطلق مائة في المائة، وليس هناك شيء سلبي بالمطلق؛ فالخير قد يختزن بعض السلبيات، والشّرّ قد يختزن بعض المنافع، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[2]، فكلّ ما يكون ضرره أكبر من نفعه، فهو حرام.

ونستوحي من ذلك، أنَّ كلّ ما كان نفعه أكبر من ضرره، فهو حلال. لذلك، لا بدّ لنا عندما نبحث عن أيّ عنوان في الحياة، مما يتصل بسلوكياتنا، من أن نبحث عن نقاط الضعف والقوة، حتى نستطيع أن نحدد طبيعة الأشياء، لأنّ بعض الناس قد يُشكل على بعض الخير، لجهة أنّ فيه بعض السلبيات، وكأنّه يعتبر ذلك إسقاطاً له، أو قد ينفتح على بعض الشّرّ، لأنّ فيه بعض الخير، من دون أن يدرس حدود النسبيّة في هذا وفي ذاك، وهذا ما نلاحظه في الكثير من الناس الذين يوجّهون نقداً لبعض التشريعات الإسلاميَّة، في الحملة على الإسلام من الغرب والشرق، حول شروط الزواج، أو حول تعدّد الزوجات، أو حول بعض ما حرّمه الإسلام هنا وهناك، أو بعض ما أباحه الإسلام، ولو من وجهة نظر خاصّة، كالمتعة مثلاً، التي أكّدها الإسلام، فيما تحرّمها بعض المذاهب الإسلامية بدعوى أنها منسوخة، حيث يحاول هؤلاء أن يسجّلوا بعض السلبيات عليها، ولم ينتبهوا إلى أنه ما من تشريع إلا وفيه سلبيات، سواء كان ذلك في دائرة التحريم، أو في دائرة التحليل، ولكن تبقى إيجابيّاته أكثر، والتشريع، أيّ تشريع، دينيّاً كان أو علمانيّاً هو كذلك، لأنّك لن تستطيع أن تجد في مدى التّاريخ كلّه تشريعاً لا يجلب الضّرر، ولو بدرجة قليلة. لهذا، نحن نريد أن ندخل إلى مسألة الهجرة، من خلال الجوانب الإيجابية والسلبيّة فيها، لنجد أيّة هجرة جائزة، وأيّة هجرة محرّمة، وأيّة هجرة لا رجحان فيها، بحيث يتساوى فيها السّلب والإيجاب.

ظروف هجرة المسلمين

قلنا إنّ الهجرة بدأت منذ الإسلام الأوّل، فهناك هجرة المسلمين إلى الحبشة، على خلفيّة ما تعرّض له المسلمون الأوائل في بداية الدعوة، من الاضطهاد والأذى والحصار والعذاب، الذي أسقط بعضهم شهداء، كياسر وسميّة، وضجّوا إلى النبي(ص) ـ كما تقول كتب السيرة ـ كأنهم خافوا أن يفتنوا في دينهم، وأن يبلغ العذاب الذي تمارسه قريش ضدّهم، المستوى أو الدرجة التي لا يملكون فيها الثبات، لأنّ طاقة الإنسان تبقى محدودة، فهاجروا إلى الحبشة، التي أشار النبي(ص) عليهم بالهجرة إليها، وكانت، كما تقول كتب السيرة، أحبّ الأرض إليه، وأرسلت قريش خلفهم بعض الّذين يكيدون لهم عند ملك الحبشة، وكان الحوار التاريخي بينهم وبين ملك الحبشة، وانتصر المسلمون هناك، لأنّ الرّجل كان يملك روحية منفتحة على تعاليم السيّد المسيح(ع)، والّتي رأى أنها تلتقي مع تعاليم النبيّ(ص)، عندما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب(رض) من القرآن حديثه عن عيسى(ع) ومريم(ع).

ورجعوا من الهجرة الأولى، كما تفيد بعض المصادر، وأوذوا أذى شديداً، ودخلوا في الهجرة الثانية، التي انتهت بهم إلى المدينة بعد غياب طويل، حيث انضمّوا إلى المسلمين. وكانت الهجرة الثّانية هي هجرة النبيّ(ص) إلى المدينة، وقد هاجر المسلمون معه إليها، بعد أن هيّأها لتكون قاعدةً للدعوة الإسلاميّة، أو الحكومة الإسلاميّة الجديدة، فكانت ظروف الهجرة الثانية متحرّكة بين خطّين؛ الخط الأوّل هو خطّ الضّعف الّذي كان يمارس على المسلمين، حتى كانوا يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِه ِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}[3]، والخطر الّذي كان يواجهه الرّسول(ص)، والذي تحدّث عنه القرآن الكريم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[4]، حيث كانوا يتآمرون عليه، وتراوحت الاقتراحات بين حبسه، وإخراجه من مكّة، وإرساله إلى البيداء، والقتل.

وكان الخطّ الثاني للهجرة، يتمثّل في الانتقال بالدعوة الإسلاميّة الوليدة، من موقع الضعف إلى موقع القوّة، حيث كانت القوّة المضادّة تملك من الإمكانيات المادية والعسكرية والبشرية والسياسية ـ إذا صحّ التعبير عن تلك المرحلة ـ ما لا يملك المسلمون أن يواجهوه، ولذلك، كان التفكير في إقامة دولة إسلاميّة في مكّة تفكيراً غير واقعي. ولهذا، هيّأ النبي(ص) من خلال اتصالاته بالوفود التي كانت تأتي من هنا وهناك، ؇لقاعدة الأولى لامتداد الدّعوة الإسلاميّة في يثرب، فأخذ البيعة الأولى والثانية، وهكذا، انطلق النبي(ص) في هجرته، بعد أن دفع الكثير من المسلمين إلى الهجرة إليها، ثم انطلق النبي(ص) في هجرته بعد أن نضجت كلّ الظروف لإقامة أوّل مركز إسلامي حركي فاعل يعمل على صناعة القوّة في هذه المنطقة.

تحدّيات الهجرة

وقد تحدّث القرآن الكريم عن المهاجرين بإيجابيّة كبيرة، لأنّ هجرتهم في هذه الظروف، كانت تمثّل تضحية كبيرة، لأنهم تركوا كلّ شيء خلفهم، وانطلقوا إلى المستقبل، لا يملكون أيّ شيء على المستوى المادّيّ، ولا يعرفون كلّ مفرداته، ولم يكن معهم سوى إيمانهم بالله.

لذلك، كانت مسألة الهجرة الأولى إلى المدينة عظيمة جدّاً في خلفياتها وفي معناها. وهناك فرق بين الهجرتين، فإنَّ الهجرة إلى الحبشة كانت هجرة الفرار من الاضطهاد، والحصول على الجوار، وهو يعني الحصول على الأمن، بينما كانت الهجرة من مكّة إلى المدينة هجرة التحدي، لأنهم كانوا يعرفون أنهم يقبلون على مستقبل يواجهون فيه التحديات من جهة، ويطلقون التحديات من جهة أخرى، فضلاً عمّا أشرنا إليه من هذه التضحية الشخصية، التي فيها تضحية عاطفية من جهة، وتضحية اقتصادية من جهة أخرى. وامتدّ الإسلام من خلال ذلك.

صفات المهاجرين

يقول الله سبحانه وتعالى، وهو يتحدّث عن المهاجرين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[5]. وقد ضمَّ الأنصار إليهم، باعتبار تداخل المواقع بينهم وبين الأنصار، وما قدّمه لهم الأنصار من مساعدات وتضحيات.

ونستوحي من هذه الفقرة: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، المستوى الإيماني العميق الرائع الذي تمثّل في هؤلاء، فقد رضي الله عنهم، لأنهم أعطوا الله كلّهم، وضحّوا في سبيله، وجاهدوا أنفسهم وبيئتهم وظروفهم، وانطلقوا في الهجرة إلى الله ورسوله. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، لأنهم عاشوا ألطاف الله ورحمته وعطفه وكرمه، فيما شعروا بأنّ الله أعطاهم كلّ ما يتمنّونه. وهذا النوع من تبادل الحبّ لا نظير له، لأنه قد يكون عندنا حبّ من طرف واحد، وهنا حبّ من طرفين ورضا من طرفين، تماماً كما جاء في كلام النبيّ(ص) عن عليّ(ع): "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّاراً غير فرّار"[6]...

وهذا ما ينبغي لنا أن نتمثّله، وأن نعيشه، وأن نرتفع إلى مستواه، وأن نعيش هذا المستوى من العلاقة بالله، بحيث نرضى من الله سبحانه وتعالى كلّ ما يجريه علينا، وحتى في ما يبتلينا به، لأنّ الله لا يبتلينا إلا عن مصلحة لنا. ولذا، نقول "الحمد لله الّذي لا يحمد على مكروه سواه"، وأن يرضى عنا من خلال ما نؤمن به، ومن خلال ما نتّقي. ويقول تعالى: {وَالَّذِين هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[7]، هؤلاء الذين عاشوا الاضطهاد بالعذاب وبالحصار وبالضّغوط التي كانت تعمل على أن تفتنهم في دينهم. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، فنعطيهم من الكرامة ومن النعمة {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، لماذا ذلك؟ {الَّذِينَ صَبَرُوا}، لأنهم عاشوا الصبر بأقوى درجاته وبأصعب مواقعه، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[8]، فلم يكن صبرهم انسحاقاً وعجزا،ً بل كان صبراً واعياً، لأنهم صبروا وهم يحدِّقون في عظمة الله ورحمته ولطفه، وعرفوا أنّ الله سبحانه سيجعل {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[9]. وهذا هو الفرق ـ أيها الأحبة ـ بين صبر العاجز وصبر المؤمن، لأن صبر المؤمن من خياره، فقد صَبَرَ وهو قادر على أن ينتقل إلى الجانب الآخر، ليجد كلّ السّعة، ولكنه اختار الضّيق، وصمد أمام كلّ تحدّياته النفسية والخارجية، وصبر لأجل الله وفي سبيله، ولذلك، كان صبره صبراً مثقّفاً عقيدياً، ومنفتحاً ربانياً، وواعياً لسنن الله في الكون، وبأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من بعد العسر يسراً: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[10]، فليس هناك ظلم خالد، وليس هناك قوّة خالدة.

يقول تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا}، في خطّ الهجرة أو في سبيل الله، {أَوْ مَاتُوا} وهم مهاجرون، {لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا}، والمقصود من الرزق هنا رزق الآخرة، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ}، يعلم ما عاشوه، وما اعتقدوه، وما عملوا به، {حَلِيمٌ}[11] فيما يعطيهم من الأجر على ذلك. ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[12]، بمعنى أن يكون عادلاً حتى في عقوبته وفي ردّ الفعل، لأنّ الإسلام يؤكّد دائماً أن يكون ردّ فعلك مساوياً لفعل الآخر، فلا تكون ظالماً لمن ظلمك، بل عاقب بمثل ما عوقبت به، {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[13]. وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلمه، ونحن نعيش في عالم يضجّ فيه الفعل وردّ الفعل، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الاجتماعي، وعلى المستوى السياسي.

 {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}[الحشر: 8]، فهم أُخرجوا، لأنهم رفضوا الكفر، ورفضوا الذلّ، ورفضوا السقوط تحت تأثير المستكبرين في كلّ مخطّطاتهم، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ}، في ما يتفضّل الله به عليهم، {وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، ويتحركون من خلال أنهم ينصرون الله ورسوله، بالثبات على دينهم، والسّير مع رسول الله على خطّ الله في إقامة هذا الدّين ونصرته، {أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}، لأنهم صدقوا في الكلمة، وصدقوا في الموقف، والله سبحانه وتعالى يريد منا دائماً أن نكون صادقين في كلّ مواقعنا ومواقفنا وكلماتنا وعهودنا وما إلى ذلك.

مآثر الأنصار

ثم يحدّثنا القرآن الكريم كيف استقبل الأنصارُ المهاجرين الّذين أقاموا في المدينة، ولم يكن هؤلاء المهاجرون يملكون أية إمكانات مالية، والكثير من الأنصار لم يكونوا يملكون الغنى والثّروة، ومع ذلك: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، وهم الأنصار الّذين كانوا يسكنون يثرب، {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، فهم عاشوا الإسلام بالمستوى العقيدي، وبالمستوى العلمي، وعاشوه ـ وهذه هي القمة ـ في المستوى الشعوري، حيث تحوّل الإسلام فيهم إلى حالة شعورية حميمة، عاشوا من خلالها الحبّ للذين يهاجرون إليهم، بالرغم من أنّ ذلك يحمّلهم الكثير من الأعباء الثقيلة، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، من مسؤوليّات ومن أعباء، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، بحيث إنهم يعطونهم ما يحتاجون إليه، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، ولو كانوا في حاجة إليه. {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}، بمعنى عاش روحية العطاء وروحية الكرم، {فَأُوْلَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ}[14].

وهكذا، يتحدَّث الله عن الجيل المتأخّر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}، ونحن جئنا من بعدهم. وحتّى لا نقرأ الآية قراءة تاريخية، من حيث إنها تتحدّث عن الماضي ولا شغل لها بالحاضر، {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}[15]، فبالإيمان، علينا أن نعيش هذه العلاقة الحميمة مع الذين سبقونا به، وركّزوا لنا القاعدة، وصنعوا لنا الامتداد، وهيأوا لنا الأجواء، وركزوا لنا المفاهيم، وخطّوا لنا الخطوط، {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}، بل اجعل قلوبنا يا ربّ تعيش حب الإيمان للمؤمنين، لأنّ المسألة يا ربنا، هي أنّ الإيمان يقوّي الحبّ، ويتجذر بالحبّ، ويمتدّ بالحبّ. ومشكلة المؤمنين أنهم ينتجون الحقد ـ أحياناً ـ لأنهم يختلفون في الصّغائر وفي الخصوصيات الذاتية هنا وهناك. فمتى نعيش ثورة الحبّ؟ لأننا نعيش ـ مع الأسف ـ ثورة الحقد أو فتنة الحقد؛ هذا الحقد الخبيث الّذي أعطيناه صفة الحقد المقدّس، في وقت لا يمكن أن يكون الحقد مقدّساً.

وهذا هو درس الهجرة التاريخي؛ تلك الهجرة التي استطاعت أن تفتح العالم كلّه على الإسلام، ولولا الهجرة، لبقي الإسلام مسجوناً مضطهداً في مكّة، إلا أنها دفعت بالإسلام إلى العالم، وانطلق الإسلام من خلال أنّ الله أراد أن يظهره على الدّين كلّه ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 103.

[2]  [البقرة: 219].

[3]  [النساء: 75].

[4]  [الأنفال: 30].

[5]  [التوبة: 100].

[6]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 21، ص 3.

[7]  [النحل: 41].

[8]  [العنكبوت: 59].

[9]  [الطلاق: 7].

[10]  [آل عمران: 140].

[11]  [الحج: 58- 59].

[12]  [الحج: 60].

[13]  [البقرة: 194].

[14]  [الحشر: 9].

[15]  [الحشر: 9 - 10].


حديثنا اليوم عن عنوان كانت أهميّته وفاعليّته وحركيّته في صدر الدّعوة الإسلاميَّة، وقد تحرّك في واقع المسلمين في مدى المسيرة الإسلاميَّة، واستطاع المسلمون أن يحصلوا على الامتداد في العالم الإسلامي من خلاله. وفي عصرنا هذا، أصبح في أكثر من موقع إسلامي، ضرورة سياسيّة واقتصاديّة وعلميّة، وهو عنوان الهجرة، في أن تهاجر من بلدك الّذي ولدت وعشت فيه، وكانت لك فيه كلّ ملاعب الصّبا وكلّ مواقع الحركة وكل الذكريات، فتنتقل منه إلى بلد آخر، قد يكون غريباً عنك، لغةً وثقافةً وديناً وسياسة، وذلك لأنّك لا تملك أن تجد في بلدك ما يحمي لك إنسانيّتك.

الموازنة بين الإيجابيّات والسلبيّات

وقد عبَّر الإمام عليّ(ع) عن معنى القيمة في المكان، وأنه لا يمثّل موقعاً يحتوي الإنسان ويجمّده، بل إن المكان بالنسبة إليه، هو الموقع الذي يجد فيه الإنسان معنى إنسانيته، بحيث تنمو إنسانيّته فيه وتتأصّل، وتلك هي الكلمة الرّائدة في نهج البلاغة في قوله(ع): "ليس بلد بأحقّ بك من بلد، خير البلاد ما حملك"[1]، فإذا لم يحملك بلدك، ولم يحم إنسانيّتك وعزّتك وكرامتك، بل قد يسقطها جميعاً، فانتقل إلى بلد تجد فيه ذلك كله أو بعض ذلك.

ولا بدَّ لنا ـ أيها الأحبة ـ من أن ندرس الجوانب الإيجابية والسلبية في الهجرة، لأننا في كلّ ما نعيشه في العالم، مما نقوم به أو يقوم به الآخرون، نعيش في نطاق المحدود، لأنّ المطلق هو الله وحده، وكل شيء مادي محدود في طبيعته المادية، فأنت لا تربح شيئاً إلا لتخسر شيئاً في مكانه. ولذلك، فليس هناك شيء إيجابي بالمطلق مائة في المائة، وليس هناك شيء سلبي بالمطلق؛ فالخير قد يختزن بعض السلبيات، والشّرّ قد يختزن بعض المنافع، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[2]، فكلّ ما يكون ضرره أكبر من نفعه، فهو حرام.

ونستوحي من ذلك، أنَّ كلّ ما كان نفعه أكبر من ضرره، فهو حلال. لذلك، لا بدّ لنا عندما نبحث عن أيّ عنوان في الحياة، مما يتصل بسلوكياتنا، من أن نبحث عن نقاط الضعف والقوة، حتى نستطيع أن نحدد طبيعة الأشياء، لأنّ بعض الناس قد يُشكل على بعض الخير، لجهة أنّ فيه بعض السلبيات، وكأنّه يعتبر ذلك إسقاطاً له، أو قد ينفتح على بعض الشّرّ، لأنّ فيه بعض الخير، من دون أن يدرس حدود النسبيّة في هذا وفي ذاك، وهذا ما نلاحظه في الكثير من الناس الذين يوجّهون نقداً لبعض التشريعات الإسلاميَّة، في الحملة على الإسلام من الغرب والشرق، حول شروط الزواج، أو حول تعدّد الزوجات، أو حول بعض ما حرّمه الإسلام هنا وهناك، أو بعض ما أباحه الإسلام، ولو من وجهة نظر خاصّة، كالمتعة مثلاً، التي أكّدها الإسلام، فيما تحرّمها بعض المذاهب الإسلامية بدعوى أنها منسوخة، حيث يحاول هؤلاء أن يسجّلوا بعض السلبيات عليها، ولم ينتبهوا إلى أنه ما من تشريع إلا وفيه سلبيات، سواء كان ذلك في دائرة التحريم، أو في دائرة التحليل، ولكن تبقى إيجابيّاته أكثر، والتشريع، أيّ تشريع، دينيّاً كان أو علمانيّاً هو كذلك، لأنّك لن تستطيع أن تجد في مدى التّاريخ كلّه تشريعاً لا يجلب الضّرر، ولو بدرجة قليلة. لهذا، نحن نريد أن ندخل إلى مسألة الهجرة، من خلال الجوانب الإيجابية والسلبيّة فيها، لنجد أيّة هجرة جائزة، وأيّة هجرة محرّمة، وأيّة هجرة لا رجحان فيها، بحيث يتساوى فيها السّلب والإيجاب.

ظروف هجرة المسلمين

قلنا إنّ الهجرة بدأت منذ الإسلام الأوّل، فهناك هجرة المسلمين إلى الحبشة، على خلفيّة ما تعرّض له المسلمون الأوائل في بداية الدعوة، من الاضطهاد والأذى والحصار والعذاب، الذي أسقط بعضهم شهداء، كياسر وسميّة، وضجّوا إلى النبي(ص) ـ كما تقول كتب السيرة ـ كأنهم خافوا أن يفتنوا في دينهم، وأن يبلغ العذاب الذي تمارسه قريش ضدّهم، المستوى أو الدرجة التي لا يملكون فيها الثبات، لأنّ طاقة الإنسان تبقى محدودة، فهاجروا إلى الحبشة، التي أشار النبي(ص) عليهم بالهجرة إليها، وكانت، كما تقول كتب السيرة، أحبّ الأرض إليه، وأرسلت قريش خلفهم بعض الّذين يكيدون لهم عند ملك الحبشة، وكان الحوار التاريخي بينهم وبين ملك الحبشة، وانتصر المسلمون هناك، لأنّ الرّجل كان يملك روحية منفتحة على تعاليم السيّد المسيح(ع)، والّتي رأى أنها تلتقي مع تعاليم النبيّ(ص)، عندما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب(رض) من القرآن حديثه عن عيسى(ع) ومريم(ع).

ورجعوا من الهجرة الأولى، كما تفيد بعض المصادر، وأوذوا أذى شديداً، ودخلوا في الهجرة الثانية، التي انتهت بهم إلى المدينة بعد غياب طويل، حيث انضمّوا إلى المسلمين. وكانت الهجرة الثّانية هي هجرة النبيّ(ص) إلى المدينة، وقد هاجر المسلمون معه إليها، بعد أن هيّأها لتكون قاعدةً للدعوة الإسلاميّة، أو الحكومة الإسلاميّة الجديدة، فكانت ظروف الهجرة الثانية متحرّكة بين خطّين؛ الخط الأوّل هو خطّ الضّعف الّذي كان يمارس على المسلمين، حتى كانوا يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِه ِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا}[3]، والخطر الّذي كان يواجهه الرّسول(ص)، والذي تحدّث عنه القرآن الكريم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[4]، حيث كانوا يتآمرون عليه، وتراوحت الاقتراحات بين حبسه، وإخراجه من مكّة، وإرساله إلى البيداء، والقتل.

وكان الخطّ الثاني للهجرة، يتمثّل في الانتقال بالدعوة الإسلاميّة الوليدة، من موقع الضعف إلى موقع القوّة، حيث كانت القوّة المضادّة تملك من الإمكانيات المادية والعسكرية والبشرية والسياسية ـ إذا صحّ التعبير عن تلك المرحلة ـ ما لا يملك المسلمون أن يواجهوه، ولذلك، كان التفكير في إقامة دولة إسلاميّة في مكّة تفكيراً غير واقعي. ولهذا، هيّأ النبي(ص) من خلال اتصالاته بالوفود التي كانت تأتي من هنا وهناك، ؇لقاعدة الأولى لامتداد الدّعوة الإسلاميّة في يثرب، فأخذ البيعة الأولى والثانية، وهكذا، انطلق النبي(ص) في هجرته، بعد أن دفع الكثير من المسلمين إلى الهجرة إليها، ثم انطلق النبي(ص) في هجرته بعد أن نضجت كلّ الظروف لإقامة أوّل مركز إسلامي حركي فاعل يعمل على صناعة القوّة في هذه المنطقة.

تحدّيات الهجرة

وقد تحدّث القرآن الكريم عن المهاجرين بإيجابيّة كبيرة، لأنّ هجرتهم في هذه الظروف، كانت تمثّل تضحية كبيرة، لأنهم تركوا كلّ شيء خلفهم، وانطلقوا إلى المستقبل، لا يملكون أيّ شيء على المستوى المادّيّ، ولا يعرفون كلّ مفرداته، ولم يكن معهم سوى إيمانهم بالله.

لذلك، كانت مسألة الهجرة الأولى إلى المدينة عظيمة جدّاً في خلفياتها وفي معناها. وهناك فرق بين الهجرتين، فإنَّ الهجرة إلى الحبشة كانت هجرة الفرار من الاضطهاد، والحصول على الجوار، وهو يعني الحصول على الأمن، بينما كانت الهجرة من مكّة إلى المدينة هجرة التحدي، لأنهم كانوا يعرفون أنهم يقبلون على مستقبل يواجهون فيه التحديات من جهة، ويطلقون التحديات من جهة أخرى، فضلاً عمّا أشرنا إليه من هذه التضحية الشخصية، التي فيها تضحية عاطفية من جهة، وتضحية اقتصادية من جهة أخرى. وامتدّ الإسلام من خلال ذلك.

صفات المهاجرين

يقول الله سبحانه وتعالى، وهو يتحدّث عن المهاجرين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[5]. وقد ضمَّ الأنصار إليهم، باعتبار تداخل المواقع بينهم وبين الأنصار، وما قدّمه لهم الأنصار من مساعدات وتضحيات.

ونستوحي من هذه الفقرة: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، المستوى الإيماني العميق الرائع الذي تمثّل في هؤلاء، فقد رضي الله عنهم، لأنهم أعطوا الله كلّهم، وضحّوا في سبيله، وجاهدوا أنفسهم وبيئتهم وظروفهم، وانطلقوا في الهجرة إلى الله ورسوله. {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، لأنهم عاشوا ألطاف الله ورحمته وعطفه وكرمه، فيما شعروا بأنّ الله أعطاهم كلّ ما يتمنّونه. وهذا النوع من تبادل الحبّ لا نظير له، لأنه قد يكون عندنا حبّ من طرف واحد، وهنا حبّ من طرفين ورضا من طرفين، تماماً كما جاء في كلام النبيّ(ص) عن عليّ(ع): "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّاراً غير فرّار"[6]...

وهذا ما ينبغي لنا أن نتمثّله، وأن نعيشه، وأن نرتفع إلى مستواه، وأن نعيش هذا المستوى من العلاقة بالله، بحيث نرضى من الله سبحانه وتعالى كلّ ما يجريه علينا، وحتى في ما يبتلينا به، لأنّ الله لا يبتلينا إلا عن مصلحة لنا. ولذا، نقول "الحمد لله الّذي لا يحمد على مكروه سواه"، وأن يرضى عنا من خلال ما نؤمن به، ومن خلال ما نتّقي. ويقول تعالى: {وَالَّذِين هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[7]، هؤلاء الذين عاشوا الاضطهاد بالعذاب وبالحصار وبالضّغوط التي كانت تعمل على أن تفتنهم في دينهم. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، فنعطيهم من الكرامة ومن النعمة {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، لماذا ذلك؟ {الَّذِينَ صَبَرُوا}، لأنهم عاشوا الصبر بأقوى درجاته وبأصعب مواقعه، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[8]، فلم يكن صبرهم انسحاقاً وعجزا،ً بل كان صبراً واعياً، لأنهم صبروا وهم يحدِّقون في عظمة الله ورحمته ولطفه، وعرفوا أنّ الله سبحانه سيجعل {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[9]. وهذا هو الفرق ـ أيها الأحبة ـ بين صبر العاجز وصبر المؤمن، لأن صبر المؤمن من خياره، فقد صَبَرَ وهو قادر على أن ينتقل إلى الجانب الآخر، ليجد كلّ السّعة، ولكنه اختار الضّيق، وصمد أمام كلّ تحدّياته النفسية والخارجية، وصبر لأجل الله وفي سبيله، ولذلك، كان صبره صبراً مثقّفاً عقيدياً، ومنفتحاً ربانياً، وواعياً لسنن الله في الكون، وبأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من بعد العسر يسراً: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[10]، فليس هناك ظلم خالد، وليس هناك قوّة خالدة.

يقول تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا}، في خطّ الهجرة أو في سبيل الله، {أَوْ مَاتُوا} وهم مهاجرون، {لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا}، والمقصود من الرزق هنا رزق الآخرة، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ}، يعلم ما عاشوه، وما اعتقدوه، وما عملوا به، {حَلِيمٌ}[11] فيما يعطيهم من الأجر على ذلك. ويقول تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[12]، بمعنى أن يكون عادلاً حتى في عقوبته وفي ردّ الفعل، لأنّ الإسلام يؤكّد دائماً أن يكون ردّ فعلك مساوياً لفعل الآخر، فلا تكون ظالماً لمن ظلمك، بل عاقب بمثل ما عوقبت به، {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[13]. وهذا ما ينبغي لنا أن نتعلمه، ونحن نعيش في عالم يضجّ فيه الفعل وردّ الفعل، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الاجتماعي، وعلى المستوى السياسي.

 {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}[الحشر: 8]، فهم أُخرجوا، لأنهم رفضوا الكفر، ورفضوا الذلّ، ورفضوا السقوط تحت تأثير المستكبرين في كلّ مخطّطاتهم، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ}، في ما يتفضّل الله به عليهم، {وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، ويتحركون من خلال أنهم ينصرون الله ورسوله، بالثبات على دينهم، والسّير مع رسول الله على خطّ الله في إقامة هذا الدّين ونصرته، {أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}، لأنهم صدقوا في الكلمة، وصدقوا في الموقف، والله سبحانه وتعالى يريد منا دائماً أن نكون صادقين في كلّ مواقعنا ومواقفنا وكلماتنا وعهودنا وما إلى ذلك.

مآثر الأنصار

ثم يحدّثنا القرآن الكريم كيف استقبل الأنصارُ المهاجرين الّذين أقاموا في المدينة، ولم يكن هؤلاء المهاجرون يملكون أية إمكانات مالية، والكثير من الأنصار لم يكونوا يملكون الغنى والثّروة، ومع ذلك: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، وهم الأنصار الّذين كانوا يسكنون يثرب، {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، فهم عاشوا الإسلام بالمستوى العقيدي، وبالمستوى العلمي، وعاشوه ـ وهذه هي القمة ـ في المستوى الشعوري، حيث تحوّل الإسلام فيهم إلى حالة شعورية حميمة، عاشوا من خلالها الحبّ للذين يهاجرون إليهم، بالرغم من أنّ ذلك يحمّلهم الكثير من الأعباء الثقيلة، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، من مسؤوليّات ومن أعباء، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، بحيث إنهم يعطونهم ما يحتاجون إليه، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، ولو كانوا في حاجة إليه. {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}، بمعنى عاش روحية العطاء وروحية الكرم، {فَأُوْلَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ}[14].

وهكذا، يتحدَّث الله عن الجيل المتأخّر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}، ونحن جئنا من بعدهم. وحتّى لا نقرأ الآية قراءة تاريخية، من حيث إنها تتحدّث عن الماضي ولا شغل لها بالحاضر، {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}[15]، فبالإيمان، علينا أن نعيش هذه العلاقة الحميمة مع الذين سبقونا به، وركّزوا لنا القاعدة، وصنعوا لنا الامتداد، وهيأوا لنا الأجواء، وركزوا لنا المفاهيم، وخطّوا لنا الخطوط، {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}، بل اجعل قلوبنا يا ربّ تعيش حب الإيمان للمؤمنين، لأنّ المسألة يا ربنا، هي أنّ الإيمان يقوّي الحبّ، ويتجذر بالحبّ، ويمتدّ بالحبّ. ومشكلة المؤمنين أنهم ينتجون الحقد ـ أحياناً ـ لأنهم يختلفون في الصّغائر وفي الخصوصيات الذاتية هنا وهناك. فمتى نعيش ثورة الحبّ؟ لأننا نعيش ـ مع الأسف ـ ثورة الحقد أو فتنة الحقد؛ هذا الحقد الخبيث الّذي أعطيناه صفة الحقد المقدّس، في وقت لا يمكن أن يكون الحقد مقدّساً.

وهذا هو درس الهجرة التاريخي؛ تلك الهجرة التي استطاعت أن تفتح العالم كلّه على الإسلام، ولولا الهجرة، لبقي الإسلام مسجوناً مضطهداً في مكّة، إلا أنها دفعت بالإسلام إلى العالم، وانطلق الإسلام من خلال أنّ الله أراد أن يظهره على الدّين كلّه ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 103.

[2]  [البقرة: 219].

[3]  [النساء: 75].

[4]  [الأنفال: 30].

[5]  [التوبة: 100].

[6]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 21، ص 3.

[7]  [النحل: 41].

[8]  [العنكبوت: 59].

[9]  [الطلاق: 7].

[10]  [آل عمران: 140].

[11]  [الحج: 58- 59].

[12]  [الحج: 60].

[13]  [البقرة: 194].

[14]  [الحشر: 9].

[15]  [الحشر: 9 - 10].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير