كان السيّد فضل الله دائم النشاط الفكريّ، وعلاّمة كبيراً، وقد كنّا نشعر بقيمته عندما نقرأ له ونتابع ما يصدر عنه من كتبٍ وفتاوى، وكذلك في المناسبات الّتي كنّا نستمع فيها إليه، أكان في مناسبات ثقافيّة، أم عند استضافته في مؤسّسة العرفان التوحيديّة في الشّوف، حيث ألقى محاضرةً قيّمة جداً.
كان السيّد فضل الله ذا عقل واسع، يتناول الأمور الدينيَّة، ليس فقط من المنظور العقائديّ البحت، ولكن من منظور الإنسانيَّة الشّاملة ومنظور الثّقافة الشّاملة. أمّا كتاباته والمقاربة الَّتي استخدمها، فكانت مقاربةً زاخرةً في البعد الثقافيّ والحضاريّ لفهم الإسلام، كان ينظر إلى الإسلام ويتعامل معه في ظلِّ الرّؤية الحضاريَّة، انطلاقاً مما قدّمته الحضارة الإسلاميَّة في الماضي، وما يمكن أن تقدّمه في المستقبل، وكانت هذه ميزته الكبرى، كان فكره في حركة دائمة، ليس من خلال المبادئ والأصول الواردة في النّصوص الكريمة والتّراث الزّاخر فحسب، وإنما كان هذا الفكر في جدل إيجابيّ مع الواقع ومشكلاته، من أجل الوصول إلى رؤية متقدّمة قائمة على الأصول، وهذه الأمور يحرص كلّ العلماء المتمرّسين في الأصول الدينيَّة عليها، ولكن أيضاً في رؤية واضحة وجليّة ومتقدّمة للمستقبل، وكان دائم الحرص على أن تكون هذه الرّؤية للمستقبل خاضعةً للمكان الحضاريّ العام في المكان الجامع لمختلف المقاربات الإنسانيّة للموضوع.
هذا الانفتاح وهذه الجدليّة وهذا التطلّع إلى المستقبل، جعلت الكثير من أفكاره ورؤاه تأخذ حيّزاً متقدّماً جدّاً في الساحة الإسلاميَّة وفي السّاحة الإنسانيَّة عند من يتابعه، وقد كان شديد الحرص على أن تنظر هذه الحركيّة إلى المستقبل الواعد نظرة أمل وإنسانيّة.
يشكّل تراث سماحته ذخراً للإنسانيّة يجب أن يحفظه المسلمون، ومن المؤسف القول إنّ في فمنا ماءً، ذلك أنّنا لا نستطيع الحديث بكلّ صراحة، في ظل وقوع بعض رجال الدّين ضمن أطرٍ ضيّقة بالمعنى الفكريّ، والاستخدام السياسيّ الضيّق، ولا أقول الإسلام والسياسة، فهذا أمر متجانس، ولكنّنا نفتقد إلى فسحته العظيمة، وإلى رؤياه الواسعة المنفتحة الّتي يمكن أن تتفاعل فيها إنسانيّاً، الرّؤية الّتي يمكن أن نتناقش فيها وتتحدَّث بها مختلف الطوائف، وهذا له أهميّة كبرى في لبنان أوّلاً، وفي العالم الإسلاميّ ثانياً.
إنَّ استلهام فكر السيّد فضل الله يكون بالعودة إلى رسالته ومعاني رسالته بإخلاص وصدق، وبالفهم الصّحيح لها كما يجب أن نفهمه وفقاً لما أراده هو، وليس وفقاً لما نريده نحن أو فلان، لغرض استخدامات ومصالح ضيّقة، ما يشوّه رسالة هذا الرّجل العظيم المنفتح الّذي فتح الآفاق للفكر وللعلوم.
ترك هذا الرّجل مؤسّسات عظيمة وإرثاً عظيماً في المجالات كافّة، وينبغي العودة إلى رسالته بإخلاص لاستثمارها، ليس في المجال الإسلاميّ فحسب، بل في المجال الفكريّ الإنسانيّ بمعناه العريض الواسع، لأنّه يخدم لبنان ويخدم الحضارة الإنسانيَّة في الوقت نفسه.