الإصلاح أساس في سلامة المجتمع

 الإصلاح أساس في سلامة المجتمع

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

 
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}، ويقول تعالى: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}، وقال سبحانه: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، وقال سبحانه: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها}. وهكذا، تتالى الآيات القرآنية الكريمة لتتحدث عن مسألة الإصلاح بين الناس، لأن مسألة التمزقات الاجتماعية التي قد تحصل في داخل العائلة، تربك العائلة وتؤدي بها إلى الانهيار، كما أن التمزقات الاجتماعية التي تحصل في داخل المجتمع الواحد تبعده عن التوازن.

التعاون سبيل القوّة

ومسألة التوازن هي مسألة أن تتكامل الطبقات الاجتماعية مع بعضها البعض، بحيث يعطي كل فريق خبرته ورأيه وطاقته، لتتكامل الطاقات ولتتفاعل الخبرات ولتلتقي الآراء، ما يجعل المجتمع مجتمعاً متعاوناً على القضايا العامة، التي تؤثّر في سلامة وجوده وفي قوة قضاياه، بينما يحوّل التمزّق الاجتماعي المجتمع إلى مجتمع يفقد سلام أفراده، وتتبعثر طاقاته وتتحرك الآراء فيه إلى التخطيط نحو كيف يُسقط أو يدمّر بعضنا بعضاً، وبذلك تكون المسألة مسألة ضعف وسقوط اجتماعي، وقد نبّهنا الله تعالى بقوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، والريح هي كناية عن القوة التي تصدم كل التحديات، فإنها تضعف عندما تتوزع.

حل الخلافات بالحوار

ونحن لا نمانع في أن يختلف الناس في أفكارهم وخطوطهم السياسية والدينية والاجتماعية، لأن الله تعالى لم يجعل الناس أمة واحدة، لكن ليس معنى أن نختلف أن نتقاتل وندمّر بعضنا بعضاً، إن الاختلاف في وجهات النظر يفرض علينا أن نلتقي في ما اتفقنا فيه، وأن نتحاور في ما اختلفنا فيه، لماذا نبتعد عن الحوار في ما نختلف فيه؟ لماذا يقول كل فريق: أنا الحق وغيري الباطل؟ أنت مجرد إنسان، كنّ شخصاً، كنّ عالماً، كنّ حزباً أو حركة أو مذهباً، أنت مجرد شخص يملك فكراً ليس هو كل العالم، والأفكار تتكوّن من خلال ما ورثناه من آبائنا وما أخذناه من بيئتنا وما تعلّمناه من مدارسنا، ومن خلال ما قرأناه وسمعناه، وكل هذا محدود، فربما كان آباؤنا مخطئين، وقد حدّثنا الله تعالى عن الذين كانوا يقولون: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثـارهم مـقتدون}، ويجيبهم الله تعالى: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}، {أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}.

أنا عندي وجهة نظر، وأنت عندك وجهة نظر، لا أنت تمثل العصمة في فكرك ولا أنا أمثل العصمة في فكري، فتعال نتفاهم ونتحاور، والله تعالى يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}، ومشكلتنا في مجتمعنا المسلم أن كل شخص يعتبر نفسه أنه الحقيقة والآخر هو الباطل، وننشغل ببعضنا البعض، فيكفّر هذا ذاك، وهذا يزندق ذاك، فيما العدو مشغول بنا.

الإصلاح مسؤولية إيمانية

لذلك، مسألة الإصلاح هي مسألة أساسية لسلامة المجتمع، الإصلاح بين أفراد العائلة والمجتمع والمذهب والطائفة والدين، وكلنا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداُ رسول الله.. فمسؤولية الإحساس بالأخوّة الإيمانية هو الإصلاح بينهم، وليس معنى الإصلاح أن يتنازل هذا لذاك مائة بالمائة أو العكس، بل معنى الإصلاح أن نبحث عن مواقع اللقاء ونعرف كيف نرتب مواقع الخلاف، لأن ليس هناك أحد يتفق مع الآخر بكل شيء. لذلك، لنتعلّم كيف نريح بعضنا بعضاً، ومشكلتنا - مع الأسف - أن الأب والأم والشيخ والسياسي جميعهم يعلموننا كيف نتعب بعضنا بعضاً، كيف نتعب مجتمعنا ووطننا وأمتنا ومستقبلنا، نحن متعَبون على جميع المستويات.. ففي الوسط الإسلامي هناك السنّي والشيعي، وفي الوسط الوطني هناك المسيحي والمسلم، وأدخلنا في الوسط الإسلامي الشيعي أن هذا من حزب وذاك من حزب آخر، هذا يقلّد مرجعاً وذاك يقلّد آخر، وأين الدين من ذلك كله؟!..

الإصلاح صدقة يحبها الله ورسوله

والله تعالى يحدّثنا عن النجوى، والنجوى هو الحديث السري، والغالب في الاجتماعات السرية أنها تكون في سبيل الشر، فيقول تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف - مما يمكن أن يرفع من مستوى المجتمع - أو إصلاح بين الناس}. وفي الحديث عن رسول الله (ص): "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة - والمقصود هو المستحب منها - إصلاح ذات البين - ويعلل رسول الله هذه الدرجة للإصلاح - فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، وفي حديث آخر يقول: "لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين"، لأن الخلافات تؤدي إلى الغيبة والقتل والتدمير، فيطير الدين كله.

وفي حديث عن رسول الله (ص) يخاطب "أبا أيوب": "يا أبا أيوب، ألا أخبرك وأدلك على صدقة يحبها الله ورسوله: تُصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا"، وفي حديث عن عليّ (ع): "ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين"، وفي حديث آخر: "من كمال السعادة السعي في صلاح الجمهور". وبعض الناس يحلفون الأيمان بأن لا يدخلوا في الصلح، وقد أنزل الله تعالى في ذلك قرآناً: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس}، ويفسّرها الإمام الصادق(ع): "إذا دُعيت لصلح بين اثنين فلا تقل عليّ يمين أن لا أفعل"، حتى لو حلفت اليمين فاحنث به من أجل الإصلاح والله يعطيك الأجر على ذلك، لأن اليمين لا بدّ أن تكون في خير، أما إذا كانت لمنع الخير فلا قيمة لها، وحتى أن الإنسان إذا اضطر في عالم الصلح أن يكذب فله ذلك، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): "الكلام ثلاثة: صدق وكذب وإصلاح بين الناس".. وورد في الحديث عن أبي عبد الله الصادق (ع): "لئن أُصلح بين اثنين أحبّ إليّ من أن أتصدّق بدينارين"، وقد قال الإمام الصادق (ع) لبعض أصحابه: "إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي"..

بالمحبة نبني الإنسانية

عندما نواجه التمزقات الاجتماعية في داخل الواقع الإسلامي فإن علينا أن نبذل كل جهدنا من أجل أن ندرس خلافات الناس فيما بينهم، وما يتفقون عليه، ونحاول أن نستفيد مما اتفق عليه الناس في حل ما أشكل عليهم، لأن الخلافات، لا سيما إذا تحوّلت إلى عصبيات، تفسد ديننا وسياستنا ومجتمعنا وتُذهب ريحنا وتُضعف قوتنا، وهذا ما نلاحظه في واقعنا كله. لذلك، فلينطلق المجتمع وليتقرّب إلى الله تعالى بأن يهيئ من أفراده جماعات ممن يملكون الدين والوعي والخبرة ليعينوا الناس للّقاء على أن يلتقوا على ما اتفقوا عليه، وأن يتحاوروا في ما اختلفوا فيه، حتى تنتشر المحبة فيما بيننا، ليكون هذا الحب هو الوسيلة التي يمكن أن يقنع فيها الإنسان الإنسان الآخر، إن المحبة تبني إنسانيتنا ومجتمعنا ووطننا وأمتنا، أما الحقد فإنه لا يبني شيئاً، فلنبتعد عن الحقد الشخصي والعشائري والمذهبي والطائفي والسياسي والاجتماعي، أحبوا الذين تختلفون معهم من أجل أن تهدوهم إلى سواء السبيل، وأحبوا الذين تتفقون معهم حتى تلتقوا معهم على طاعة الله، فالذين تحاقدوا ماتوا وتحوّل حقدهم إلى تراب عندما تحوّلوا إلى تراب وأورثوا حقدهم مَنْ بعدهم، والذين تحابوا على أساس الله ورسوله وصلوا إلى الله تعالى وأعطاهم جزاء ذلك روحاً وريحاناً وجنة نعيم، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
الخطبة الثانية
عباد الله.. اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، حتى نستطيع أن نجد من خلال هذا التعاون على الإصلاح والبر والتقوى أساس الوحدة في مجتمعنا على الأساس الديني والسياسي والاجتماعي، إن علينا أن نعرف الطريق إلى الوحدة على أساس مواقع اللقاء، لأن سلامة الأمة في مواجهة كل التحديات الكبيرة والخطيرة التي تواجهها إنما هي بوحدتها، لأننا عندما ندرس العالم الإسلامي في سياسته واقتصاده وأمنه، فإننا نجد أن الاستكبار والكفر العالميين يعملان يداً بيد في سبيل إسقاط سياساتنا وأمننا على أساس الاستفادة من خلافاتنا، ونحن كالنعامة نغرس رؤوسنا في رمال خلافاتنا وأحقادنا وعداواتنا ومذهبياتنا وعائلياتنا، والصيادون يُطلقون نيران بنادقهم السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية من أجل أن يُسقطوا مجتمعاً هنا ومجتمعاً هناك، وديناً هنا وديناً هنالك، فماذا هناك؟

الانتفاضة.. إرهاق العدو

لا تزال القضية الفلسطينية تخضع في حركة المفاوضات للتجاذبات السياسية الإقليمية والدولية في مناخ الانتخابات الصهيونية، وسط "اللاءات" التي تطلقها حكومة العدو في رفض القضايا الحيوية للشعب الفلسطيني كالقدس وعودة اللاجئين وغيرهما، بالإضافة إلى تصريحات رئيس "الليكود" الذي يتحدث بلغة الحقد والحرب باسم الأمن والسلام، مع أننا نعرف أن الجميع يستعدون للدخول في أزمة قاسية من الصراع بعد الانتخابات..

ولكن الانتفاضة تبقى قادرة على تخطي الحواجز السياسية والألغام الميدانية التي يزرعها العدو والآخرون في ساحة المفاوضات في "طابا"، حيث إنها لا تزال تتحرك بأبعادها العربية والإسلامية، حيث تقدّم في كل يوم الشهداء، ولكنها تُنزل في المقابل بالعدو أكثر من خسارة بشرية، ما جعل العدو يضج من حالة الضغط المضاد هذه، التي تربك حركة مستوطنيه، ما يفسح المجال للسؤال عن مدى قدرته على تحمّل الضربات الشعبية الجهادية التي تسددها الانتفاضة..

إننا – أمام هذا الواقع – ندعو الفلسطينيين إلى المزيد من الوحدة وتوزّع الأدوار في تنوعاتهم السياسية، والالتفاف حول الهدف الاستراتيجي وهو التحرير، لأننا لا نزال نخاف على الانتفاضة من شياطين السياسة في الداخل والخارج، وإدخالها في المتاهات الخلافية على أكثر من صعيد، وذلك بإثارة الخلافات والاستفادة من نقاط الضعف. إن الانتفاضة هي القبلة التي لا بدّ للجميع أن يتوجهوا إليها، للمحافظة على المكاسب السياسية، وللحصول على مكاسب جديدة، وإننا – كعرب وكمسلمين – بحاجة إلى استمرار الانتفاضة من أجل إبقاء الجذوة مشتعلة لدى الشعوب العربية والإسلامية، في حركة الوعي المنفتح على انتفاضة سياسية من أجل القضايا الكبرى في جميع المواقع..

الأمم المتحدة.. التزام مطلق بإسرائيل

وليس بعيداً من ذلك، فإن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة لا يزال خاضعاً للضغط الأمريكي، في التأكيد على الأمن الإسرائيلي من دون رعاية للأمن اللبناني، فهو في الوقت الذي لا يشير فيه إلى بقاء الاحتلال الإسرائيلي على أجزاء من الأرض اللبنانية، لا يتوقف عند الخروقات الإسرائيلية في أكثر من مظهر للعدوان ولا يقوم بإدانتها، ما يوحي بأن هذا التقرير قد أعدّ للضغط على لبنان من أجل إبعاد المقاومة عن ساحة التحرير، وضمان الأمن للعدو، وتجميد الوضع في داخل المرحلة الحاضرة من دون تحريك أية مشكلة للاحتلال.

إننا لا نريد الدخول في نزاع مع الأمم المتحدة، ولكننا لا نوافق على أن تكون الأمم المتحدة – من خلال أمينها العام – خاضعة لسياسة الولايات المتحدة في التزامها المطلق بإسرائيل ضد تطلعات شعوب المنطقة كلها ولا سيما لبنان، فهي لم تحرّك ساكناً للاهتمام بنزع الألغام المزروعة في أرضنا من قِبَل العدو، ولم تضغط عليه لتقديم الخرائط التفصيلية لهذه الألغام، ما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى في صفوف المدنيين الأبرياء، كما أنه لم تشكّل لجنة للتحقيق في استخدام العدو "لليورانيوم المستنفد" أثناء احتلاله، مع ما يشكل ذلك من خطورة على السلامة العامة.

سوريا وإيران.. علاقات استراتيجية

وفي جانب آخر، فإننا نرحب بالعلاقات المتقدّمة على مستوى استراتيجي بين سوريا وإيران، لأن في ذلك أكثر من مصلحة عربية وإسلامية ولا سيما للبنان، لأن الدولتين تقفان في موقع واحد لدعم صمود الشعب اللبناني ضد الاحتلال، كما أن إيران تقف بكل قوة لدعم صمود سوريا في مواجهة العدو من أجل تحرير أرضها في "الجولان"، وتتحرك معها في دعم الانتفاضة وحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه، والحفاظ على مقدّساته التي هي مقدّسات المسلمين جميعاً..

إن بقاء التنسيق بين سوريا وإيران سوف يحل الكثير من المشاكل العالقة في المنطقة، التي يريد الاستكبار العالمي أن يحرّكها بين وقت وآخر، من أجل تعقيد الأمور، لا سيما بين بعض العرب وإيران، وسوف يقوى موقفنا في مواجهة التحديات الصعبة في القضايا الاستراتيجية والمشتركة على الصعيدين القضايا الإقليمي والدولي.

لبنان.. معالجة شاملة

أما على المستوى اللبناني الداخلي، فإننا في هذا الجو نشعر بالأسى إزاء استمرار السجال الداخلي بالوتيرة نفسها التي تُفتح فيها الملفات لحسابات تتصل معظمها بأمور شخصية لا وطنية، في وقت نشعر فيه بأن الوضع وصل إلى درجة من السوء على المستوى الاقتصادي يكاد يجعل الوطن على شفير الهاوية..

إننا إزاء ما يُطرح من مواضيع وملفات على هامش مشروع الموازنة، ندعو إلى خطة وطنية شاملة لدراسة مستقبل البلد، من خلال فتح ملفات الإصلاح الإداري في جميع الدوائر، لا من خلال إثارة الجدل حول مرفق معين أو وزارة معينة فقط، لأن المسألة هي في الأولويات التي لا بد أن توضع في إطار دراسة شاملة لكل الوزارات وميزانياتها، انطلاقاً من أثر ذلك في التنمية الاقتصادية التي نريدها أن تكون شاملة، وأن تضع في سلم أولوياتها دعم القطاع الزراعي والمزارعين، وخاصة في البقاع وعكار والجنوب..

إن الهدر لا يزال يتحرك في مختلف الدوائر والمواقع، ولذلك لا بد من تحريك المعالجة على كافة المستويات لمحاصرة حرّاسه والمنتفعين منه، لأن المطلوب هو المعالجة الشاملة الواسعة لا المعالجة الجزئية، وأن تبدأ هذه المعالجة في المواقع الرسمية الداخلية، لا من خلال طرحها في وسائل الإعلام، نزولاً عند الحديث الشريف: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان".

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبة سماحته الأولى :

 
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}، ويقول تعالى: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}، وقال سبحانه: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، وقال سبحانه: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها}. وهكذا، تتالى الآيات القرآنية الكريمة لتتحدث عن مسألة الإصلاح بين الناس، لأن مسألة التمزقات الاجتماعية التي قد تحصل في داخل العائلة، تربك العائلة وتؤدي بها إلى الانهيار، كما أن التمزقات الاجتماعية التي تحصل في داخل المجتمع الواحد تبعده عن التوازن.

التعاون سبيل القوّة

ومسألة التوازن هي مسألة أن تتكامل الطبقات الاجتماعية مع بعضها البعض، بحيث يعطي كل فريق خبرته ورأيه وطاقته، لتتكامل الطاقات ولتتفاعل الخبرات ولتلتقي الآراء، ما يجعل المجتمع مجتمعاً متعاوناً على القضايا العامة، التي تؤثّر في سلامة وجوده وفي قوة قضاياه، بينما يحوّل التمزّق الاجتماعي المجتمع إلى مجتمع يفقد سلام أفراده، وتتبعثر طاقاته وتتحرك الآراء فيه إلى التخطيط نحو كيف يُسقط أو يدمّر بعضنا بعضاً، وبذلك تكون المسألة مسألة ضعف وسقوط اجتماعي، وقد نبّهنا الله تعالى بقوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، والريح هي كناية عن القوة التي تصدم كل التحديات، فإنها تضعف عندما تتوزع.

حل الخلافات بالحوار

ونحن لا نمانع في أن يختلف الناس في أفكارهم وخطوطهم السياسية والدينية والاجتماعية، لأن الله تعالى لم يجعل الناس أمة واحدة، لكن ليس معنى أن نختلف أن نتقاتل وندمّر بعضنا بعضاً، إن الاختلاف في وجهات النظر يفرض علينا أن نلتقي في ما اتفقنا فيه، وأن نتحاور في ما اختلفنا فيه، لماذا نبتعد عن الحوار في ما نختلف فيه؟ لماذا يقول كل فريق: أنا الحق وغيري الباطل؟ أنت مجرد إنسان، كنّ شخصاً، كنّ عالماً، كنّ حزباً أو حركة أو مذهباً، أنت مجرد شخص يملك فكراً ليس هو كل العالم، والأفكار تتكوّن من خلال ما ورثناه من آبائنا وما أخذناه من بيئتنا وما تعلّمناه من مدارسنا، ومن خلال ما قرأناه وسمعناه، وكل هذا محدود، فربما كان آباؤنا مخطئين، وقد حدّثنا الله تعالى عن الذين كانوا يقولون: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثـارهم مـقتدون}، ويجيبهم الله تعالى: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}، {أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}.

أنا عندي وجهة نظر، وأنت عندك وجهة نظر، لا أنت تمثل العصمة في فكرك ولا أنا أمثل العصمة في فكري، فتعال نتفاهم ونتحاور، والله تعالى يقول: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}، ومشكلتنا في مجتمعنا المسلم أن كل شخص يعتبر نفسه أنه الحقيقة والآخر هو الباطل، وننشغل ببعضنا البعض، فيكفّر هذا ذاك، وهذا يزندق ذاك، فيما العدو مشغول بنا.

الإصلاح مسؤولية إيمانية

لذلك، مسألة الإصلاح هي مسألة أساسية لسلامة المجتمع، الإصلاح بين أفراد العائلة والمجتمع والمذهب والطائفة والدين، وكلنا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداُ رسول الله.. فمسؤولية الإحساس بالأخوّة الإيمانية هو الإصلاح بينهم، وليس معنى الإصلاح أن يتنازل هذا لذاك مائة بالمائة أو العكس، بل معنى الإصلاح أن نبحث عن مواقع اللقاء ونعرف كيف نرتب مواقع الخلاف، لأن ليس هناك أحد يتفق مع الآخر بكل شيء. لذلك، لنتعلّم كيف نريح بعضنا بعضاً، ومشكلتنا - مع الأسف - أن الأب والأم والشيخ والسياسي جميعهم يعلموننا كيف نتعب بعضنا بعضاً، كيف نتعب مجتمعنا ووطننا وأمتنا ومستقبلنا، نحن متعَبون على جميع المستويات.. ففي الوسط الإسلامي هناك السنّي والشيعي، وفي الوسط الوطني هناك المسيحي والمسلم، وأدخلنا في الوسط الإسلامي الشيعي أن هذا من حزب وذاك من حزب آخر، هذا يقلّد مرجعاً وذاك يقلّد آخر، وأين الدين من ذلك كله؟!..

الإصلاح صدقة يحبها الله ورسوله

والله تعالى يحدّثنا عن النجوى، والنجوى هو الحديث السري، والغالب في الاجتماعات السرية أنها تكون في سبيل الشر، فيقول تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف - مما يمكن أن يرفع من مستوى المجتمع - أو إصلاح بين الناس}. وفي الحديث عن رسول الله (ص): "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة - والمقصود هو المستحب منها - إصلاح ذات البين - ويعلل رسول الله هذه الدرجة للإصلاح - فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، وفي حديث آخر يقول: "لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين"، لأن الخلافات تؤدي إلى الغيبة والقتل والتدمير، فيطير الدين كله.

وفي حديث عن رسول الله (ص) يخاطب "أبا أيوب": "يا أبا أيوب، ألا أخبرك وأدلك على صدقة يحبها الله ورسوله: تُصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا"، وفي حديث عن عليّ (ع): "ثابروا على صلاح المؤمنين والمتقين"، وفي حديث آخر: "من كمال السعادة السعي في صلاح الجمهور". وبعض الناس يحلفون الأيمان بأن لا يدخلوا في الصلح، وقد أنزل الله تعالى في ذلك قرآناً: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس}، ويفسّرها الإمام الصادق(ع): "إذا دُعيت لصلح بين اثنين فلا تقل عليّ يمين أن لا أفعل"، حتى لو حلفت اليمين فاحنث به من أجل الإصلاح والله يعطيك الأجر على ذلك، لأن اليمين لا بدّ أن تكون في خير، أما إذا كانت لمنع الخير فلا قيمة لها، وحتى أن الإنسان إذا اضطر في عالم الصلح أن يكذب فله ذلك، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): "الكلام ثلاثة: صدق وكذب وإصلاح بين الناس".. وورد في الحديث عن أبي عبد الله الصادق (ع): "لئن أُصلح بين اثنين أحبّ إليّ من أن أتصدّق بدينارين"، وقد قال الإمام الصادق (ع) لبعض أصحابه: "إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي"..

بالمحبة نبني الإنسانية

عندما نواجه التمزقات الاجتماعية في داخل الواقع الإسلامي فإن علينا أن نبذل كل جهدنا من أجل أن ندرس خلافات الناس فيما بينهم، وما يتفقون عليه، ونحاول أن نستفيد مما اتفق عليه الناس في حل ما أشكل عليهم، لأن الخلافات، لا سيما إذا تحوّلت إلى عصبيات، تفسد ديننا وسياستنا ومجتمعنا وتُذهب ريحنا وتُضعف قوتنا، وهذا ما نلاحظه في واقعنا كله. لذلك، فلينطلق المجتمع وليتقرّب إلى الله تعالى بأن يهيئ من أفراده جماعات ممن يملكون الدين والوعي والخبرة ليعينوا الناس للّقاء على أن يلتقوا على ما اتفقوا عليه، وأن يتحاوروا في ما اختلفوا فيه، حتى تنتشر المحبة فيما بيننا، ليكون هذا الحب هو الوسيلة التي يمكن أن يقنع فيها الإنسان الإنسان الآخر، إن المحبة تبني إنسانيتنا ومجتمعنا ووطننا وأمتنا، أما الحقد فإنه لا يبني شيئاً، فلنبتعد عن الحقد الشخصي والعشائري والمذهبي والطائفي والسياسي والاجتماعي، أحبوا الذين تختلفون معهم من أجل أن تهدوهم إلى سواء السبيل، وأحبوا الذين تتفقون معهم حتى تلتقوا معهم على طاعة الله، فالذين تحاقدوا ماتوا وتحوّل حقدهم إلى تراب عندما تحوّلوا إلى تراب وأورثوا حقدهم مَنْ بعدهم، والذين تحابوا على أساس الله ورسوله وصلوا إلى الله تعالى وأعطاهم جزاء ذلك روحاً وريحاناً وجنة نعيم، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
الخطبة الثانية
عباد الله.. اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، حتى نستطيع أن نجد من خلال هذا التعاون على الإصلاح والبر والتقوى أساس الوحدة في مجتمعنا على الأساس الديني والسياسي والاجتماعي، إن علينا أن نعرف الطريق إلى الوحدة على أساس مواقع اللقاء، لأن سلامة الأمة في مواجهة كل التحديات الكبيرة والخطيرة التي تواجهها إنما هي بوحدتها، لأننا عندما ندرس العالم الإسلامي في سياسته واقتصاده وأمنه، فإننا نجد أن الاستكبار والكفر العالميين يعملان يداً بيد في سبيل إسقاط سياساتنا وأمننا على أساس الاستفادة من خلافاتنا، ونحن كالنعامة نغرس رؤوسنا في رمال خلافاتنا وأحقادنا وعداواتنا ومذهبياتنا وعائلياتنا، والصيادون يُطلقون نيران بنادقهم السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية من أجل أن يُسقطوا مجتمعاً هنا ومجتمعاً هناك، وديناً هنا وديناً هنالك، فماذا هناك؟

الانتفاضة.. إرهاق العدو

لا تزال القضية الفلسطينية تخضع في حركة المفاوضات للتجاذبات السياسية الإقليمية والدولية في مناخ الانتخابات الصهيونية، وسط "اللاءات" التي تطلقها حكومة العدو في رفض القضايا الحيوية للشعب الفلسطيني كالقدس وعودة اللاجئين وغيرهما، بالإضافة إلى تصريحات رئيس "الليكود" الذي يتحدث بلغة الحقد والحرب باسم الأمن والسلام، مع أننا نعرف أن الجميع يستعدون للدخول في أزمة قاسية من الصراع بعد الانتخابات..

ولكن الانتفاضة تبقى قادرة على تخطي الحواجز السياسية والألغام الميدانية التي يزرعها العدو والآخرون في ساحة المفاوضات في "طابا"، حيث إنها لا تزال تتحرك بأبعادها العربية والإسلامية، حيث تقدّم في كل يوم الشهداء، ولكنها تُنزل في المقابل بالعدو أكثر من خسارة بشرية، ما جعل العدو يضج من حالة الضغط المضاد هذه، التي تربك حركة مستوطنيه، ما يفسح المجال للسؤال عن مدى قدرته على تحمّل الضربات الشعبية الجهادية التي تسددها الانتفاضة..

إننا – أمام هذا الواقع – ندعو الفلسطينيين إلى المزيد من الوحدة وتوزّع الأدوار في تنوعاتهم السياسية، والالتفاف حول الهدف الاستراتيجي وهو التحرير، لأننا لا نزال نخاف على الانتفاضة من شياطين السياسة في الداخل والخارج، وإدخالها في المتاهات الخلافية على أكثر من صعيد، وذلك بإثارة الخلافات والاستفادة من نقاط الضعف. إن الانتفاضة هي القبلة التي لا بدّ للجميع أن يتوجهوا إليها، للمحافظة على المكاسب السياسية، وللحصول على مكاسب جديدة، وإننا – كعرب وكمسلمين – بحاجة إلى استمرار الانتفاضة من أجل إبقاء الجذوة مشتعلة لدى الشعوب العربية والإسلامية، في حركة الوعي المنفتح على انتفاضة سياسية من أجل القضايا الكبرى في جميع المواقع..

الأمم المتحدة.. التزام مطلق بإسرائيل

وليس بعيداً من ذلك، فإن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة لا يزال خاضعاً للضغط الأمريكي، في التأكيد على الأمن الإسرائيلي من دون رعاية للأمن اللبناني، فهو في الوقت الذي لا يشير فيه إلى بقاء الاحتلال الإسرائيلي على أجزاء من الأرض اللبنانية، لا يتوقف عند الخروقات الإسرائيلية في أكثر من مظهر للعدوان ولا يقوم بإدانتها، ما يوحي بأن هذا التقرير قد أعدّ للضغط على لبنان من أجل إبعاد المقاومة عن ساحة التحرير، وضمان الأمن للعدو، وتجميد الوضع في داخل المرحلة الحاضرة من دون تحريك أية مشكلة للاحتلال.

إننا لا نريد الدخول في نزاع مع الأمم المتحدة، ولكننا لا نوافق على أن تكون الأمم المتحدة – من خلال أمينها العام – خاضعة لسياسة الولايات المتحدة في التزامها المطلق بإسرائيل ضد تطلعات شعوب المنطقة كلها ولا سيما لبنان، فهي لم تحرّك ساكناً للاهتمام بنزع الألغام المزروعة في أرضنا من قِبَل العدو، ولم تضغط عليه لتقديم الخرائط التفصيلية لهذه الألغام، ما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى في صفوف المدنيين الأبرياء، كما أنه لم تشكّل لجنة للتحقيق في استخدام العدو "لليورانيوم المستنفد" أثناء احتلاله، مع ما يشكل ذلك من خطورة على السلامة العامة.

سوريا وإيران.. علاقات استراتيجية

وفي جانب آخر، فإننا نرحب بالعلاقات المتقدّمة على مستوى استراتيجي بين سوريا وإيران، لأن في ذلك أكثر من مصلحة عربية وإسلامية ولا سيما للبنان، لأن الدولتين تقفان في موقع واحد لدعم صمود الشعب اللبناني ضد الاحتلال، كما أن إيران تقف بكل قوة لدعم صمود سوريا في مواجهة العدو من أجل تحرير أرضها في "الجولان"، وتتحرك معها في دعم الانتفاضة وحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه، والحفاظ على مقدّساته التي هي مقدّسات المسلمين جميعاً..

إن بقاء التنسيق بين سوريا وإيران سوف يحل الكثير من المشاكل العالقة في المنطقة، التي يريد الاستكبار العالمي أن يحرّكها بين وقت وآخر، من أجل تعقيد الأمور، لا سيما بين بعض العرب وإيران، وسوف يقوى موقفنا في مواجهة التحديات الصعبة في القضايا الاستراتيجية والمشتركة على الصعيدين القضايا الإقليمي والدولي.

لبنان.. معالجة شاملة

أما على المستوى اللبناني الداخلي، فإننا في هذا الجو نشعر بالأسى إزاء استمرار السجال الداخلي بالوتيرة نفسها التي تُفتح فيها الملفات لحسابات تتصل معظمها بأمور شخصية لا وطنية، في وقت نشعر فيه بأن الوضع وصل إلى درجة من السوء على المستوى الاقتصادي يكاد يجعل الوطن على شفير الهاوية..

إننا إزاء ما يُطرح من مواضيع وملفات على هامش مشروع الموازنة، ندعو إلى خطة وطنية شاملة لدراسة مستقبل البلد، من خلال فتح ملفات الإصلاح الإداري في جميع الدوائر، لا من خلال إثارة الجدل حول مرفق معين أو وزارة معينة فقط، لأن المسألة هي في الأولويات التي لا بد أن توضع في إطار دراسة شاملة لكل الوزارات وميزانياتها، انطلاقاً من أثر ذلك في التنمية الاقتصادية التي نريدها أن تكون شاملة، وأن تضع في سلم أولوياتها دعم القطاع الزراعي والمزارعين، وخاصة في البقاع وعكار والجنوب..

إن الهدر لا يزال يتحرك في مختلف الدوائر والمواقع، ولذلك لا بد من تحريك المعالجة على كافة المستويات لمحاصرة حرّاسه والمنتفعين منه، لأن المطلوب هو المعالجة الشاملة الواسعة لا المعالجة الجزئية، وأن تبدأ هذه المعالجة في المواقع الرسمية الداخلية، لا من خلال طرحها في وسائل الإعلام، نزولاً عند الحديث الشريف: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان".
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير