ذكرى يوم المباهلة: تجسيدٌ لرحابة الحوار في الإسلام

ذكرى يوم المباهلة: تجسيدٌ لرحابة الحوار في الإسلام

ذكرى يوم المباهلة: تجسيدٌ لرحابة الحوار في الإسلام


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الحوار مع أهل الكتاب

في اليوم الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام كان يوم المباهلة، والمباهلة هي طريقة إسلامية تكون في نهاية الحوار بين الآراء المختلفة، عندما يستنفد الجميع الحوار فيما بينهم حول قضايا العقيدة، ويأبى أحد الطرفين أن يقرّ بالحقيقة من وجهة نظر الطرف الآخر، فيدعو الطرف الذي يعتبر نفسه أنه يملك الحقيقة، الجانب المنكر إلى المباهلة، بأن يلتقي مع أحبّ الناس إليه مع الطرف الآخر فيمن يختاره، ويقفا أمام الله ليدعواه ويبتهلا إليه أن يجعل لعنته على الكاذبين، ومن المعروف في تجربة المباهلة أن الله تعالى يُنـزل العذاب على الكاذب منهما.

وهذا ما جرى مع الرسول(ص) في السنة التاسعة للهجرة، بعد أن أكّد النبي(ص) انتصاره على المشركين في معركة القوة، وكانت وفود العرب تأتي إلى المدينة تباعاً للإعلان عن انضمامها إلى الدين الجديد، وهذا ما أشار الله إليه في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً* فسبّح بحمد ربك واستغفره إنّه كان توّاباً}، وكان من بين تلك الوفود وفد نصارى نجران، وهؤلاء جاؤوا ليحاوروا وليجادلوا النبي(ص) في الإسلام، وفي شخصية السيد المسيح(ع)، فاستقبلهم النبي(ص) بكل رحابة وتكريم، وأنزلهم في مسجده، لأن النبي(ص) لم يكن لديه بيت للاستقبال، بل كان يستقبل الناس ـ سواء كانوا كافرين أو غير كافرين ـ في المسجد، ولهذا نحن نقول إنّه لا مانع من أن يدخل غير المسلم إلى المسجد، وكل ما هناك أن الله تعالى منع المشركين أن يقربوا المسجد الحرام بالخصوص، أما بقية المساجد، فرأينا الفقهي أنه لا مانع من أن يدخل غير المسلم إليها، لأن النبي(ص) ومن جاء بعده من الخلفاء، بمن فيهم الإمام عليّ(ع)، كانوا يستقبلون الكافرين من الأسرى وغيرهم في المسجد، وعندما حان وقت صلاة هؤلاء النصارى، وقفوا ليصلّوا صلاتهم في المسجد، واستقبلوا الشرق آنذاك، وأرادوا أن يضربوا الناقوس، فاحتجَّ المسلمون على ذلك، ولكن النبي(ص) قال: «دعوهم فليفعلوا ما يريدون»، ليبيّن لهم سماحة الإسلام، وأنه لا يمنع أحداً من أداء عباداته بالطريقة التي يريدها.

عيسى كلمة الله

ودخل النبي(ص) معهم في حوار حول عيسى(ع) في ما كانوا يقولون عنه إنه هو الله، وإن الله تجسّد في السيد المسيح، كما هي العقيدة المعروفة في ما بين النصارى في العالم بشكل عام، أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة، ودار الجدال فيما بينهم في أكثر من جانب، وأكّد لهم أنه مخلوق، ولكنهم لم يقتنعوا بذلك، فدعاهم (ص) إلى المباهلة، وهذا ما تحدثت عنه هذه الآيات الكريمة: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال لـه كن فيكون ـ إنه تعالى يقول لكم: إنكم تعتبرون أن عيسى(ع) يحمل سرّ الألوهية لأنه وُلد من دون أب، ولكن هذه هي قدرة الله في ذلك، فماذا تقولون في آدم(ع) الذي خلق من غير أب أو أم. إنها قدرة الله في أن يخلق إنساناً من أب وأم، أو من أم دون أب أو من دون أب وأم: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ـ الحق من ربك ـ ويؤكد الله للنبي(ص) الحقيقة النازلة من الله ـ فلا تكن من الممترين ـ من الشاكّين ـ فمن حاجّك فيه ـ في عيسى(ع) وشخصيته ـ من بعد ما جاءك من العلم ـ مما علّمك الله تعالى، وأن عيسى(ع) بشر كبقية البشر في معنى إنسانيته وبشريته، فهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويعيش كما يعيش البشر في ضروراتهم وكل أمورهم، ولكنه روح من الله، وله ميزة الرسالة، والانطلاق الروحي من الله تعالى، وهذه الكلمة التي وُلد من خلالها.

المباهلة بأحب الناس

ـ فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ـ والأبناء أحبّ الناس للإنسان ـ ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}. وقبلوا بمبدأ المباهلة، ولكن رئيسهم ـ كما تقول الرواية ـ استدرك وقال: «انظروا مَن الذين سوف يختارهم محمد للمباهلة»، هنا جاء النبي(ص) وعليه كساء أسود وقد احتضن الحسن والحسين (عليهما السلام)، وعليّ وفاطمة (عليهما السلام) يسيران خلفه، وهو يقول: «إذا دعوت فأمّنوا» ـ قولوا آمين ـ حتى يعرفوا من خلال المعجزة الإلهية من هو الكاذب ومن هو الصادق، فعندما رأى الوفد الذين جاء بهم النبي(ص) سأل عنهم، فقيل له: هذه ابنته وهذا ابن عمه وصهره، وهذان ولداه، فالتفت الرئيس الديني إلى الوفد وقال: «يا معشر النصارى، إني لأرى وجوهاً لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا»، لأنهم أيقنوا أن النبي(ص) لو لم يكن واثقاً من صدقه في الدعوة، لما جاء بأحبّ الناس إليه؛ ابنته وابناها وصهره وابن عمه، والنبي(ص) عندما يقدّم من يحبّ في موقعٍ من أخطر المواقع بين يدي الله، فإنه لا ينطلق في حبّه عن هوى، وإنما ينطلق من إيمانه بأن هؤلاء هم المقرّبون إلى الله، وأن الله تعالى سوف يستجيب لهم ما هم فيه. ودعا رئيس الوفد النبي(ص) إلى التفاوض والمعاهدة، فطلب منهم أن يسلموا فأبوا، فصالحهم(ص) على أن يؤدّوا الجزية. ويقول فخر الدين الرازي في تفسيره في آية المباهلة: «إنّ النبي عندما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة ثم عليّ، ثم قال النبي(ص): {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}"، وهذا ما يؤكد قيمة أهل البيت(ع) عند الله، ويؤكد عصمتهم، لأن الله تعالى هو الذي تكفّل بطهارتهم عن كل خطيئة وكل خطأ، وأذهب عنهم كل رجس.

الدعوة إلى الكلمة السواء

إننا نفهم من ذلك رحابة الإسلام وانطلاقه في مسألة الحوار مع الآخرين، ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآيات: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}. وهذا هو المنهج الإسلامي مع أهل الكتاب ومع كل الناس، المنهج المنطلق من الحجة والبرهان والانفتاح على الآخر والاعتراف به على أساس العلم والعقل.

وهذا ما يجب علينا أن نتعلّمه في كل موقع للخلاف، سواء كان خلافاً بين المسلمين وأهل الكتاب، أو بين المسلمين والمشركين، أو بين المسلمين والملحدين، أو بين المسلمين أنفسهم في ما يختلفون فيه في قضاياهم المذهبية والفكرية والاجتهادية، لأن الله تعالى دعا إلى العمل بالمنهج في كل مواقع الخلاف، وهذا ما قاله في كتابه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}، وقوله تعالى في الخلاف الإسلامي ـ الإسلامي: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}، الخلاف في الرأي لا يفرض الحقد والحرب والعداوة والضغينة، وإنما يفرض التفاهم على أساس الحوار، حتى يكون اختلاف الفكر، غنى للفكر بدلاً من أن يكون وسيلة للحقد والعداوة والبغضاء.

هذا هو الإسلام في منهجه، وهذا هو يوم المباهلة التي انطلق بها النبي(ص) مع الصفوة الطيبة من أهل البيت(ع)، الذين لا بد لنا من أن نتّبعهم لأنهم أخلصوا للإسلام وأهله، وأخلصوا للنبي(ص) الذي عاشوا في حضانته وتربيته وانفتحوا على كل آفاقه.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله تعالى، وواجهوا الموقف في عالم التحديات من موقع واحد هو موقع الإخلاص للأمة كلها وللإسلام كله وللمستضعفين كلهم، لأننا لا نزال في معركة متحركة على مستوى العالم، يعمل فيها المستكبرون في كل خططهم على أن يسقطوا المستضعفين، ولا سيما المسلمين في كل قضاياهم ومواقعهم، وعلى المسلمين أن يقفوا صفاً واحداً من أجل أن يسقطوا كل هذه المخططات، فتعالوا لنرى كيف تتحرك الساحات الإسلامية في خطط المستكبرين؟:

فلسطين: قمة عربية بشروط إسرائيلية

في المسألة الفلسطينية، هناك حركة عربية تقودها مصر، بالتعاون مع الأردن، لتجمع شارون وعباس في مؤتمر قد تنضم إليه وزيرة الخارجية الأمريكية، ومن الواضح أن هذه القمة تنطلق من الشروط الإسرائيلية السابقة في تقديم مسألة الأمن على السياسة، انطلاقاً من الاستراتيجية الأمريكية ـ الإسرائيلية التي تحمّل الجانب الفلسطيني مسؤولية الأمن، تحت شعار "منع الإرهاب" من خلال تفكيك المنظمات المسلّحة، لأن إقناع الفصائل بالتهدئة وحده غير كافٍ لإطلاق المفاوضات حول تطبيق خريطة الطريق، ولأن إسرائيل سوف ترفض المطلب الفلسطيني بالتحرك سريعاً على المسار السياسي قبل تحقيق الالتزامات الأمنية، الأمر الذي يعني العودة إلى نقطة الصفر...

إن المطلوب ـ إسرائيلياً ـ هو إسقاط عنصر القوة الفلسطيني، ليدخل الفلسطينيون في المفاوضات من دون أية ورقة ضاغطة، في الوقت الذي يملك الصهاينة كل الأوراق، بما فيها الورقة الأمريكية، وربما العربية الضاغطة... ولذلك، فإن من الصعب الوصول إلى أية نتيجة في التقدّم نحو بداية الحل من خلال هذه القمة التي نخشى أن تكون وسيلة من وسائل الضغط على السلطة في تقديم التنازلات الأمنية ـ وربما السياسية ـ لحساب إسرائيل، على طريقة قمة العقبة التي جرت برئاسة بوش.

ولذلك، فإننا نتابع هذه المرحلة الصعبة التي تدخل فيها القضية الفلسطينية في ساحة مليئة بالألغام الأمنية والسياسية، ما يفرض على الشعب الفلسطيني المزيد من الوعي والوحدة والصمود، وعدم تجاوز الخطوط الحمر في رفض الفتنة الأمنية والسياسية بين أبناء الشعب الواحد، من أجل الوصول إلى الاقتراب من تحقيق الهدف الكبير، وهو التحرير، بقوة المواقف.

وإذا كان الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته يتحدثان عن أن الدولة الفلسطينية "في متناول اليد"، وأنها لا بد أن تكون "متصلة جغرافياً وقابلة للحياة"، فإنهما لا يتحدثان عن مساحتها، وهل هي بحجم قرارات الأمم المتحدة، أو أنها بحجم مطامع إسرائيل التي أكدها الرئيس بوش في "رسالة الضمانات" التي بعث بها إلى شارون، وفي حديثه المستمر عن "واقعية التطورات" التي تفرض على الفلسطينيين التنازل عن حق العودة، والقبول بالمستوطنات الكبرى، إلى غير ذلك من الثوابت الوطنية.

وفي ضوء هذا، لا بد للسلطة الفلسطينية التي تتحدث عن تأكيد الثوابت، أن تواجه المرحلة بعينين مفتوحتين، وبذهنية مسؤولة لا تبتعد عن استراتيجية القيادات التاريخية والشهداء الأبرار، على أساس أن "المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين".

العراق: نخشى بقاء الاحتلال:

أما في العراق، فقد انطلقت الانتخابات بين "سندان الاحتلال ومطرقة التكفيريين"، لتوحي بأن الشعب العراقي يختار ممثليه بإرادته الحرة، في ظروف معقدة سياسياً، وفرحة شعبية شعورية، على الرغم من مقاطعة بعض الأطياف السياسية في العراق.

ولكن السؤال هو: ماذا وراء ذلك؟ وكيف تكون الحكومة المقبلة؟ وما هي شروط تأسيس الدستور الجديد؟ وما هو شكل الفدرالية؟ وهل ينطلق العراق من قاعدة المواطنة أم من قاعدة الطائفية والعرقية في حصص الطوائف والأعراق؟ وكيف يمكن تحقيق القوة الأمنية الوطنية التي تجعل الأمن الوطني في عهدة الجيش والأمن العراقيّين؟ وما هي الأسس التي ترتكز عليها مسؤوليتهما من خلال التوجيه والتدريب، إلى غير ذلك من علامات الاستفهام...

إننا نخشى أن تبقى قوات الاحتلال طويلاً في العراق لتحقيق مهماتها الاستراتيجية، في خططها المرتكزة على مصالحها في المنطقة، لتحويل العراق إلى قاعدة عسكرية متقدّمة، ومنطلق دبلوماسي واسع، وذلك تحت شرعية رسمية للحكومة العراقية، في معاهدة أمنية طويلة الأمد لبقاء هذه القوات، بحجة حفظ الأمن الذي يتحدث البعض أنه سوف يختل عند خروجها سريعاً، في الوقت الذي يعرف الجميع، أنها لم تحقق أي استقرار أمني منذ دخولها العراق حتى الآن، بل إنها لم تستطع الحفاظ على أمنها الذاتي.

إن الرئيس بوش يعتبر الانتخابات من إنجازاته، ولكننا نتصور أنها انطلقت من إنجازات الشعب العراقي الذي آمن بالحرية في تأكيد إرادته في تقرير مصيره بنفسه، إضافة إلى الهدف الكبير في تحرير أرضه من الاحتلال الذي هو سرّ المشكلة، باعتبار أنه دخل العراق لحساب مصالحه الاستراتيجية في المنطقة، لا مصالح الشعب العراقي... ولذلك، فإنه يرفض وضع جدول زمني لانسحابه، لأنه قد يخطِّط لأكثر من عقد في بقائه هناك بطريقة شرعية عراقية، قد لا تكون لها في هذا الموقف أية خطة للشرعية.

إننا نريد للشعب العراقي أن يعمل للانفتاح على المستقبل، بالحفاظ على وحدته الوطنية، وأن يواجه كل الذين يقتلون الأبرياء تحت خلفيات طائفية أو ابتزاز مالي أو ما إلى ذلك، لأن الذين يتحرَّكون في هذا الاتجاه، يسيئون إلى حاضر العراق ومستقبله، وإلى الصورة النقية للشعب كله.

إننا نقول للشعب العراقي: إن التجربة الحقيقية تبدأ من الآن، لتكون الوحدة الداخلية هي الردّ على من يدّعي أنّ الأحداث تؤكد الانقسام وتلغي الوحدة. وعلى المرجعيات الدينية والسياسية أن تسعى لإحباط كل المخططات التي يتحدث أصحابها بالصوت العالي عن الحرب الأهلية التي ستظل مطلب أعداء الشعب العراقي، سواء كانوا من رموز التخلّف، أو من بقايا النظام السابق، أو من رموز الاحتلال وجنوده.

لبنان: الإصلاح السياسي الداخلي:

أما لبنان الذي يعيش الجدل السياسي في طوائفه في مصالحها الطائفية، وفي شخصياته في مواقعها الذاتية، وفي أحزابه في خططها الفئوية، فإنه قد يكون بحاجة إلى تصحيحٍ في مساراته السياسية، وإلى تركيز قواعد قيمية وأخلاقية في العملية السياسية الداخلية، قبل الحديث عن تصحيح العلاقة مع الخارج أو المحيط، لأن هناك في حركة الصراع الداخلي من يوحي بأن اللبنانيين في خط المعارضة هنا، وفي خط الموالاة هناك، هم من الملائكة الذين يرتفعون إلى مستوى طهارة القيمة، وصدق الموقف، في الوقت الذي نعرف أن الكثيرين من الذين يلعنون الشيطان في تصريحاتهم كانوا من أعوانه، ومن الذين ينفّذون خططه.

وإذا كان البعض يتحدث عن التدخّل الخارجي الضاغط، فإن الشعب يتساءل: لماذا لم تكن للكثيرين من أعوان السلطان الشجاعة في رفض مشاركتهم للفساد والهدر وتنفيذ ما يُراد منهم، ولا سيما في جلسات الثقة التي تنطلق من كلمات السرّ هنا وهناك، بعيداً عن الانسجام مع النقد في المعارضة عندما يتحدثون، والسقوط في إعطاء الثقة عندما يصوّتون؟!

إن المشكلة هي أن هذه التجمّعات لا تنطلق غالباً من قاعدة لبنان المؤسسة، بل بفعل تجارب ينتمي أغلب أفرادها إلى لبنان المزرعة أو لبنان الطائفية، وإلا فلماذا لا ينطلق قانون "من أين لك هذا"؟ ولماذا لا يُحاسب الذين دخلوا السياسة فقراء وعاشوا في مواقع الغنى الفاحش؟ هل نقول: إن البعض ـ أيّاً كان ـ كان يمارس الشراكة بين الداخل والخارج، ما جعل كل فريق يُفسد صاحبه ويغطي أوضاعه، وتلك هي مأساة لبنان الذي ضاع في لعبة الشيطان، الذي يتحوّل إلى ملاك في الصورة والموقع.

ذكرى يوم المباهلة: تجسيدٌ لرحابة الحوار في الإسلام


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الحوار مع أهل الكتاب

في اليوم الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام كان يوم المباهلة، والمباهلة هي طريقة إسلامية تكون في نهاية الحوار بين الآراء المختلفة، عندما يستنفد الجميع الحوار فيما بينهم حول قضايا العقيدة، ويأبى أحد الطرفين أن يقرّ بالحقيقة من وجهة نظر الطرف الآخر، فيدعو الطرف الذي يعتبر نفسه أنه يملك الحقيقة، الجانب المنكر إلى المباهلة، بأن يلتقي مع أحبّ الناس إليه مع الطرف الآخر فيمن يختاره، ويقفا أمام الله ليدعواه ويبتهلا إليه أن يجعل لعنته على الكاذبين، ومن المعروف في تجربة المباهلة أن الله تعالى يُنـزل العذاب على الكاذب منهما.

وهذا ما جرى مع الرسول(ص) في السنة التاسعة للهجرة، بعد أن أكّد النبي(ص) انتصاره على المشركين في معركة القوة، وكانت وفود العرب تأتي إلى المدينة تباعاً للإعلان عن انضمامها إلى الدين الجديد، وهذا ما أشار الله إليه في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً* فسبّح بحمد ربك واستغفره إنّه كان توّاباً}، وكان من بين تلك الوفود وفد نصارى نجران، وهؤلاء جاؤوا ليحاوروا وليجادلوا النبي(ص) في الإسلام، وفي شخصية السيد المسيح(ع)، فاستقبلهم النبي(ص) بكل رحابة وتكريم، وأنزلهم في مسجده، لأن النبي(ص) لم يكن لديه بيت للاستقبال، بل كان يستقبل الناس ـ سواء كانوا كافرين أو غير كافرين ـ في المسجد، ولهذا نحن نقول إنّه لا مانع من أن يدخل غير المسلم إلى المسجد، وكل ما هناك أن الله تعالى منع المشركين أن يقربوا المسجد الحرام بالخصوص، أما بقية المساجد، فرأينا الفقهي أنه لا مانع من أن يدخل غير المسلم إليها، لأن النبي(ص) ومن جاء بعده من الخلفاء، بمن فيهم الإمام عليّ(ع)، كانوا يستقبلون الكافرين من الأسرى وغيرهم في المسجد، وعندما حان وقت صلاة هؤلاء النصارى، وقفوا ليصلّوا صلاتهم في المسجد، واستقبلوا الشرق آنذاك، وأرادوا أن يضربوا الناقوس، فاحتجَّ المسلمون على ذلك، ولكن النبي(ص) قال: «دعوهم فليفعلوا ما يريدون»، ليبيّن لهم سماحة الإسلام، وأنه لا يمنع أحداً من أداء عباداته بالطريقة التي يريدها.

عيسى كلمة الله

ودخل النبي(ص) معهم في حوار حول عيسى(ع) في ما كانوا يقولون عنه إنه هو الله، وإن الله تجسّد في السيد المسيح، كما هي العقيدة المعروفة في ما بين النصارى في العالم بشكل عام، أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة، ودار الجدال فيما بينهم في أكثر من جانب، وأكّد لهم أنه مخلوق، ولكنهم لم يقتنعوا بذلك، فدعاهم (ص) إلى المباهلة، وهذا ما تحدثت عنه هذه الآيات الكريمة: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال لـه كن فيكون ـ إنه تعالى يقول لكم: إنكم تعتبرون أن عيسى(ع) يحمل سرّ الألوهية لأنه وُلد من دون أب، ولكن هذه هي قدرة الله في ذلك، فماذا تقولون في آدم(ع) الذي خلق من غير أب أو أم. إنها قدرة الله في أن يخلق إنساناً من أب وأم، أو من أم دون أب أو من دون أب وأم: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ـ الحق من ربك ـ ويؤكد الله للنبي(ص) الحقيقة النازلة من الله ـ فلا تكن من الممترين ـ من الشاكّين ـ فمن حاجّك فيه ـ في عيسى(ع) وشخصيته ـ من بعد ما جاءك من العلم ـ مما علّمك الله تعالى، وأن عيسى(ع) بشر كبقية البشر في معنى إنسانيته وبشريته، فهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويعيش كما يعيش البشر في ضروراتهم وكل أمورهم، ولكنه روح من الله، وله ميزة الرسالة، والانطلاق الروحي من الله تعالى، وهذه الكلمة التي وُلد من خلالها.

المباهلة بأحب الناس

ـ فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ـ والأبناء أحبّ الناس للإنسان ـ ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}. وقبلوا بمبدأ المباهلة، ولكن رئيسهم ـ كما تقول الرواية ـ استدرك وقال: «انظروا مَن الذين سوف يختارهم محمد للمباهلة»، هنا جاء النبي(ص) وعليه كساء أسود وقد احتضن الحسن والحسين (عليهما السلام)، وعليّ وفاطمة (عليهما السلام) يسيران خلفه، وهو يقول: «إذا دعوت فأمّنوا» ـ قولوا آمين ـ حتى يعرفوا من خلال المعجزة الإلهية من هو الكاذب ومن هو الصادق، فعندما رأى الوفد الذين جاء بهم النبي(ص) سأل عنهم، فقيل له: هذه ابنته وهذا ابن عمه وصهره، وهذان ولداه، فالتفت الرئيس الديني إلى الوفد وقال: «يا معشر النصارى، إني لأرى وجوهاً لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا»، لأنهم أيقنوا أن النبي(ص) لو لم يكن واثقاً من صدقه في الدعوة، لما جاء بأحبّ الناس إليه؛ ابنته وابناها وصهره وابن عمه، والنبي(ص) عندما يقدّم من يحبّ في موقعٍ من أخطر المواقع بين يدي الله، فإنه لا ينطلق في حبّه عن هوى، وإنما ينطلق من إيمانه بأن هؤلاء هم المقرّبون إلى الله، وأن الله تعالى سوف يستجيب لهم ما هم فيه. ودعا رئيس الوفد النبي(ص) إلى التفاوض والمعاهدة، فطلب منهم أن يسلموا فأبوا، فصالحهم(ص) على أن يؤدّوا الجزية. ويقول فخر الدين الرازي في تفسيره في آية المباهلة: «إنّ النبي عندما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة ثم عليّ، ثم قال النبي(ص): {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}"، وهذا ما يؤكد قيمة أهل البيت(ع) عند الله، ويؤكد عصمتهم، لأن الله تعالى هو الذي تكفّل بطهارتهم عن كل خطيئة وكل خطأ، وأذهب عنهم كل رجس.

الدعوة إلى الكلمة السواء

إننا نفهم من ذلك رحابة الإسلام وانطلاقه في مسألة الحوار مع الآخرين، ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآيات: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}. وهذا هو المنهج الإسلامي مع أهل الكتاب ومع كل الناس، المنهج المنطلق من الحجة والبرهان والانفتاح على الآخر والاعتراف به على أساس العلم والعقل.

وهذا ما يجب علينا أن نتعلّمه في كل موقع للخلاف، سواء كان خلافاً بين المسلمين وأهل الكتاب، أو بين المسلمين والمشركين، أو بين المسلمين والملحدين، أو بين المسلمين أنفسهم في ما يختلفون فيه في قضاياهم المذهبية والفكرية والاجتهادية، لأن الله تعالى دعا إلى العمل بالمنهج في كل مواقع الخلاف، وهذا ما قاله في كتابه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}، وقوله تعالى في الخلاف الإسلامي ـ الإسلامي: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}، الخلاف في الرأي لا يفرض الحقد والحرب والعداوة والضغينة، وإنما يفرض التفاهم على أساس الحوار، حتى يكون اختلاف الفكر، غنى للفكر بدلاً من أن يكون وسيلة للحقد والعداوة والبغضاء.

هذا هو الإسلام في منهجه، وهذا هو يوم المباهلة التي انطلق بها النبي(ص) مع الصفوة الطيبة من أهل البيت(ع)، الذين لا بد لنا من أن نتّبعهم لأنهم أخلصوا للإسلام وأهله، وأخلصوا للنبي(ص) الذي عاشوا في حضانته وتربيته وانفتحوا على كل آفاقه.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله تعالى، وواجهوا الموقف في عالم التحديات من موقع واحد هو موقع الإخلاص للأمة كلها وللإسلام كله وللمستضعفين كلهم، لأننا لا نزال في معركة متحركة على مستوى العالم، يعمل فيها المستكبرون في كل خططهم على أن يسقطوا المستضعفين، ولا سيما المسلمين في كل قضاياهم ومواقعهم، وعلى المسلمين أن يقفوا صفاً واحداً من أجل أن يسقطوا كل هذه المخططات، فتعالوا لنرى كيف تتحرك الساحات الإسلامية في خطط المستكبرين؟:

فلسطين: قمة عربية بشروط إسرائيلية

في المسألة الفلسطينية، هناك حركة عربية تقودها مصر، بالتعاون مع الأردن، لتجمع شارون وعباس في مؤتمر قد تنضم إليه وزيرة الخارجية الأمريكية، ومن الواضح أن هذه القمة تنطلق من الشروط الإسرائيلية السابقة في تقديم مسألة الأمن على السياسة، انطلاقاً من الاستراتيجية الأمريكية ـ الإسرائيلية التي تحمّل الجانب الفلسطيني مسؤولية الأمن، تحت شعار "منع الإرهاب" من خلال تفكيك المنظمات المسلّحة، لأن إقناع الفصائل بالتهدئة وحده غير كافٍ لإطلاق المفاوضات حول تطبيق خريطة الطريق، ولأن إسرائيل سوف ترفض المطلب الفلسطيني بالتحرك سريعاً على المسار السياسي قبل تحقيق الالتزامات الأمنية، الأمر الذي يعني العودة إلى نقطة الصفر...

إن المطلوب ـ إسرائيلياً ـ هو إسقاط عنصر القوة الفلسطيني، ليدخل الفلسطينيون في المفاوضات من دون أية ورقة ضاغطة، في الوقت الذي يملك الصهاينة كل الأوراق، بما فيها الورقة الأمريكية، وربما العربية الضاغطة... ولذلك، فإن من الصعب الوصول إلى أية نتيجة في التقدّم نحو بداية الحل من خلال هذه القمة التي نخشى أن تكون وسيلة من وسائل الضغط على السلطة في تقديم التنازلات الأمنية ـ وربما السياسية ـ لحساب إسرائيل، على طريقة قمة العقبة التي جرت برئاسة بوش.

ولذلك، فإننا نتابع هذه المرحلة الصعبة التي تدخل فيها القضية الفلسطينية في ساحة مليئة بالألغام الأمنية والسياسية، ما يفرض على الشعب الفلسطيني المزيد من الوعي والوحدة والصمود، وعدم تجاوز الخطوط الحمر في رفض الفتنة الأمنية والسياسية بين أبناء الشعب الواحد، من أجل الوصول إلى الاقتراب من تحقيق الهدف الكبير، وهو التحرير، بقوة المواقف.

وإذا كان الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته يتحدثان عن أن الدولة الفلسطينية "في متناول اليد"، وأنها لا بد أن تكون "متصلة جغرافياً وقابلة للحياة"، فإنهما لا يتحدثان عن مساحتها، وهل هي بحجم قرارات الأمم المتحدة، أو أنها بحجم مطامع إسرائيل التي أكدها الرئيس بوش في "رسالة الضمانات" التي بعث بها إلى شارون، وفي حديثه المستمر عن "واقعية التطورات" التي تفرض على الفلسطينيين التنازل عن حق العودة، والقبول بالمستوطنات الكبرى، إلى غير ذلك من الثوابت الوطنية.

وفي ضوء هذا، لا بد للسلطة الفلسطينية التي تتحدث عن تأكيد الثوابت، أن تواجه المرحلة بعينين مفتوحتين، وبذهنية مسؤولة لا تبتعد عن استراتيجية القيادات التاريخية والشهداء الأبرار، على أساس أن "المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين".

العراق: نخشى بقاء الاحتلال:

أما في العراق، فقد انطلقت الانتخابات بين "سندان الاحتلال ومطرقة التكفيريين"، لتوحي بأن الشعب العراقي يختار ممثليه بإرادته الحرة، في ظروف معقدة سياسياً، وفرحة شعبية شعورية، على الرغم من مقاطعة بعض الأطياف السياسية في العراق.

ولكن السؤال هو: ماذا وراء ذلك؟ وكيف تكون الحكومة المقبلة؟ وما هي شروط تأسيس الدستور الجديد؟ وما هو شكل الفدرالية؟ وهل ينطلق العراق من قاعدة المواطنة أم من قاعدة الطائفية والعرقية في حصص الطوائف والأعراق؟ وكيف يمكن تحقيق القوة الأمنية الوطنية التي تجعل الأمن الوطني في عهدة الجيش والأمن العراقيّين؟ وما هي الأسس التي ترتكز عليها مسؤوليتهما من خلال التوجيه والتدريب، إلى غير ذلك من علامات الاستفهام...

إننا نخشى أن تبقى قوات الاحتلال طويلاً في العراق لتحقيق مهماتها الاستراتيجية، في خططها المرتكزة على مصالحها في المنطقة، لتحويل العراق إلى قاعدة عسكرية متقدّمة، ومنطلق دبلوماسي واسع، وذلك تحت شرعية رسمية للحكومة العراقية، في معاهدة أمنية طويلة الأمد لبقاء هذه القوات، بحجة حفظ الأمن الذي يتحدث البعض أنه سوف يختل عند خروجها سريعاً، في الوقت الذي يعرف الجميع، أنها لم تحقق أي استقرار أمني منذ دخولها العراق حتى الآن، بل إنها لم تستطع الحفاظ على أمنها الذاتي.

إن الرئيس بوش يعتبر الانتخابات من إنجازاته، ولكننا نتصور أنها انطلقت من إنجازات الشعب العراقي الذي آمن بالحرية في تأكيد إرادته في تقرير مصيره بنفسه، إضافة إلى الهدف الكبير في تحرير أرضه من الاحتلال الذي هو سرّ المشكلة، باعتبار أنه دخل العراق لحساب مصالحه الاستراتيجية في المنطقة، لا مصالح الشعب العراقي... ولذلك، فإنه يرفض وضع جدول زمني لانسحابه، لأنه قد يخطِّط لأكثر من عقد في بقائه هناك بطريقة شرعية عراقية، قد لا تكون لها في هذا الموقف أية خطة للشرعية.

إننا نريد للشعب العراقي أن يعمل للانفتاح على المستقبل، بالحفاظ على وحدته الوطنية، وأن يواجه كل الذين يقتلون الأبرياء تحت خلفيات طائفية أو ابتزاز مالي أو ما إلى ذلك، لأن الذين يتحرَّكون في هذا الاتجاه، يسيئون إلى حاضر العراق ومستقبله، وإلى الصورة النقية للشعب كله.

إننا نقول للشعب العراقي: إن التجربة الحقيقية تبدأ من الآن، لتكون الوحدة الداخلية هي الردّ على من يدّعي أنّ الأحداث تؤكد الانقسام وتلغي الوحدة. وعلى المرجعيات الدينية والسياسية أن تسعى لإحباط كل المخططات التي يتحدث أصحابها بالصوت العالي عن الحرب الأهلية التي ستظل مطلب أعداء الشعب العراقي، سواء كانوا من رموز التخلّف، أو من بقايا النظام السابق، أو من رموز الاحتلال وجنوده.

لبنان: الإصلاح السياسي الداخلي:

أما لبنان الذي يعيش الجدل السياسي في طوائفه في مصالحها الطائفية، وفي شخصياته في مواقعها الذاتية، وفي أحزابه في خططها الفئوية، فإنه قد يكون بحاجة إلى تصحيحٍ في مساراته السياسية، وإلى تركيز قواعد قيمية وأخلاقية في العملية السياسية الداخلية، قبل الحديث عن تصحيح العلاقة مع الخارج أو المحيط، لأن هناك في حركة الصراع الداخلي من يوحي بأن اللبنانيين في خط المعارضة هنا، وفي خط الموالاة هناك، هم من الملائكة الذين يرتفعون إلى مستوى طهارة القيمة، وصدق الموقف، في الوقت الذي نعرف أن الكثيرين من الذين يلعنون الشيطان في تصريحاتهم كانوا من أعوانه، ومن الذين ينفّذون خططه.

وإذا كان البعض يتحدث عن التدخّل الخارجي الضاغط، فإن الشعب يتساءل: لماذا لم تكن للكثيرين من أعوان السلطان الشجاعة في رفض مشاركتهم للفساد والهدر وتنفيذ ما يُراد منهم، ولا سيما في جلسات الثقة التي تنطلق من كلمات السرّ هنا وهناك، بعيداً عن الانسجام مع النقد في المعارضة عندما يتحدثون، والسقوط في إعطاء الثقة عندما يصوّتون؟!

إن المشكلة هي أن هذه التجمّعات لا تنطلق غالباً من قاعدة لبنان المؤسسة، بل بفعل تجارب ينتمي أغلب أفرادها إلى لبنان المزرعة أو لبنان الطائفية، وإلا فلماذا لا ينطلق قانون "من أين لك هذا"؟ ولماذا لا يُحاسب الذين دخلوا السياسة فقراء وعاشوا في مواقع الغنى الفاحش؟ هل نقول: إن البعض ـ أيّاً كان ـ كان يمارس الشراكة بين الداخل والخارج، ما جعل كل فريق يُفسد صاحبه ويغطي أوضاعه، وتلك هي مأساة لبنان الذي ضاع في لعبة الشيطان، الذي يتحوّل إلى ملاك في الصورة والموقع.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير