ليكن تفجير الطاقات في سبيل الخير والعدل

ليكن تفجير الطاقات في سبيل الخير والعدل

في أجواء عيدي الميلاد ورأس السنة:
 ليكن تفجير الطاقات في سبيل الخير والعدل


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

مرّت علينا قبل أيام مناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح(ع)، ونلتقي بعد يومين ببداية السنة الميلادية 2006، ولا بدّ لنا من أن نتوقّف قليلاً أمام هاتين المناسبتين في عملية استيحاء، لنستوحي منها الكثير من الدروس والعبر.

ولادة مريم(ع)

في مناسبة الميلاد، يتمثّل لنا في البداية صورة السيدة مريم(ع)، هذه الإنسانة التي كانت ولادتها في معنى الروح، فقد حدّثنا الله عن أمّها، وهي امرأة عمران التي حملت بحملها ونذرته ليكون في خدمة بيت الله {إذ قالت امرأة عمران ربي إني نذرت لك ما في بطني محرَّراً}، وكلمة المحرر تعني الذي قدّم لخدمة بيت المقدس، ولا علاقة لأهله به، بل في كونه محرراً لله، {فتقبل مني} هذا النذر، وهذا الولد، {إنك أنت السميع العليم}.
{فلمّا وضعتها} فوجئت هذه المرأة بأن الولد أنثى وليس ذكراً، والأنثى لا يحق لها، بحسب شريعة ذلك الزمان، أن تخدم في بيت الله {قالت ربي إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى}، في دور الخدمة لبيت المقدس، {وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، ولكن هذه المرأة التي عندما وضعت ابنتها، ابتهلت إلى الله أن تكون صالحة خالصة مخلصة له، وبعيدة عن الشيطان.
وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه عندما نفكر في الولد، سواء كان ذكراً أو أنثى؛ أن لا نفكر فقط في الجانب المادي الذي نحصل عليه منه، أو بما يمكن أن يحقق من نجاحات دنيوية، بل أن نبتهل إلى الله بأن يعيذه وذريته في المستقبل من الشيطان الرجيم، بحيث نفكر في صلاح أولادنا قبل أن نفكر في غناهم ونجاحهم المادي، وهذا ما يفرض علينا الكثير من بذل الجهد في تربيتهم ورعايتهم.
{فتقبّلها ربها بقبولٍ حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريا}، فقد تقبلها الله، وجعل الكفيل والمربي والراعي لها نبياً من أنبيائه، عاشت في رعايته، ومنحها كل معاني الروح، وكل معاني التربية الأخلاقية، وكيف يكون الطفل عندما يرعاه نبي من أنبياء الله بكل ما يملك من الروحانية والأخلاقية والرسالية؟!

 

مرحلة الاصطفاء

وهكذا نشأت مريم(ع) في رعاية النبي زكريا(ع)، وأصبحت شابة تعبد الله في محرابها الذي جعلته لنفسها في البيت الذي تسكنه وتنعزل فيه عمّن حولها، وكان زكريا(ع) يدخل عليها المحراب، فيرى أن هناك مائدة بين يديها من طعام لم يقدَّم لها من بيته، وكان يبدو كما لو طبخ حالاً، {كلّما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله}، فكان الله ينـزل عليها هذا الرزق بقدرته ورعايته ومحبته {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}.
وهكذا امتدّت حياة مريم(ع) في هذا الجو، وفجأة تحدثت الملائكة معها {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك} اختارك لكرامة لم تحصل لأية امرأة، {وطهرك} من الدنس، فكنت مثال الطهارة والقداسة بلطف الله ورعايته ورحمته {واصطفاك على نساء العالمين* يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين}.

 

البشارة بالمسيح(ع)

وهكذا كانت المفاجأة التي هزّت مريم {إذ قالت الملائكة إن الله يبشّرك بكلمة منه}، بمولود ينطلق من خلال الكلمة الإلهية المعبّرة عن القدرة {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيكون}، {اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة}، سوف يكون له شأن كبير من الوجاهة الرسالية والروحية والإنسانية في الدنيا، حيث يتبعه الناس ويؤمنون به، ويبلّغهم رسالات الله، فيما خصّه الله به {ومن المقرّبين* ويكلّم الناس من المهد وكهلاً ومن الصالحين}.
وفوجئت مريم بهذه البشارة، فهي الشابة الضعيفة الطاهرة التي لم يقترب إليها الدنس، لم تكن لها علاقة برجل، لا بالطريقة الشرعية ولا بغيرها، وهي تعرف أن الولد لا يكون إلا من خلال ما سنّه الله في مسألة التناسل {قالت ربي أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}، فكيف يولد الولد؟ {قال كذلك الله يخلق ما يشاء}، من الذي خلقك؟ من الذي خلق كل الناس؟ من الذي خلق آدم من تراب ونفخ فيه من روحه؟

 

مظاهر قدرة الله

إن قدرة الله لا تنحصر بهذه الطريقة في التوالد والتناسل، فالله خلق آدم من تراب من دون أب وأم، {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب}، والله يريد أن يظهر قدرته في أن يخلق ولداً من أم دون أب. {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كُن فيكون}، وهذه هي الكلمة، كما يقول الإمام زين العابدين(ع): "فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منـزجرة".
{ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل* ورسولاً إلى بني إسرائيل}، حيث إنه بعثه في البداية إلى بني إسرائيل، ومن خلالهم إلى الناس كافة، لأنه من الأنبياء أولي العزم، جاءهم ليعرّفهم رسالته وهو المستضعف عندهم.
ولما كان هناك الكثير من الطغاة، وكان عليه أن يثبت صحة رسالته، ويقنعهم بأنه رسول من الله، كان لا بد له من آية {أني قد جئتكم بآية من ربكم}، ما هي الآية؟ {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير}، أصنع من الطين طيراً، {فأنفخ فيه} بقدرة الله {فيكون طيراً بإذن الله} يحلِّق في السماء {وأبرىء الأكمه ـ الأعمى ـ والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}، تعرفون من خلالها أني نبي من الله، {ومصدقاً لما بين يدي من التوراة}، فأنا لا ألغي الرسالة التي جاءت قبلي، وهي رسالة موسى(ع)، والكتاب الذي أنزله الله عليه، لأني مصدق له ومكمل. وقد ورد في ما نقل عن عيسى(ع) قوله: "جئت لأكمل الناموس"، كما جاء عن النبي محمد(ص) قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
{ولأحل لكم بعض الذي حرّم عليكم}، لأخفف عنكم بعض الالتزامات التحريمية التي شرّعها الله عقوبةً لما كان يقوم به بنو إسرائيل، فسوف أرفعها عنكم. {وجئتكم بآية من ربّكم فاتقوا الله وأطيعون* إن الله ربي وربكم}، حتى لا يقولوا عن المسيح(ع) إنه الله، كما يقول عنه بعض الناس الذين جاؤوا من بعده {فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيم}.
وهكذا انطلق عيسى(ع)، {فلما أحس عيسى منهم الكفر}، ولم يستجيبوا لدعوته بالرغم مما قدّمه لهم من آيات الله، {قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنّا به واشهد بأنّا مسلمون* ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين* ومكروا} دبروا خططهم الخفية {ومكر الله}، أبطل تدبيرهم {والله خير الماكرين}.

 

إتمام الكرامة بالمسيح(ع)

وعلينا أن نعرف كيف كانت قصة مريم في ولادتها لعيسى(ع)، والمعاناة التي عاشتها في هذه التجربة الصعبة، في ما حدثنا الله سبحانه وتعالى عنه في سورة مريم: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً* فاتخذت من دونهم حجاباًً ـ ستراً بينها وبينهم ـ فأرسلنا إليها روحنا ـ يقال جبرائيل ـ فتمثّل لها بشراً سوياً}، كانت مريم في عزلتها تعبد الله، وإذ بشاب جميل يدخل عليها في هذه العزلة، ونحن نعرف أن الشابة العفيفة الطاهرة، عندما تكون وحدها ويدخل عليها شاب غريب، فإنها تخاف على نفسها وعلى عفتها {قالت إني أعوذ بالرحمن منك ـ أستجير بالله منك إن كنت تخاف الله ـ إن كنت تقياً}، فلا تعتدي عليّ ولا تستغل وحدتي {قال إنما أنا رسول ربك ـ أرسلني إليك لإتمام ما بشّرتك به الملائكة من كرامة ومعجزة ـ لأهب لك غلاماً زكياً}، لأحقق هذه البشارة {قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً}، لم أكن من النساء البغايا {قال كذلك قال ربك هو عليّ هيّن}، لا يصعب شيء على الله الخالق للكون كله وللوجود كله {ولنجعله آية للناس}، يدل على قدرة الله، أنه يخلق إنساناً من دون أب، وبطريقة مغايرة للطريقة التي يخلق فيها الناس {ورحمةً منا وكان أمراً مقضياً* فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً* فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة}، وأحست بثقل التجربة ماذا تقول للناس؟ هي تلد الآن ولداً وعليها أن تقدمه للناس، كيف تدافع عن نفسها؟ وكيف تقنع الناس بذلك؟
 

المخـاض الصعـب

لقد وجدت مريم(ع) نفسها في وضع حرج إزاء ما حصل، حيث لم يسبق للناس أن عاشوا مثل هذه التجربة {قالت يا ليتني متّ قبل هذا}، أدركها ضعف الأنثى، ومن الطبيعي أن الأنثى الطيبة الطاهرة تضعف أمام ما ينتظرها من حديث الناس ولومهم وعقابهم {وكنت نسياً منسياً} لا أحد يذكرني كلية {فناداها من تحتها} البعض يقول جبرائيل، والبعض يقول هو عيسى نفسه {ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً} جدولاً صغيراً.
{وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً}، كوني مرتاحة، لا تتعبي نفسك {فكلي واشربي وقرّي عيناً فإما ترينّ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً* فأتت به قومها تحمله}، وهنا حصلت الصدمة، وبدأت الإشارات تتوجه إليها من قومها، لأن الولادة لا بد من أن تكون نتاج علاقة شرعية، وما جاءها لم يكن من خلال علاقة شرعية حسب علمهم، {قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً* يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً}. وعندما اجتمع الناس وبدأوا يتهامسون {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً}، أأنت تسخرين منّا؟! وهنا أنطقه الله {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً أينما كنت ـ نفاعاً للناس ـ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً* وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً* والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً* ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون}، يشكون ويتجادلون {ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}.

 

مظاهر الاحتفال بالميلاد ورأس السنة

وهنا أحب أن ألفت نظر الكثير من أخواننا الذين يحبون أن يقلدوا المسيحيين في مسألة شجرة الميلاد، فنحن لا نعارض الاحتفال بهذه المناسبة، لأن عيسى نبينا ونقدسه، ولكننا نقول لهم إن شجرة الميلاد جاءت من الغرب، فإذا أردتم أن تضعوا في بيوتكم شجرة ميلاد، فبإمكانكم أن تضعوا شجرة من النخيل، والقرآن يقول إن السيدة مريم(ع) كانت تسند نفسها إلى شجرة النخيل، وتأكل من رطبها.
وهناك نقطة ثانية أحب أن ألفت إليها، وهي، كما يبدو، أن عيسى(ع) لم يولد في كانون الأول، لأنه لا رطب على النخيل في هذا الوقت، فيقال إنها كانت في شهر آخر فيه رطب، وإن كان البعض يقول إنها المعجزة.
ولذلك، فإنّ على المسلمين إذا أرادوا أن يحتفلوا بالميلاد، أن يكون ذلك باجتماع العائلة، وقراءة سورة مريم، وأن نعلم بناتنا ونساءنا كيف كانت مريم الطاهرة العفيفة العابدة التي انطلقت من الله، والتي تقبلها الله، وهذا ما ينبغي أن ننفتح عليه إذا أردنا أن نعيش هذا التقليد، فعلينا أن نعيشه إسلامياً، وألاّ نتخذه كما يتخذه البعض مناسبةً للهو وللميوعة والخلاعة.
أما رأس السنة، فإنه يمثل مسألة حساب للنفس؛ أن نحاسب أنفسنا كيف كنا في السنة الماضية، وكيف يجب أن نكون في ما نستقبل من السنة القادمة. إذا كنا قد أخطأنا فعلينا أن نستغفر الله من خطايانا، وإذا كنّا قد أحسنّا فعلينا أن نستزيد من حسناتنا. أن ندرس كيف كنا في أمتنا في مواقع القوة ومواقع الضعف في الماضي، وكيف يجب أن نكون في المستقبل، ونحن نعرف أن الإمام زين العابدين(ع)، علّمنا كيف ندعو في الصباح والمساء، وكيف ندعو من خلال ذلك في بداية كل أسبوع وكل شهر وكل سنة: "اللهم واجعله أيمن يومٍ عهدناه، وأفضل صاحب صحبناه، وخير وقت ظللنا فيه، واجعلنا من أرضى من مرّ عليه الليل والنهار من جملة خلقك؛ أشكرهم لما أوليته من نعمك، وأقومهم بما شرعت من شرائعك، وأوقفهم عما حذرت من نهيك". لتكن سنتنا القادمة سنة نتقرب فيها إلى الله، ونفجر فيها طاقاتنا في سبيل الخير والعدل {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، وواجهوا المرحلة، ولاسيما في السنة الجديدة. واجهوها بالتقوى والوحدة الإسلامية التي يلتقي فيها المسلمون على كلمة الله وعلى طاعته، وعلى مواجهة كل الكافرين والمستكبرين في كل تحدياتهم للواقع الإسلامي، وعلينا أن نواجه كل ما يحيط بنا من أوضاع سلبية هنا وهناك:

المجتمع الدولي ومشروع الإبادة للفلسطينيين

في مشهد المنطقة ـ منطقة الشرق الأوسط الكبير ـ نواجه الاهتزازات السياسية والأمنية من خلال الخطة الأمريكية _ الإسرائيلية المشتركة، التي حوّلت الأوضاع إلى ما يشبه الجحيم الذي لا يترك موقعاً إلا ويطوّقه باللهيب الذي يحرق الكثير من الأوضاع من أجل خدمة الاستراتيجية الصهيونية التي تسمح لإسرائيل بالقيام بعملية إبادة تدريجية للشعب الفلسطيني، في اغتيال المجاهدين الباحثين عن حرية الأرض والإنسان في وطنهم السليب، واجتياح المدن والقرى، واعتقال شبابها، وطرد أهلها بكل وحشية. وقد قرر العدو إقامة منطقة أمنية في غزة، بحجة حماية جنوده من إطلاق الصواريخ، وقصف كل شيء يتحرك في هذه الأماكن، لتشريد أهلها منها من جديد، في الوقت الذي يعرف الجميع أن المجاهدين يطلقون صواريخهم في عملية رد فعل للعدوان الصهيوني في الاغتيال والاعتقال والاجتياح، ولم نجد أيّ إنكار أمريكي أو أوروبي لهذا العنف الإرهابي الوحشي ضد هذا الشعب الجريح المجاهد.
وإننا نعتقد أن المجاهدين في فلسطين المحتلة، لا يعدمون وسيلةً لإسقاط هذه الخطة العدوانية للعدو، وقد قام مجاهدان أمس بعملية استشهادية ضد جنوده، ولا بد من أن تتبعها عمليات أخرى تؤكد إصرار هذا الشعب المجاهد على الاستمرار في عملية المواجهة من أجل التحرير، ليثبتوا للعالم أنهم الشعب الذي لا يتراجع ولا يسقط ولا يخاف. والسؤال للأمم المتحدة: لماذا لم تصدر قرارات الإدانة لإسرائيل في إرهابها الوحشي، لتؤكد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في إنقاذ هذا الشعب، الذي يتحرك المجتمع الدولي الغربي في حربه ضده لمصلحة إسرائيل، ضارباً عرض الجدار بكل قرارات الأمم المتحدة في مسائل الحرية والاستقلال ورفض الاحتلال، وضاغطاً على الشعب الفلسطيني في ممارسة حقه في الانتخاب الحرة، كما يحدث الآن في منع المقدسيين من المشاركة، وتهديد السلطة الفلسطينية بمنع المساعدات عنها إذا انتخب الشعب الفلسطيني حركة حماس عقاباً له، لأن أمريكا والاتحاد الأوروبي ـ بلسان ممثله ـ لا يوافقان على ذلك.

 

العراق: إدراك خلفيات الخطة الأمريكية

ومن جانب آخر، فإن أمريكا لا تزال تضغط بمختلف وسائلها الأمنية والعسكرية لخلط الأوراق في الواقع العراقي الذي يعيش الاهتزاز السياسي في نطاق الضجيج المتحرك في أكثر من محور من المحاور السياسية حول الاتهامات المتنوعة في الانتخابات، ما يجعل صعوبة في التوصل إلى حكومة وحدة وطنية بفعل المناخ الطائفي الذي يتمظهر بأكثر من مظهر سياسي. هذا إضافة إلى استمرار النـزيف الأمني من خلال ممارسة القتل في أكثر من موقع مدني، واستمرار الاحتلال في اللعبة الداخلية من أجل ترتيب الأوضاع على صورة مصالحه وخططه التي لا تقتصر على الساحة العراقية، بل تمتد إلى المنطقة كلها من أجل ممارسة الضغوط على أكثر من موقع في هذا البلد المجاور أو ذاك.
إننا نريد للعراقيين الأحرار أن يدركوا حجم الأخطار التي تتحدى حاضرهم ومستقبلهم، وأن يدرسوا خلفيات الخطة الأمريكية في السيطرة على مقدراتهم الأمنية والاقتصادية والسياسية، وأن يتحركوا من أجل الحوار الوطني الشامل بكل أطيافهم على خط الوحدة الوطنية المنفتحة على الاستقلال الناجز الذي يقرر العراقيون من خلاله مصيرهم بأيديهم لا بأيدي الاحتلال.

 

لماذا السكوت عن الترسانة النووية الإسرائيلية؟

ومن جهة أخرى، فإنّ إسرائيل لا تزال تثير الإعلام في خطة تهديدية بالتنسيق مع أميركا ضد المشروع الإيراني النووي السلمي، في أكثر من حديث حول إمكانية امتلاك إيران قدرة نووية خلال شهور، ما يوحي بأن المسألة هي في مستوى الخطر على العالم من دون تركيز على خطورة ترسانتها النووية الضخمة على المنطقة كلها... ولا بد من أن نشير في هذه الأجواء إلى ما تقوم به السلطات الأمريكية من ملاحقة المسلمين الأمريكيين في مساجدهم ومعاهدهم وبيوتهم، تحت تأثير الاتهام بوجود مواد مشعة فيها، ما يجعل المسلمين هناك يشعرون بالضغط الأمني الذي يجعل كل فرد منهم مداناً حتى تثبت براءته، الأمر الذي يسيء إلى صورة العدالة القانونية في التعامل مع المواطنين، في عملية تشبه عملية التمييز العنصري.
 

المحاور الدولية وتعقيدات الوضع في لبنان
أما لبنان، فلا يزال في نطاق التجاذب السياسي الذي دخل كعنصر جديد من عناصر الإثارة بين الأطراف الداخلية، وتحت تأثير الجدل الذي ارتفعت فيه لهجة التوترات الاتهامية بين فريق وآخر، في الحديث عن التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، في مناخ تتطاير فيه التحليلات والاجتهادات في أجواء الريح الحارة تارة، والباردة أخرى.
إننا نرحب بكل كلام عن رفض الوصاية الخارجية، ولكننا ندعو إلى دراسة الأمور التي تختفي وراء الضغوط السياسية من هنا وهناك بدقة، لأننا نرى تدخلاً خفياً تارةً وظاهراً أخرى من بعض المواقع الدولية، بطريقة لا تحفظ للبلد توازنه، ولا تساهم في ردم الهوة التي يعمل أكثر من محور دولي أو عربي على تعقيدها. إن هناك أفرقاء يمنعون الحديث عن اتهام العدو بالاهتزاز الذي يواجهه لبنان، وإن هناك حديثاً حول منطق الأكثرية والأقلية، والسؤال الذي لا بد من الإجابة عنه: إذا كانت الأكثرية النيابية هي الحاكمة في لبنان، فلماذا لا يطرح اللبنانيون الأكثرية العددية على النظام السياسي، تماماً كما هو النظام في كل الدول المتقدمة؟.
إننا لم نطرح ذلك في هذه المرحلة، ولكن المنطق الذي يثيره البعض في هذه الأيام تحت تأثير الأزمة الوزارية، قد يطرح المسألة من حيث المبدأ، بعيداً عن التعقيدات الطائفية التي تخاف منها بعض الطوائف في لبنان.

 

في أجواء عيدي الميلاد ورأس السنة:
 ليكن تفجير الطاقات في سبيل الخير والعدل


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

مرّت علينا قبل أيام مناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح(ع)، ونلتقي بعد يومين ببداية السنة الميلادية 2006، ولا بدّ لنا من أن نتوقّف قليلاً أمام هاتين المناسبتين في عملية استيحاء، لنستوحي منها الكثير من الدروس والعبر.

ولادة مريم(ع)

في مناسبة الميلاد، يتمثّل لنا في البداية صورة السيدة مريم(ع)، هذه الإنسانة التي كانت ولادتها في معنى الروح، فقد حدّثنا الله عن أمّها، وهي امرأة عمران التي حملت بحملها ونذرته ليكون في خدمة بيت الله {إذ قالت امرأة عمران ربي إني نذرت لك ما في بطني محرَّراً}، وكلمة المحرر تعني الذي قدّم لخدمة بيت المقدس، ولا علاقة لأهله به، بل في كونه محرراً لله، {فتقبل مني} هذا النذر، وهذا الولد، {إنك أنت السميع العليم}.
{فلمّا وضعتها} فوجئت هذه المرأة بأن الولد أنثى وليس ذكراً، والأنثى لا يحق لها، بحسب شريعة ذلك الزمان، أن تخدم في بيت الله {قالت ربي إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى}، في دور الخدمة لبيت المقدس، {وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، ولكن هذه المرأة التي عندما وضعت ابنتها، ابتهلت إلى الله أن تكون صالحة خالصة مخلصة له، وبعيدة عن الشيطان.
وهذا ما ينبغي لنا أن نستوحيه عندما نفكر في الولد، سواء كان ذكراً أو أنثى؛ أن لا نفكر فقط في الجانب المادي الذي نحصل عليه منه، أو بما يمكن أن يحقق من نجاحات دنيوية، بل أن نبتهل إلى الله بأن يعيذه وذريته في المستقبل من الشيطان الرجيم، بحيث نفكر في صلاح أولادنا قبل أن نفكر في غناهم ونجاحهم المادي، وهذا ما يفرض علينا الكثير من بذل الجهد في تربيتهم ورعايتهم.
{فتقبّلها ربها بقبولٍ حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريا}، فقد تقبلها الله، وجعل الكفيل والمربي والراعي لها نبياً من أنبيائه، عاشت في رعايته، ومنحها كل معاني الروح، وكل معاني التربية الأخلاقية، وكيف يكون الطفل عندما يرعاه نبي من أنبياء الله بكل ما يملك من الروحانية والأخلاقية والرسالية؟!

 

مرحلة الاصطفاء

وهكذا نشأت مريم(ع) في رعاية النبي زكريا(ع)، وأصبحت شابة تعبد الله في محرابها الذي جعلته لنفسها في البيت الذي تسكنه وتنعزل فيه عمّن حولها، وكان زكريا(ع) يدخل عليها المحراب، فيرى أن هناك مائدة بين يديها من طعام لم يقدَّم لها من بيته، وكان يبدو كما لو طبخ حالاً، {كلّما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله}، فكان الله ينـزل عليها هذا الرزق بقدرته ورعايته ومحبته {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}.
وهكذا امتدّت حياة مريم(ع) في هذا الجو، وفجأة تحدثت الملائكة معها {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك} اختارك لكرامة لم تحصل لأية امرأة، {وطهرك} من الدنس، فكنت مثال الطهارة والقداسة بلطف الله ورعايته ورحمته {واصطفاك على نساء العالمين* يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين}.

 

البشارة بالمسيح(ع)

وهكذا كانت المفاجأة التي هزّت مريم {إذ قالت الملائكة إن الله يبشّرك بكلمة منه}، بمولود ينطلق من خلال الكلمة الإلهية المعبّرة عن القدرة {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيكون}، {اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة}، سوف يكون له شأن كبير من الوجاهة الرسالية والروحية والإنسانية في الدنيا، حيث يتبعه الناس ويؤمنون به، ويبلّغهم رسالات الله، فيما خصّه الله به {ومن المقرّبين* ويكلّم الناس من المهد وكهلاً ومن الصالحين}.
وفوجئت مريم بهذه البشارة، فهي الشابة الضعيفة الطاهرة التي لم يقترب إليها الدنس، لم تكن لها علاقة برجل، لا بالطريقة الشرعية ولا بغيرها، وهي تعرف أن الولد لا يكون إلا من خلال ما سنّه الله في مسألة التناسل {قالت ربي أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}، فكيف يولد الولد؟ {قال كذلك الله يخلق ما يشاء}، من الذي خلقك؟ من الذي خلق كل الناس؟ من الذي خلق آدم من تراب ونفخ فيه من روحه؟

 

مظاهر قدرة الله

إن قدرة الله لا تنحصر بهذه الطريقة في التوالد والتناسل، فالله خلق آدم من تراب من دون أب وأم، {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب}، والله يريد أن يظهر قدرته في أن يخلق ولداً من أم دون أب. {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كُن فيكون}، وهذه هي الكلمة، كما يقول الإمام زين العابدين(ع): "فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منـزجرة".
{ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل* ورسولاً إلى بني إسرائيل}، حيث إنه بعثه في البداية إلى بني إسرائيل، ومن خلالهم إلى الناس كافة، لأنه من الأنبياء أولي العزم، جاءهم ليعرّفهم رسالته وهو المستضعف عندهم.
ولما كان هناك الكثير من الطغاة، وكان عليه أن يثبت صحة رسالته، ويقنعهم بأنه رسول من الله، كان لا بد له من آية {أني قد جئتكم بآية من ربكم}، ما هي الآية؟ {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير}، أصنع من الطين طيراً، {فأنفخ فيه} بقدرة الله {فيكون طيراً بإذن الله} يحلِّق في السماء {وأبرىء الأكمه ـ الأعمى ـ والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}، تعرفون من خلالها أني نبي من الله، {ومصدقاً لما بين يدي من التوراة}، فأنا لا ألغي الرسالة التي جاءت قبلي، وهي رسالة موسى(ع)، والكتاب الذي أنزله الله عليه، لأني مصدق له ومكمل. وقد ورد في ما نقل عن عيسى(ع) قوله: "جئت لأكمل الناموس"، كما جاء عن النبي محمد(ص) قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
{ولأحل لكم بعض الذي حرّم عليكم}، لأخفف عنكم بعض الالتزامات التحريمية التي شرّعها الله عقوبةً لما كان يقوم به بنو إسرائيل، فسوف أرفعها عنكم. {وجئتكم بآية من ربّكم فاتقوا الله وأطيعون* إن الله ربي وربكم}، حتى لا يقولوا عن المسيح(ع) إنه الله، كما يقول عنه بعض الناس الذين جاؤوا من بعده {فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيم}.
وهكذا انطلق عيسى(ع)، {فلما أحس عيسى منهم الكفر}، ولم يستجيبوا لدعوته بالرغم مما قدّمه لهم من آيات الله، {قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنّا به واشهد بأنّا مسلمون* ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين* ومكروا} دبروا خططهم الخفية {ومكر الله}، أبطل تدبيرهم {والله خير الماكرين}.

 

إتمام الكرامة بالمسيح(ع)

وعلينا أن نعرف كيف كانت قصة مريم في ولادتها لعيسى(ع)، والمعاناة التي عاشتها في هذه التجربة الصعبة، في ما حدثنا الله سبحانه وتعالى عنه في سورة مريم: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً* فاتخذت من دونهم حجاباًً ـ ستراً بينها وبينهم ـ فأرسلنا إليها روحنا ـ يقال جبرائيل ـ فتمثّل لها بشراً سوياً}، كانت مريم في عزلتها تعبد الله، وإذ بشاب جميل يدخل عليها في هذه العزلة، ونحن نعرف أن الشابة العفيفة الطاهرة، عندما تكون وحدها ويدخل عليها شاب غريب، فإنها تخاف على نفسها وعلى عفتها {قالت إني أعوذ بالرحمن منك ـ أستجير بالله منك إن كنت تخاف الله ـ إن كنت تقياً}، فلا تعتدي عليّ ولا تستغل وحدتي {قال إنما أنا رسول ربك ـ أرسلني إليك لإتمام ما بشّرتك به الملائكة من كرامة ومعجزة ـ لأهب لك غلاماً زكياً}، لأحقق هذه البشارة {قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً}، لم أكن من النساء البغايا {قال كذلك قال ربك هو عليّ هيّن}، لا يصعب شيء على الله الخالق للكون كله وللوجود كله {ولنجعله آية للناس}، يدل على قدرة الله، أنه يخلق إنساناً من دون أب، وبطريقة مغايرة للطريقة التي يخلق فيها الناس {ورحمةً منا وكان أمراً مقضياً* فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً* فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة}، وأحست بثقل التجربة ماذا تقول للناس؟ هي تلد الآن ولداً وعليها أن تقدمه للناس، كيف تدافع عن نفسها؟ وكيف تقنع الناس بذلك؟
 

المخـاض الصعـب

لقد وجدت مريم(ع) نفسها في وضع حرج إزاء ما حصل، حيث لم يسبق للناس أن عاشوا مثل هذه التجربة {قالت يا ليتني متّ قبل هذا}، أدركها ضعف الأنثى، ومن الطبيعي أن الأنثى الطيبة الطاهرة تضعف أمام ما ينتظرها من حديث الناس ولومهم وعقابهم {وكنت نسياً منسياً} لا أحد يذكرني كلية {فناداها من تحتها} البعض يقول جبرائيل، والبعض يقول هو عيسى نفسه {ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً} جدولاً صغيراً.
{وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً}، كوني مرتاحة، لا تتعبي نفسك {فكلي واشربي وقرّي عيناً فإما ترينّ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً* فأتت به قومها تحمله}، وهنا حصلت الصدمة، وبدأت الإشارات تتوجه إليها من قومها، لأن الولادة لا بد من أن تكون نتاج علاقة شرعية، وما جاءها لم يكن من خلال علاقة شرعية حسب علمهم، {قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً* يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً}. وعندما اجتمع الناس وبدأوا يتهامسون {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً}، أأنت تسخرين منّا؟! وهنا أنطقه الله {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً أينما كنت ـ نفاعاً للناس ـ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً* وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً* والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً* ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون}، يشكون ويتجادلون {ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}.

 

مظاهر الاحتفال بالميلاد ورأس السنة

وهنا أحب أن ألفت نظر الكثير من أخواننا الذين يحبون أن يقلدوا المسيحيين في مسألة شجرة الميلاد، فنحن لا نعارض الاحتفال بهذه المناسبة، لأن عيسى نبينا ونقدسه، ولكننا نقول لهم إن شجرة الميلاد جاءت من الغرب، فإذا أردتم أن تضعوا في بيوتكم شجرة ميلاد، فبإمكانكم أن تضعوا شجرة من النخيل، والقرآن يقول إن السيدة مريم(ع) كانت تسند نفسها إلى شجرة النخيل، وتأكل من رطبها.
وهناك نقطة ثانية أحب أن ألفت إليها، وهي، كما يبدو، أن عيسى(ع) لم يولد في كانون الأول، لأنه لا رطب على النخيل في هذا الوقت، فيقال إنها كانت في شهر آخر فيه رطب، وإن كان البعض يقول إنها المعجزة.
ولذلك، فإنّ على المسلمين إذا أرادوا أن يحتفلوا بالميلاد، أن يكون ذلك باجتماع العائلة، وقراءة سورة مريم، وأن نعلم بناتنا ونساءنا كيف كانت مريم الطاهرة العفيفة العابدة التي انطلقت من الله، والتي تقبلها الله، وهذا ما ينبغي أن ننفتح عليه إذا أردنا أن نعيش هذا التقليد، فعلينا أن نعيشه إسلامياً، وألاّ نتخذه كما يتخذه البعض مناسبةً للهو وللميوعة والخلاعة.
أما رأس السنة، فإنه يمثل مسألة حساب للنفس؛ أن نحاسب أنفسنا كيف كنا في السنة الماضية، وكيف يجب أن نكون في ما نستقبل من السنة القادمة. إذا كنا قد أخطأنا فعلينا أن نستغفر الله من خطايانا، وإذا كنّا قد أحسنّا فعلينا أن نستزيد من حسناتنا. أن ندرس كيف كنا في أمتنا في مواقع القوة ومواقع الضعف في الماضي، وكيف يجب أن نكون في المستقبل، ونحن نعرف أن الإمام زين العابدين(ع)، علّمنا كيف ندعو في الصباح والمساء، وكيف ندعو من خلال ذلك في بداية كل أسبوع وكل شهر وكل سنة: "اللهم واجعله أيمن يومٍ عهدناه، وأفضل صاحب صحبناه، وخير وقت ظللنا فيه، واجعلنا من أرضى من مرّ عليه الليل والنهار من جملة خلقك؛ أشكرهم لما أوليته من نعمك، وأقومهم بما شرعت من شرائعك، وأوقفهم عما حذرت من نهيك". لتكن سنتنا القادمة سنة نتقرب فيها إلى الله، ونفجر فيها طاقاتنا في سبيل الخير والعدل {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله، وواجهوا المرحلة، ولاسيما في السنة الجديدة. واجهوها بالتقوى والوحدة الإسلامية التي يلتقي فيها المسلمون على كلمة الله وعلى طاعته، وعلى مواجهة كل الكافرين والمستكبرين في كل تحدياتهم للواقع الإسلامي، وعلينا أن نواجه كل ما يحيط بنا من أوضاع سلبية هنا وهناك:

المجتمع الدولي ومشروع الإبادة للفلسطينيين

في مشهد المنطقة ـ منطقة الشرق الأوسط الكبير ـ نواجه الاهتزازات السياسية والأمنية من خلال الخطة الأمريكية _ الإسرائيلية المشتركة، التي حوّلت الأوضاع إلى ما يشبه الجحيم الذي لا يترك موقعاً إلا ويطوّقه باللهيب الذي يحرق الكثير من الأوضاع من أجل خدمة الاستراتيجية الصهيونية التي تسمح لإسرائيل بالقيام بعملية إبادة تدريجية للشعب الفلسطيني، في اغتيال المجاهدين الباحثين عن حرية الأرض والإنسان في وطنهم السليب، واجتياح المدن والقرى، واعتقال شبابها، وطرد أهلها بكل وحشية. وقد قرر العدو إقامة منطقة أمنية في غزة، بحجة حماية جنوده من إطلاق الصواريخ، وقصف كل شيء يتحرك في هذه الأماكن، لتشريد أهلها منها من جديد، في الوقت الذي يعرف الجميع أن المجاهدين يطلقون صواريخهم في عملية رد فعل للعدوان الصهيوني في الاغتيال والاعتقال والاجتياح، ولم نجد أيّ إنكار أمريكي أو أوروبي لهذا العنف الإرهابي الوحشي ضد هذا الشعب الجريح المجاهد.
وإننا نعتقد أن المجاهدين في فلسطين المحتلة، لا يعدمون وسيلةً لإسقاط هذه الخطة العدوانية للعدو، وقد قام مجاهدان أمس بعملية استشهادية ضد جنوده، ولا بد من أن تتبعها عمليات أخرى تؤكد إصرار هذا الشعب المجاهد على الاستمرار في عملية المواجهة من أجل التحرير، ليثبتوا للعالم أنهم الشعب الذي لا يتراجع ولا يسقط ولا يخاف. والسؤال للأمم المتحدة: لماذا لم تصدر قرارات الإدانة لإسرائيل في إرهابها الوحشي، لتؤكد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في إنقاذ هذا الشعب، الذي يتحرك المجتمع الدولي الغربي في حربه ضده لمصلحة إسرائيل، ضارباً عرض الجدار بكل قرارات الأمم المتحدة في مسائل الحرية والاستقلال ورفض الاحتلال، وضاغطاً على الشعب الفلسطيني في ممارسة حقه في الانتخاب الحرة، كما يحدث الآن في منع المقدسيين من المشاركة، وتهديد السلطة الفلسطينية بمنع المساعدات عنها إذا انتخب الشعب الفلسطيني حركة حماس عقاباً له، لأن أمريكا والاتحاد الأوروبي ـ بلسان ممثله ـ لا يوافقان على ذلك.

 

العراق: إدراك خلفيات الخطة الأمريكية

ومن جانب آخر، فإن أمريكا لا تزال تضغط بمختلف وسائلها الأمنية والعسكرية لخلط الأوراق في الواقع العراقي الذي يعيش الاهتزاز السياسي في نطاق الضجيج المتحرك في أكثر من محور من المحاور السياسية حول الاتهامات المتنوعة في الانتخابات، ما يجعل صعوبة في التوصل إلى حكومة وحدة وطنية بفعل المناخ الطائفي الذي يتمظهر بأكثر من مظهر سياسي. هذا إضافة إلى استمرار النـزيف الأمني من خلال ممارسة القتل في أكثر من موقع مدني، واستمرار الاحتلال في اللعبة الداخلية من أجل ترتيب الأوضاع على صورة مصالحه وخططه التي لا تقتصر على الساحة العراقية، بل تمتد إلى المنطقة كلها من أجل ممارسة الضغوط على أكثر من موقع في هذا البلد المجاور أو ذاك.
إننا نريد للعراقيين الأحرار أن يدركوا حجم الأخطار التي تتحدى حاضرهم ومستقبلهم، وأن يدرسوا خلفيات الخطة الأمريكية في السيطرة على مقدراتهم الأمنية والاقتصادية والسياسية، وأن يتحركوا من أجل الحوار الوطني الشامل بكل أطيافهم على خط الوحدة الوطنية المنفتحة على الاستقلال الناجز الذي يقرر العراقيون من خلاله مصيرهم بأيديهم لا بأيدي الاحتلال.

 

لماذا السكوت عن الترسانة النووية الإسرائيلية؟

ومن جهة أخرى، فإنّ إسرائيل لا تزال تثير الإعلام في خطة تهديدية بالتنسيق مع أميركا ضد المشروع الإيراني النووي السلمي، في أكثر من حديث حول إمكانية امتلاك إيران قدرة نووية خلال شهور، ما يوحي بأن المسألة هي في مستوى الخطر على العالم من دون تركيز على خطورة ترسانتها النووية الضخمة على المنطقة كلها... ولا بد من أن نشير في هذه الأجواء إلى ما تقوم به السلطات الأمريكية من ملاحقة المسلمين الأمريكيين في مساجدهم ومعاهدهم وبيوتهم، تحت تأثير الاتهام بوجود مواد مشعة فيها، ما يجعل المسلمين هناك يشعرون بالضغط الأمني الذي يجعل كل فرد منهم مداناً حتى تثبت براءته، الأمر الذي يسيء إلى صورة العدالة القانونية في التعامل مع المواطنين، في عملية تشبه عملية التمييز العنصري.
 

المحاور الدولية وتعقيدات الوضع في لبنان
أما لبنان، فلا يزال في نطاق التجاذب السياسي الذي دخل كعنصر جديد من عناصر الإثارة بين الأطراف الداخلية، وتحت تأثير الجدل الذي ارتفعت فيه لهجة التوترات الاتهامية بين فريق وآخر، في الحديث عن التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، في مناخ تتطاير فيه التحليلات والاجتهادات في أجواء الريح الحارة تارة، والباردة أخرى.
إننا نرحب بكل كلام عن رفض الوصاية الخارجية، ولكننا ندعو إلى دراسة الأمور التي تختفي وراء الضغوط السياسية من هنا وهناك بدقة، لأننا نرى تدخلاً خفياً تارةً وظاهراً أخرى من بعض المواقع الدولية، بطريقة لا تحفظ للبلد توازنه، ولا تساهم في ردم الهوة التي يعمل أكثر من محور دولي أو عربي على تعقيدها. إن هناك أفرقاء يمنعون الحديث عن اتهام العدو بالاهتزاز الذي يواجهه لبنان، وإن هناك حديثاً حول منطق الأكثرية والأقلية، والسؤال الذي لا بد من الإجابة عنه: إذا كانت الأكثرية النيابية هي الحاكمة في لبنان، فلماذا لا يطرح اللبنانيون الأكثرية العددية على النظام السياسي، تماماً كما هو النظام في كل الدول المتقدمة؟.
إننا لم نطرح ذلك في هذه المرحلة، ولكن المنطق الذي يثيره البعض في هذه الأيام تحت تأثير الأزمة الوزارية، قد يطرح المسألة من حيث المبدأ، بعيداً عن التعقيدات الطائفية التي تخاف منها بعض الطوائف في لبنان.

 

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير