كمال الإيمان مع الإمام الرضا(ع): التفقه وحسن التقدير في المعيشة والصبر

كمال الإيمان مع الإمام الرضا(ع): التفقه وحسن التقدير في المعيشة والصبر

كمال الإيمان مع الإمام الرضا(ع): التفقه وحسن التقدير في المعيشة والصبر


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

من كلام الإمام علي بن موسى الرضا(ع) وهو يؤكد العناصر الحيوية التي تتمثل فيها شخصية الإنسان المسلم، يقول(ع): «لا يكون المؤمن عاقلاً حتى تجتمع فيه عشر خصال ـ باعتبار أنّ العقل يقود الإنسان إلى أن يعيش إنسانيته في مجتمعه، أن يكون شخصاً طيباً منتجاً فاعلاً خيّراً، ينفتح على الناس بما يفتح عقولهم وقلوبهم على الواقع الذي يرتبط بعلاقته بالناس وعلاقة الناس به.

المؤمن الخيّر:

ـ الخير منه مأمول ـ إذا عاش في المجتمع، فإن المجتمع يتطلّع إليه ليرى أنه الشخص الذي يؤمّل منه الخير في كل من يعيش معه ويلتقي به. ففي علاقته بعياله يأمل عياله منه الخير في علاقته بهم، في رعايته لهم وفي إحسانه إليهم وفي قيامه بمسؤوليته تجاههم، وهكذا عندما يعيش مع مجتمعه الذي قد يكون بحاجة إلى كثير من الخدمات والرعاية وما إلى ذلك ـ والشر منه مأمون ـ فهو إنسان لا يصدر الشر منه لكل الناس، بل يحترمهم باعتبار أنهم إخوته ومواطنوه، يحب لهم ما يحبّ لنفسه ويكره لـهم ما يكره لها.

ـ يستكثر قليل الخير من غيره ـ إذا فعل الآخرون الخير لـه فإنه يقدّر لهم ذلك ويحفظه حتى لو كان الخير قليلاً، لأنه لا يرى لنفسه حقاً بأن يقوم الآخرون بإصدار الخير لـه ـ ويستقل كثير الخير من نفسه ـ أما إذا فعل الخير للآخرين فإنه لا يستكثره ولا يعتز أنه قام بما ينبغي أن يقوم به أو أكثر مما يجب عليه، بل يشعر أن ما أعطاه الله من الطاقات هي أمانة الله عنده، وعليه أن يؤدي هذه الأمانة ـ لا يسأم من طلب الحوائج إليه ـ عندما يقصده الناس في حاجاتهم فإنه لا يمل من استقبال هذه الحاجات، لأنه يعرف أن حاجة الناس إليه من نعم الله عليه.

الفقر والذل في الله:

ـ الفقر في الله أحبّ إليه من الغنى مع عدوه ـ فإذا دار الأمر بين أن يكون فقيراً من خلال إخلاصه لله وعلاقته به وبين أن يكون غنياً من خلال علاقته بأعداء الله فإنه يختار الفقر مع الله، لأن الله تعالى هو الذي يغنيه إذا افتقر، وهو الذي يمنحه رضاه وجنّته ـ والذل في الله أحبّ إليه من العز مع عدوّه ـ وإذا دار الأمر بين أن يكون ذليلاً مع الله وبين أن يكون عزيزاً مع أعداء الله، فإنه يقدّم علاقته بالله حتى مع إنعدام الجاه الذي يمكن أن يحصل عليه ـ والخمول أشهى إليه من الشهرة ـ فلا يحاول أن يتطلب الشهرة التي تنتفخ فيها شخصيته ويطغى عند نفسه ـ لا يرى أحداً إلا قال هو خير مني، فإنما الناس رجلان: رجل خير منه وأتقى ورجل شر منه وأدنى، فإذا لقي الذي هو شر منه ـ فهل يقول أنا خير منه ؟! ـ قال خير هذا باطن وهو خير لـه وخيري ظاهر وهو شرّ لي ـ فلان قد يكون ظاهره الشر ولكن قد يكون باطنه الخير، وأنا ظاهري الخير ولكن قد يكون باطني الشر، فلا يستطيع أن يقول إنني أفضل منه ـ وإذا رأى الذي هو خير منه تواضع لـه، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وطاب خيره وحسن ذكره وساد أهل زمانه بهذه الصفات».

بشارة المحسنين:

وفي حديث الإمام الرضا(ع) قال: «حدّثني أبي عن آبائه عن عليّ(ع) أنه قال: دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد»، فقد كان النبي (ص) يراقب حركة الناس في مجتمعه فيرى أن الكثير منهم يحسد بعضهم بعضاً، فيتمنى كل واحد منهم أن يزيل الله نعمته عن الآخر لينقلها إليه، أو يرى الناس يبغض بعضهم بعضاً ويعادي بعضهم بعضاً، فأراد النبي(ص) أن يقول لهؤلاء الناس: إن هاتين الخصلتين ليستا من خصال الإنسان المؤمن الذي يتقي الله، فالمؤمن لا يحسد أخاه ولا يبغضه. ويقول الإمام الرضا(ع) وقد سئل: من هم خيار العباد؟ قال(ع): «الذين إذا أحسنوا استبشروا ـ إذا صدر منهم الإحسان، سواء كان ذلك في طاعتهم لله أو إحسانهم إلى الناس في ما يقدّمونه لهم من عطاء وخدمات، فإنهم يستبشرون ويدخل الفرح على نفوسهم لأنهم أطاعوا الله في ذلك كله ـ وإذا أساؤوا استغفروا ـ إذا أذنبوا وأخطأوا وأساؤوا للآخرين استغفروا الله ليغفر لهم ذنوبهم فيما أساؤوا به ـ وإذا أُعطوا شكروا ـ فهم الشاكرون لكل من يقدّم لهم العطية ـ وإذا ابتُلوا صبروا ـ إذا ابتلاهم الله ببلاء في أنفسهم وأولادهم وأموالهم فإنهم يصبرون ولا يجزعون ـ وإذا غضبوا غفروا».

استكمال حقيقة الإيمان:

وعن الإمام علي الرضا(ع) أنه قال: «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى تكون لديه ثلاث خصال: التفقه في الدين ـ أن يحمل ثقافة العقيدة والشريعة والمنهج، ليبلّغها إلى الناس حتى تكون دعوته دعوة وعي وخير في ذلك كله ـ وحسن التقدير في المعيشة ـ أن يعرف كيف ينظّم أموره ومعيشته فلا يكون مسرفاً ومبذراً ـ والصبر على الرزايا».

هذا هو منهج أهل البيت(ع)، وهذا هو خط علي بن موسى الرضا(ع)، فإذا زرتموه في مرقده في "مشهد" فعليكم أن تتذكروا كل هذه الكلمات، وأن تنفتحوا على هذا الخط الإسلامي الأصيل، وذلك هو معنى ولايتنا لأهل البيت(ع)، أن نسير حيث ساروا ونقف حيث وقفوا، وأن ننفتح على كل الحقائق التي أرادوا لنا أن ننفتح عليها.

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم بالقوة والثبات والصبر، واثبتوا في وجه أعداء الله، واعتصموا بالوحدة، لأن الله تعالى يريد منا أن نكون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، واهتموا بأمور المسلمين وساعدوهم في كل ما يواجههم من تحديات، لأن تلك هي مسؤوليتكم أمام الله تعالى، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

معاقبة الشعب الفلسطيني:

في المشهد الفلسطيني اغتيالات واعتقالات واجتياحات، وتهديد بقطع الكهرباء عن غزة، وقرار بمنع المقدسيين من المشاركة في الانتخابات التشريعية، وتخطيط متحرك لاعتقال أكبر عدد من رجال الانتفاضة ـ ولا سيما حماس ـ حتى تضعف مشاركتهم في الانتخابات.

أما أمريكا فإنها تهدد السلطة الفلسطينية بقطع المساعدات عنها إذا سمحت لحركة حماس بالمشاركة في الانتخابات، ومن اللافت أن منسّق السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي يهدد بمثل ذلك، لأن حماس مرفوضة عندهم ولو عبر صناديق الاقتراع، في الوقت الذي لا يتحدث فيه مع شارون بالامتناع عن العنف الوحشي ضد الشعب الفلسطيني.

إن هذا الكلام يعني محاكمة الشعب الفلسطيني ومعاقبته على اختيار حماس في المجلس التشريعي، لأن ذلك يدعم المجاهدين من أجل تحرير أرضهم والحصول على استقلالهم.. ونتساءل: أين هي الديمقراطية التي يدعو إليها الأوروبيون والأمريكيون إذا كانوا يمنعون الفلسطينيين من اختيار ممثليهم بحرية؟! ثم، لماذا لا يدخل هؤلاء في الحوار مع المجاهدين للوصول إلى تسوية سياسية كما فعلوا في فيتنام، وكما يفعلون الآن في العراق؟

إننا إذ نسجّل هذه الملاحظة السلبية نقدّر لفرنسا رفضها لهذا المنطق، وذلك من خلال ما أدلى به المتحدث باسم الخارجية الفرنسية حول مشاركة حماس في الانتخابات الفلسطينية، حيث قال: "إن على الفلسطينيين أن يقرروا، وإن على الأوروبيين أن يفكروا من دون شك باحتمال انتصار حماس في الانتخابات التشريعية المقبلة، ويجب إجراء الانتخابات وتنظيمها في كل الدوائر الفلسطينية ومن ضمنها القدس الشرقية، حتى يتمكّن كل المرشحين من التقدّم على قدم المساواة".

والسؤال: إذا كان الأمريكيون ـ من خلال مجلس النواب ـ يهددون بقطع المساعدات، وإذا كان "سولانا" يتحدث عن ذلك باسم الأوروبيين، فما هو موقف العرب إذا حدث ذلك، هل يقومون بمساعدة الشعب الفلسطيني تعويضاً لهم، أو أنهم يسيرون على خطى هؤلاء في عقابهم لهذا الشعب، خضوعاً للسياسة الاستكبارية لا الديمقراطية؟

الحوار بين إيران والخليج هو الحل:

ومن جانب آخر، فإننا كنا نتمنى أن تدخل الدول الخليجية في حوار مع إيران حول مشروعها النووي السلمي، والتي أعلنت رفضها لإنتاج السلاح الذري، وذلك بأن لا تعبر هذه الدول عن مخاوفها من تطوّره السلبي كما هو الموقف الغربي، وأن تكون الكلمة القوية ضد إسرائيل التي تملك الترسانة النووية الضخمة، وتهدد المنطقة بذلك. إننا نأمل أن تكون العلاقات بين دول القمة الخليجية وإيران علاقات صداقة وتعاون وثقة قائمة على أساس التعاون على أمن المنطقة، من أجل سلامة شعوبها المسلمة جميعاً.

الوحدة الوطنية الأساس في العراق

أما العراق، فإننا نرجو أن يلتقي العراقيون على التخطيط والتوافق على تأسيس حكومة وطنية جامعة من خلال إرادتهم الحرة في الانتخابات، بعيداً عمّا يتحرك به الاحتلال في توجيه الواقع العراقي إلى ما يحقق مصالحه، ليثبت العراقيون أنهم قادرون على إدارة شؤونهم العامة من غير حاجة إلى الآخرين، لأنهم قد بلغوا سن الرشد السياسي والاقتصادي والأمني في مواقع الحرية والاستقلال القائمة على أساس الوحدة الوطنية الشاملة.

وإذا كانت هناك بعض الخلافات حول الانتخابات، فإن عليهم أن لا يستعملوا لغة التهديد أو اللجوء إلى الخارج لمعالجتها، لأن الآخرين ـ حسب التجربة ـ لا يريدون للعراق خيراً. وعلى العراقيين جميعاً الخروج من دائرة الخطاب الطائفي الذي يتصاعد في هذه الأيام على خلفية نتائج الانتخابات، إلى فضاءات الخطاب الوطني والإسلامي والعربي، حتى يخرج العراق من عنق الزجاجة الأمني والسياسي الذي تستعمله أمريكا لبقاء قواتها المحتلة للعبث بالمنطقة كلها.

الانفتاح على مصلحة الوطن:

أما لبنان، فإننا نلاحظ أنه لا يزال يعيش في أكثر من مأزق حكومي وسياسي وتعقيد أمني، ونشهد انفعالاً في إدارة شؤون البلد من شأنه أن يعقّد الأمور أكثر، ونسمع كلمات وكلمات ما كان ينبغي أن تصدر من مواقع مسؤولة في أكثر من مستوى، مما يمكن أن يزيد الواقع توتراً واهتزازاً في الشارع العام.

إن من حق النادي السياسي اللبناني أن يعبّر بحرية عن هواجسه وتطلعاته ووساوسه، ولكن لا بد من اختيار الكلمات الهادئة والأسلوب المنفتح في معالجة أوضاع البلد، فلا يستغرقن أحد في ذاتياته الطائفية والشخصانية والحزبية، بل ينفتح على مصلحة الوطن كله الغارق في مشاكله الاقتصادية التي يُخشى أن تقوده إلى الإفلاس والانهيار، وفي مشاكله المعيشية التي تدفعه إلى الجوع والحرمان، وفي هواجسه الأمنية التي قد تؤدي إلى أكثر من زلزال للواقع الأمني، ولا سيما أن هناك الكثير من المخاوف التي تتحدث عن أكثر من تخطيط للتجمّع المذهبي هنا والطائفي هناك، في حركة للسلاح الخفيّ وللتدريب الفئوي مما نرجو أن لا يكون واقعاً.

إن البلد لا يُحكم بالتراشق السياسي ولا بالاستئثار بالقرار، بل بالتفاهم والتوافق، فحذارِ من أن تسلكوا بالبلد الطريق المجهول وتسقطوه بالضربة القاضية اقتصادياً وسياسياً وأمنياً.

وعلى الجميع في لبنان وسوريا والمنطقة العربية أن يواجهوا بحكمة المشاريع الدولية التي تجهد للإطباق على المنطقة كلها، في أوضاعها السياسية والاقتصادية والأمنية، من أجل تحويلها إلى هامش للمحاور الدولية التي تخطط للاستيلاء على الواقع كله. ومن لـه عينان فلينظر، ومن لـه أذنان فليسمع، ولنلتقِ على قاعدة أن نكون أحراراً في قراراتنا ومصيرنا وكل أوضاعنا العامة، ولننطلق بالحوار في ما نختلف فيه، وبالحقيقة في ما نسعى إليه.

كمال الإيمان مع الإمام الرضا(ع): التفقه وحسن التقدير في المعيشة والصبر


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

من كلام الإمام علي بن موسى الرضا(ع) وهو يؤكد العناصر الحيوية التي تتمثل فيها شخصية الإنسان المسلم، يقول(ع): «لا يكون المؤمن عاقلاً حتى تجتمع فيه عشر خصال ـ باعتبار أنّ العقل يقود الإنسان إلى أن يعيش إنسانيته في مجتمعه، أن يكون شخصاً طيباً منتجاً فاعلاً خيّراً، ينفتح على الناس بما يفتح عقولهم وقلوبهم على الواقع الذي يرتبط بعلاقته بالناس وعلاقة الناس به.

المؤمن الخيّر:

ـ الخير منه مأمول ـ إذا عاش في المجتمع، فإن المجتمع يتطلّع إليه ليرى أنه الشخص الذي يؤمّل منه الخير في كل من يعيش معه ويلتقي به. ففي علاقته بعياله يأمل عياله منه الخير في علاقته بهم، في رعايته لهم وفي إحسانه إليهم وفي قيامه بمسؤوليته تجاههم، وهكذا عندما يعيش مع مجتمعه الذي قد يكون بحاجة إلى كثير من الخدمات والرعاية وما إلى ذلك ـ والشر منه مأمون ـ فهو إنسان لا يصدر الشر منه لكل الناس، بل يحترمهم باعتبار أنهم إخوته ومواطنوه، يحب لهم ما يحبّ لنفسه ويكره لـهم ما يكره لها.

ـ يستكثر قليل الخير من غيره ـ إذا فعل الآخرون الخير لـه فإنه يقدّر لهم ذلك ويحفظه حتى لو كان الخير قليلاً، لأنه لا يرى لنفسه حقاً بأن يقوم الآخرون بإصدار الخير لـه ـ ويستقل كثير الخير من نفسه ـ أما إذا فعل الخير للآخرين فإنه لا يستكثره ولا يعتز أنه قام بما ينبغي أن يقوم به أو أكثر مما يجب عليه، بل يشعر أن ما أعطاه الله من الطاقات هي أمانة الله عنده، وعليه أن يؤدي هذه الأمانة ـ لا يسأم من طلب الحوائج إليه ـ عندما يقصده الناس في حاجاتهم فإنه لا يمل من استقبال هذه الحاجات، لأنه يعرف أن حاجة الناس إليه من نعم الله عليه.

الفقر والذل في الله:

ـ الفقر في الله أحبّ إليه من الغنى مع عدوه ـ فإذا دار الأمر بين أن يكون فقيراً من خلال إخلاصه لله وعلاقته به وبين أن يكون غنياً من خلال علاقته بأعداء الله فإنه يختار الفقر مع الله، لأن الله تعالى هو الذي يغنيه إذا افتقر، وهو الذي يمنحه رضاه وجنّته ـ والذل في الله أحبّ إليه من العز مع عدوّه ـ وإذا دار الأمر بين أن يكون ذليلاً مع الله وبين أن يكون عزيزاً مع أعداء الله، فإنه يقدّم علاقته بالله حتى مع إنعدام الجاه الذي يمكن أن يحصل عليه ـ والخمول أشهى إليه من الشهرة ـ فلا يحاول أن يتطلب الشهرة التي تنتفخ فيها شخصيته ويطغى عند نفسه ـ لا يرى أحداً إلا قال هو خير مني، فإنما الناس رجلان: رجل خير منه وأتقى ورجل شر منه وأدنى، فإذا لقي الذي هو شر منه ـ فهل يقول أنا خير منه ؟! ـ قال خير هذا باطن وهو خير لـه وخيري ظاهر وهو شرّ لي ـ فلان قد يكون ظاهره الشر ولكن قد يكون باطنه الخير، وأنا ظاهري الخير ولكن قد يكون باطني الشر، فلا يستطيع أن يقول إنني أفضل منه ـ وإذا رأى الذي هو خير منه تواضع لـه، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وطاب خيره وحسن ذكره وساد أهل زمانه بهذه الصفات».

بشارة المحسنين:

وفي حديث الإمام الرضا(ع) قال: «حدّثني أبي عن آبائه عن عليّ(ع) أنه قال: دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد»، فقد كان النبي (ص) يراقب حركة الناس في مجتمعه فيرى أن الكثير منهم يحسد بعضهم بعضاً، فيتمنى كل واحد منهم أن يزيل الله نعمته عن الآخر لينقلها إليه، أو يرى الناس يبغض بعضهم بعضاً ويعادي بعضهم بعضاً، فأراد النبي(ص) أن يقول لهؤلاء الناس: إن هاتين الخصلتين ليستا من خصال الإنسان المؤمن الذي يتقي الله، فالمؤمن لا يحسد أخاه ولا يبغضه. ويقول الإمام الرضا(ع) وقد سئل: من هم خيار العباد؟ قال(ع): «الذين إذا أحسنوا استبشروا ـ إذا صدر منهم الإحسان، سواء كان ذلك في طاعتهم لله أو إحسانهم إلى الناس في ما يقدّمونه لهم من عطاء وخدمات، فإنهم يستبشرون ويدخل الفرح على نفوسهم لأنهم أطاعوا الله في ذلك كله ـ وإذا أساؤوا استغفروا ـ إذا أذنبوا وأخطأوا وأساؤوا للآخرين استغفروا الله ليغفر لهم ذنوبهم فيما أساؤوا به ـ وإذا أُعطوا شكروا ـ فهم الشاكرون لكل من يقدّم لهم العطية ـ وإذا ابتُلوا صبروا ـ إذا ابتلاهم الله ببلاء في أنفسهم وأولادهم وأموالهم فإنهم يصبرون ولا يجزعون ـ وإذا غضبوا غفروا».

استكمال حقيقة الإيمان:

وعن الإمام علي الرضا(ع) أنه قال: «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى تكون لديه ثلاث خصال: التفقه في الدين ـ أن يحمل ثقافة العقيدة والشريعة والمنهج، ليبلّغها إلى الناس حتى تكون دعوته دعوة وعي وخير في ذلك كله ـ وحسن التقدير في المعيشة ـ أن يعرف كيف ينظّم أموره ومعيشته فلا يكون مسرفاً ومبذراً ـ والصبر على الرزايا».

هذا هو منهج أهل البيت(ع)، وهذا هو خط علي بن موسى الرضا(ع)، فإذا زرتموه في مرقده في "مشهد" فعليكم أن تتذكروا كل هذه الكلمات، وأن تنفتحوا على هذا الخط الإسلامي الأصيل، وذلك هو معنى ولايتنا لأهل البيت(ع)، أن نسير حيث ساروا ونقف حيث وقفوا، وأن ننفتح على كل الحقائق التي أرادوا لنا أن ننفتح عليها.

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم بالقوة والثبات والصبر، واثبتوا في وجه أعداء الله، واعتصموا بالوحدة، لأن الله تعالى يريد منا أن نكون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، واهتموا بأمور المسلمين وساعدوهم في كل ما يواجههم من تحديات، لأن تلك هي مسؤوليتكم أمام الله تعالى، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

معاقبة الشعب الفلسطيني:

في المشهد الفلسطيني اغتيالات واعتقالات واجتياحات، وتهديد بقطع الكهرباء عن غزة، وقرار بمنع المقدسيين من المشاركة في الانتخابات التشريعية، وتخطيط متحرك لاعتقال أكبر عدد من رجال الانتفاضة ـ ولا سيما حماس ـ حتى تضعف مشاركتهم في الانتخابات.

أما أمريكا فإنها تهدد السلطة الفلسطينية بقطع المساعدات عنها إذا سمحت لحركة حماس بالمشاركة في الانتخابات، ومن اللافت أن منسّق السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي يهدد بمثل ذلك، لأن حماس مرفوضة عندهم ولو عبر صناديق الاقتراع، في الوقت الذي لا يتحدث فيه مع شارون بالامتناع عن العنف الوحشي ضد الشعب الفلسطيني.

إن هذا الكلام يعني محاكمة الشعب الفلسطيني ومعاقبته على اختيار حماس في المجلس التشريعي، لأن ذلك يدعم المجاهدين من أجل تحرير أرضهم والحصول على استقلالهم.. ونتساءل: أين هي الديمقراطية التي يدعو إليها الأوروبيون والأمريكيون إذا كانوا يمنعون الفلسطينيين من اختيار ممثليهم بحرية؟! ثم، لماذا لا يدخل هؤلاء في الحوار مع المجاهدين للوصول إلى تسوية سياسية كما فعلوا في فيتنام، وكما يفعلون الآن في العراق؟

إننا إذ نسجّل هذه الملاحظة السلبية نقدّر لفرنسا رفضها لهذا المنطق، وذلك من خلال ما أدلى به المتحدث باسم الخارجية الفرنسية حول مشاركة حماس في الانتخابات الفلسطينية، حيث قال: "إن على الفلسطينيين أن يقرروا، وإن على الأوروبيين أن يفكروا من دون شك باحتمال انتصار حماس في الانتخابات التشريعية المقبلة، ويجب إجراء الانتخابات وتنظيمها في كل الدوائر الفلسطينية ومن ضمنها القدس الشرقية، حتى يتمكّن كل المرشحين من التقدّم على قدم المساواة".

والسؤال: إذا كان الأمريكيون ـ من خلال مجلس النواب ـ يهددون بقطع المساعدات، وإذا كان "سولانا" يتحدث عن ذلك باسم الأوروبيين، فما هو موقف العرب إذا حدث ذلك، هل يقومون بمساعدة الشعب الفلسطيني تعويضاً لهم، أو أنهم يسيرون على خطى هؤلاء في عقابهم لهذا الشعب، خضوعاً للسياسة الاستكبارية لا الديمقراطية؟

الحوار بين إيران والخليج هو الحل:

ومن جانب آخر، فإننا كنا نتمنى أن تدخل الدول الخليجية في حوار مع إيران حول مشروعها النووي السلمي، والتي أعلنت رفضها لإنتاج السلاح الذري، وذلك بأن لا تعبر هذه الدول عن مخاوفها من تطوّره السلبي كما هو الموقف الغربي، وأن تكون الكلمة القوية ضد إسرائيل التي تملك الترسانة النووية الضخمة، وتهدد المنطقة بذلك. إننا نأمل أن تكون العلاقات بين دول القمة الخليجية وإيران علاقات صداقة وتعاون وثقة قائمة على أساس التعاون على أمن المنطقة، من أجل سلامة شعوبها المسلمة جميعاً.

الوحدة الوطنية الأساس في العراق

أما العراق، فإننا نرجو أن يلتقي العراقيون على التخطيط والتوافق على تأسيس حكومة وطنية جامعة من خلال إرادتهم الحرة في الانتخابات، بعيداً عمّا يتحرك به الاحتلال في توجيه الواقع العراقي إلى ما يحقق مصالحه، ليثبت العراقيون أنهم قادرون على إدارة شؤونهم العامة من غير حاجة إلى الآخرين، لأنهم قد بلغوا سن الرشد السياسي والاقتصادي والأمني في مواقع الحرية والاستقلال القائمة على أساس الوحدة الوطنية الشاملة.

وإذا كانت هناك بعض الخلافات حول الانتخابات، فإن عليهم أن لا يستعملوا لغة التهديد أو اللجوء إلى الخارج لمعالجتها، لأن الآخرين ـ حسب التجربة ـ لا يريدون للعراق خيراً. وعلى العراقيين جميعاً الخروج من دائرة الخطاب الطائفي الذي يتصاعد في هذه الأيام على خلفية نتائج الانتخابات، إلى فضاءات الخطاب الوطني والإسلامي والعربي، حتى يخرج العراق من عنق الزجاجة الأمني والسياسي الذي تستعمله أمريكا لبقاء قواتها المحتلة للعبث بالمنطقة كلها.

الانفتاح على مصلحة الوطن:

أما لبنان، فإننا نلاحظ أنه لا يزال يعيش في أكثر من مأزق حكومي وسياسي وتعقيد أمني، ونشهد انفعالاً في إدارة شؤون البلد من شأنه أن يعقّد الأمور أكثر، ونسمع كلمات وكلمات ما كان ينبغي أن تصدر من مواقع مسؤولة في أكثر من مستوى، مما يمكن أن يزيد الواقع توتراً واهتزازاً في الشارع العام.

إن من حق النادي السياسي اللبناني أن يعبّر بحرية عن هواجسه وتطلعاته ووساوسه، ولكن لا بد من اختيار الكلمات الهادئة والأسلوب المنفتح في معالجة أوضاع البلد، فلا يستغرقن أحد في ذاتياته الطائفية والشخصانية والحزبية، بل ينفتح على مصلحة الوطن كله الغارق في مشاكله الاقتصادية التي يُخشى أن تقوده إلى الإفلاس والانهيار، وفي مشاكله المعيشية التي تدفعه إلى الجوع والحرمان، وفي هواجسه الأمنية التي قد تؤدي إلى أكثر من زلزال للواقع الأمني، ولا سيما أن هناك الكثير من المخاوف التي تتحدث عن أكثر من تخطيط للتجمّع المذهبي هنا والطائفي هناك، في حركة للسلاح الخفيّ وللتدريب الفئوي مما نرجو أن لا يكون واقعاً.

إن البلد لا يُحكم بالتراشق السياسي ولا بالاستئثار بالقرار، بل بالتفاهم والتوافق، فحذارِ من أن تسلكوا بالبلد الطريق المجهول وتسقطوه بالضربة القاضية اقتصادياً وسياسياً وأمنياً.

وعلى الجميع في لبنان وسوريا والمنطقة العربية أن يواجهوا بحكمة المشاريع الدولية التي تجهد للإطباق على المنطقة كلها، في أوضاعها السياسية والاقتصادية والأمنية، من أجل تحويلها إلى هامش للمحاور الدولية التي تخطط للاستيلاء على الواقع كله. ومن لـه عينان فلينظر، ومن لـه أذنان فليسمع، ولنلتقِ على قاعدة أن نكون أحراراً في قراراتنا ومصيرنا وكل أوضاعنا العامة، ولننطلق بالحوار في ما نختلف فيه، وبالحقيقة في ما نسعى إليه.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية