مواجهة الإمام الكاظم لتحدّيات الحكم والسّجن

مواجهة الإمام الكاظم لتحدّيات الحكم والسّجن

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله، بتاريخ 3 آذار 1989م، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بحضور حشدٍ من المؤمنين. وقد جاء فيها:

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[1]. من هؤلاء، الإمام السّابع من أئمَّة أهل البيت(ع)، الإمام موسى بن جعفر الكاظم، الَّذي تصادف ذكرى وفاته في هذا اليوم، في الخامس والعشرين من شهر رجب الحرام.

إمامة الكاظم(ع)

ونحن لا بدَّ لنا مع كلِّ إمامٍ من أئمَّة أهل البيت(ع) من وقفةٍ طويلة، نستطيع من خلالها أن نعرف شيئاً من سيرتهم ومن وصاياهم ومن الأوضاع المحيطة بهم في الحياة الَّتي عاشوها، حتّى نستطيع أن نستلهم منهم كيف نواجه الحياة في خطِّ الإسلام، وكيف نتحمَّل الكثير من البلاء ومن المشاكل ومن الأوضاع الصَّعبة فيما تفرضه علينا التزاماتنا الإسلاميَّة.

الإمام الكاظم(ع) هو من أئمَّة أهل البيت، عاش إمامته بعد وفاة أبيه الإمام جعفر الصَّادق(ع)، الّذي عرَّف المسلمين بأنّه الإمام الّذي يرتفع إلى مستوى الثِّقة والكفاءة في علمه وتقواه ووعيه لأمور زمانه، وأنَّه الإنسان الَّذي يمكن أن يجعل النّاس يفهمون كيف يقتربون من الله أكثر، لأنَّ دور أئمّة أهل البيت(ع) في كلِّ ما عاشوه وقالوه وفعلوه، هو أن يدلّوا النّاس على طريق الله، فهم الدّعاة إليه، الأدلاّء عليه، الّذين إذا حدَّثوا حدَّثوا عن رسول الله(ص)، وكان أحمد بن حنبل يروي عن موسى بن جعفر ما عنده من علوم رسول الله، فكان يقول: حدّثني موسى بن جعفر، قال حدَّثني جعفر بن محمد، حتى قال حدثني رسول الله وجبريل، ثم قال: هذا إسنادٌ لو ألقي على مجنون لأفاق...

هكذا كان أئمَّة أهل البيت(ع)، لا يتحركون فيما ينصّون عليه من الأحاديث من موقع النّسب، بل من موقع الكفاءة في العلم والدِّين.

وهكذا انطلق الإمام موسى بن جعفر لينشر العلم والدّين، وكانت السَّاحة العلميَّة مفتوحة، ولا سيَّما أنَّ أساتذة السَّاحة كانوا من أئمَّة أهل البيت(ع)، فكان المسلمون مختلفين في مذاهبهم، ولكنّهم كانوا يأخذون العلم منهم.. وهكذا رأينا ابن حنيفة، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، أخذوا عن الإمام الصّادق(ع).. وكان هناك انفتاح على العلم كلّه وعلى الإسلام كلّه، ولم يتعقَّد المسلمون من بعضهم البعض، كما يحدث الآن، فالشّيعة يدرسون في مدارسهم، والسنّة في مدارسهم، أمّا اليوم، فالمسألة ضاقت كثيراً، لأنَّ نفوسنا تعقَّدت كثيراً.

ولهذا، فإنّنا نرى المؤرّخين الّذين لا يلتزمون بالتشيّع، عندما يتحدَّثون عن أئمَّة أهل البيت(ع)، يتحدَّثون بطريقة بيان مقامهم الكبير، وهذا هو الّذي يثبت لنا أنَّ أئمَّة أهل البيت كانوا في الموقع الرّفيع في السَّاحة الإسلاميَّة، وكانوا محلَّ ثقة الجميع وتعظيمهم.

ومن هنا، كان النَّاس يتعاملون معهم في كثيرٍ من الحالات تعاملاً مميَّزاً، كما لو كانوا هم الخَلَف في السَّاحة، فعلى الرّغم من أنّه كان هناك خلف من الأمويّين، إلا أنَّ النّاس كانوا يراجعون الإمام عليّ بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصّادق في كلّ المسائل، كما في المسائل التي تتعلَّق بالموقف السياسي من النّظام القائم، ومن هنا، كان الأمويّون يضيّقون على أئمّة أهل البيت، وهكذا فعل العبّاسيون، فهم مع تعظيمهم للأئمَّة، كانوا يقتلونهم ويسجنونهم..

التَّضييق على الإمام بالسّجن

وكان الإمام موسى بن جعفر الكاظم في موقف التحدّي لحكم هارون الرَّشيد، ومن الطبيعيّ أن يتعرَّض لظلم الحكم العبّاسي، ولكنَّه كان يملك موقعاً قويّاً، بحيث كان الرّشيد يشعر بالخطر في حال التعرّض له.. فالمسألة ليست أن تحصل على إمكانات النّاس، بل أن تحصل على قلوبهم، فالأئمَّة(ع) كانوا لا يملكون العناوين السياسيَّة الّتي كانت في ذلك الوقت، وكان الخلفاء ينصبون الجواسيس حول بيوتهم لمراقبتهم، كما هي المسألة الآن، فالبعض يخاف على المجاهدين خوفاً من أن يضطهدهم الآخرون، والحكَّام يخافون من الموثوقين لدى النَّاس. ولهذا، فالحكَّام غالباً لا يضطهدون الّذين يتحركون بشكلٍ استعراضيّ من دون أن يكون لحركتهم عمق.

في أيَّام الاستعمار الفرنسيّ، كان يضطهد أصحاب الشعبيّة العاملين ضدّهم في العمق، وفي أيّام الجلاء، أخذ أحد المسؤولين الدفّة وسيّر تظاهرةً ضدّ فرنسا، فأتى الدّرك إلى المفوَّض الفرنسي، وقال لهم لا تتعرَّضوا له، وأشار إلى أنَّ دوره استعراضيّ، ليملك زمام المبادرة بعد ذلك.

وفي أحد الأيّام، قال هارون الرّشيد: أريد أن أسجن موسى بن جعفر، وهكذا أخذ الإمام وسجنه في البصرة. ولكنّ السجّان بعث لهارون الرّشيد، إمّا أن تطلقه أو أطلقه، فقد بثثت عليه الجواسيس، فلم أسمع منه إلا التّسابيح، وهو يقول: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت فلك الحمد"[2].

وبعث لهارون الرّشيد: لن ينقضي عين يومٍ من البلاء إلا وينقضي عنك يوم من الرّخاء.. حتى دسَّ إليه السّمّ. وهكذا رأينا أنّ الإمام الكاظم(ع) سجن كما لم يسجن أحد من آبائه وأبنائه، لأنّه بقي في السّجن مدّة طويلة، وقتل بالسمّ، ونحن لا نريد أن نثير هذه المسألة للألم.. ولكنّنا نرى أن نأخذ بعض كلمات الإمام وأخلاقه، فالإمام كان يسمَّى كاظم الغيظ، لأنّه كان يملك الصّدر الواسع الذي يمتصّ كلّ العداوات والبغضاء من حوله.

ويقال إنَّ هناك شخصاً كان يشتم الأئمّة، حتى أتى أصحاب الإمام وطلبوا منه أن يسمح لهم بقتله.. ولكنّ الإمام ذهب إليه وكان في مزرعته.. وسأله كم تؤمِّن في زرعك، فقال مئة دينار، فقال له هذه مئة دينار، وبدأ يحدّثه بطيب الكلام، حتى أتى إلى المسجد، وأصبح يصلِّي وراء الإمام الكاظم، وقال: "الله يعلم حيث يجعل رسالته".

الثّبات في الموقف

ومن الكلمات الّتي كانت تطلق عن الإمام الكاظم(ع)، أنّه كان يقول لهشام بن الحكم: "يا هشام، لو كان في يدك جوزة وقال النّاس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال النّاس إنَّها جوزة ما ضرّك وأنت تعلم أنَّها لؤلؤة"[3].

ومعنى ذلك، أنَّ عليك أن تفهم نفسك وما عندك من ثقافة ومواقف، فإذا رأيت أنها تمثِّل شيئاً كبيراً أو عظيماً، فعليك أن لا تفقد الثِّقة بنفسك حتّى لو لم يمدحك النَّاس، أمَّا إذا عرفت أنّك لا تملك شيئاً والنّاس يمدحونك، فعليك أن لا تأخذ الثقة بنفسك وأنت لا تملك ما يقولونه عنك. وهذه الفكرة نستطيع أن نوظّفها حتى في المسألة السياسية، فالآن يقول العالم عنّا إنَّنا متخلّفون وإرهابيّون ومتعصّبون، وبعض النّاس يقولون إنّنا لا بدَّ من أن نظهر للعالم أنّنا لسنا على هذه الصّورة، ولكن إذا أصرَّ العالم على هذه الفكرة، فليس لأنّها صحيحة، وإنّما لأنّه يريد توظيف ذلك سياسيّاً.

ولو قال العالم، كما يقول الآن كلّ الإعلام عن المسلمين، إنهم متعصّبون وظلاميّون، فليقولوا ما يقولون، إنّنا نعرف أنّنا لسنا كذلك، ويجب أن لا تهتزَّ ثقتنا بديننا وبخطّنا، لأنّنا إذا كنّا صادقين في مواقفنا، منفتحين في أفكارنا، فسنفرض احترامنا على العالم، إن عاجلاً أو آجلاً.

يريد الإمام الكاظم(ع) أن يقول لنا: لا تأخذوا ثقتكم من خلال كلام النَّاس عنكم، افهموا ما عندكم، وخذوا ثقتكم من خلال ذلك، فكلام النَّاس ليس هو الأساس، بل واقعنا الصّادق هو الأساس في ذلك كلّه، وهذا ما يجعلنا نثبّت أقدامنا في الأرض، وهذا هو الموقف الّذي نأخذه من الإمام الكاظم(ع).

ولهذا، فإنّنا أمام كلِّ ما يقال في هذه الأيَّام في أوروبّا وأميركا وبريطانيا عنّا بطريقةٍ تجعل البعض يهتزّ، نقول: فليقولوا ما يقولون؛ إنهم يعبّرون عن غطرستهم واستكبارهم، ولذلك نحن لا نحترم كلّ كلامهم لأنهم لا يحترموننا، بل يريدون أن يوحوا إلينا بأنهم يحترموننا من خلال تنفيذنا لمخطَّطاتهم.

وقد قال الإمام الكاظم(ع) لبعض أصحابه: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة، فقال له: وما الإمّعة؟ قال: لا تقل أنا مع النّاس، وأنا كواحدٍ من النَّاس، فإنَّ رسول الله قال: يا أيّها النَّاس، إنَّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشّرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"[4].

هذا معناه أنّه ليس هناك اللاموقف، فالإنسان بلا موقف، هو ليس مسلماً كما هو الإسلام، وكذلك الإنسان الحياديّ. والإنسان الَّذي يتكلَّم كلمة الحقّ، هو يشجِّع النَّاس، وإلا إذا لم يبادر أحد لقول كلمة الحقّ، فسيكون في الموقف انتصارٌ للباطل..

لا بدَّ في المجتمع من أن تكون هناك فئة تبادر: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[5].

عندما يقول إنسان كلمة باطل، لا بدَّ من أن يقوم شخص ويقول له لا، حتى يخاف الّذين يقولون كلام الفتنة والباطل من أن يندفعوا في هذا الخطّ.. ولا تقولوا الحقّ لحساب فلان وفلان، ولكن قولوا الحقّ لله، وعندما تقولون كلمة الحقّ لله، فلا قيمة للنّاس كلّهم، ولو سحقوك بأرجلهم، لأنّ الله معك يرأف بك..

مواجهة الإمام الخميني للإساءة

ولعلَّنا نشعر بأنَّ هناك قليلاً من النّاس الذين يقفون هذه المواقف، ففي الموقف الآن من كتاب "آيات شيطانيّة"، كان الإمام الخميني هو الشخصيّة الوحيدة في العالم الإسلامي التي واجهت العالم المستكبر، ولم تخش في الله لومة لائم، ولم تخف أن يقول عنها شخص أو مسؤول فرنسيّ إنها مجرمة أو غير ذلك، ووقفت وقالت كلمتها بأنَّ هذا الرّجل أساء إلى المسلمين كلّهم عندما أساء إلى رسول الله، ولا بدَّ للمسلمين من أن يواجهوه. قال كلمته وثارت الدّنيا، وقيل له تنازل عن كلمتك ونعيد الدبلوماسيّين، فقال لهم سنأخذ الدبلوماسيّين وسنقطع العلاقات، وعليكم أن تعرفوا أنَّ موقع النبيّ والإسلام ليس موقع مساومة مع العالم كلّه.

لسنا هنا نمدحه (الإمام الخميني) في مقابل الكلمات اللامسؤولة الّتي جاءت من العنصريّين من أوروبّا وغيرها، فهو لا يتعامل مع المدَّاحين، لكنَّنا نريد أن نؤكِّد أنَّ عنفوان الإسلام وعزَّته وصلابته، تحتاج في كلِّ وقتٍ إلى شخصٍ لا يخاف في الله لومة لائم.

إنَّ الّذين يخافون من السّباب ومن أن يفقد الرّأي العام الدّوليّ ثقته بنا، سيظلّون في موقع الضّعف أمام كلّ فاتحٍ وقويّ، فقد نشعر بأنَّ هناك سلبيّات وكلمات غير مسؤولة، ولكنَّنا نحتاج في كلّ مرحلة من المراحل إلى أن ينتفض العالم الإسلامي، لا عالم الملوك، ولا عالم الأمراء، ولا عالم كلّ هؤلاء السّياسيّين الَّذين يقبّلون أقدام المستكبرين، بل عالم المستضعفين الّذين يقفون ضدّ المستكبرين، لأنّنا نحن الَّذين نعطي الثّقة للنَّاس، ولا نأخذ الثِّقة منهم.

ولهذا استطاع الإمام الخميني أن يهزَّ كلّ العنفوان الإسلاميّ في الشعب المسلم في العالم كلّه، وبذلك تساقط الكثيرون وتراجع الكثيرون، وعاد الآخرون عن كلامهم، وقالوا إنَّ هذا الكاتب أساء، ونحن نحترم الإسلام، كما قال المسؤول البريطاني.. ولكن هناك حريّة كلمة.. أيّة حرية كلمة؛ حريّة كلماتكم في الإساءة إلينا والضَّغط على قضايانا، ماذا عن حرّيتنا نحن في أن نرفض استكباركم، فأنتم تقتلوننا كلّ يوم على مذبح هذه الحريّة، وتريدون أن نحترمكم يا دول الغرب؟!

إنَّ إسرإئيل تقصف مدرسةً في الجبل، وتجرح 30 طفلاً، بكلِّ أسلحتها المتطوّرة، ومع ذلك، لا تتحدَّثون إلا عن العنف في الردّ عليها، لأن إسرائيل تضرب كلَّ من يطالب بالحريّة منها ومنكم ومن كلّ الاستكبار..

إنّ الحريّة في مفهومكم هي مسألة إسرائيل المدلّلة أوروبياً وأميركياً، وبعد ذلك تريدون أن نصدِّق أنّكم مع حرية الكلمة، إنّكم تثورون لأنّ الإمام أفتى بقتل إنسان واحد، ولكنّكم لا تتكلّمون بشيء أمام آلاف القتلى والجرحى في العالم الثالث!

أنتم وضعتم الحكَّام في العالم الثَّالث على العروش ليضطهدوا النَّاس وليمنعوهم من قول كلمة الحقّ، وأنتم تحمونهم من كلِّ من يثور عليهم. وأنتم تتحدَّثون عن الإرهاب ضدّ إسرائيل، في الوقت الَّذي قامت إسرائيل على الإرهاب.

ظلم واستكبار

لهذا، اسمحوا لنا أن نقول إنَّنا لن نحترم كلماتكم، وسنبقى مع الإسلام كلِّه، ونحن نستوحي كلَّ ذلك من الإمام الكاظم.. ومن خلال حياة هذا الإمام الَّذي قضى وقتاً طويلاً في سجون الأمويّين، نريد أن نتذكَّر كلَّ السّجناء عندما نتذكَّر سجن هذا الإمام؛ نتذكَّر أخوتنا في سجن الخيام، وكلّ المقاومين في سجون فلسطين المحتلَّة، ونتذكَّر كلّ المساجين في دول العالم الثّالث من الأحرار، حيث لا يملك الحكم أيَّ قاعدةٍ لسجن النّاس، فهناك وضع موجود في العالم الثّالث، سواء على مستوى الحكَّام أو الجيش أو الميليشيات، أن يسجن الإنسان دون تهمة، ولكن من يحاكم؟ ومن يطلق؟

قد يقضي الكثيرون في السِّجن عشرات السّنين دون محاكمة، ويتركون لكلِّ جلاوزة السّجن الذين يعذّبونهم بمزاجيتهم، حتى إنَّنا نعرف في بعض سجون الخليج والعراق، أنَّ الحكم يمكّن السجّانين الجلاوزة من الاعتداء الجنسي الشّاذّ على السجناء، وربما على السّجينات، ونعرف أيضاً أنَّ كثيراً من حكّام البلاد العربيّة الّتي تتحدَّث عن كلّ القيم الإنسانيّة، يسجنون الأطفال ويعذِّبونهم في السجن، وقد نشرت الصّحف ذلك، وكنّا نعرفه قبل ذلك.

إنّنا عندنا نواجه مسألة سجن الخيام، لا نجد هناك أيّة محاكمة، ولا يمكن للصَّليب الأحمر الإشراف عليهم أو فحصهم، ولا يمكن لأهلهم أن يروهم إلا بالرَّشاوات للعملاء، ولكن لماذا سجنوا؟ فإنهم لا يجيبون، ومن يطلقهم؟ لا أحد يجيب أيضاً، وهكذا حتّى في السّجون الدّاخليَّة.

أمَّا سجون الميليشيات، فحدِّث ولا حرج، من يحاكم من؟ ومن يسجن من؟ فلا إنسانيّة في السّجون، رغم أنّه لا يجوز شرعاً أن يسجن إنسان إلا على أساس وجود حكم شرعي، وعلى أساس وجود محاكمة ليدافع عن نفسه، ثم علينا أن نعرف أنّ كلّ الاعترافات التي تؤخذ من خلال التعذيب هي باطلة وغير شرعيّة.

إننا نتذكّر كلّ هؤلاء السّجناء المعذَّبين الَّذين تتحرك الأمزجة والعقد النفسيّة عند السجّانين والحاكمين معهم بشكلٍ يشعر معه الإنسان بأنه يقف أمام وحوش مفترسة تتلهّى في تعذيبه.. إنّنا ندعو إلى أن يُحترم الإنسان، وأن لا يحكم بغير علم، ففي بعض السّجون، قد يسجن الإنسان سنة وسنتين وثلاث سنوات وأربعاً ثم يخرج بريئاً؟! فمن يعوّض السنوات الأربعة التي مضت؟!

وكما أنّنا لا نرضى بأن يُسجن المسلمون دون حقّ، فلا نرضى أن يسجن غير المسلمين دون حقّ، ولهذا نحن رفضنا مبدأ الخطف لكلّ النّاس، سواء في الدّاخل أو في الخارج، ما دام هذا المخطوف لم يقم بأيّة جريمة أو أيّة خيانة، فلا يكفي أن تقول إنّه جاسوس وخائن ثم يطلق في آخر الأمر، فهذا الأمر لا يجوز.

نحن نتفهَّم دوافع الخاطفين، ولكنَّ هذا الأمر لا يمنعنا من أن نقول إنَّ ذلك خطأ، وإنَّ علينا أن لا نحجز حريّة أيّ إنسان، وخصوصاً إذا كان بريئاً.. ونحن ندعو إلى حلِّ هذه المشكلة الّتي تحوَّلت إلى مشكلة سياسيَّة؛ أن تحلّ من خلال بعدها الإنسانيّ، لأنَّه لا يجوز أن يبقى إنسان معتقل إلى ما لا نهاية، لمجرَّد تعقيدات في الجوّ السياسيّ، فإذا كنت تريد أن لا يظلمك الآخرون، فعليك أن لا تظلم الآخرين.

انفراج أمنيّ في لبنان!

ومن الطَّبيعيّ أنَّ الناس ارتاحت للانفراجات الأمنيَّة من خلال فتح المعابر وتبريد ساحات القتال في المواقع المتفرقة، وربما يظنّ الناس أنَّ المسألة اقتربت من الحلّ. إنّنا لا نريد أن نمنع أنفسنا من التفاؤل، ولكن نريد أن نعطي التفاؤل قدراً من الواقعيَّة، لأنَّنا عشنا الخيبة في بعض أحلامنا الماضية.

هناك انفراج أمنيّ واقتصاديّ دعت إليه الضَّرورة، لأنَّ لبنان مهيّأ لأن ينهار، وكان الدّولار مهيّأً ليصل إلى 800 ليرة في شهر واحد، ولما كان مطلوباً للبنان أن لا ينهار، كما لا يسمح له بأن يقسم أو يستقرّ، لذلك تدخَّلت الأجهزة، وبادرت إلى تأمين وضع أمنيّ واقتصاديّ يتَّفق مع أجواء الوفاق الموجودة في المنطقة، ليرتاح الناس قليلاً، ويبقى لبنان على قيد الحياة، ولكنّه يظلّ يراجع الطَّبيب، ويدخل غرفة العناية الفائقة أحياناً.

لهذا، لا سقف سياسياً للانفراج الأمنيّ، ولا تزال التّعقيدات السّياسيّة على حالها، ونحن نرتاح للانفراج الأمنيّ والاقتصاديّ، ولكن إذا لم يكن هناك سقف سياسيّ يحميه من أن يسقط، فلا قيمة لأن يثبت، فلا بدَّ من سقفٍ سياسيٍّ قويّ، فإنَّ الَّذين صنعوا الانفراج قد يصنعون الانفجار في أيِّ وقت، وأنا أدعو الله أن يهدي النّاس، ولكن راقبوا الأمَّة كيف تتحرَّك في السّاحة العربيَّة.

وإذا كان النّاس يتحدَّثون مع اللّجنة العربيَّة، فإنَّ أقصى ما عند هذه اللّجنة هو أن تكتشف الاقتراحات والأفكار، حتى تعرف كيف يفكر اللّبنانيّون، ثم تقدِّم التَّقرير إلى مؤتمر وزراء الخارجيَّة، ثم إلى القمّة العربيّة، ويحتاج ذلك إلى أن تتحرّك التَّسوية ليعرف كيف يُرتَّب وضع لبنان، وعند ذلك، يمكن أن ينتخب الرئيس، أما الأزمة فمستمرَّة.

تآمر على حركات المقاومة

والنّقطة الثّانية، هي أنَّ الانتفاضة الفلسطينيَّة لا تزال تتحرّك بقوَّة، ولا تزال الروح الثّوريّة الإسلاميّة تقدّم في كلّ يوم موقفاً تلو الموقف، ولا تزال الحسابات السياسيّة العربيّة السّائرة في فلك أميركا، تفكّر في تجميد الانتفاضة، وفي أن تطبق عليها.

ونحن نراقب في الوقت نفسه أسلوب منظَّمة التّحرير في تقديم التنازلات وتوزيعها على العالم كلِّه، والأخطر هو أنَّ بعض المسؤولين الفلسطينيّين يعملون على تقديم معلومات أمنيَّة مخابراتيَّة ضدّ المجاهدين لمصلحة الأمن الأميركيّ، كما قدّم بعض هؤلاء معلومات أمنيّة لفرنسا ضدّ الإسلاميّين قبل ذلك.

إنَّ معنى هذا أنَّ الأمن هو ضدّ المجاهدين والأحرار لمصلحة المستكبرين، فكيف نحصل على فلسطين بعد ذلك، عندما نمكّن هؤلاء من السّيطرة على الثوّار؟!

النقطة الثّالثة: إنَّنا نتطلَّع إلى الثّورة الإسلاميَّة في أفغانستان حيث اقتربت من النَّصر، ولكنَّ المشكلة هي أنَّ كثيراً من الدّول العربيَّة، إضافةً إلى أميركا وبعض دول المنطقة، تعمل لإيجاد حالةٍ مذهبيَّة في أفغانستان، حتى يعيش المسلمون الشيعة والسنّة العقدة في تعاونهم مع بعضهم البعض في إنشائهم دولة إسلاميَّة تتعاون مع الدّولة الإسلاميّة في إيران.

إنَّ هناك تآمراً في أكثر من محورٍ دوليّ، حتى تنشغل أفغانستان في حربٍ أهليَّة بعد الانتصار، لأنَّ بعض الدّول لا تزال تعمل على الفوارق المذهبيَّة. وإنَّ على الثوّار هناك، وعلى المسلمين في كلّ مكان، أن يعملوا في سبيل الوقوف ضدّ هذه الخطة الخبيثة الاستكباريّة.


[1] [آل عمران: 134].

[2]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 48، ص 107.

[3] تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 386.

[4] المصدر نفسه، ص 413.

[5] [آل عمران: 104].

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله، بتاريخ 3 آذار 1989م، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بحضور حشدٍ من المؤمنين. وقد جاء فيها:

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[1]. من هؤلاء، الإمام السّابع من أئمَّة أهل البيت(ع)، الإمام موسى بن جعفر الكاظم، الَّذي تصادف ذكرى وفاته في هذا اليوم، في الخامس والعشرين من شهر رجب الحرام.

إمامة الكاظم(ع)

ونحن لا بدَّ لنا مع كلِّ إمامٍ من أئمَّة أهل البيت(ع) من وقفةٍ طويلة، نستطيع من خلالها أن نعرف شيئاً من سيرتهم ومن وصاياهم ومن الأوضاع المحيطة بهم في الحياة الَّتي عاشوها، حتّى نستطيع أن نستلهم منهم كيف نواجه الحياة في خطِّ الإسلام، وكيف نتحمَّل الكثير من البلاء ومن المشاكل ومن الأوضاع الصَّعبة فيما تفرضه علينا التزاماتنا الإسلاميَّة.

الإمام الكاظم(ع) هو من أئمَّة أهل البيت، عاش إمامته بعد وفاة أبيه الإمام جعفر الصَّادق(ع)، الّذي عرَّف المسلمين بأنّه الإمام الّذي يرتفع إلى مستوى الثِّقة والكفاءة في علمه وتقواه ووعيه لأمور زمانه، وأنَّه الإنسان الَّذي يمكن أن يجعل النّاس يفهمون كيف يقتربون من الله أكثر، لأنَّ دور أئمّة أهل البيت(ع) في كلِّ ما عاشوه وقالوه وفعلوه، هو أن يدلّوا النّاس على طريق الله، فهم الدّعاة إليه، الأدلاّء عليه، الّذين إذا حدَّثوا حدَّثوا عن رسول الله(ص)، وكان أحمد بن حنبل يروي عن موسى بن جعفر ما عنده من علوم رسول الله، فكان يقول: حدّثني موسى بن جعفر، قال حدَّثني جعفر بن محمد، حتى قال حدثني رسول الله وجبريل، ثم قال: هذا إسنادٌ لو ألقي على مجنون لأفاق...

هكذا كان أئمَّة أهل البيت(ع)، لا يتحركون فيما ينصّون عليه من الأحاديث من موقع النّسب، بل من موقع الكفاءة في العلم والدِّين.

وهكذا انطلق الإمام موسى بن جعفر لينشر العلم والدّين، وكانت السَّاحة العلميَّة مفتوحة، ولا سيَّما أنَّ أساتذة السَّاحة كانوا من أئمَّة أهل البيت(ع)، فكان المسلمون مختلفين في مذاهبهم، ولكنّهم كانوا يأخذون العلم منهم.. وهكذا رأينا ابن حنيفة، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، أخذوا عن الإمام الصّادق(ع).. وكان هناك انفتاح على العلم كلّه وعلى الإسلام كلّه، ولم يتعقَّد المسلمون من بعضهم البعض، كما يحدث الآن، فالشّيعة يدرسون في مدارسهم، والسنّة في مدارسهم، أمّا اليوم، فالمسألة ضاقت كثيراً، لأنَّ نفوسنا تعقَّدت كثيراً.

ولهذا، فإنّنا نرى المؤرّخين الّذين لا يلتزمون بالتشيّع، عندما يتحدَّثون عن أئمَّة أهل البيت(ع)، يتحدَّثون بطريقة بيان مقامهم الكبير، وهذا هو الّذي يثبت لنا أنَّ أئمَّة أهل البيت كانوا في الموقع الرّفيع في السَّاحة الإسلاميَّة، وكانوا محلَّ ثقة الجميع وتعظيمهم.

ومن هنا، كان النَّاس يتعاملون معهم في كثيرٍ من الحالات تعاملاً مميَّزاً، كما لو كانوا هم الخَلَف في السَّاحة، فعلى الرّغم من أنّه كان هناك خلف من الأمويّين، إلا أنَّ النّاس كانوا يراجعون الإمام عليّ بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصّادق في كلّ المسائل، كما في المسائل التي تتعلَّق بالموقف السياسي من النّظام القائم، ومن هنا، كان الأمويّون يضيّقون على أئمّة أهل البيت، وهكذا فعل العبّاسيون، فهم مع تعظيمهم للأئمَّة، كانوا يقتلونهم ويسجنونهم..

التَّضييق على الإمام بالسّجن

وكان الإمام موسى بن جعفر الكاظم في موقف التحدّي لحكم هارون الرَّشيد، ومن الطبيعيّ أن يتعرَّض لظلم الحكم العبّاسي، ولكنَّه كان يملك موقعاً قويّاً، بحيث كان الرّشيد يشعر بالخطر في حال التعرّض له.. فالمسألة ليست أن تحصل على إمكانات النّاس، بل أن تحصل على قلوبهم، فالأئمَّة(ع) كانوا لا يملكون العناوين السياسيَّة الّتي كانت في ذلك الوقت، وكان الخلفاء ينصبون الجواسيس حول بيوتهم لمراقبتهم، كما هي المسألة الآن، فالبعض يخاف على المجاهدين خوفاً من أن يضطهدهم الآخرون، والحكَّام يخافون من الموثوقين لدى النَّاس. ولهذا، فالحكَّام غالباً لا يضطهدون الّذين يتحركون بشكلٍ استعراضيّ من دون أن يكون لحركتهم عمق.

في أيَّام الاستعمار الفرنسيّ، كان يضطهد أصحاب الشعبيّة العاملين ضدّهم في العمق، وفي أيّام الجلاء، أخذ أحد المسؤولين الدفّة وسيّر تظاهرةً ضدّ فرنسا، فأتى الدّرك إلى المفوَّض الفرنسي، وقال لهم لا تتعرَّضوا له، وأشار إلى أنَّ دوره استعراضيّ، ليملك زمام المبادرة بعد ذلك.

وفي أحد الأيّام، قال هارون الرّشيد: أريد أن أسجن موسى بن جعفر، وهكذا أخذ الإمام وسجنه في البصرة. ولكنّ السجّان بعث لهارون الرّشيد، إمّا أن تطلقه أو أطلقه، فقد بثثت عليه الجواسيس، فلم أسمع منه إلا التّسابيح، وهو يقول: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت فلك الحمد"[2].

وبعث لهارون الرّشيد: لن ينقضي عين يومٍ من البلاء إلا وينقضي عنك يوم من الرّخاء.. حتى دسَّ إليه السّمّ. وهكذا رأينا أنّ الإمام الكاظم(ع) سجن كما لم يسجن أحد من آبائه وأبنائه، لأنّه بقي في السّجن مدّة طويلة، وقتل بالسمّ، ونحن لا نريد أن نثير هذه المسألة للألم.. ولكنّنا نرى أن نأخذ بعض كلمات الإمام وأخلاقه، فالإمام كان يسمَّى كاظم الغيظ، لأنّه كان يملك الصّدر الواسع الذي يمتصّ كلّ العداوات والبغضاء من حوله.

ويقال إنَّ هناك شخصاً كان يشتم الأئمّة، حتى أتى أصحاب الإمام وطلبوا منه أن يسمح لهم بقتله.. ولكنّ الإمام ذهب إليه وكان في مزرعته.. وسأله كم تؤمِّن في زرعك، فقال مئة دينار، فقال له هذه مئة دينار، وبدأ يحدّثه بطيب الكلام، حتى أتى إلى المسجد، وأصبح يصلِّي وراء الإمام الكاظم، وقال: "الله يعلم حيث يجعل رسالته".

الثّبات في الموقف

ومن الكلمات الّتي كانت تطلق عن الإمام الكاظم(ع)، أنّه كان يقول لهشام بن الحكم: "يا هشام، لو كان في يدك جوزة وقال النّاس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال النّاس إنَّها جوزة ما ضرّك وأنت تعلم أنَّها لؤلؤة"[3].

ومعنى ذلك، أنَّ عليك أن تفهم نفسك وما عندك من ثقافة ومواقف، فإذا رأيت أنها تمثِّل شيئاً كبيراً أو عظيماً، فعليك أن لا تفقد الثِّقة بنفسك حتّى لو لم يمدحك النَّاس، أمَّا إذا عرفت أنّك لا تملك شيئاً والنّاس يمدحونك، فعليك أن لا تأخذ الثقة بنفسك وأنت لا تملك ما يقولونه عنك. وهذه الفكرة نستطيع أن نوظّفها حتى في المسألة السياسية، فالآن يقول العالم عنّا إنَّنا متخلّفون وإرهابيّون ومتعصّبون، وبعض النّاس يقولون إنّنا لا بدَّ من أن نظهر للعالم أنّنا لسنا على هذه الصّورة، ولكن إذا أصرَّ العالم على هذه الفكرة، فليس لأنّها صحيحة، وإنّما لأنّه يريد توظيف ذلك سياسيّاً.

ولو قال العالم، كما يقول الآن كلّ الإعلام عن المسلمين، إنهم متعصّبون وظلاميّون، فليقولوا ما يقولون، إنّنا نعرف أنّنا لسنا كذلك، ويجب أن لا تهتزَّ ثقتنا بديننا وبخطّنا، لأنّنا إذا كنّا صادقين في مواقفنا، منفتحين في أفكارنا، فسنفرض احترامنا على العالم، إن عاجلاً أو آجلاً.

يريد الإمام الكاظم(ع) أن يقول لنا: لا تأخذوا ثقتكم من خلال كلام النَّاس عنكم، افهموا ما عندكم، وخذوا ثقتكم من خلال ذلك، فكلام النَّاس ليس هو الأساس، بل واقعنا الصّادق هو الأساس في ذلك كلّه، وهذا ما يجعلنا نثبّت أقدامنا في الأرض، وهذا هو الموقف الّذي نأخذه من الإمام الكاظم(ع).

ولهذا، فإنّنا أمام كلِّ ما يقال في هذه الأيَّام في أوروبّا وأميركا وبريطانيا عنّا بطريقةٍ تجعل البعض يهتزّ، نقول: فليقولوا ما يقولون؛ إنهم يعبّرون عن غطرستهم واستكبارهم، ولذلك نحن لا نحترم كلّ كلامهم لأنهم لا يحترموننا، بل يريدون أن يوحوا إلينا بأنهم يحترموننا من خلال تنفيذنا لمخطَّطاتهم.

وقد قال الإمام الكاظم(ع) لبعض أصحابه: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة، فقال له: وما الإمّعة؟ قال: لا تقل أنا مع النّاس، وأنا كواحدٍ من النَّاس، فإنَّ رسول الله قال: يا أيّها النَّاس، إنَّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشّرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"[4].

هذا معناه أنّه ليس هناك اللاموقف، فالإنسان بلا موقف، هو ليس مسلماً كما هو الإسلام، وكذلك الإنسان الحياديّ. والإنسان الَّذي يتكلَّم كلمة الحقّ، هو يشجِّع النَّاس، وإلا إذا لم يبادر أحد لقول كلمة الحقّ، فسيكون في الموقف انتصارٌ للباطل..

لا بدَّ في المجتمع من أن تكون هناك فئة تبادر: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[5].

عندما يقول إنسان كلمة باطل، لا بدَّ من أن يقوم شخص ويقول له لا، حتى يخاف الّذين يقولون كلام الفتنة والباطل من أن يندفعوا في هذا الخطّ.. ولا تقولوا الحقّ لحساب فلان وفلان، ولكن قولوا الحقّ لله، وعندما تقولون كلمة الحقّ لله، فلا قيمة للنّاس كلّهم، ولو سحقوك بأرجلهم، لأنّ الله معك يرأف بك..

مواجهة الإمام الخميني للإساءة

ولعلَّنا نشعر بأنَّ هناك قليلاً من النّاس الذين يقفون هذه المواقف، ففي الموقف الآن من كتاب "آيات شيطانيّة"، كان الإمام الخميني هو الشخصيّة الوحيدة في العالم الإسلامي التي واجهت العالم المستكبر، ولم تخش في الله لومة لائم، ولم تخف أن يقول عنها شخص أو مسؤول فرنسيّ إنها مجرمة أو غير ذلك، ووقفت وقالت كلمتها بأنَّ هذا الرّجل أساء إلى المسلمين كلّهم عندما أساء إلى رسول الله، ولا بدَّ للمسلمين من أن يواجهوه. قال كلمته وثارت الدّنيا، وقيل له تنازل عن كلمتك ونعيد الدبلوماسيّين، فقال لهم سنأخذ الدبلوماسيّين وسنقطع العلاقات، وعليكم أن تعرفوا أنَّ موقع النبيّ والإسلام ليس موقع مساومة مع العالم كلّه.

لسنا هنا نمدحه (الإمام الخميني) في مقابل الكلمات اللامسؤولة الّتي جاءت من العنصريّين من أوروبّا وغيرها، فهو لا يتعامل مع المدَّاحين، لكنَّنا نريد أن نؤكِّد أنَّ عنفوان الإسلام وعزَّته وصلابته، تحتاج في كلِّ وقتٍ إلى شخصٍ لا يخاف في الله لومة لائم.

إنَّ الّذين يخافون من السّباب ومن أن يفقد الرّأي العام الدّوليّ ثقته بنا، سيظلّون في موقع الضّعف أمام كلّ فاتحٍ وقويّ، فقد نشعر بأنَّ هناك سلبيّات وكلمات غير مسؤولة، ولكنَّنا نحتاج في كلّ مرحلة من المراحل إلى أن ينتفض العالم الإسلامي، لا عالم الملوك، ولا عالم الأمراء، ولا عالم كلّ هؤلاء السّياسيّين الَّذين يقبّلون أقدام المستكبرين، بل عالم المستضعفين الّذين يقفون ضدّ المستكبرين، لأنّنا نحن الَّذين نعطي الثّقة للنَّاس، ولا نأخذ الثِّقة منهم.

ولهذا استطاع الإمام الخميني أن يهزَّ كلّ العنفوان الإسلاميّ في الشعب المسلم في العالم كلّه، وبذلك تساقط الكثيرون وتراجع الكثيرون، وعاد الآخرون عن كلامهم، وقالوا إنَّ هذا الكاتب أساء، ونحن نحترم الإسلام، كما قال المسؤول البريطاني.. ولكن هناك حريّة كلمة.. أيّة حرية كلمة؛ حريّة كلماتكم في الإساءة إلينا والضَّغط على قضايانا، ماذا عن حرّيتنا نحن في أن نرفض استكباركم، فأنتم تقتلوننا كلّ يوم على مذبح هذه الحريّة، وتريدون أن نحترمكم يا دول الغرب؟!

إنَّ إسرإئيل تقصف مدرسةً في الجبل، وتجرح 30 طفلاً، بكلِّ أسلحتها المتطوّرة، ومع ذلك، لا تتحدَّثون إلا عن العنف في الردّ عليها، لأن إسرائيل تضرب كلَّ من يطالب بالحريّة منها ومنكم ومن كلّ الاستكبار..

إنّ الحريّة في مفهومكم هي مسألة إسرائيل المدلّلة أوروبياً وأميركياً، وبعد ذلك تريدون أن نصدِّق أنّكم مع حرية الكلمة، إنّكم تثورون لأنّ الإمام أفتى بقتل إنسان واحد، ولكنّكم لا تتكلّمون بشيء أمام آلاف القتلى والجرحى في العالم الثالث!

أنتم وضعتم الحكَّام في العالم الثَّالث على العروش ليضطهدوا النَّاس وليمنعوهم من قول كلمة الحقّ، وأنتم تحمونهم من كلِّ من يثور عليهم. وأنتم تتحدَّثون عن الإرهاب ضدّ إسرائيل، في الوقت الَّذي قامت إسرائيل على الإرهاب.

ظلم واستكبار

لهذا، اسمحوا لنا أن نقول إنَّنا لن نحترم كلماتكم، وسنبقى مع الإسلام كلِّه، ونحن نستوحي كلَّ ذلك من الإمام الكاظم.. ومن خلال حياة هذا الإمام الَّذي قضى وقتاً طويلاً في سجون الأمويّين، نريد أن نتذكَّر كلَّ السّجناء عندما نتذكَّر سجن هذا الإمام؛ نتذكَّر أخوتنا في سجن الخيام، وكلّ المقاومين في سجون فلسطين المحتلَّة، ونتذكَّر كلّ المساجين في دول العالم الثّالث من الأحرار، حيث لا يملك الحكم أيَّ قاعدةٍ لسجن النّاس، فهناك وضع موجود في العالم الثّالث، سواء على مستوى الحكَّام أو الجيش أو الميليشيات، أن يسجن الإنسان دون تهمة، ولكن من يحاكم؟ ومن يطلق؟

قد يقضي الكثيرون في السِّجن عشرات السّنين دون محاكمة، ويتركون لكلِّ جلاوزة السّجن الذين يعذّبونهم بمزاجيتهم، حتى إنَّنا نعرف في بعض سجون الخليج والعراق، أنَّ الحكم يمكّن السجّانين الجلاوزة من الاعتداء الجنسي الشّاذّ على السجناء، وربما على السّجينات، ونعرف أيضاً أنَّ كثيراً من حكّام البلاد العربيّة الّتي تتحدَّث عن كلّ القيم الإنسانيّة، يسجنون الأطفال ويعذِّبونهم في السجن، وقد نشرت الصّحف ذلك، وكنّا نعرفه قبل ذلك.

إنّنا عندنا نواجه مسألة سجن الخيام، لا نجد هناك أيّة محاكمة، ولا يمكن للصَّليب الأحمر الإشراف عليهم أو فحصهم، ولا يمكن لأهلهم أن يروهم إلا بالرَّشاوات للعملاء، ولكن لماذا سجنوا؟ فإنهم لا يجيبون، ومن يطلقهم؟ لا أحد يجيب أيضاً، وهكذا حتّى في السّجون الدّاخليَّة.

أمَّا سجون الميليشيات، فحدِّث ولا حرج، من يحاكم من؟ ومن يسجن من؟ فلا إنسانيّة في السّجون، رغم أنّه لا يجوز شرعاً أن يسجن إنسان إلا على أساس وجود حكم شرعي، وعلى أساس وجود محاكمة ليدافع عن نفسه، ثم علينا أن نعرف أنّ كلّ الاعترافات التي تؤخذ من خلال التعذيب هي باطلة وغير شرعيّة.

إننا نتذكّر كلّ هؤلاء السّجناء المعذَّبين الَّذين تتحرك الأمزجة والعقد النفسيّة عند السجّانين والحاكمين معهم بشكلٍ يشعر معه الإنسان بأنه يقف أمام وحوش مفترسة تتلهّى في تعذيبه.. إنّنا ندعو إلى أن يُحترم الإنسان، وأن لا يحكم بغير علم، ففي بعض السّجون، قد يسجن الإنسان سنة وسنتين وثلاث سنوات وأربعاً ثم يخرج بريئاً؟! فمن يعوّض السنوات الأربعة التي مضت؟!

وكما أنّنا لا نرضى بأن يُسجن المسلمون دون حقّ، فلا نرضى أن يسجن غير المسلمين دون حقّ، ولهذا نحن رفضنا مبدأ الخطف لكلّ النّاس، سواء في الدّاخل أو في الخارج، ما دام هذا المخطوف لم يقم بأيّة جريمة أو أيّة خيانة، فلا يكفي أن تقول إنّه جاسوس وخائن ثم يطلق في آخر الأمر، فهذا الأمر لا يجوز.

نحن نتفهَّم دوافع الخاطفين، ولكنَّ هذا الأمر لا يمنعنا من أن نقول إنَّ ذلك خطأ، وإنَّ علينا أن لا نحجز حريّة أيّ إنسان، وخصوصاً إذا كان بريئاً.. ونحن ندعو إلى حلِّ هذه المشكلة الّتي تحوَّلت إلى مشكلة سياسيَّة؛ أن تحلّ من خلال بعدها الإنسانيّ، لأنَّه لا يجوز أن يبقى إنسان معتقل إلى ما لا نهاية، لمجرَّد تعقيدات في الجوّ السياسيّ، فإذا كنت تريد أن لا يظلمك الآخرون، فعليك أن لا تظلم الآخرين.

انفراج أمنيّ في لبنان!

ومن الطَّبيعيّ أنَّ الناس ارتاحت للانفراجات الأمنيَّة من خلال فتح المعابر وتبريد ساحات القتال في المواقع المتفرقة، وربما يظنّ الناس أنَّ المسألة اقتربت من الحلّ. إنّنا لا نريد أن نمنع أنفسنا من التفاؤل، ولكن نريد أن نعطي التفاؤل قدراً من الواقعيَّة، لأنَّنا عشنا الخيبة في بعض أحلامنا الماضية.

هناك انفراج أمنيّ واقتصاديّ دعت إليه الضَّرورة، لأنَّ لبنان مهيّأ لأن ينهار، وكان الدّولار مهيّأً ليصل إلى 800 ليرة في شهر واحد، ولما كان مطلوباً للبنان أن لا ينهار، كما لا يسمح له بأن يقسم أو يستقرّ، لذلك تدخَّلت الأجهزة، وبادرت إلى تأمين وضع أمنيّ واقتصاديّ يتَّفق مع أجواء الوفاق الموجودة في المنطقة، ليرتاح الناس قليلاً، ويبقى لبنان على قيد الحياة، ولكنّه يظلّ يراجع الطَّبيب، ويدخل غرفة العناية الفائقة أحياناً.

لهذا، لا سقف سياسياً للانفراج الأمنيّ، ولا تزال التّعقيدات السّياسيّة على حالها، ونحن نرتاح للانفراج الأمنيّ والاقتصاديّ، ولكن إذا لم يكن هناك سقف سياسيّ يحميه من أن يسقط، فلا قيمة لأن يثبت، فلا بدَّ من سقفٍ سياسيٍّ قويّ، فإنَّ الَّذين صنعوا الانفراج قد يصنعون الانفجار في أيِّ وقت، وأنا أدعو الله أن يهدي النّاس، ولكن راقبوا الأمَّة كيف تتحرَّك في السّاحة العربيَّة.

وإذا كان النّاس يتحدَّثون مع اللّجنة العربيَّة، فإنَّ أقصى ما عند هذه اللّجنة هو أن تكتشف الاقتراحات والأفكار، حتى تعرف كيف يفكر اللّبنانيّون، ثم تقدِّم التَّقرير إلى مؤتمر وزراء الخارجيَّة، ثم إلى القمّة العربيّة، ويحتاج ذلك إلى أن تتحرّك التَّسوية ليعرف كيف يُرتَّب وضع لبنان، وعند ذلك، يمكن أن ينتخب الرئيس، أما الأزمة فمستمرَّة.

تآمر على حركات المقاومة

والنّقطة الثّانية، هي أنَّ الانتفاضة الفلسطينيَّة لا تزال تتحرّك بقوَّة، ولا تزال الروح الثّوريّة الإسلاميّة تقدّم في كلّ يوم موقفاً تلو الموقف، ولا تزال الحسابات السياسيّة العربيّة السّائرة في فلك أميركا، تفكّر في تجميد الانتفاضة، وفي أن تطبق عليها.

ونحن نراقب في الوقت نفسه أسلوب منظَّمة التّحرير في تقديم التنازلات وتوزيعها على العالم كلِّه، والأخطر هو أنَّ بعض المسؤولين الفلسطينيّين يعملون على تقديم معلومات أمنيَّة مخابراتيَّة ضدّ المجاهدين لمصلحة الأمن الأميركيّ، كما قدّم بعض هؤلاء معلومات أمنيّة لفرنسا ضدّ الإسلاميّين قبل ذلك.

إنَّ معنى هذا أنَّ الأمن هو ضدّ المجاهدين والأحرار لمصلحة المستكبرين، فكيف نحصل على فلسطين بعد ذلك، عندما نمكّن هؤلاء من السّيطرة على الثوّار؟!

النقطة الثّالثة: إنَّنا نتطلَّع إلى الثّورة الإسلاميَّة في أفغانستان حيث اقتربت من النَّصر، ولكنَّ المشكلة هي أنَّ كثيراً من الدّول العربيَّة، إضافةً إلى أميركا وبعض دول المنطقة، تعمل لإيجاد حالةٍ مذهبيَّة في أفغانستان، حتى يعيش المسلمون الشيعة والسنّة العقدة في تعاونهم مع بعضهم البعض في إنشائهم دولة إسلاميَّة تتعاون مع الدّولة الإسلاميّة في إيران.

إنَّ هناك تآمراً في أكثر من محورٍ دوليّ، حتى تنشغل أفغانستان في حربٍ أهليَّة بعد الانتصار، لأنَّ بعض الدّول لا تزال تعمل على الفوارق المذهبيَّة. وإنَّ على الثوّار هناك، وعلى المسلمين في كلّ مكان، أن يعملوا في سبيل الوقوف ضدّ هذه الخطة الخبيثة الاستكباريّة.


[1] [آل عمران: 134].

[2]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 48، ص 107.

[3] تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 386.

[4] المصدر نفسه، ص 413.

[5] [آل عمران: 104].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير