التاريخ الهجري رمزٌ لحركة الإسلام في التاريخ

التاريخ الهجري رمزٌ لحركة الإسلام في التاريخ

لأن الأمة التي تنسى ماضيها تفقد مستقبلها وهويتها:
التاريخ الهجري رمزٌ لحركة الإسلام في التاريخ


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

 التاريخ يمثل الشخصية التاريخية للأمة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون *ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}. استقبلنا قبل أيام رأس السنة الميلادية الجديدة، وقد تحدثنا أكثر من مرة بأننا ننفتح على السنة الميلادية ألفان واثنتان من موعد ميلاد السيد المسيح(ع)، كما ننفتح على السنة الهجرية 1422 من هجرة النبي(ص)، لأن القرآن الكريم يقول: {لا نفرق بين أحد من رسله}، فنحن نؤمن بالسيد المسيح(ع) بأنه عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، كما نؤمن بمحمد (ص).

ولكننا أكدنا أكثر من مرة أن التاريخ في كل أمة يمثل الشخصية التاريخية التي تجمع كل نتاج الأمة في كل تاريخها منذ ولادتها، فنحن ـ كمسلمين ـ يمثل التاريخ الهجري بالنسبة إلينا كل حركة الإسلام في التاريخ، منذ انطلق النبي (ص) بالإسلام وتحرك المسلمون في مسيرته، وفي فتوحاتهم وانتصاراتهم وهزائمهم، وفي نقاط ضعفهم ونقاط قوتهم، وهو يمثل الغنى الثقافي من خلال الحضارة الإسلامية التي انتشرت في العالم، ومن خلال الشخصيات التاريخية من الإسلامية القيادية في المجالات السياسية والدينية والاجتماعية وغيرها من المجالات، فالإنسان عندما يستذكر التاريخ الهجري يستذكر كل تاريخه، وبذلك يعيش الشخصية الإسلامية التاريخية، ومن خلال ذلك ينفتح على مسؤوليته عن صنع التاريخ للمستقبل.

وقد لخّص القرآن الكريم هذه الفكرة عندما أعطى صفة الأمة: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، بحيث ركّز على أن شخصية الأمة هي الشخصية المتحركة في الأمر بكل ما يرفع مستوى الناس وهو المعروف، وفي النهي عن كل ما يسقط مستواهم وهو المنكر، وفي الانفتاح على الإيمان بالله، وهذا يجعلنا نحس بأننا جزء من أمة، وعظمة الأمة بتاريخها الذي صنعته الأجيال السابقة، وبمستقبلها الذي تصنعه أجيالها المقبلة، وهو ما أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}.

لذلك، نحن نتحدث دائماً معكم ومع كل أخواننا وأخواتنا، أنه يجب أن يكون التاريخ الهجري أصيلاً عندنا، في مراسلاتنا ومعاملاتنا وتجاراتنا، لا بأس بكتابة التاريخ الميلادي إلى جانب التاريخ الهجري، ولكن المسألة هي أنّ العالم كله يأخذ بالتاريخ الميلادي فبدأنا ننسى التاريخ الهجري، بحيث أن الكثير من المسلمين لا يعرفون التاريخ الهجري والأشهر الهجرية ورأس السنة الهجرية. ولذلك فإن الأمة التي تنسى تاريخها هي أمة تنسى مستقبلها وشخصيتها، نحن لا نتعقّد من التاريخ المسيحي ولا من التاريخ العبري الذي يتصل بموسى(ع)، ولا من أي تاريخ آخر، لأننا لا نريد إلغاء تاريخ الأمم، ولكننا نؤكد أن كل أمة لها هويتها، ومن المفروض أن تكون هويتنا هي الهوية الإسلامية المنفتحة على المسيحية وكل الديانات.

عادات الغرب الوثنية تغزو مجتمعاتنا

لذلك، علّموا أنفسكم وأهليكم التاريخ الإسلامي، وليس من الضروري أن تغفلوا التاريخ المسيحي.

 ثانياً: رأس السنة يمثل الحاجز الزمني بين تاريخ وتاريخ، بين سنة مرت وسنة جديدة تأتي، أولاً ما هو إيحاء رأس السنة عندنا؟ بعض الناس يفكرون أنه في رأس السنة لا بد للإنسان أن يعبث ويرقص ويغني، وهذه عادات وفدت إلينا من الغرب الوثني لا المسيحي، لأن المسيحية في أصالتها تبعدك عن كل لهو وعبث يسقط الجانب الأخلاقي للإنسان، وعندما يمارس المسيحيون أسباب اللهو والعبث الفاحش تماماً كما يمارس بعض المسلمين ذلك، فإنما يمارسونه بصفتهم اللاهية العابثة التي تقلد الغرب. وما نلاحظه في احتفالات رأس السنة في العالم من جنون، وقد بدأ يزحف إلينا، لماذا؟ لأن هناك سنة جديدة أقبلت؟: أن تقبل سنة جديدة معناه أن هناك حركية إنسانية جديدة، ومستقبلاً جديداً لا بدّ أن يُصنع، ونحن نلاحظ أن المصارف في رأس السنة تكون في حالة طوارئ لتحسب حسابات الربح والخسارة، فهل الربح والخسارة في الأموال فقط؟ نحن كمسلمين أرباحنا هي الحسنات التي تقربنا إلى الله، وخسائرنا هي السيئات التي تبعدنا عن الله في يوم القيامة ليس هناك عملة نقدية من دولار ويورو وغيرهما، هناك خير وشر، وهذه هي عملة الآخرة.

لنجعل الزمن في مرضاة الله

فمسألة الخسارة والربح عندنا هي ما نقدم من عمل، عندما ينقضي تاريخ، ويأتي تاريخ المفروض أن نبحث عمّا استطعنا أن نكوّنه من رصيد في ما مضى من التاريخ من الحسنات ومن السيئات، وفي التوجيه الإسلامي المسألة ليست فقط السنة، بل اليوم، وهناك دعاء للإمام زين العابدين(ع) وهو "دعاء الصباح والمساء"، وقد دعوتكم مراراً لقراءة ثلاثة كتب بشكل أساسي، وهي القرآن الكريم ونهج البلاغة والصحيفة السجادية، يقول الإمام زين العابدين في دعائه: "اللهم وهذا يوم حادث جديد ـ ونستطيع أن نقول: وهذا عام حادث جديد ـ وهو علينا شاهد عتيد ـ الزمن يشهد علينا أمام الله ويرحّب بنا أو يغضب منا ـ إن أحسنا ودّعنا بحمد، وإن اسأنا فارقنا بذم، اللهم فارزقنا حسن مصاحبته، واعصمنا من سوء مفارقته بارتكاب جريرة أو اقتراف صغيرة أو كبيرة، وأخلنا فيه من السيئات".. عندما يأتي اليوم والأسبوع والشهر والعام، يجب أن نتوقف ملياً عنده لنستعيد فيه ما مضى ونفكر كيف نخطّط لما يأتي.

ولنلاحظ كيف كان الإمام زين العابدين يخطط ليكون يومه يوماً مملوءاً بما يحبه الله: "اللهم وفقنا في يومنا هذا ـ وفي عامنا هذا ـ وليلتنا هذه لاستعمال الخير وهجران الشر وشكر النعم، واتباع السنن ومجانبة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحياطة الإسلام وانتقاص الباطل وإذلاله ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال ومعاونة الضعيف وإدراك اللهيف". هذه النقاط تمثل خطوط الخير التي تقربنا إلى الله في المسألة الشخصية والاجتماعية والسياسية، ليكون يومنا منطلقاً من خطة ندرس فيها القضايا التي نملأ بها يومنا، ليكون يوماً إسلامياً يقربنا إلى الله ويرتفع بنا إلى مواقع رضوانه. وهناك نقطة لا بد أن نفكر فيها، وهي أن كل واحد منا سيمضي إلى مصيره المحتوم: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، فكل يوم يمر علينا نقترب من النهاية، لأن الإنسان يكون في قمة عمره يوم ولادته وكل يوم يمضي فإنه ينقص من العمر يوماً، فكلما يأتي الزمن فإنه يقترب من الهدف، وعندما يصل ألا يريد أن يجد رصيداً له في آخرته؟ هذا ما تشير إليه الآية الكريمة التي تلوناها: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ـ راقبوا الله في أعمالكم وكلماتكم وتأييدكم ورفضكم وعلاقاتكم ـ ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ـ والمقصود بالغد هو غد الآخرة.

ونستوحي منها أن الإنسان لا بدّ أن يفكر في حاضره لمستقبله، فهذا اليوم ألا يستحق أن نستعد له، أو لا بدّ أن "نفرفش" على طريقة بعض الناس الذين يطلقون الرصاص في آخر السنة، هذه العادة لم نستطع أن نجد لها فلسفة لا في الدين ولا في الحضارة ولا في الاقتصاد، بالإضافة إلى المفرقعات التي نربي عليها أولادنا تربية متخلّفة، هذه العادات التي جاءتنا من الغرب، ما هي الفائدة منها؟. لا بدّ أن نثقف أولادنا على حب الهدوء وعلى الإحساس  بمشاعر الناس الآخرين، لماذا نحن معنيون أن تكون مناطقنا الإسلامية مناطق غير مؤهلة للراحة؟ هذا تخلّف ـ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ـ اجعلوا الله دائماً نصب أعينكم، عندما تأكل وتشرب وتعيش لذاتك وشهواتك ـ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ـ عندما تذكر الله تذكر نفسك ومسؤوليتك، وعندما تنسى الله فإنك تنسى نفسك وتتذكر الشيطان ـ أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}، هذه شهادة النجاح، والشهادة لا تأتي بالمجان، بل من خلال الدرس والعمل..

 لنعش طوارىء إيمانية في رأس السنة

في رأس السنة لا بد أن نعيش حالة طوارئ، وهذا ما عبّرت عنه بعض الأحاديث، وقد جاء عن النبي(ص): "ألا وإنكم في يوم عمل لا حساب فيه، ويوشك أن تكونوا في يوم حساب ليس فيه عمل، لا يكون الرجل ـ والمرأة أيضاً ـ من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه ومشربه وملبسه، من حلّ أو من حرام"، وعنه(ص): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر"، يوم تعرضون على الله تعالى في يوم المحشر. ويقول النبي(ص): "أكيس الكيّسين ـ والكيّس هو العاقل ـ من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقى من أتبع نفسه هواه وتمنى على الله الأماني". وعن الإمام الكاظم(ع): "ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد منه وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله منه وتاب إليه".

وعن الإمام الصادق(ع): "إذا أويت إلى فراشك فانظر ما سلكت في بطنك وما كسبت في يومك، واذكر أنك ميت وأن لك معاداً". وفي كلمة للإمام علي(ع) وقد سئل عن كيفية محاسبة النفس قال: "إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك، والله سائلك عنه فيم أفنيته يا نفس وما الذي عملت فيه، أذكرت الله في هذا اليوم أم حمدتيه، أقضيت حق أخ مؤمن، أنفست عنه كربته، أحفظته في ظهر الغيب، أحفظته بعد الموت في مخلّفيه، أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، أأعنت مسلماً، فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عزّ وجل وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله وعزم على ترك معاودته"..

وعلى ضوء هذا، لا بدّ أن نذكر الموقف أمام الله عندما يأتي النداء: {وقفوهم إنهم مسؤولون}، ويقول الله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في ما تستقبلون من عمركم، لتؤكدوا إخلاصكم لله في ذلك، ورغبتكم في القرب منه وتحملكم مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إياها في الأمور الخاصة والعامة، ولا سيما في ما تواجهه الأمة من التحديات من قِبَل الأعداء من أجل إسقاط أمنها واقتصادها وسياستها، وعلينا أن نعيش دائماً الاهتمام بأمور الأمة، وأن يكون لنا وعي قضاياها ومشاكلها، ووعي الوسائل التي يمكن أن نواجه من خلالها هذه التحديات، وفي الدنيا الكثير مما يتحدى به المستكبرون المستضعفين، وهذا ما يجب أن نستعد له، فتعالوا لنرى ماذا هناك في السنة الميلادية الجديدة:

سعي لإضاعة القضية الفلسطينية

القضية الفلسطينية تغرق في التفاصيل في مشروع "ميتشل" ومقررات "تينيت".. والكل يعرف أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وهذا ما يحرّكه الشيطان الأمريكي المتحالف مع الشيطان الإسرائيلي من أجل إضاعة القضية الفلسطينية المركزية، وهي مسألة الاحتلال الصهيوني للوطن الفلسطيني.

فأمريكا ليست مستعدة للاعتراف بهذا الاحتلال، لأن المسألة عندها هي أنّ هناك أرضاً متنازعاً عليها، وأن المفاوضات هي السبيل لحل هذا النزاع!! ولكن المفاوضات السياسية خاضعة للشروط الأمنية الإسرائيلية التي تدور في حلقة مفرغة، فالحصار يجتذب الموقف الدفاعي الفلسطيني الذي يعمل العدو على استغلاله للمزيد من القصف والقتل والدمار الذي يزيد الأرض اشتعالاً..

ورئيس السلطة الفلسطينية في الإقامة الجبرية في "رام الله"، وأمريكا لا تضغط لإطلاق سراحه، لأنها تلتقي مع "شارون" في مطالبته بتصفية الانتفاضة وإسقاط بنيتها التحتية، ومحاكمة كوادرها لأنهم قاوموا المحتل، ما يعني بأن عليه أن يحاكم انتفاضة الشعب الفلسطيني نفسه.. والمبعوث الأمريكي يغرق في التفاصيل الأمنية، أما التفاصيل السياسية في مشروع الدولة وفي عودة اللاجئين والقدس وإزالة المستوطنات، فإنها تبقى في متاهات المواعيد التي لا تقف عند زمن محدد وثابت..

   كلمات العرب تتطاير في الهواء

أما العرب الذين تحدثوا عن ضرورة إعطاء "شارون" الفرصة عندما فاز في الانتخابات، فلم يضغطوا عليه استجابة للراعي الأمريكي، وكانت الفرصة الذهبية المطلوبة أمريكياً هي أن يصل إلى ما يريد من إسقاط الأمن الفلسطيني في مشروعه السياسي لحساب الأمن الإسرائيلي في مشروعه السياسي.. وبقيت الاجتماعات العربية على مستوى وزراء الخارجية وعلى صعيد القمة قرارات توضع في الأدراج، وكلمات تتطاير في الهواء، وانتظاراً للقرار الأمريكي الضاغط الذي لن يأتي إلا بموافقة إسرائيل، التي لن توافق إلا إذا حققت كل مطالبها في دولة فلسطينية لا تملك أية مقوّمات أمنية أو جغرافية أو سياسية، بل تبقى هامشاً إسرائيلياً.. ولن تضغط أمريكا، بل ستعمل على إسقاط كل الضغوط العربية والإسلامية ـ إن وُجدت ـ ليتفرّغ العرب لانتفاضة شعوبهم المؤيدة للانتفاضة الفلسطينية، ليمنعوهم من التظاهر والاحتجاج، لأنهم سوف يسيئون إلى الأمن العام، ويتحركون في خط الإرهاب الذي تحدد أمريكا صفته وطريقة مواجهته؟!

كلمتنا... الاستمرار في الانتفاضة

أما كلمتنا التي نطلقها في السنة الجديدة للشعب الفلسطيني، ومعه الشعوب العربية والإسلامية، هي أن عليه الاستمرار في الانتفاضة في خطة متطوّرة تواجه المتغيّرات بواقعية سياسية جهادية متحركة، لأن التحالف الدولي المؤيد لإسرائيل ضد الانتفاضة، تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، يعمل من أجل إخراج إسرائيل من المأزق، وإبعاد السياسة الأمريكية عن كشف حقيقتها في مساندة الإرهاب الإسرائيلي، ليبقى لها بعض ماء الوجه السياسي في شعار الحرية والديمقراطية.. ولذلك، لا بدّ من إبقاء المأزق وإحراج السياسة الأمريكية في المنطقة والعالم الحرّ، بالاستمرار في الانتفاضة ودعم المجاهدين، وسيخضع الجميع ـ أخيراً ـ بالرغم من الجراح النازفة والآلام القاسية لفلسطين وشعبها ومستقبلها، لحركة الواقع في غد الحرية.

لماذا السكوت عن مجازر أفغانستان؟!

وفي أفغانستان تقتل أمريكا بين وقت وآخر مئات القرويين الفقراء بالقصف المدمّر، تحت شعار ملاحقة عناصر "طالبان" و"القاعدة"، مما تتحدث فيه عن الأخطاء التي تؤدي إلى المأساة.. والعالم يتفرّج، والحضارة الغربية الحاقدة على شعوب العالم الثالث تبرر، ومنظمة المؤتمر الإسلامي لا تحرك ساكناً، والحكومة الأفغانية الجديدة تخضع للقرار الأمريكي في استمرار القصف الوحشي بعد أن قدّمت الاعتراض على ذلك، لأنها لا تملك حولاً ولا قوة أمام الجيش الأمريكي..

والسؤال: كيف يقف العالم الإسلامي أمام هذه المجازر التي لا تزال أمريكا الحاقدة ظامئة إلى كل الدماء النازفة منها، لأنها تعمل على استعادة عنفوانها، وإعادة العصر الأمريكي الذي يخضع العالم له.. إنهم يريدون تأكيد صراع الحضارات بإسقاط كل مواقع الحضارة الإسلامية، ولكن باسم محاربة الإرهاب، وهم يصنعون في هذه السنة الجديدة حركة الإرهاب الدولي ضد صرخات الشعوب الباحثة عن أمنها المسلوب، واقتصادها المنهوب، وسياستها الضائعة في المشروع الأمريكي الوحشي.

أي لبنان نريد؟!

ويبقى لبنان السفينة السائرة في بحر متلاطم الأمواج، باحثة عن شاطئ الأمان، ولكن الناس أضاعوا البوصلة التي تهديهم إليه، ولذلك فهم ينتقلون من موجة داخلية إلى موجة إقليمية فموجة دولية، وهم يتناقشون في جنس الملائكة، والمحتل لا يزال في داخل الأرض، والظلام يتنقل بين منطقة وأخرى في الصباح والمساء، والناس عطاشى في وطن الينابيع التي تذهب إلى البحر، والأرض الخضراء تتصحّر، والبلد الجميل يستسلم لكل ملامح القبح، والجدل يتصاعد، والوطن يضيع، والكل ينادون الليل في كل أغنياتهم ولا نشيد للفجر.. ويبقى الجدل: أي لبنان نريد؟ والكل يريدون لبنان الطائفة والامتيازات الضيّقة، ويبقى لبنان الإنسان ضائعاً بين مجالس الطوائف!!

لأن الأمة التي تنسى ماضيها تفقد مستقبلها وهويتها:
التاريخ الهجري رمزٌ لحركة الإسلام في التاريخ


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

 التاريخ يمثل الشخصية التاريخية للأمة:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون *ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}. استقبلنا قبل أيام رأس السنة الميلادية الجديدة، وقد تحدثنا أكثر من مرة بأننا ننفتح على السنة الميلادية ألفان واثنتان من موعد ميلاد السيد المسيح(ع)، كما ننفتح على السنة الهجرية 1422 من هجرة النبي(ص)، لأن القرآن الكريم يقول: {لا نفرق بين أحد من رسله}، فنحن نؤمن بالسيد المسيح(ع) بأنه عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، كما نؤمن بمحمد (ص).

ولكننا أكدنا أكثر من مرة أن التاريخ في كل أمة يمثل الشخصية التاريخية التي تجمع كل نتاج الأمة في كل تاريخها منذ ولادتها، فنحن ـ كمسلمين ـ يمثل التاريخ الهجري بالنسبة إلينا كل حركة الإسلام في التاريخ، منذ انطلق النبي (ص) بالإسلام وتحرك المسلمون في مسيرته، وفي فتوحاتهم وانتصاراتهم وهزائمهم، وفي نقاط ضعفهم ونقاط قوتهم، وهو يمثل الغنى الثقافي من خلال الحضارة الإسلامية التي انتشرت في العالم، ومن خلال الشخصيات التاريخية من الإسلامية القيادية في المجالات السياسية والدينية والاجتماعية وغيرها من المجالات، فالإنسان عندما يستذكر التاريخ الهجري يستذكر كل تاريخه، وبذلك يعيش الشخصية الإسلامية التاريخية، ومن خلال ذلك ينفتح على مسؤوليته عن صنع التاريخ للمستقبل.

وقد لخّص القرآن الكريم هذه الفكرة عندما أعطى صفة الأمة: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، بحيث ركّز على أن شخصية الأمة هي الشخصية المتحركة في الأمر بكل ما يرفع مستوى الناس وهو المعروف، وفي النهي عن كل ما يسقط مستواهم وهو المنكر، وفي الانفتاح على الإيمان بالله، وهذا يجعلنا نحس بأننا جزء من أمة، وعظمة الأمة بتاريخها الذي صنعته الأجيال السابقة، وبمستقبلها الذي تصنعه أجيالها المقبلة، وهو ما أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}.

لذلك، نحن نتحدث دائماً معكم ومع كل أخواننا وأخواتنا، أنه يجب أن يكون التاريخ الهجري أصيلاً عندنا، في مراسلاتنا ومعاملاتنا وتجاراتنا، لا بأس بكتابة التاريخ الميلادي إلى جانب التاريخ الهجري، ولكن المسألة هي أنّ العالم كله يأخذ بالتاريخ الميلادي فبدأنا ننسى التاريخ الهجري، بحيث أن الكثير من المسلمين لا يعرفون التاريخ الهجري والأشهر الهجرية ورأس السنة الهجرية. ولذلك فإن الأمة التي تنسى تاريخها هي أمة تنسى مستقبلها وشخصيتها، نحن لا نتعقّد من التاريخ المسيحي ولا من التاريخ العبري الذي يتصل بموسى(ع)، ولا من أي تاريخ آخر، لأننا لا نريد إلغاء تاريخ الأمم، ولكننا نؤكد أن كل أمة لها هويتها، ومن المفروض أن تكون هويتنا هي الهوية الإسلامية المنفتحة على المسيحية وكل الديانات.

عادات الغرب الوثنية تغزو مجتمعاتنا

لذلك، علّموا أنفسكم وأهليكم التاريخ الإسلامي، وليس من الضروري أن تغفلوا التاريخ المسيحي.

 ثانياً: رأس السنة يمثل الحاجز الزمني بين تاريخ وتاريخ، بين سنة مرت وسنة جديدة تأتي، أولاً ما هو إيحاء رأس السنة عندنا؟ بعض الناس يفكرون أنه في رأس السنة لا بد للإنسان أن يعبث ويرقص ويغني، وهذه عادات وفدت إلينا من الغرب الوثني لا المسيحي، لأن المسيحية في أصالتها تبعدك عن كل لهو وعبث يسقط الجانب الأخلاقي للإنسان، وعندما يمارس المسيحيون أسباب اللهو والعبث الفاحش تماماً كما يمارس بعض المسلمين ذلك، فإنما يمارسونه بصفتهم اللاهية العابثة التي تقلد الغرب. وما نلاحظه في احتفالات رأس السنة في العالم من جنون، وقد بدأ يزحف إلينا، لماذا؟ لأن هناك سنة جديدة أقبلت؟: أن تقبل سنة جديدة معناه أن هناك حركية إنسانية جديدة، ومستقبلاً جديداً لا بدّ أن يُصنع، ونحن نلاحظ أن المصارف في رأس السنة تكون في حالة طوارئ لتحسب حسابات الربح والخسارة، فهل الربح والخسارة في الأموال فقط؟ نحن كمسلمين أرباحنا هي الحسنات التي تقربنا إلى الله، وخسائرنا هي السيئات التي تبعدنا عن الله في يوم القيامة ليس هناك عملة نقدية من دولار ويورو وغيرهما، هناك خير وشر، وهذه هي عملة الآخرة.

لنجعل الزمن في مرضاة الله

فمسألة الخسارة والربح عندنا هي ما نقدم من عمل، عندما ينقضي تاريخ، ويأتي تاريخ المفروض أن نبحث عمّا استطعنا أن نكوّنه من رصيد في ما مضى من التاريخ من الحسنات ومن السيئات، وفي التوجيه الإسلامي المسألة ليست فقط السنة، بل اليوم، وهناك دعاء للإمام زين العابدين(ع) وهو "دعاء الصباح والمساء"، وقد دعوتكم مراراً لقراءة ثلاثة كتب بشكل أساسي، وهي القرآن الكريم ونهج البلاغة والصحيفة السجادية، يقول الإمام زين العابدين في دعائه: "اللهم وهذا يوم حادث جديد ـ ونستطيع أن نقول: وهذا عام حادث جديد ـ وهو علينا شاهد عتيد ـ الزمن يشهد علينا أمام الله ويرحّب بنا أو يغضب منا ـ إن أحسنا ودّعنا بحمد، وإن اسأنا فارقنا بذم، اللهم فارزقنا حسن مصاحبته، واعصمنا من سوء مفارقته بارتكاب جريرة أو اقتراف صغيرة أو كبيرة، وأخلنا فيه من السيئات".. عندما يأتي اليوم والأسبوع والشهر والعام، يجب أن نتوقف ملياً عنده لنستعيد فيه ما مضى ونفكر كيف نخطّط لما يأتي.

ولنلاحظ كيف كان الإمام زين العابدين يخطط ليكون يومه يوماً مملوءاً بما يحبه الله: "اللهم وفقنا في يومنا هذا ـ وفي عامنا هذا ـ وليلتنا هذه لاستعمال الخير وهجران الشر وشكر النعم، واتباع السنن ومجانبة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحياطة الإسلام وانتقاص الباطل وإذلاله ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال ومعاونة الضعيف وإدراك اللهيف". هذه النقاط تمثل خطوط الخير التي تقربنا إلى الله في المسألة الشخصية والاجتماعية والسياسية، ليكون يومنا منطلقاً من خطة ندرس فيها القضايا التي نملأ بها يومنا، ليكون يوماً إسلامياً يقربنا إلى الله ويرتفع بنا إلى مواقع رضوانه. وهناك نقطة لا بد أن نفكر فيها، وهي أن كل واحد منا سيمضي إلى مصيره المحتوم: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، فكل يوم يمر علينا نقترب من النهاية، لأن الإنسان يكون في قمة عمره يوم ولادته وكل يوم يمضي فإنه ينقص من العمر يوماً، فكلما يأتي الزمن فإنه يقترب من الهدف، وعندما يصل ألا يريد أن يجد رصيداً له في آخرته؟ هذا ما تشير إليه الآية الكريمة التي تلوناها: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ـ راقبوا الله في أعمالكم وكلماتكم وتأييدكم ورفضكم وعلاقاتكم ـ ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ـ والمقصود بالغد هو غد الآخرة.

ونستوحي منها أن الإنسان لا بدّ أن يفكر في حاضره لمستقبله، فهذا اليوم ألا يستحق أن نستعد له، أو لا بدّ أن "نفرفش" على طريقة بعض الناس الذين يطلقون الرصاص في آخر السنة، هذه العادة لم نستطع أن نجد لها فلسفة لا في الدين ولا في الحضارة ولا في الاقتصاد، بالإضافة إلى المفرقعات التي نربي عليها أولادنا تربية متخلّفة، هذه العادات التي جاءتنا من الغرب، ما هي الفائدة منها؟. لا بدّ أن نثقف أولادنا على حب الهدوء وعلى الإحساس  بمشاعر الناس الآخرين، لماذا نحن معنيون أن تكون مناطقنا الإسلامية مناطق غير مؤهلة للراحة؟ هذا تخلّف ـ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ـ اجعلوا الله دائماً نصب أعينكم، عندما تأكل وتشرب وتعيش لذاتك وشهواتك ـ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ـ عندما تذكر الله تذكر نفسك ومسؤوليتك، وعندما تنسى الله فإنك تنسى نفسك وتتذكر الشيطان ـ أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}، هذه شهادة النجاح، والشهادة لا تأتي بالمجان، بل من خلال الدرس والعمل..

 لنعش طوارىء إيمانية في رأس السنة

في رأس السنة لا بد أن نعيش حالة طوارئ، وهذا ما عبّرت عنه بعض الأحاديث، وقد جاء عن النبي(ص): "ألا وإنكم في يوم عمل لا حساب فيه، ويوشك أن تكونوا في يوم حساب ليس فيه عمل، لا يكون الرجل ـ والمرأة أيضاً ـ من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه ومشربه وملبسه، من حلّ أو من حرام"، وعنه(ص): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر"، يوم تعرضون على الله تعالى في يوم المحشر. ويقول النبي(ص): "أكيس الكيّسين ـ والكيّس هو العاقل ـ من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقى من أتبع نفسه هواه وتمنى على الله الأماني". وعن الإمام الكاظم(ع): "ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد منه وحمد الله عليه، وإن عمل شراً استغفر الله منه وتاب إليه".

وعن الإمام الصادق(ع): "إذا أويت إلى فراشك فانظر ما سلكت في بطنك وما كسبت في يومك، واذكر أنك ميت وأن لك معاداً". وفي كلمة للإمام علي(ع) وقد سئل عن كيفية محاسبة النفس قال: "إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك، والله سائلك عنه فيم أفنيته يا نفس وما الذي عملت فيه، أذكرت الله في هذا اليوم أم حمدتيه، أقضيت حق أخ مؤمن، أنفست عنه كربته، أحفظته في ظهر الغيب، أحفظته بعد الموت في مخلّفيه، أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، أأعنت مسلماً، فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عزّ وجل وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله وعزم على ترك معاودته"..

وعلى ضوء هذا، لا بدّ أن نذكر الموقف أمام الله عندما يأتي النداء: {وقفوهم إنهم مسؤولون}، ويقول الله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في ما تستقبلون من عمركم، لتؤكدوا إخلاصكم لله في ذلك، ورغبتكم في القرب منه وتحملكم مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إياها في الأمور الخاصة والعامة، ولا سيما في ما تواجهه الأمة من التحديات من قِبَل الأعداء من أجل إسقاط أمنها واقتصادها وسياستها، وعلينا أن نعيش دائماً الاهتمام بأمور الأمة، وأن يكون لنا وعي قضاياها ومشاكلها، ووعي الوسائل التي يمكن أن نواجه من خلالها هذه التحديات، وفي الدنيا الكثير مما يتحدى به المستكبرون المستضعفين، وهذا ما يجب أن نستعد له، فتعالوا لنرى ماذا هناك في السنة الميلادية الجديدة:

سعي لإضاعة القضية الفلسطينية

القضية الفلسطينية تغرق في التفاصيل في مشروع "ميتشل" ومقررات "تينيت".. والكل يعرف أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وهذا ما يحرّكه الشيطان الأمريكي المتحالف مع الشيطان الإسرائيلي من أجل إضاعة القضية الفلسطينية المركزية، وهي مسألة الاحتلال الصهيوني للوطن الفلسطيني.

فأمريكا ليست مستعدة للاعتراف بهذا الاحتلال، لأن المسألة عندها هي أنّ هناك أرضاً متنازعاً عليها، وأن المفاوضات هي السبيل لحل هذا النزاع!! ولكن المفاوضات السياسية خاضعة للشروط الأمنية الإسرائيلية التي تدور في حلقة مفرغة، فالحصار يجتذب الموقف الدفاعي الفلسطيني الذي يعمل العدو على استغلاله للمزيد من القصف والقتل والدمار الذي يزيد الأرض اشتعالاً..

ورئيس السلطة الفلسطينية في الإقامة الجبرية في "رام الله"، وأمريكا لا تضغط لإطلاق سراحه، لأنها تلتقي مع "شارون" في مطالبته بتصفية الانتفاضة وإسقاط بنيتها التحتية، ومحاكمة كوادرها لأنهم قاوموا المحتل، ما يعني بأن عليه أن يحاكم انتفاضة الشعب الفلسطيني نفسه.. والمبعوث الأمريكي يغرق في التفاصيل الأمنية، أما التفاصيل السياسية في مشروع الدولة وفي عودة اللاجئين والقدس وإزالة المستوطنات، فإنها تبقى في متاهات المواعيد التي لا تقف عند زمن محدد وثابت..

   كلمات العرب تتطاير في الهواء

أما العرب الذين تحدثوا عن ضرورة إعطاء "شارون" الفرصة عندما فاز في الانتخابات، فلم يضغطوا عليه استجابة للراعي الأمريكي، وكانت الفرصة الذهبية المطلوبة أمريكياً هي أن يصل إلى ما يريد من إسقاط الأمن الفلسطيني في مشروعه السياسي لحساب الأمن الإسرائيلي في مشروعه السياسي.. وبقيت الاجتماعات العربية على مستوى وزراء الخارجية وعلى صعيد القمة قرارات توضع في الأدراج، وكلمات تتطاير في الهواء، وانتظاراً للقرار الأمريكي الضاغط الذي لن يأتي إلا بموافقة إسرائيل، التي لن توافق إلا إذا حققت كل مطالبها في دولة فلسطينية لا تملك أية مقوّمات أمنية أو جغرافية أو سياسية، بل تبقى هامشاً إسرائيلياً.. ولن تضغط أمريكا، بل ستعمل على إسقاط كل الضغوط العربية والإسلامية ـ إن وُجدت ـ ليتفرّغ العرب لانتفاضة شعوبهم المؤيدة للانتفاضة الفلسطينية، ليمنعوهم من التظاهر والاحتجاج، لأنهم سوف يسيئون إلى الأمن العام، ويتحركون في خط الإرهاب الذي تحدد أمريكا صفته وطريقة مواجهته؟!

كلمتنا... الاستمرار في الانتفاضة

أما كلمتنا التي نطلقها في السنة الجديدة للشعب الفلسطيني، ومعه الشعوب العربية والإسلامية، هي أن عليه الاستمرار في الانتفاضة في خطة متطوّرة تواجه المتغيّرات بواقعية سياسية جهادية متحركة، لأن التحالف الدولي المؤيد لإسرائيل ضد الانتفاضة، تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، يعمل من أجل إخراج إسرائيل من المأزق، وإبعاد السياسة الأمريكية عن كشف حقيقتها في مساندة الإرهاب الإسرائيلي، ليبقى لها بعض ماء الوجه السياسي في شعار الحرية والديمقراطية.. ولذلك، لا بدّ من إبقاء المأزق وإحراج السياسة الأمريكية في المنطقة والعالم الحرّ، بالاستمرار في الانتفاضة ودعم المجاهدين، وسيخضع الجميع ـ أخيراً ـ بالرغم من الجراح النازفة والآلام القاسية لفلسطين وشعبها ومستقبلها، لحركة الواقع في غد الحرية.

لماذا السكوت عن مجازر أفغانستان؟!

وفي أفغانستان تقتل أمريكا بين وقت وآخر مئات القرويين الفقراء بالقصف المدمّر، تحت شعار ملاحقة عناصر "طالبان" و"القاعدة"، مما تتحدث فيه عن الأخطاء التي تؤدي إلى المأساة.. والعالم يتفرّج، والحضارة الغربية الحاقدة على شعوب العالم الثالث تبرر، ومنظمة المؤتمر الإسلامي لا تحرك ساكناً، والحكومة الأفغانية الجديدة تخضع للقرار الأمريكي في استمرار القصف الوحشي بعد أن قدّمت الاعتراض على ذلك، لأنها لا تملك حولاً ولا قوة أمام الجيش الأمريكي..

والسؤال: كيف يقف العالم الإسلامي أمام هذه المجازر التي لا تزال أمريكا الحاقدة ظامئة إلى كل الدماء النازفة منها، لأنها تعمل على استعادة عنفوانها، وإعادة العصر الأمريكي الذي يخضع العالم له.. إنهم يريدون تأكيد صراع الحضارات بإسقاط كل مواقع الحضارة الإسلامية، ولكن باسم محاربة الإرهاب، وهم يصنعون في هذه السنة الجديدة حركة الإرهاب الدولي ضد صرخات الشعوب الباحثة عن أمنها المسلوب، واقتصادها المنهوب، وسياستها الضائعة في المشروع الأمريكي الوحشي.

أي لبنان نريد؟!

ويبقى لبنان السفينة السائرة في بحر متلاطم الأمواج، باحثة عن شاطئ الأمان، ولكن الناس أضاعوا البوصلة التي تهديهم إليه، ولذلك فهم ينتقلون من موجة داخلية إلى موجة إقليمية فموجة دولية، وهم يتناقشون في جنس الملائكة، والمحتل لا يزال في داخل الأرض، والظلام يتنقل بين منطقة وأخرى في الصباح والمساء، والناس عطاشى في وطن الينابيع التي تذهب إلى البحر، والأرض الخضراء تتصحّر، والبلد الجميل يستسلم لكل ملامح القبح، والجدل يتصاعد، والوطن يضيع، والكل ينادون الليل في كل أغنياتهم ولا نشيد للفجر.. ويبقى الجدل: أي لبنان نريد؟ والكل يريدون لبنان الطائفة والامتيازات الضيّقة، ويبقى لبنان الإنسان ضائعاً بين مجالس الطوائف!!

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير