لأن التغيير يبدأ من خلال الذات.. غيّر نفسك تغيّر مصيرك والمستقبل

 غيّر نفسك تغيّر مصيرك والمستقبل
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
 
في البداية ، أحببت أن ألتقي معكم في صلاة الجمعة بعد استشارة الأطباء، فأسأل الله تعالى بدعائكم العافية.

التغيير يبدأ من داخل الإنسان

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب* ذلك بأن الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا أنفسهم وإن الله سميع عليم}. وفي آية أخرى يقول تعالى: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله لقوم سوءاً فلا مرد لهم}.

في هاتين الآيتين يؤكد الله تعالىعلى سنّة من سننه في الحياة، وهي أن الخارج هو صورة الداخل، فالإنسان عندما يتحرك في حياته الخاصة أو العامة، فإنما يتحرك من خلال ما يحمله في عقله من فكر، فالإنسان الذي يؤمن بالله يتحرك في الحياة من خلال حركة هذا الإيمان في أعماله وأقواله وعلاقاته، والإنسان الذي يكفر بالله يتحرك في الحياة من خلال هذا الكفر، باعتبار أنه حرّ في ما يقوم به، فيخضع للنفس الأمّارة بالسوء والطغاة والمنحرفين والظالمين الذين يحققون له مشتهياته، أو يفرضون عليه سلطتهم.

وهكذا، في كل حركة الإنسان في الواقع، فهناك فرق بين الإنسان التقي والإنسان الفاسق، فالإنسان التقي هو الإنسان الذي يعيش الخوف من الله والمحبة والرجاء له، بحيث يشعر برقابة الله عليه في فكره عندما يفكر، وفي كل سلوكه عندما ينطلق في الحياة، لأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. فإذا عاش هذه الرقابة الدقيقة من الله، فإنه يتحرك على أساس أنه بعين الله، سواء كان في سرّ أو في علن أو في خلوة أو مع الناس، أما الإنسان الفاسق الذي نسي ربه وغفل عن مقامه ولم يخفه، فإنه يشعر بالحرية في كل ما تشتهيه نفسه، وبذلك فإنه يفقد الضابطة التي تضبط له خطواته في الحياة، لأنه لا يملك القاعدة الإيمانية التقوائية التي تضبط له خطوط سيره. وهكذا بالنسبة إلى الجوانب الاجتماعية والسياسية، فالإنسان الذي لا يعيش المسؤولية في المجتمع، قد يتحرك لإثارة الفتنة فيه والعمل على الإضرار به، وفي المسألة السياسية، فإن الإنسان الذي لا يحمل همّ مصير أهله وبلده وأمته، ربما يقوم بالكثير من العلاقات والمواقف التأييدية أو الرافضة التي تضر بأمته وبلده، بينما ينطلق الإنسان الذي يعيش المسؤولية ليجعل خطواته خاضعة لما يصلح أمر أمته وبلده وأهله.

الإيمان أساس في مصير الإنسان

إن الله تعالى يقول للإنسان: غيّر نفسك تغيّر مصيرك، لأن مصيرك يتحرك من خلال إرادتك التي تتحرك بدورها من خلال فكرك ومشاعرك وأحاسيسك، ومن خلال خطك الذي تلتزمه في الحياة. وعلى ضوء هذا، أعطى الإسلام الأهمية الكبرى لمسألة الإيمان، فالإيمان هو الأساس في كل مصير الإنسان، ولهذا لم يحترم الإسلام العمل حتى لو كان صالحاً، إلا إذا كان مرتكزاً على أساس الإيمان. وهذا ما نلاحظه في قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن}، وفي قوله تعالى: {والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، فلا بد للإنسان من أن يعيش الإيمان في عقله وقلبه وإحساسه وشعوره، حتى يستطيع أن يضبط خط عمله في خط الاستقامة. ولذلك علينا أن نربي إيماننا بالله وروحية التقوى في كل وجداننا، حتى ننطلق من قاعدة.

ولأن للإيمان دوره وخطره، عمد الكافرون من جهة والمستكبرون من جهة أخرى، إلى أن ينفذوا الى عقولنا ليهزوا إيماننا في عقولنا، ولينحرفوا به عن الخط المستقيم، وليشوّهوا تصوراتنا للأشياء، وهذا ما نلاحظه الآن عندما بدأ الغرب بعد (11 أيلول) يتحدث عن ضرورة السيطرة من قبله على المدارس الدينية الإسلامية، ليتدخل في برامجها الفكرية التثقيفية التربوية، لأنه يعتقد بأن كل هذه الحملة الموجَّهة ضد سياسته وخططه واقتصاده، إنما انطلقت من خلال الفكر الإسلامي الذي يربي الإنسان على أن يكون عبداً لله وحده وحراً أمام العالم كله، كما يوحي للمستضعفين بأن عليكم أن لا تستضعفوا أنفسكم أمام المستكبرين، بل عليكم أن تأخذوا بأسباب القوة، لتواجهوا المستكبرين في استكبارهم.

المعاقبة بالمثـل

ومن الطبيعي أن الإسلام لم يشجّع المسلمين على الأعمال الإرهابية التي تطال المدنيين بدون أساس، لأن الله تعالى يرفض من الإنسان أن يعتدي: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، حتى أن الله يريد للإنسان إذا أراد أن يأخذ حقه أن يأخذه من دون زيادة: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. لذلك فقد انطلق المستكبرون في خطتهم هذه التي بدأوا ينفّذونها من خلال المسؤولين في البلاد الإسلامية ممن وظفوهم لحماية مصالحهم وتنفيذ خططهم، ليتدخلوا في شؤون المساجد، ليجعلوها خاضعة لخططهم، أو ليتدخلوا في المدارس ليجعلوها خاضعة لمناهجهم، لجعل الإسلام إسلاماً أمريكياً لا إسلاماً محمدياً أصيلاً، إنهم يريدون إسلاماً يسبّح بحمد الاستكبار ويقدّسه، يريدون إسلاماً لا ينطق بالحرية والكرامة. ولهذا، فقد عبثوا بكل الواقع الإسلامي، فأثاروا فيه الفتن الطائفية والمذهبية والقومية والعرقية والإقليمية، حتى يشغلوا المسلمين عن أصالة إسلامهم، ليسقطوا تحت تأثير هذه الفتن المتحركة في الواقع.

الحفاظ على صورة الإسلام الأصيل

لذلك، علينا أن نعمل على أساس مواجهة هذا الخطر الذي هو أخطر من السلاح، لأننا عندما نُغلب على أفكارنا وتشوّه صورة الإسلام في عقولنا، وعندما نتحرك من موقع الحرية التي أرادها الله لنا إلى موقع العبودية للاستكبار وللظالمين، فإننا سنسقط في كل قضايانا.. علينا أن نهتم بالتربية الإسلامية الأصيلة التي أراد الله تعالى لنا أن نتربى عليها، وأن نؤسس شخصيتنا على أساسها، فالله تعالى يقول لنا: {ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسّكم النار}، {إن ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}، إن علينا أن نعيش الإسلام الحرية والعدالة والأصالة، والإسلام الذي يجمع المسلمين كأمة واحدة ليعتصموا بحبل الله جميعاً لئلا يتفرقوا، وليواجهوا الاستكبار من موقع قوتهم التي أراد الله لهم أن يعدوها في داخل أنفسهم وحياتهم.

إن الله تعالى يقول: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}، لقد جعل الله تعالى أمرنا، من خلال ما أوكله إلينا في إرادتنا، بأيدينا، فقال لنا: ركزوا أفكاركم ومشاعركم وأحاسيسكم وعملكم في الخط المستقيم، وعند ذلك سوف تحصلون من الله على كل خير، {إن الذين قالوا ربنا الله ـ ولم يجعلوا هناك أرباباً من دون الله، أياً كان أولئك في مواقع الاستكبار ـ ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، {وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله}. وقد قالها رسول الله(ص): "يُحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة"، لذلك أخلصوا النيّات، أخلصوا الفكر وأصّلوه، لنكن المسلمين في أفكارنا وقلوبنا وحياتنا كلها، حتى لا يخدعنا المستكبرون والكافرون والمنافقون عن إسلامنا الأصيل بإسلام يصنعونه على قياس كفرهم وانحرافهم وضلالهم.
الخطبة الثانية
 
عباد الله.. اتقوا الله في الإسلام كله، في كل ما أرادكم الله أن تحفظوه وتصونوه وتقوّوه وتدعموه، لأن الإسلام هو أمانة الله ورسوله في أعناقكم، وعليكم أن تعملوا بكل قوتكم لتكونوا وحدة في كل مواقعكم، ليكون المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. إن القوم الآن يعملون بكل ما عندهم من قوة في سبيل أن يثيروا الفتن بينكم، سواء كانت هذه الفتن طائفية أو مذهبية أو حزبية أو قومية أو إقليمية، إن علينا أن نكون الواعين لذلك، لأنهم يريدون أن يشغلونا بأنفسنا وببعضنا البعض عن مواجهة كل خططهم الاستكبارية ومؤامراتهم السياسية والاقتصادية والأمنية، ونحن لا شغل لنا أمام كل غفلاتنا إلا أن نلاحق خبراً هنا وخبراً هناك، دون أن نحدد خطواتنا على مستوى المستقبل. لذلك، تعالوا لنتعرّف على مواقع أقدامنا ونحدد مواقفنا، فماذا هناك:

إنتفاضـة مستمرة

في فلسطين المحتلة انتفاضة شعب حيّ تتواصل وتصر على أن تهزم وحشية العدو وهمجيته، على الرغم من جبال الضغوط الهائلة التي تتوالى ضد هذا الشعب، الذي أثبت أن رحى الحرب الدائرة والمجازر المستمرة ضده لم تستطع أن تنال من عزيمته، ومن قدرته على مواجهة الإرهاب الصهيوني، بالإمكانيات المادية المتواضعة، والأجساد القوية، والهامات الثابتة التي تأبى الخضوع للاحتلال..

لقد قرر الشعب الفلسطيني المجاهد أن يواصل انتفاضته، غير عابئ بكل الضغوط الدولية والمحلية، وأن يتحدى "شارون" بهذه الروح الاستشهادية التي تؤكد للعالم كله بأن الدم يستسقي الدم، وأن سكوت هذا العالم وصمته أمام المجازر الإسرائيلية التي تُرتكب ضد هذا الشعب، أو موافقته عليها، لن تجعل الفلسطينيين يعطون لعدوّهم إعطاء الذليل أو يقرّون له إقرار العبيد.

وفي فلسطين المحتلة تريد أمريكا للسلطة السجينة في "رام الله" في زنزانة إسرائيلية، أن تتحوّل إلى سجّان لمجاهدي الانتفاضة في زنزانة فلسطينية، لأنهم اغتالوا مسؤولاً صهيونياً هنا وقاموا بعمليات جهادية ضد الاحتلال هناك، وأصرّوا على الاستمرار في انتفاضتهم حتى التحرير، لأن إسرائيل ترى الانتفاضة إرهاباً ضد كيانها، ولأن أمريكا المتحالفة أبداً معها ترى الحرب على الانتفاضة جزءً من الحرب على ما تسميه الإرهاب، ولذا المطلوب ـ أمريكياً وإسرائيلياً ـ تفكيكها وإنهائها، لينتهي "العنف الفلسطيني" وليبقى العنف الإسرائيلي يمارس حريته ضد الشعب الفلسطيني، فيهدم البيوت ويشرّد أطفالها ونساءها وشيوخها، ويجرف المزارع، ويقتل الناس عشوائياً، ويحاصر البلاد كلها، ليأتي الموفد الأمريكي ليساعد "شارون" على التحكّم بالفلسطينيين في برنامجه الاستيطاني الذي يصادر فيه مستقبل الشعب الفلسطيني باسم المفاوضات، التي لا يملك فيها الفلسطينيون أية أوراق..

لقد أدخلت أمريكا فلسطين في دائرة حربها ضد ما تسميه الإرهاب، وجاءت بالتحالف الدولي معها لتضع اللمسات الأخيرة على مشروعها التاريخي في المنطقة، وهو الأمن المطلق لإسرائيل ضد أمن المنطقة العربية والإسلامية كلها، التي لا بد لها أن تخضع للحلف الأمريكي ـ الإسرائيلي الاستراتيجي الذي يصادر السياسة والأمن والاقتصاد لحساب مصالحه الاستكبارية.

إن ما يقوم به الشعب الفلسطيني هو جزء من عملية تحرر من هذا السجن المزدوج، لتكون له حربه ضد إرهاب الدولة الصهيونية، ليؤكد للعالم كله أن الحرب على الإرهاب هي حرب الشعب المضطَهَد على الإرهاب الأمريكي والإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية كلها، وليست حرب أمريكا على الشعوب الحرّة المعارضة للسياسة الأمريكية.

ضغط أمريكي على المنطقة

وفي هذا الاتجاه، تتوالى الوفود الأمريكية على المنطقة، لتضغط على أكثر من مسؤول ليقوم بالضغط على شعبه، ولتتدخّل في شؤونه السياسية والاقتصادية، ولتحاصر جمعياته الخيرية في مواردها ومصادرها، وفي جمعياته الدينية الإسلامية في برامجها التربوية وفي أساليبها التعليمية، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ من الجميع الخضوع للسيد الأمريكي الذي يريد للعالم أن يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، فإما أن يكون معه في كل مشاريعه الحربية والسلمية وإما أن يكون ضده، ليتحمّل مسؤولية الحرب عليه باسم مشروع الحرب على الإرهاب الذي يجر معه كل دول الاستكبار العالمي، وليس لأحد الحرية في أن يختار، لأن الديمقراطية حكر على الإدارة الأمريكية لا على الشعوب، ولا سيما شعوب العالم الثالث..

وهذا هو الذي عشناه في الفترة الأخيرة التي بدأت فيها أمريكا توزّع القلق على أكثر من بلد في المنطقة، لتثير فيه الإرباك السياسي والاقتصادي وربما الأمني. من هنا، فإن على الشعوب العربية والإسلامية أن تتدبّر أمرها ولا تسقط تحت تأثير التهاويل التخويفية، بل أن تمارس دورها في التخطيط الدقيق لحماية قضاياها من كل خطة عدوانية جديدة، هذا إذا كانت تريد ضمان الحرية والاستقلال، والثبات على الهوية الإنسانية في المستقبل.

دولة المؤسسات للوطن

وفي الشأن اللبناني، تكبر الدولة عندما تتحوّل إلى دولة مؤسسات للوطن كله، من دون أن تخضع لأية خلفيات داخلية أو خارجية أو شخصانية، لأنها بذلك تمثّل دولة الشعب لا دولة هذه الجهة أو تلك، أو هذا الشخص أو ذاك، وتحقق دولة الإنسان الذي يريد أن يعيش حراً كريماً عزيزاً، لا يستعبده الآخرون تحت تأثير حاجاته المرتبطة بمواقع النفوذ السياسية والإدارية، أو مواقعه الوظيفية الخاضعة للحصص الموزّعة هنا وهناك.

إن قيمة لبنان في ميزان الحضارة أن يكون دولة الإنسان لا دولة الطائفة أو دولة الأشخاص، ليطل على المستقبل بإنسانيته المنفتحة على القضايا الكبرى للمواطن كله وللإنسان كله.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
 
في البداية ، أحببت أن ألتقي معكم في صلاة الجمعة بعد استشارة الأطباء، فأسأل الله تعالى بدعائكم العافية.

التغيير يبدأ من داخل الإنسان

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب* ذلك بأن الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا أنفسهم وإن الله سميع عليم}. وفي آية أخرى يقول تعالى: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله لقوم سوءاً فلا مرد لهم}.

في هاتين الآيتين يؤكد الله تعالىعلى سنّة من سننه في الحياة، وهي أن الخارج هو صورة الداخل، فالإنسان عندما يتحرك في حياته الخاصة أو العامة، فإنما يتحرك من خلال ما يحمله في عقله من فكر، فالإنسان الذي يؤمن بالله يتحرك في الحياة من خلال حركة هذا الإيمان في أعماله وأقواله وعلاقاته، والإنسان الذي يكفر بالله يتحرك في الحياة من خلال هذا الكفر، باعتبار أنه حرّ في ما يقوم به، فيخضع للنفس الأمّارة بالسوء والطغاة والمنحرفين والظالمين الذين يحققون له مشتهياته، أو يفرضون عليه سلطتهم.

وهكذا، في كل حركة الإنسان في الواقع، فهناك فرق بين الإنسان التقي والإنسان الفاسق، فالإنسان التقي هو الإنسان الذي يعيش الخوف من الله والمحبة والرجاء له، بحيث يشعر برقابة الله عليه في فكره عندما يفكر، وفي كل سلوكه عندما ينطلق في الحياة، لأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. فإذا عاش هذه الرقابة الدقيقة من الله، فإنه يتحرك على أساس أنه بعين الله، سواء كان في سرّ أو في علن أو في خلوة أو مع الناس، أما الإنسان الفاسق الذي نسي ربه وغفل عن مقامه ولم يخفه، فإنه يشعر بالحرية في كل ما تشتهيه نفسه، وبذلك فإنه يفقد الضابطة التي تضبط له خطواته في الحياة، لأنه لا يملك القاعدة الإيمانية التقوائية التي تضبط له خطوط سيره. وهكذا بالنسبة إلى الجوانب الاجتماعية والسياسية، فالإنسان الذي لا يعيش المسؤولية في المجتمع، قد يتحرك لإثارة الفتنة فيه والعمل على الإضرار به، وفي المسألة السياسية، فإن الإنسان الذي لا يحمل همّ مصير أهله وبلده وأمته، ربما يقوم بالكثير من العلاقات والمواقف التأييدية أو الرافضة التي تضر بأمته وبلده، بينما ينطلق الإنسان الذي يعيش المسؤولية ليجعل خطواته خاضعة لما يصلح أمر أمته وبلده وأهله.

الإيمان أساس في مصير الإنسان

إن الله تعالى يقول للإنسان: غيّر نفسك تغيّر مصيرك، لأن مصيرك يتحرك من خلال إرادتك التي تتحرك بدورها من خلال فكرك ومشاعرك وأحاسيسك، ومن خلال خطك الذي تلتزمه في الحياة. وعلى ضوء هذا، أعطى الإسلام الأهمية الكبرى لمسألة الإيمان، فالإيمان هو الأساس في كل مصير الإنسان، ولهذا لم يحترم الإسلام العمل حتى لو كان صالحاً، إلا إذا كان مرتكزاً على أساس الإيمان. وهذا ما نلاحظه في قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن}، وفي قوله تعالى: {والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، فلا بد للإنسان من أن يعيش الإيمان في عقله وقلبه وإحساسه وشعوره، حتى يستطيع أن يضبط خط عمله في خط الاستقامة. ولذلك علينا أن نربي إيماننا بالله وروحية التقوى في كل وجداننا، حتى ننطلق من قاعدة.

ولأن للإيمان دوره وخطره، عمد الكافرون من جهة والمستكبرون من جهة أخرى، إلى أن ينفذوا الى عقولنا ليهزوا إيماننا في عقولنا، ولينحرفوا به عن الخط المستقيم، وليشوّهوا تصوراتنا للأشياء، وهذا ما نلاحظه الآن عندما بدأ الغرب بعد (11 أيلول) يتحدث عن ضرورة السيطرة من قبله على المدارس الدينية الإسلامية، ليتدخل في برامجها الفكرية التثقيفية التربوية، لأنه يعتقد بأن كل هذه الحملة الموجَّهة ضد سياسته وخططه واقتصاده، إنما انطلقت من خلال الفكر الإسلامي الذي يربي الإنسان على أن يكون عبداً لله وحده وحراً أمام العالم كله، كما يوحي للمستضعفين بأن عليكم أن لا تستضعفوا أنفسكم أمام المستكبرين، بل عليكم أن تأخذوا بأسباب القوة، لتواجهوا المستكبرين في استكبارهم.

المعاقبة بالمثـل

ومن الطبيعي أن الإسلام لم يشجّع المسلمين على الأعمال الإرهابية التي تطال المدنيين بدون أساس، لأن الله تعالى يرفض من الإنسان أن يعتدي: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، حتى أن الله يريد للإنسان إذا أراد أن يأخذ حقه أن يأخذه من دون زيادة: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. لذلك فقد انطلق المستكبرون في خطتهم هذه التي بدأوا ينفّذونها من خلال المسؤولين في البلاد الإسلامية ممن وظفوهم لحماية مصالحهم وتنفيذ خططهم، ليتدخلوا في شؤون المساجد، ليجعلوها خاضعة لخططهم، أو ليتدخلوا في المدارس ليجعلوها خاضعة لمناهجهم، لجعل الإسلام إسلاماً أمريكياً لا إسلاماً محمدياً أصيلاً، إنهم يريدون إسلاماً يسبّح بحمد الاستكبار ويقدّسه، يريدون إسلاماً لا ينطق بالحرية والكرامة. ولهذا، فقد عبثوا بكل الواقع الإسلامي، فأثاروا فيه الفتن الطائفية والمذهبية والقومية والعرقية والإقليمية، حتى يشغلوا المسلمين عن أصالة إسلامهم، ليسقطوا تحت تأثير هذه الفتن المتحركة في الواقع.

الحفاظ على صورة الإسلام الأصيل

لذلك، علينا أن نعمل على أساس مواجهة هذا الخطر الذي هو أخطر من السلاح، لأننا عندما نُغلب على أفكارنا وتشوّه صورة الإسلام في عقولنا، وعندما نتحرك من موقع الحرية التي أرادها الله لنا إلى موقع العبودية للاستكبار وللظالمين، فإننا سنسقط في كل قضايانا.. علينا أن نهتم بالتربية الإسلامية الأصيلة التي أراد الله تعالى لنا أن نتربى عليها، وأن نؤسس شخصيتنا على أساسها، فالله تعالى يقول لنا: {ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسّكم النار}، {إن ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}، إن علينا أن نعيش الإسلام الحرية والعدالة والأصالة، والإسلام الذي يجمع المسلمين كأمة واحدة ليعتصموا بحبل الله جميعاً لئلا يتفرقوا، وليواجهوا الاستكبار من موقع قوتهم التي أراد الله لهم أن يعدوها في داخل أنفسهم وحياتهم.

إن الله تعالى يقول: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}، لقد جعل الله تعالى أمرنا، من خلال ما أوكله إلينا في إرادتنا، بأيدينا، فقال لنا: ركزوا أفكاركم ومشاعركم وأحاسيسكم وعملكم في الخط المستقيم، وعند ذلك سوف تحصلون من الله على كل خير، {إن الذين قالوا ربنا الله ـ ولم يجعلوا هناك أرباباً من دون الله، أياً كان أولئك في مواقع الاستكبار ـ ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، {وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله}. وقد قالها رسول الله(ص): "يُحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة"، لذلك أخلصوا النيّات، أخلصوا الفكر وأصّلوه، لنكن المسلمين في أفكارنا وقلوبنا وحياتنا كلها، حتى لا يخدعنا المستكبرون والكافرون والمنافقون عن إسلامنا الأصيل بإسلام يصنعونه على قياس كفرهم وانحرافهم وضلالهم.
الخطبة الثانية
 
عباد الله.. اتقوا الله في الإسلام كله، في كل ما أرادكم الله أن تحفظوه وتصونوه وتقوّوه وتدعموه، لأن الإسلام هو أمانة الله ورسوله في أعناقكم، وعليكم أن تعملوا بكل قوتكم لتكونوا وحدة في كل مواقعكم، ليكون المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. إن القوم الآن يعملون بكل ما عندهم من قوة في سبيل أن يثيروا الفتن بينكم، سواء كانت هذه الفتن طائفية أو مذهبية أو حزبية أو قومية أو إقليمية، إن علينا أن نكون الواعين لذلك، لأنهم يريدون أن يشغلونا بأنفسنا وببعضنا البعض عن مواجهة كل خططهم الاستكبارية ومؤامراتهم السياسية والاقتصادية والأمنية، ونحن لا شغل لنا أمام كل غفلاتنا إلا أن نلاحق خبراً هنا وخبراً هناك، دون أن نحدد خطواتنا على مستوى المستقبل. لذلك، تعالوا لنتعرّف على مواقع أقدامنا ونحدد مواقفنا، فماذا هناك:

إنتفاضـة مستمرة

في فلسطين المحتلة انتفاضة شعب حيّ تتواصل وتصر على أن تهزم وحشية العدو وهمجيته، على الرغم من جبال الضغوط الهائلة التي تتوالى ضد هذا الشعب، الذي أثبت أن رحى الحرب الدائرة والمجازر المستمرة ضده لم تستطع أن تنال من عزيمته، ومن قدرته على مواجهة الإرهاب الصهيوني، بالإمكانيات المادية المتواضعة، والأجساد القوية، والهامات الثابتة التي تأبى الخضوع للاحتلال..

لقد قرر الشعب الفلسطيني المجاهد أن يواصل انتفاضته، غير عابئ بكل الضغوط الدولية والمحلية، وأن يتحدى "شارون" بهذه الروح الاستشهادية التي تؤكد للعالم كله بأن الدم يستسقي الدم، وأن سكوت هذا العالم وصمته أمام المجازر الإسرائيلية التي تُرتكب ضد هذا الشعب، أو موافقته عليها، لن تجعل الفلسطينيين يعطون لعدوّهم إعطاء الذليل أو يقرّون له إقرار العبيد.

وفي فلسطين المحتلة تريد أمريكا للسلطة السجينة في "رام الله" في زنزانة إسرائيلية، أن تتحوّل إلى سجّان لمجاهدي الانتفاضة في زنزانة فلسطينية، لأنهم اغتالوا مسؤولاً صهيونياً هنا وقاموا بعمليات جهادية ضد الاحتلال هناك، وأصرّوا على الاستمرار في انتفاضتهم حتى التحرير، لأن إسرائيل ترى الانتفاضة إرهاباً ضد كيانها، ولأن أمريكا المتحالفة أبداً معها ترى الحرب على الانتفاضة جزءً من الحرب على ما تسميه الإرهاب، ولذا المطلوب ـ أمريكياً وإسرائيلياً ـ تفكيكها وإنهائها، لينتهي "العنف الفلسطيني" وليبقى العنف الإسرائيلي يمارس حريته ضد الشعب الفلسطيني، فيهدم البيوت ويشرّد أطفالها ونساءها وشيوخها، ويجرف المزارع، ويقتل الناس عشوائياً، ويحاصر البلاد كلها، ليأتي الموفد الأمريكي ليساعد "شارون" على التحكّم بالفلسطينيين في برنامجه الاستيطاني الذي يصادر فيه مستقبل الشعب الفلسطيني باسم المفاوضات، التي لا يملك فيها الفلسطينيون أية أوراق..

لقد أدخلت أمريكا فلسطين في دائرة حربها ضد ما تسميه الإرهاب، وجاءت بالتحالف الدولي معها لتضع اللمسات الأخيرة على مشروعها التاريخي في المنطقة، وهو الأمن المطلق لإسرائيل ضد أمن المنطقة العربية والإسلامية كلها، التي لا بد لها أن تخضع للحلف الأمريكي ـ الإسرائيلي الاستراتيجي الذي يصادر السياسة والأمن والاقتصاد لحساب مصالحه الاستكبارية.

إن ما يقوم به الشعب الفلسطيني هو جزء من عملية تحرر من هذا السجن المزدوج، لتكون له حربه ضد إرهاب الدولة الصهيونية، ليؤكد للعالم كله أن الحرب على الإرهاب هي حرب الشعب المضطَهَد على الإرهاب الأمريكي والإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية كلها، وليست حرب أمريكا على الشعوب الحرّة المعارضة للسياسة الأمريكية.

ضغط أمريكي على المنطقة

وفي هذا الاتجاه، تتوالى الوفود الأمريكية على المنطقة، لتضغط على أكثر من مسؤول ليقوم بالضغط على شعبه، ولتتدخّل في شؤونه السياسية والاقتصادية، ولتحاصر جمعياته الخيرية في مواردها ومصادرها، وفي جمعياته الدينية الإسلامية في برامجها التربوية وفي أساليبها التعليمية، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ من الجميع الخضوع للسيد الأمريكي الذي يريد للعالم أن يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، فإما أن يكون معه في كل مشاريعه الحربية والسلمية وإما أن يكون ضده، ليتحمّل مسؤولية الحرب عليه باسم مشروع الحرب على الإرهاب الذي يجر معه كل دول الاستكبار العالمي، وليس لأحد الحرية في أن يختار، لأن الديمقراطية حكر على الإدارة الأمريكية لا على الشعوب، ولا سيما شعوب العالم الثالث..

وهذا هو الذي عشناه في الفترة الأخيرة التي بدأت فيها أمريكا توزّع القلق على أكثر من بلد في المنطقة، لتثير فيه الإرباك السياسي والاقتصادي وربما الأمني. من هنا، فإن على الشعوب العربية والإسلامية أن تتدبّر أمرها ولا تسقط تحت تأثير التهاويل التخويفية، بل أن تمارس دورها في التخطيط الدقيق لحماية قضاياها من كل خطة عدوانية جديدة، هذا إذا كانت تريد ضمان الحرية والاستقلال، والثبات على الهوية الإنسانية في المستقبل.

دولة المؤسسات للوطن

وفي الشأن اللبناني، تكبر الدولة عندما تتحوّل إلى دولة مؤسسات للوطن كله، من دون أن تخضع لأية خلفيات داخلية أو خارجية أو شخصانية، لأنها بذلك تمثّل دولة الشعب لا دولة هذه الجهة أو تلك، أو هذا الشخص أو ذاك، وتحقق دولة الإنسان الذي يريد أن يعيش حراً كريماً عزيزاً، لا يستعبده الآخرون تحت تأثير حاجاته المرتبطة بمواقع النفوذ السياسية والإدارية، أو مواقعه الوظيفية الخاضعة للحصص الموزّعة هنا وهناك.

إن قيمة لبنان في ميزان الحضارة أن يكون دولة الإنسان لا دولة الطائفة أو دولة الأشخاص، ليطل على المستقبل بإنسانيته المنفتحة على القضايا الكبرى للمواطن كله وللإنسان كله.
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير