بالحوار والجدال بالتي هي أحسن: لنعش إنسانيتنا في إنسانية الآخر

بالحوار والجدال بالتي هي أحسن: لنعش إنسانيتنا في إنسانية الآخر

بالحوار والجدال بالتي هي أحسن: لنعش إنسانيتنا في إنسانية الآخر


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}، ويقول تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.

التعامل بالحكمة

يطرح الله تعالى في هاتين الآيتين وفي غيرهما من الآيات الكريمة على الناس كافة، أن عليهم في كل ما يريدون إبلاغه للناس، وفي كل ما يريدون للناس أن يؤمنوا به، ولا سيما عندما يراد لهم أن يأخذوا بالدين ويؤمنوا بعقيدته ومفاهيمه ومنهجه وشريعته، أن يتحركوا بالحكمة. والحكمة هي أن يضع الإنسان الشيء في موضعه، أن تدرس عقلية الشخص الذي تريد مخاطبته؛ ما هي نقاط ضعفه وقوته، ما هي الأمور التي تحيط به، ثم توجّه إليه الكلام بما يتناسب مع ذلك كله، لأن الإنسان الذي يريد أن يفتح عقل إنسان آخر على فكره أو على خطه، لا بد من أن يعرف الطريق التي توصل الفكرة إلى العقل...

وقد ذكرت مراراً أننا في كل العالم في حاجة إلى مهندسين للبيوت التي نسكنها، والطرق التي نسير عليها، وما إلى ذلك مما يراد إخراجه بطريقة متقنة تلبي الحاجة، كذلك نحن في حاجة إلى هندسة من نوع آخر، وهي أن تملك الثقافة التي تمكِّنك من هندسة الطريق إلى عقول الناس، وقد تحتاج إلى أن تختار الكلمة التي تخاطب القلب في كل مشاعره وأحاسيسه ونبضاته، لأنك عندما تصل إلى القلب فإنه يفتح لك العقل. ونحن نعرف أن كثيراً من الناس آمنوا من خلال المحبة التي يمنحها الداعية للإنسان الآخر، ولذلك كانت المحبة هي الأساس الذي ركّزت عليه كل الرسالات، ففي كلمة السيد المسيح(ع)، عندما أراد أن يختصر معنى الله في وعي الناس وعلاقتهم به قال: "الله محبة"، فالله تعالى أحبّ الخلق فخلقهم وأعطاهم كل هذا الوجود، وأنعم عليهم ورحمهم وغفر لهم، وهكذا نجد أن النبي (ص) قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها".

فأنت لا تستطيع أن تقنع الناس بالعنف والقسوة، ولكنك تستطيع أن تنقذهم بالمحبة والكلمة الطيبة التي تنطلق من قلب طيب ولسان ليّن، وهذا ما تحدث الله تعالى به عن النبي (ص): {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}. ولذلك، فإنّ الله تعالى يقول لنا عندما يحدثنا عن الحكمة التي أراد للنبي ولمن يتحرك في خطه أن يتحلى بها عندما يدعو إلى سبيل ربه، إلى أن علينا أن نقدم لمن ندعوه الموعظة التي تدخل إلى القلب من خلال أسلوبها الطيب الرقيق، ولتنفذ بعد ذلك إلى العقل.

أسلوب الحوار المثمـر

قد تختلف مع الآخرين بأن تلتزم ديناً غير الدين الذي يلتزمون به، أو أن تتحرك في خط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي غير الخط الذي يسيرون فيه، هنا لا ينبغي أن يكون الاختلاف بينك وبين الآخرين وسيلة عداوة. هب أنك تختلف معه: لك دين وله دين، لك فكر وله فكر، لك خط وله خط، ولكن ادرس المسألة بعقلك: لقد عاش هذا الإنسان في ظروف ثقافية أو اجتماعية جعلته يلتزم هذه الفكرة الدينية أو السياسية أو الثقافية، كما أن التزامك بهذه الفكرة كانت من خلال ظروفك، البيت والمدرسة والمجتمع، فلا تعنف مع الآخر عندما يختلف معك، ولا تقابله بالكلمة القاسية ولا ترجمه بالحجارة، ولكن قل له: تعالَ لنتجادل، والجدال هو الحوار الذي يتحرك في الخطوط الفكرية، لأقدّم وجهة نظري والحجة التي أحتجّ بها، ولتقدّم أنت وجهة نظرك، فإما أن تقنعني أو أقنعك، أو نتفاهم لأعرف كيف تفكر ولتعرف كيف أفكر، والحوار هو وسيلة للإقناع وللتفاهم.

فالخط الإسلامي ينطلق على أساس الوضوح والغموض. عندك فكر أو خط أو وجهة نظر اكشفها للناس، وليكشف الناس عن خطهم وفكرهم، وإلا لماذا يتقاطع الناس؟ لأن كل إنسان يخاف من المنطقة الخفيّة عند الآخر، والحديث المروي عن الإمام علي(ع) يقول: "لو تكاشفتم ـ لو أبرز كل واحد وجهة نظره، فلا تبقى هناك منطقة خفية يخاف منها الآخر ـ ما تدافنتم"، فالحوار الذي يشجعنا الإسلام عليه يؤدي إلى الوضوح بين بعضنا بعضاً. فإذا أردت أن تدخل مع أحد في هذا الجدال، فعليك أن تجادله بالتي هي أحسن، حتى يمكن أن تقتحم قلبه لتقتحم عقله.

وهكذا، يركّز الإسلام على الحوار بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب الذين يلتقون مع الإسلام في الخط التوحيدي، مع الاختلاف في مفردات التوحيد، فإذا أردنا أن نجلس مع النصارى للنظر في مسألة الدين النصراني، ومع اليهود للنظر في مسألة الدين اليهودي ـ باستثناء الذين ظلموا، لأن الظالمين لا يحاوروننا بل يظلموننا، ولذلك لا حوار معهم ـ فإن عليك أن تجادلهم بالتي هي أحسن، بأن تختار الكلمة الأحسن والظروف الأحسن والمناخ الأحسن للحوار، وقد قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا ـ نؤمن بالقرآن ـ وأُنزل إليكم ـ فإننا نؤمن بالإنجيل والتوراة ـ وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}، والإسلام لله، هو أن يجعل الإنسان نفسه تحت نظر الله والالتزام بخطه.

هذا هو خط الحوار والدعوة لمن نريد أن نجذبه إلينا ونقنعه بوجهة نظرنا، وخط الجدال مع الذي نختلف معه في الدين والسياسة والاجتماع، وهذا أمر يتحرك في كل خلية اجتماعية. ففي البيت، لا إشكال أن الزوج عاش في بيئة ـ غالباً ـ تختلف عن البيئة التي عاشت فيها الزوجة، فهما يحملان أفكاراً قد تختلف حتى على مستوى المشاعر والأحاسيس، والعقد الزوجي لا يمكن أن يساهم في إلغاء طرف للطرف الآخر، فيحاول الزوج أن يجعل زوجته صورة عن قناعاته وفكره وتقاليده وأحاسيسه، وحتى النبي(ص)، لم يعطه الله تعالى مثل هذه الصلاحيات: {...أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، {فذكّر إنما أنت مذكّر* لست عليهم بمصيطر}، فالله هو وحده الذي يغيّر الإنسان، ومع ذلك لم يتدخّل ليفرض عليهم الإيمان: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}، فالله تعالى ركّز الحياة الزوجية لا على أساس أن يلغي أحدهما الآخر، بل أمر الرجل والمرأة أن يختار كلٌّ منهما من يتناسب معه، وإذا لم يقدرا على ذلك، لأن الناس عادة تختلف في طبائعها وعاداتها، فعلى الأقل أن يعيشا في جو من الحوار والجدال بالتي هي أحسن، وأن يتعاطا مع الأمور بحكمة من خلال دراسة نقاط الضعف والقوة عند الطرفين، فلا يستطيع الزوج أن يفرض فكره على زوجته أو أولاده، ولا هي تستطيع أن تفرض نفسها وفكرها عليه.

امتلاك ثقافة الحوار

وهناك نقطة مهمة، وهي أنّ بعض الناس قد يدخل في الجدال في ما لا علم له به، ككثير من الناس ممّن يسمعون كلمة يعتبرون أنها الحقيقة، والله تعالى يقول: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم}، فأنت لا تملك الثقافة الفقهية والتاريخية والفكرية لكي تناقش فلاناً في ما حمله على الإفتاء بفتوى ما، أو طرح فكرة تاريخية معينة، ككثير من الأجواء التي تجعل الناس يغسلون أدمغة المراهقين بطريقة عصبية وحزبية وطائفية، ويدفعونهم لإثارة الجدال والنقاش في ما لا يفهمون وما لا اختصاص لهم به. من حقك أن تدخل في جدال وحوار مع الآخرين، ولكن على شرط أن تملك ثقافة هذا الحوار، أما إذا كنت لا تملك هذه الثقافة، فإن الحوار سوف يتحوّل إلى سباب وشتائم واتهامات، وهذا ما نعيشه في مجتمعنا الشرقي.

إنّ الله تعالى يريد لنا أن نعيش إنسانيتنا في إنسانية الآخر، وهو تعالى خالق السموات والأرض، ذو العظمة المطلقة، ومع ذلك فإنه حاور آدم(ع)، وحاور إبليس، وحاور الملائكة. وفي الخط الإسلامي، نجد أن النبي(ص) حاور الكافرين والمشركين، ومن هنا قلنا مراراً: في البدء كان الحوار... فالحوار هو الذي ينشر السلام في البيت والمجتمع والعالم. لذلك، نحن، كمسلمين، في حاجة في هذا العالم إلى الحوار مع العلمانيين والغربيين، لأن هذا هو الطريق لكي تربح عقل الإنسان وفكره، ولكن من شروط الحوار أن تكون مستعداًَ لأن تقبل إذا اقتنعت وتلتزم، وأن يكون لك علم في ما تناقش فيه، وقد قال الله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد}، {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتاهم إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير}.

نحن نعيش مشاكل كبيرة جداً على مستوى الدين والمذهب والسياسة والاجتماع والاقتصاد، فلنتعلّم كيف نصنع حلاً لهذه المشاكل التي ننتجها بأنفسنا. إننا متعَبون ومحاصَرون، فلماذا نبحث عما يُتعبنا أكثر؟ لماذا لا نتعاون على أن نجعل مجتمعنا مرتاحاً فكرياً وثقافياً ومعنوياً من خلال الحوار؟ {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وتحركوا على أساس نظم أمركم وصلاح ذات بينكم، والسعي لتحقيق التقارب والتواصل والوحدة من خلال هذا البرنامج الإسلامي الذي يجعل الإنسان يحترم الآخر ويعترف به ويحاوره بالطريقة الإنسانية التي تحترم إنسانيته وتناقش فكره بالطريقة الموضوعية العقلانية، وبذلك نستطيع أن نلتقي على القضايا الكبرى. وهذا ما نواجهه الآن، أن تنطلق الفكرة صافية نقية قوية لنلتقي عليها، ولنواجه الأعداء الذين يكيدون لنا صفاً واحداً، حتى نأخذ بأسباب القوة التي نسقط من خلالها كل ضغوطهم، فتعالوا لنعرف ماذا هناك، ولنفكر كيف نحمي أنفسنا وأمتنا وأوطاننا:

الفلسطينيون: المثال الحي للصمود والأمل

لا يزال الفلسطينيون في قمة الصمود، وقوة التحدي، وحركية الاستشهاد، حتى إن الأم الفلسطينية تفارق أولادها وتقوم بجهاد استشهادي، لأن أمومتها امتدت إلى الشعب كله... كما أن الوحدة الشعبية استطاعت أن تتغلّب على اختلاف وجهات النظر وتحتويها، لتكون وحدة في التنوّع الذي يتحرك من أجل الوصول إلى الوسيلة الفضلى لتحقيق الهدف الأفضل...

أما الصهاينة، فهم ـ بحسب صحافتهم ـ قلقون من هذا الصمود البطولي والتحدي الهادئ، والتكاثر السكاني الذي عبّر عنه البعض بالتخطيط الفلسطيني لهزيمة اليهود عبر غرف الولادة، وفي العض على الجراح والقدرة على الانتظار، وتحديقهم بالمستقبل الذي تتحرك أجياله نحو الانتصار من خلال مدارس انتفاضة الحجارة، وهتافات الشباب والأطفال في مسيرات جنائز الشهداء، ما يجعل من هذا الجيل جيل الحرية والتضحية والشهادة، بالرغم من العقوبات الجماعية الوحشية التي يقوم بها الجيش الصهيوني، من خلال الذهنية اليهودية في تدمير الناس بالطريقة التي تشردهم بها من بيوتهم، وتعتقل أطفالهم وشبابهم، وترمي قنابلها وصواريخها من طائراتها ودباباتها عشوائياً...

كل ذلك يجري في ظل تأييد وترحيب ودعم أمريكي في مصادرة أرض فلسطين كلها لحساب إسرائيل في شكل مباشر وغير مباشر، بما في ذلك بناء الجدار العنصري الذي تستعجل إكماله قبل أن تنظر محكمة العدل العليا في لاهاي في وضعه القانوني، لأنها تنظر إليه كما لو كان "كميناً سياسياً" نصبه الفلسطينيون لها، ما جعلها تعاني حال ارتباك في أول قضية من نوعها، بحيث يمكن أن تتحوّل تفاصيلها إلى استحقاقات دولية سلبية ضدها...

إننا نجد في هذه الصورة الجهادية الفلسطينية، ما يوحي للأمة كلها وللمستضعفين كلهم بأن عليهم أن يصمدوا أمام القوى المستكبرة والدول المحتلة، وأن يدرسوا كل الوسائل التي تحرك الواقع ضد أولئك سياسياً وأمنياً، في خطة متحركة في تثبيت الحاضر وتطلع المستقبل، و"ما ضاع حق وراءه مطالب".

العراق: التوحد خلف الاستفتاء

ومن جانب آخر، فإن القضية العراقية لا تزال تفرض نفسها على الواقعين الإقليمي والدولي، في الجدل الدائر حول مسألة أفضل الوسائل التي تجعل العراقيين يقررون من خلالها مصيرهم، وتأسيس دولتهم، واختيار حكومتهم، وتفجير طاقاتهم الإبداعية، وحماية ثرواتهم من ألاعيب الشركات الأجنبية، ولا سيما الأمريكية الاحتكارية، بالطريقة التي تجعل العراق مرتهناً لديونه، وسرقة ثرواته والوقوف ضد تصنيع ثرواته ومكننة زراعته، ليبقى مجرد سوق استهلاكية لنتاج الآخرين...

إننا نؤكد على أهلنا في العراق، أن يقفوا مع مسألة الاستفتاء الشعبي الذي يعبّر عن الإرادة الشعبية، ولعل الوسائل التي يمكن أن تحقق هذا الأمر ليست صعبة ولا مستحيلة إذا توافرت النيّات الخالصة والأفكار النيّرة لدراسة الواقع في شكل موضوعي دقيق... وإننا ندعو إلى الارتفاع إلى مستوى الوحدة الوطنية العراقية، مع التأكيد على خطِّ الوحدة الإسلامية التي تحمي الساحة الإسلامية، وتمنع الذين يثيرون الحساسيات والعصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية، من أجل بناء العراق الجديد الذي يحصل فيه كل صاحب حق على حقه، على أساس مواطنيتهم التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، ويتكامل فيها الجميع في صنع هذا الوطن، باعتبار أنه مسؤولية الجميع، مستفيدين من مآسي الماضي، ومنفتحين على تطلعات المستقبل، حيث تتسع الحرية المسؤولة للجميع.

إيران: الجدل بالتي هي أحسن

وعلى صعيد آخر، فإننا نتابع الأوضاع القلقة في إيران، من خلال التجاذب السياسي الداخلي الذي يتراشق فيه الفرقاء المختلفون بالكلمات الحادة التي قد تتدخّل فيها المواقف الفئوية الخاصة، حقاً أو باطلاً... في الوقت الذي لا نزال نشهد الضغوط الأمريكية وبعض الكلمات الاتهامية من بعض الدول الأوروبية ضد إيران...

إننا في الوقت الذي نؤكد حرية الشعب الإيراني في تقرير مصيره الداخلي ـ كما هو الخارجي ـ في خط الإسلام الذي نريد للمسؤولين أن يقدّموه بصورة مشرقة تجتذب الآخرين إلى هذه التجربة الإسلامية التي نريد لها أن تنجح في مواجهة كل التحديات الثقافية والسياسية والإعلامية التي تواجه الإسلام كله، كما تواجه إيران الإسلام في نظامها... إننا في هذا الوقت، نريد للشعب الإيراني كله ـ بمسؤوليه في الحكومة وفي المؤسسات الأخرى ـ أن يحافظ على الوحدة في أسلوب الحوار الموضوعي العقلاني الإسلامي، في الجدل بالتي هي أحسن، والقول بالتي هي أحسن والدفع بالتي هي أحسن على صعيد القضايا الداخلية والخارجية، وعلى الجميع أن يتعلموا كيف تتحرك الاختلافات السياسية من دون إساءة للقضايا الكبرى، لأن الأعداء يعملون لإسقاط الهيكل على رؤوس الجميع..

ونحب في مسألة الجدل حول منع الحجاب والرموز الدينية، أن نرحب بكلام حضرة البابا الذي سجّل رفضه لذلك في القرار الفرنسي واستعداد بعض الدول الأوروبية للسير في ركابها، وتحدث عن أن مواقف هذه الدول تعرّض الاحترام الفعلي لحرية الدين إلى خطر كبير... فالعلمانية ـ كما قال البابا ـ "ليست إلا احترام كل العبادات من قبل الدولة وضمان التعبير الحر من الأنشطة الثقافية والروحية والطقوس الدينية، ذات الطابع الإحساني لدى طوائف المؤمنين"..

إننا نضع هذا الكلام الموضوعي أمام بعض المرجعيات الإسلامية التي حاولت أن تبرر مشروع القانون الفرنسي لمنع الحجاب في المدارس؟!

لبنان: حماية المؤسسات...

أما في لبنان، فلا تزال الملفات الاجتماعية والتربوية تضغط على اللبنانيين بثقلها، في ظل اهتراء سياسي على مستوى السلطة، ينعكس اهتراءً إدارياً في الجسم العام للدولة، لتدفع الشرائح الفقيرة ثمنه على جميع المستويات... وهذا ما يجعل الشعب يطرح السؤال:

هل للدولة خطة أو رؤية لسداد حجم الدين الذي كاد أن يبلغ ما يزيد عن الأربعين ملياراً من الدولارات، إذا أضفنا إليها الديون الأخيرة للمصرف المركزي ـ بحسب تقرير بعض الاقتصاديين؟ ثم، هل هناك جهة فاعلة قادرة على محاسبة الدولة في شكل عام؟ وكيف؟ ومتى؟ لتكون هذه المحاسبة وسيلة واقعية لوقف الهدر والفساد، وتقديم أصحابها إلى القضاء الذي يتمناه الشعب مستقلاً لا سلطة لأحد عليه إلا سلطة العدالة؟؟

إن المطلوب هو "مأسسة" المؤسسات الدستورية وحمايتها من الشخصنة التي تصادر معناها وحركيتها وامتدادها في مصير الإنسان اللبناني والدولة وحريتها في مراقبة الكبار والصغار على أساس أن الوطن للجميع.

بالحوار والجدال بالتي هي أحسن: لنعش إنسانيتنا في إنسانية الآخر


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}، ويقول تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.

التعامل بالحكمة

يطرح الله تعالى في هاتين الآيتين وفي غيرهما من الآيات الكريمة على الناس كافة، أن عليهم في كل ما يريدون إبلاغه للناس، وفي كل ما يريدون للناس أن يؤمنوا به، ولا سيما عندما يراد لهم أن يأخذوا بالدين ويؤمنوا بعقيدته ومفاهيمه ومنهجه وشريعته، أن يتحركوا بالحكمة. والحكمة هي أن يضع الإنسان الشيء في موضعه، أن تدرس عقلية الشخص الذي تريد مخاطبته؛ ما هي نقاط ضعفه وقوته، ما هي الأمور التي تحيط به، ثم توجّه إليه الكلام بما يتناسب مع ذلك كله، لأن الإنسان الذي يريد أن يفتح عقل إنسان آخر على فكره أو على خطه، لا بد من أن يعرف الطريق التي توصل الفكرة إلى العقل...

وقد ذكرت مراراً أننا في كل العالم في حاجة إلى مهندسين للبيوت التي نسكنها، والطرق التي نسير عليها، وما إلى ذلك مما يراد إخراجه بطريقة متقنة تلبي الحاجة، كذلك نحن في حاجة إلى هندسة من نوع آخر، وهي أن تملك الثقافة التي تمكِّنك من هندسة الطريق إلى عقول الناس، وقد تحتاج إلى أن تختار الكلمة التي تخاطب القلب في كل مشاعره وأحاسيسه ونبضاته، لأنك عندما تصل إلى القلب فإنه يفتح لك العقل. ونحن نعرف أن كثيراً من الناس آمنوا من خلال المحبة التي يمنحها الداعية للإنسان الآخر، ولذلك كانت المحبة هي الأساس الذي ركّزت عليه كل الرسالات، ففي كلمة السيد المسيح(ع)، عندما أراد أن يختصر معنى الله في وعي الناس وعلاقتهم به قال: "الله محبة"، فالله تعالى أحبّ الخلق فخلقهم وأعطاهم كل هذا الوجود، وأنعم عليهم ورحمهم وغفر لهم، وهكذا نجد أن النبي (ص) قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها".

فأنت لا تستطيع أن تقنع الناس بالعنف والقسوة، ولكنك تستطيع أن تنقذهم بالمحبة والكلمة الطيبة التي تنطلق من قلب طيب ولسان ليّن، وهذا ما تحدث الله تعالى به عن النبي (ص): {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}. ولذلك، فإنّ الله تعالى يقول لنا عندما يحدثنا عن الحكمة التي أراد للنبي ولمن يتحرك في خطه أن يتحلى بها عندما يدعو إلى سبيل ربه، إلى أن علينا أن نقدم لمن ندعوه الموعظة التي تدخل إلى القلب من خلال أسلوبها الطيب الرقيق، ولتنفذ بعد ذلك إلى العقل.

أسلوب الحوار المثمـر

قد تختلف مع الآخرين بأن تلتزم ديناً غير الدين الذي يلتزمون به، أو أن تتحرك في خط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي غير الخط الذي يسيرون فيه، هنا لا ينبغي أن يكون الاختلاف بينك وبين الآخرين وسيلة عداوة. هب أنك تختلف معه: لك دين وله دين، لك فكر وله فكر، لك خط وله خط، ولكن ادرس المسألة بعقلك: لقد عاش هذا الإنسان في ظروف ثقافية أو اجتماعية جعلته يلتزم هذه الفكرة الدينية أو السياسية أو الثقافية، كما أن التزامك بهذه الفكرة كانت من خلال ظروفك، البيت والمدرسة والمجتمع، فلا تعنف مع الآخر عندما يختلف معك، ولا تقابله بالكلمة القاسية ولا ترجمه بالحجارة، ولكن قل له: تعالَ لنتجادل، والجدال هو الحوار الذي يتحرك في الخطوط الفكرية، لأقدّم وجهة نظري والحجة التي أحتجّ بها، ولتقدّم أنت وجهة نظرك، فإما أن تقنعني أو أقنعك، أو نتفاهم لأعرف كيف تفكر ولتعرف كيف أفكر، والحوار هو وسيلة للإقناع وللتفاهم.

فالخط الإسلامي ينطلق على أساس الوضوح والغموض. عندك فكر أو خط أو وجهة نظر اكشفها للناس، وليكشف الناس عن خطهم وفكرهم، وإلا لماذا يتقاطع الناس؟ لأن كل إنسان يخاف من المنطقة الخفيّة عند الآخر، والحديث المروي عن الإمام علي(ع) يقول: "لو تكاشفتم ـ لو أبرز كل واحد وجهة نظره، فلا تبقى هناك منطقة خفية يخاف منها الآخر ـ ما تدافنتم"، فالحوار الذي يشجعنا الإسلام عليه يؤدي إلى الوضوح بين بعضنا بعضاً. فإذا أردت أن تدخل مع أحد في هذا الجدال، فعليك أن تجادله بالتي هي أحسن، حتى يمكن أن تقتحم قلبه لتقتحم عقله.

وهكذا، يركّز الإسلام على الحوار بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب الذين يلتقون مع الإسلام في الخط التوحيدي، مع الاختلاف في مفردات التوحيد، فإذا أردنا أن نجلس مع النصارى للنظر في مسألة الدين النصراني، ومع اليهود للنظر في مسألة الدين اليهودي ـ باستثناء الذين ظلموا، لأن الظالمين لا يحاوروننا بل يظلموننا، ولذلك لا حوار معهم ـ فإن عليك أن تجادلهم بالتي هي أحسن، بأن تختار الكلمة الأحسن والظروف الأحسن والمناخ الأحسن للحوار، وقد قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا ـ نؤمن بالقرآن ـ وأُنزل إليكم ـ فإننا نؤمن بالإنجيل والتوراة ـ وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}، والإسلام لله، هو أن يجعل الإنسان نفسه تحت نظر الله والالتزام بخطه.

هذا هو خط الحوار والدعوة لمن نريد أن نجذبه إلينا ونقنعه بوجهة نظرنا، وخط الجدال مع الذي نختلف معه في الدين والسياسة والاجتماع، وهذا أمر يتحرك في كل خلية اجتماعية. ففي البيت، لا إشكال أن الزوج عاش في بيئة ـ غالباً ـ تختلف عن البيئة التي عاشت فيها الزوجة، فهما يحملان أفكاراً قد تختلف حتى على مستوى المشاعر والأحاسيس، والعقد الزوجي لا يمكن أن يساهم في إلغاء طرف للطرف الآخر، فيحاول الزوج أن يجعل زوجته صورة عن قناعاته وفكره وتقاليده وأحاسيسه، وحتى النبي(ص)، لم يعطه الله تعالى مثل هذه الصلاحيات: {...أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، {فذكّر إنما أنت مذكّر* لست عليهم بمصيطر}، فالله هو وحده الذي يغيّر الإنسان، ومع ذلك لم يتدخّل ليفرض عليهم الإيمان: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}، فالله تعالى ركّز الحياة الزوجية لا على أساس أن يلغي أحدهما الآخر، بل أمر الرجل والمرأة أن يختار كلٌّ منهما من يتناسب معه، وإذا لم يقدرا على ذلك، لأن الناس عادة تختلف في طبائعها وعاداتها، فعلى الأقل أن يعيشا في جو من الحوار والجدال بالتي هي أحسن، وأن يتعاطا مع الأمور بحكمة من خلال دراسة نقاط الضعف والقوة عند الطرفين، فلا يستطيع الزوج أن يفرض فكره على زوجته أو أولاده، ولا هي تستطيع أن تفرض نفسها وفكرها عليه.

امتلاك ثقافة الحوار

وهناك نقطة مهمة، وهي أنّ بعض الناس قد يدخل في الجدال في ما لا علم له به، ككثير من الناس ممّن يسمعون كلمة يعتبرون أنها الحقيقة، والله تعالى يقول: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم}، فأنت لا تملك الثقافة الفقهية والتاريخية والفكرية لكي تناقش فلاناً في ما حمله على الإفتاء بفتوى ما، أو طرح فكرة تاريخية معينة، ككثير من الأجواء التي تجعل الناس يغسلون أدمغة المراهقين بطريقة عصبية وحزبية وطائفية، ويدفعونهم لإثارة الجدال والنقاش في ما لا يفهمون وما لا اختصاص لهم به. من حقك أن تدخل في جدال وحوار مع الآخرين، ولكن على شرط أن تملك ثقافة هذا الحوار، أما إذا كنت لا تملك هذه الثقافة، فإن الحوار سوف يتحوّل إلى سباب وشتائم واتهامات، وهذا ما نعيشه في مجتمعنا الشرقي.

إنّ الله تعالى يريد لنا أن نعيش إنسانيتنا في إنسانية الآخر، وهو تعالى خالق السموات والأرض، ذو العظمة المطلقة، ومع ذلك فإنه حاور آدم(ع)، وحاور إبليس، وحاور الملائكة. وفي الخط الإسلامي، نجد أن النبي(ص) حاور الكافرين والمشركين، ومن هنا قلنا مراراً: في البدء كان الحوار... فالحوار هو الذي ينشر السلام في البيت والمجتمع والعالم. لذلك، نحن، كمسلمين، في حاجة في هذا العالم إلى الحوار مع العلمانيين والغربيين، لأن هذا هو الطريق لكي تربح عقل الإنسان وفكره، ولكن من شروط الحوار أن تكون مستعداًَ لأن تقبل إذا اقتنعت وتلتزم، وأن يكون لك علم في ما تناقش فيه، وقد قال الله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد}، {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتاهم إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير}.

نحن نعيش مشاكل كبيرة جداً على مستوى الدين والمذهب والسياسة والاجتماع والاقتصاد، فلنتعلّم كيف نصنع حلاً لهذه المشاكل التي ننتجها بأنفسنا. إننا متعَبون ومحاصَرون، فلماذا نبحث عما يُتعبنا أكثر؟ لماذا لا نتعاون على أن نجعل مجتمعنا مرتاحاً فكرياً وثقافياً ومعنوياً من خلال الحوار؟ {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وتحركوا على أساس نظم أمركم وصلاح ذات بينكم، والسعي لتحقيق التقارب والتواصل والوحدة من خلال هذا البرنامج الإسلامي الذي يجعل الإنسان يحترم الآخر ويعترف به ويحاوره بالطريقة الإنسانية التي تحترم إنسانيته وتناقش فكره بالطريقة الموضوعية العقلانية، وبذلك نستطيع أن نلتقي على القضايا الكبرى. وهذا ما نواجهه الآن، أن تنطلق الفكرة صافية نقية قوية لنلتقي عليها، ولنواجه الأعداء الذين يكيدون لنا صفاً واحداً، حتى نأخذ بأسباب القوة التي نسقط من خلالها كل ضغوطهم، فتعالوا لنعرف ماذا هناك، ولنفكر كيف نحمي أنفسنا وأمتنا وأوطاننا:

الفلسطينيون: المثال الحي للصمود والأمل

لا يزال الفلسطينيون في قمة الصمود، وقوة التحدي، وحركية الاستشهاد، حتى إن الأم الفلسطينية تفارق أولادها وتقوم بجهاد استشهادي، لأن أمومتها امتدت إلى الشعب كله... كما أن الوحدة الشعبية استطاعت أن تتغلّب على اختلاف وجهات النظر وتحتويها، لتكون وحدة في التنوّع الذي يتحرك من أجل الوصول إلى الوسيلة الفضلى لتحقيق الهدف الأفضل...

أما الصهاينة، فهم ـ بحسب صحافتهم ـ قلقون من هذا الصمود البطولي والتحدي الهادئ، والتكاثر السكاني الذي عبّر عنه البعض بالتخطيط الفلسطيني لهزيمة اليهود عبر غرف الولادة، وفي العض على الجراح والقدرة على الانتظار، وتحديقهم بالمستقبل الذي تتحرك أجياله نحو الانتصار من خلال مدارس انتفاضة الحجارة، وهتافات الشباب والأطفال في مسيرات جنائز الشهداء، ما يجعل من هذا الجيل جيل الحرية والتضحية والشهادة، بالرغم من العقوبات الجماعية الوحشية التي يقوم بها الجيش الصهيوني، من خلال الذهنية اليهودية في تدمير الناس بالطريقة التي تشردهم بها من بيوتهم، وتعتقل أطفالهم وشبابهم، وترمي قنابلها وصواريخها من طائراتها ودباباتها عشوائياً...

كل ذلك يجري في ظل تأييد وترحيب ودعم أمريكي في مصادرة أرض فلسطين كلها لحساب إسرائيل في شكل مباشر وغير مباشر، بما في ذلك بناء الجدار العنصري الذي تستعجل إكماله قبل أن تنظر محكمة العدل العليا في لاهاي في وضعه القانوني، لأنها تنظر إليه كما لو كان "كميناً سياسياً" نصبه الفلسطينيون لها، ما جعلها تعاني حال ارتباك في أول قضية من نوعها، بحيث يمكن أن تتحوّل تفاصيلها إلى استحقاقات دولية سلبية ضدها...

إننا نجد في هذه الصورة الجهادية الفلسطينية، ما يوحي للأمة كلها وللمستضعفين كلهم بأن عليهم أن يصمدوا أمام القوى المستكبرة والدول المحتلة، وأن يدرسوا كل الوسائل التي تحرك الواقع ضد أولئك سياسياً وأمنياً، في خطة متحركة في تثبيت الحاضر وتطلع المستقبل، و"ما ضاع حق وراءه مطالب".

العراق: التوحد خلف الاستفتاء

ومن جانب آخر، فإن القضية العراقية لا تزال تفرض نفسها على الواقعين الإقليمي والدولي، في الجدل الدائر حول مسألة أفضل الوسائل التي تجعل العراقيين يقررون من خلالها مصيرهم، وتأسيس دولتهم، واختيار حكومتهم، وتفجير طاقاتهم الإبداعية، وحماية ثرواتهم من ألاعيب الشركات الأجنبية، ولا سيما الأمريكية الاحتكارية، بالطريقة التي تجعل العراق مرتهناً لديونه، وسرقة ثرواته والوقوف ضد تصنيع ثرواته ومكننة زراعته، ليبقى مجرد سوق استهلاكية لنتاج الآخرين...

إننا نؤكد على أهلنا في العراق، أن يقفوا مع مسألة الاستفتاء الشعبي الذي يعبّر عن الإرادة الشعبية، ولعل الوسائل التي يمكن أن تحقق هذا الأمر ليست صعبة ولا مستحيلة إذا توافرت النيّات الخالصة والأفكار النيّرة لدراسة الواقع في شكل موضوعي دقيق... وإننا ندعو إلى الارتفاع إلى مستوى الوحدة الوطنية العراقية، مع التأكيد على خطِّ الوحدة الإسلامية التي تحمي الساحة الإسلامية، وتمنع الذين يثيرون الحساسيات والعصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية، من أجل بناء العراق الجديد الذي يحصل فيه كل صاحب حق على حقه، على أساس مواطنيتهم التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، ويتكامل فيها الجميع في صنع هذا الوطن، باعتبار أنه مسؤولية الجميع، مستفيدين من مآسي الماضي، ومنفتحين على تطلعات المستقبل، حيث تتسع الحرية المسؤولة للجميع.

إيران: الجدل بالتي هي أحسن

وعلى صعيد آخر، فإننا نتابع الأوضاع القلقة في إيران، من خلال التجاذب السياسي الداخلي الذي يتراشق فيه الفرقاء المختلفون بالكلمات الحادة التي قد تتدخّل فيها المواقف الفئوية الخاصة، حقاً أو باطلاً... في الوقت الذي لا نزال نشهد الضغوط الأمريكية وبعض الكلمات الاتهامية من بعض الدول الأوروبية ضد إيران...

إننا في الوقت الذي نؤكد حرية الشعب الإيراني في تقرير مصيره الداخلي ـ كما هو الخارجي ـ في خط الإسلام الذي نريد للمسؤولين أن يقدّموه بصورة مشرقة تجتذب الآخرين إلى هذه التجربة الإسلامية التي نريد لها أن تنجح في مواجهة كل التحديات الثقافية والسياسية والإعلامية التي تواجه الإسلام كله، كما تواجه إيران الإسلام في نظامها... إننا في هذا الوقت، نريد للشعب الإيراني كله ـ بمسؤوليه في الحكومة وفي المؤسسات الأخرى ـ أن يحافظ على الوحدة في أسلوب الحوار الموضوعي العقلاني الإسلامي، في الجدل بالتي هي أحسن، والقول بالتي هي أحسن والدفع بالتي هي أحسن على صعيد القضايا الداخلية والخارجية، وعلى الجميع أن يتعلموا كيف تتحرك الاختلافات السياسية من دون إساءة للقضايا الكبرى، لأن الأعداء يعملون لإسقاط الهيكل على رؤوس الجميع..

ونحب في مسألة الجدل حول منع الحجاب والرموز الدينية، أن نرحب بكلام حضرة البابا الذي سجّل رفضه لذلك في القرار الفرنسي واستعداد بعض الدول الأوروبية للسير في ركابها، وتحدث عن أن مواقف هذه الدول تعرّض الاحترام الفعلي لحرية الدين إلى خطر كبير... فالعلمانية ـ كما قال البابا ـ "ليست إلا احترام كل العبادات من قبل الدولة وضمان التعبير الحر من الأنشطة الثقافية والروحية والطقوس الدينية، ذات الطابع الإحساني لدى طوائف المؤمنين"..

إننا نضع هذا الكلام الموضوعي أمام بعض المرجعيات الإسلامية التي حاولت أن تبرر مشروع القانون الفرنسي لمنع الحجاب في المدارس؟!

لبنان: حماية المؤسسات...

أما في لبنان، فلا تزال الملفات الاجتماعية والتربوية تضغط على اللبنانيين بثقلها، في ظل اهتراء سياسي على مستوى السلطة، ينعكس اهتراءً إدارياً في الجسم العام للدولة، لتدفع الشرائح الفقيرة ثمنه على جميع المستويات... وهذا ما يجعل الشعب يطرح السؤال:

هل للدولة خطة أو رؤية لسداد حجم الدين الذي كاد أن يبلغ ما يزيد عن الأربعين ملياراً من الدولارات، إذا أضفنا إليها الديون الأخيرة للمصرف المركزي ـ بحسب تقرير بعض الاقتصاديين؟ ثم، هل هناك جهة فاعلة قادرة على محاسبة الدولة في شكل عام؟ وكيف؟ ومتى؟ لتكون هذه المحاسبة وسيلة واقعية لوقف الهدر والفساد، وتقديم أصحابها إلى القضاء الذي يتمناه الشعب مستقلاً لا سلطة لأحد عليه إلا سلطة العدالة؟؟

إن المطلوب هو "مأسسة" المؤسسات الدستورية وحمايتها من الشخصنة التي تصادر معناها وحركيتها وامتدادها في مصير الإنسان اللبناني والدولة وحريتها في مراقبة الكبار والصغار على أساس أن الوطن للجميع.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير