لا تخونوا الله والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون

لا تخونوا الله والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون

لا تخونوا الله والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الوفاء بالالتزام

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}. في الإسلام، لا بد للإنسان المسلم أن يبني شخصيته على الوفاء بكل التزاماته، سواء كانت هذه الالتزامات التزامات مع الله في إيمانه به واعتقاده بربوبيته ووحدانيته وفي طاعته وعبادته وإخلاصه له سبحانه، أو في التزاماته مع الرسول(ص) في طاعته مما أوكل الله تعالى إليه الأمر في تبيانه للناس وتوجيههم إليه، وفي التزامات الإنسان في كلِّ ما يلتزمه مع الناس، وفي القضايا الكبرى التي تمسّ وطنه وأمّته، بحيث يبني الإنسان شخصيته على أن يحترم التزامه، وعلى أن يحترم قضاياه وكلمته، لأن هذا هو معنى احترام الإنسان لنفسه، لأن القضية هي أنك إذا التزمت بشيء ولم تفِ به، فإن معنى ذلك أنك تحتقر نفسك، لأنك لم تفِ لها التزامها.

كيف يحترم الإنسان نفسه؟ أن تحترم نفسك، أن تكون منسجماً مع كلِّ ما تؤمن به، ومع كل ما تلتزمه في نفسك؛ مع الله والرسول ومع الحياة، لأن التزامات الإنسان هي معنى إنسانيته ونفسه، التزاماتك هي أنت، لأنها تمثل قرارك في موقفك وعلاقتك وفي كل شيء، فمن لم يفِ بالتزاماته، فهو لم يحترم نفسه؛ هكذا يجب أن نفهم المسألة.

وقضية الالتزام مع الله ومع الرسول، هي بأن تكون مسلماً، وأن تسير على خط الإسلام، فعندما تقول وأنت تؤكد إسلامك: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"، إن هاتين الشهادتين تعبّران عن أنك تلتزم بأن الله وحده هو الإله الذي يُطاع ويُعبد، وأن الرسول(ص) هو الذي أرسله الله إليك ليبلّغك وحيه ويعلّمك شريعته، وليوجّهك إلى كل ما فيه صلاح دينك ودنياك. فالشهادة هي عبارة عن مطابقة اللسان للقلب، فلا انفصال بين الكلمة والفكر والقلب. لذلك، فإن الشهادتين عندما تقرّ بهما وتنطق بهما، فإنهما التزام أمام الله والرسول، بأنك لن تنحرف عن هذا الخط ولا تخون هذه الشهادة، لذلك فإن كل من يلتزم في خطه الفكري والعملي خطاً غير خط الإسلام الذي أوحى به الله وجاء به الرسول، هو خائن لله وللرسول، هذه نقطة يجب أن نتفهمها. هناك من يقول إنني مسلم، ولكنه يلتزم بالتزامات وتيارات تختلف مع الإسلام في قواعدها الفكرية، وهذا مما لا يصح: {ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، فإذا كنت تريد أن تصبح ماركسياً أو ماسونياً، فلا تقل إني مسلم.

الإسلام التزامٌ بالقلب واللسان والعمل

لذلك، كل من يلتزم التزاماً غير الإسلام فهو خائن لله وللرسول، لأنه خان ما يعتقده وما يقرّ به، وهكذا، عندما تترك الصلاة والصوم والحج وما أمر الله به من العبادات، أو تترك ما فرضه الله عليك من التزامات مالية، فأنت خائن لالتزاماتك الإسلامية، لأن الله تعالى أمرك بذلك ولم تفعله، أو نهاك عنه وأنت تعمله، مثل بعض المسلمين الذين يغتابون ويزنون ويكذبون ويؤيدون الظالمين، فإنهم خائنون لما التزموا به، لأن الإسلام التزام بالقلب واللسان والعمل، وهذا ما عبّر عنه الإمام الباقر(ع): "خيانة الله والرسول معصيتهما ـ بأن تترك ما أمراك به، وأن تفعل ما نهياك عنه ـ وأما خيانة الأمانة فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عليه" في كل التزاماتك. فالمعصية هي نوع من الخيانة العملية لله وللرسول. والتزام مبدأ آخر غير الإسلام هو خيانة لأصل مبدأ الالتزام الإسلامي.

والله تعالى أمر الإنسان المسلم أن لا يخون أرض المسلمين، فلا يسلّط العدو عليها، فكل من يتجسس لحساب المحتل ليمكّنه من أرضه أو من أمته وشعبه، أو ليمكّنه من اقتصاده وأمنه وسياسته، فهو خائن لله وللرسول، لأن الله والرسول لا يريدان للإنسان أن يخون أرضه التي هي مركز عزّته وموقعه وموقع إسلامه، ولذلك قال عليّ(ع): "اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم". لهذا فإن كل الذين يتعاملون مع قوات الاحتلال التي تعمل للسيطرة على الأمة في مقدّراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية، هم خائنون لله وللرسول، ولا سيما أولئك الذين يتجسسون لحساب المخابرات الصهيونية أو الأمريكية أو الأوروبية أو أيّ بلد يعادي واقع المسلمين والمستضعفين.

أنـواع الخيانـة

وهناك نقطة لا بد أن نفهمها من خلال القرآن الكريم، وهي أنه لا يجوز لنا أن ندافع عن كل خائن، سواء كان قريباً لنا أو بعيداً عنا، فالله تعالى يقول وهو يخاطب رسول الله(ص) ويخاطبنا من خلاله: {ولا تجادل ـ لا تدافع ـ عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحبّ من كان خوّاناً أثيماً}، فقرابتك لله وللرسول ولدينك ولمبدئك وأمتك، أقوى من قرابتك لإنسان خائن هنا وهناك.

وقد ورد في كلام الرسول(ص) التحذير من عدّة أشياء، يقول(ص): "أربع لا تدخل بيتاً واحدة منهن إلا خَرِب ـ إن عاجلاً أو آجلاً ـ ولم يُعمَّر بالبَرَكة: الخيانة والسرقة وشرب الخمر والزنى"، ويقول(ص): "ليس منا من خان الأمانة"، وفي حديث له(ص): "ليس منا من خان مسلماً في أهله وماله"، سواء خيانة العرض أو العدوان على أهله أو ماله.

وقد ورد عن الرسول(ص): "المكر والخديعة والخيانة في النار"، ويقول(ص): "لا تخن من خانك تكن مثله"، قد تواجه من خانك، فتأخذ حقّك منه، أما أن تخونه لأنه خانك، فهذا ما يجعلك مثله. وفي حديث الإمام عليّ(ع): "جانبوا الخيانة فإنها مجانِبة الإسلام"، فمن يلتزم خط الخيانة في حياته يكن بعيداً عن الإسلام. ويقول(ع): "رأس النفاق الخيانة"، ويقول(ع): "من استهان بالأمانة وقع في الخيانة".

وهناك نوع من الخيانة، وهي خيانة السر، فالسر أمانة وقد ورد: "المجالس بالأمانة، وليس لأحد أن يحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلاّ بإذنه"، ويقول النبي(ص): "إفشاء سرّ أخيك خيانة فاجتنب ذلك". وهناك نقطة أخرى، وهي أن لا تكون أميناً للخونة فتساعدهم، يقول الإمام الجواد(ع): "كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة". وهناك خيانة العلم، فلا بد لك عندما تريد أن تعطي العلم للناس أن تكون أميناً على هذا العلم لتعطيهم علم الحق لا الباطل، فلا تغشّهم في ذلك، وقد ورد: "تناصحوا في العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشدّ من خيانته في ماله"، لأن المال يأتي ويذهب، أما عندما يعطيك فكرة على أساس أنها الحق وهي الباطل، وعلى أساس أنها العلم وهي الجهل، فإنه يخرّب حياتك، لأنك سوف تتحرك من خلال ما أعطاك. يقول الإمام عليّ(ع): "أعظم الخيانة خيانة الأمة"، ويقول(ع): "شر الرجال التجار الخونة".

وهكذا تتنوّع الخيانة في كل مواردها، سواء في خيانة الودائع والأموال والعرض والسياسة والاقتصاد والأمن. لذلك، أن تكون مؤمناً، أن تكون وفيّاً في كل التزاماتك: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في كلِّ ما أراد لكم أن تتقوه فيه، في إطاعة أوامره ونواهيه، وفي الإخلاص للإسلام والمسلمين والسير على الخط المستقيم، وفي مواجهة كل قضايا الأمة، بالدعم والتأييد والوحدة في مجابهة كل أعدائها في كل قضاياها العامة، ولا بد لنا أن نواجه ما تعيشه الأمة أمام التحديات، فماذا هناك:

استهداف أمريكي ـ إسرائيلي للمنطقة كلها

لا تزال الإدارة الأمريكية ـ بكل مسؤوليها وأصواتها الإعلامية ـ تؤكد في ضغطها على العالم مواجهة ما تسمّيه معاداة السامية، في تفسيرها لها بأنها تمثل كل نقد للصهيونية ورفض للاعتراف بدولة إسرائيل، ولكل ما يقوم به اليهود في كيانهم من المجازر الوحشية في قتل المدنيين وذبح الأطفال ـ كما حدث أخيراً في غزة ـ وتدمير الواقع الفلسطيني كله، لأن هذه الإدارة تخطط لتبقى حليفتها إسرائيل فوق مستوى النقد والإدانة في العالم كله، لأنها تملك ـ أي إسرائيل ـ الحرية في العبث بكل قرارات الأمم المتحدة وكل حقوق الإنسان، وتحريك الفتن والمشاكل في أكثر من موقع، إلى جانب أمريكا التي تخطط معها في احتلالاتها ومخابراتها ومشاركتها لكل أوضاعها الاستكبارية.

وهكذا لاحظنا كيف أدخلت المقاومة الفلسطينية في الانتفاضة في دائرة ما تسمّيه الحرب على الإرهاب واعتبار فصائلها منظمات إرهابية، في الوقت الذي يعرف الجميع أنها تتحرك في عملية ردِّ فعلٍ للاحتلال الصهيوني، لا من فعل ابتدائي عدواني على اليهود، حتى إن الإدارة الأمريكية منعت كل تفاوض سياسي مع الفلسطينيين، إلا على أساس الخضوع للشروط الصهيونية في تفكيك الانتفاضة وتدمير بنيتها التحتية ومصادرة أسلحتها، مع إعطاء الحرية لليهود في اغتيال رجالاتها وقتل مدنييها، من دون أيّ إنكار لما يقومون به من أعمال وحشية مضادّة للإنسانية وللسامية العربية.

وهذا ما نلاحظه في التجميد السياسي للمفاوضات السلمية التي حاصرتها أمام جدار الرفض السياسي لمصلحة إسرائيل، التي احتجت على أبي مازن لأنه تحدث ـ في احتجاجه على مذبحة الأطفال ـ عن "العدو الصهيوني"، كأنها تريد منه أن يتحدث عن "الجزّارين الأصدقاء"، في الوقت الذي سمع الجميع من هذا الزعيم الفلسطيني الصوت العالي في رفض بقاء الانتفاضة بالوسائل العسكرية، والتوجّه إلى المفاوضات السياسية التي ترفضها إسرائيل إلا بشروطها في رفض حق العودة ومسألة القدس وتفكيك المستوطنات، وبقاء سيطرتها على كل مواقع الرفض الفلسطيني بكل أساليب الاغتيال، إلى غير ذلك مما يفقد الشعب الفلسطيني أكثر أهدافه، لتبقى فلسطين دولة مقطّعة الأوصال، خاضعة للنفوذ الصهيوني بأدنى من مشروع الحكم الذاتي المحلي، ولتتحرك في متاهات المستقبل الذي لا حدود له في نهاية مشروع الدولة.

إن المرحلة التي تواجه الواقع الفلسطيني، لا تتمحور حول فلسطين فحسب، بل تمتد إلى المنطقة كلها التي تتحرك في نطاق التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي الذي يعمل من أجل الضغط الشامل على الواقع العربي الذي سقط تحت تأثير هذا التحالف، والإسلامي الذي اهتز أكثره في زلزال الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية.

وهذا ما نلاحظ بعضه في الضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية المتحركة في القرارات الأمريكية ـ على صعيد الكونغرس الأمريكي ورجال الإدارة ـ على سوريا ولبنان، ولا سيما في القرار 1559 الذي يُراد له ـ في خلفياته الواقعية ـ أن يمثّل حركة للضغط على سوريا بما يتعلق بالاحتلال الأمريكي للعراق، مما اعتبرت المسألة اللبنانية فيه مجرد ورقة ضغط على سوريا مع بعض التهاويل السياسية التي قد يُراد منها خلق بعض المخاوف في الوضع الداخلي اللبناني، الذي قد يحوّل الواقع السياسي إلى ما يشبه الملهاة الاهتزازية، تماماً كما هي الترددات الناتجة من أصداء الزلازل.

وإذا كنا نتصوّر أن هناك أكثر من خطة وأكثر من فرصة لدراسة الأوضاع السورية ـ اللبنانية، لإيجاد حالة من التوازن في العلاقات بين الدولتين بملاحقة كل نقاط الضعف الكامنة في الواقع، ولمنع القوى المضادة من استغلالها في إثارة المشاكل أو من إفساح في المجال للذين يصطادون في الماء العكر، فإننا نعتقد أن من الضروري البدء في ذلك بعيداً عن حالات الضغط، لمواجهة المتغيّرات الدولية في العالم والمنطقة التي هي بحاجة دائمة إلى التغيير في الواقع من حيث الوسائل والمفردات السياسية والأمنية، حفاظاً على الأهداف الكبرى في القضايا المصيرية..

إن البلدين الشقيقين يمثِّلان حالة ارتباط عضوي وتداخل في المصالح المشتركة والقضايا الحيوية الكبرى، ولذلك فلا بد من الارتفاع إلى مستوى الحاجة الملحة على مستوى المرحلة في تحقيق النتائج الإيجابية للوصول إلى الهدف الكبير، فلا يبقى للمصطادين في الماء العكر ـ من الداخل والخارج ـ أية فرصة لذلك.

العراق قادر على صنع مستقبل حرّ

وإذا كانت الدول المجاورة للعراق قد التقت لدراسة الأوضاع القلقة من الناحية الأمنية والسياسية في هذا البلد الجريح، فإننا نتصوّر أن المشكلة الأساس التي لا بد للجميع أن يبحثوها، هي مشكلة الاحتلال الأمريكي الذي هو سرّ كل الأحداث المأساوية لهذا البلد المنكوب، وليست المشكلة هي ما يُراد إثارته ضد سوريا وإيران من التدخّل في أوضاعه بتشجيع عناصر العنف الخارجية في هذا البلد المجاور أو ذاك، مما يدخل في نطاق الإثارة لا في نطاق الواقع، وهذا ما يتحدث به البعض عمّا يسمّونه "الخطر الشيعي" في الانتخابات ونتائجها.

إننا نعتقد أن العراقيين في قياداتهم الدينية والسياسية، قادرون على إدارة أمورهم بأنفسهم عندما يملكون حرية صنع القرار السياسي والاقتصادي والأمني، وخصوصاً إذا أخذوا بأسباب الوحدة الإسلامية والوطنية، وواجهوا الأصوات الناشزة التي تلعب لعبة الطائفية المذهبية في عملية الإثارة من الداخل والخارج، وكذا الفئات الإرهابية الإجرامية من التكفيريين والمجرمين.

إن العراق قادر على صنع مستقبل حرّ، قوي، فاعل ومنتج على مستوى الطاقات المبدعة الكامنة في داخل شعبه، ولكنه بحاجة إلى الحرية والاستقلال والاستقرار، فلا تعبثوا به لخدمة مصالح الاستكبار العالمي وأعوانه.

لبنان في الدوامة الانتخابية

أما لبنان، فإنه لا يزال في الدوّامة الانتخابية التي يتداولها الجميع في متاهات متنوّعة ترتكز على حقوق الطوائف أكثر مما ترتكز على حقوق الوطن، الذي يبحث عن إرادة المواطن في اختيار ممثليه من الأمناء والصادقين والأكفّاء والخبراء والمخلصين للإنسان كله، ولا سيما للجيل الجديد الذي نريد له أن يسبح في الينابيع الصافية ولا يغرق في المياه الموحلة، لأن الأجيال الماضية في كثير من نماذجها، قد فشلت في تجربة تأسيس الوطن الحرّ المستقل، المتوازن، الغني والمنتج، فلماذا لا يبدأ هذا الجيل الباحث عن واقعية الحلول، وعن حركية الإنسان، وروحية المواطن، في تجربة جديدة، يتعلّم فيها من حركة التقدّم في العالم كله، ومن روحية الخير في القيم الكبرى التي تلتقي فيها الأديان ـ ولا سيما المسيحية والإسلام ـ على قاعدة المحبة والرحمة والانفتاح على الله، لا الانغلاق باسمه.

لا تخونوا الله والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الوفاء بالالتزام

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}. في الإسلام، لا بد للإنسان المسلم أن يبني شخصيته على الوفاء بكل التزاماته، سواء كانت هذه الالتزامات التزامات مع الله في إيمانه به واعتقاده بربوبيته ووحدانيته وفي طاعته وعبادته وإخلاصه له سبحانه، أو في التزاماته مع الرسول(ص) في طاعته مما أوكل الله تعالى إليه الأمر في تبيانه للناس وتوجيههم إليه، وفي التزامات الإنسان في كلِّ ما يلتزمه مع الناس، وفي القضايا الكبرى التي تمسّ وطنه وأمّته، بحيث يبني الإنسان شخصيته على أن يحترم التزامه، وعلى أن يحترم قضاياه وكلمته، لأن هذا هو معنى احترام الإنسان لنفسه، لأن القضية هي أنك إذا التزمت بشيء ولم تفِ به، فإن معنى ذلك أنك تحتقر نفسك، لأنك لم تفِ لها التزامها.

كيف يحترم الإنسان نفسه؟ أن تحترم نفسك، أن تكون منسجماً مع كلِّ ما تؤمن به، ومع كل ما تلتزمه في نفسك؛ مع الله والرسول ومع الحياة، لأن التزامات الإنسان هي معنى إنسانيته ونفسه، التزاماتك هي أنت، لأنها تمثل قرارك في موقفك وعلاقتك وفي كل شيء، فمن لم يفِ بالتزاماته، فهو لم يحترم نفسه؛ هكذا يجب أن نفهم المسألة.

وقضية الالتزام مع الله ومع الرسول، هي بأن تكون مسلماً، وأن تسير على خط الإسلام، فعندما تقول وأنت تؤكد إسلامك: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"، إن هاتين الشهادتين تعبّران عن أنك تلتزم بأن الله وحده هو الإله الذي يُطاع ويُعبد، وأن الرسول(ص) هو الذي أرسله الله إليك ليبلّغك وحيه ويعلّمك شريعته، وليوجّهك إلى كل ما فيه صلاح دينك ودنياك. فالشهادة هي عبارة عن مطابقة اللسان للقلب، فلا انفصال بين الكلمة والفكر والقلب. لذلك، فإن الشهادتين عندما تقرّ بهما وتنطق بهما، فإنهما التزام أمام الله والرسول، بأنك لن تنحرف عن هذا الخط ولا تخون هذه الشهادة، لذلك فإن كل من يلتزم في خطه الفكري والعملي خطاً غير خط الإسلام الذي أوحى به الله وجاء به الرسول، هو خائن لله وللرسول، هذه نقطة يجب أن نتفهمها. هناك من يقول إنني مسلم، ولكنه يلتزم بالتزامات وتيارات تختلف مع الإسلام في قواعدها الفكرية، وهذا مما لا يصح: {ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، فإذا كنت تريد أن تصبح ماركسياً أو ماسونياً، فلا تقل إني مسلم.

الإسلام التزامٌ بالقلب واللسان والعمل

لذلك، كل من يلتزم التزاماً غير الإسلام فهو خائن لله وللرسول، لأنه خان ما يعتقده وما يقرّ به، وهكذا، عندما تترك الصلاة والصوم والحج وما أمر الله به من العبادات، أو تترك ما فرضه الله عليك من التزامات مالية، فأنت خائن لالتزاماتك الإسلامية، لأن الله تعالى أمرك بذلك ولم تفعله، أو نهاك عنه وأنت تعمله، مثل بعض المسلمين الذين يغتابون ويزنون ويكذبون ويؤيدون الظالمين، فإنهم خائنون لما التزموا به، لأن الإسلام التزام بالقلب واللسان والعمل، وهذا ما عبّر عنه الإمام الباقر(ع): "خيانة الله والرسول معصيتهما ـ بأن تترك ما أمراك به، وأن تفعل ما نهياك عنه ـ وأما خيانة الأمانة فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عليه" في كل التزاماتك. فالمعصية هي نوع من الخيانة العملية لله وللرسول. والتزام مبدأ آخر غير الإسلام هو خيانة لأصل مبدأ الالتزام الإسلامي.

والله تعالى أمر الإنسان المسلم أن لا يخون أرض المسلمين، فلا يسلّط العدو عليها، فكل من يتجسس لحساب المحتل ليمكّنه من أرضه أو من أمته وشعبه، أو ليمكّنه من اقتصاده وأمنه وسياسته، فهو خائن لله وللرسول، لأن الله والرسول لا يريدان للإنسان أن يخون أرضه التي هي مركز عزّته وموقعه وموقع إسلامه، ولذلك قال عليّ(ع): "اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم". لهذا فإن كل الذين يتعاملون مع قوات الاحتلال التي تعمل للسيطرة على الأمة في مقدّراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية، هم خائنون لله وللرسول، ولا سيما أولئك الذين يتجسسون لحساب المخابرات الصهيونية أو الأمريكية أو الأوروبية أو أيّ بلد يعادي واقع المسلمين والمستضعفين.

أنـواع الخيانـة

وهناك نقطة لا بد أن نفهمها من خلال القرآن الكريم، وهي أنه لا يجوز لنا أن ندافع عن كل خائن، سواء كان قريباً لنا أو بعيداً عنا، فالله تعالى يقول وهو يخاطب رسول الله(ص) ويخاطبنا من خلاله: {ولا تجادل ـ لا تدافع ـ عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحبّ من كان خوّاناً أثيماً}، فقرابتك لله وللرسول ولدينك ولمبدئك وأمتك، أقوى من قرابتك لإنسان خائن هنا وهناك.

وقد ورد في كلام الرسول(ص) التحذير من عدّة أشياء، يقول(ص): "أربع لا تدخل بيتاً واحدة منهن إلا خَرِب ـ إن عاجلاً أو آجلاً ـ ولم يُعمَّر بالبَرَكة: الخيانة والسرقة وشرب الخمر والزنى"، ويقول(ص): "ليس منا من خان الأمانة"، وفي حديث له(ص): "ليس منا من خان مسلماً في أهله وماله"، سواء خيانة العرض أو العدوان على أهله أو ماله.

وقد ورد عن الرسول(ص): "المكر والخديعة والخيانة في النار"، ويقول(ص): "لا تخن من خانك تكن مثله"، قد تواجه من خانك، فتأخذ حقّك منه، أما أن تخونه لأنه خانك، فهذا ما يجعلك مثله. وفي حديث الإمام عليّ(ع): "جانبوا الخيانة فإنها مجانِبة الإسلام"، فمن يلتزم خط الخيانة في حياته يكن بعيداً عن الإسلام. ويقول(ع): "رأس النفاق الخيانة"، ويقول(ع): "من استهان بالأمانة وقع في الخيانة".

وهناك نوع من الخيانة، وهي خيانة السر، فالسر أمانة وقد ورد: "المجالس بالأمانة، وليس لأحد أن يحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلاّ بإذنه"، ويقول النبي(ص): "إفشاء سرّ أخيك خيانة فاجتنب ذلك". وهناك نقطة أخرى، وهي أن لا تكون أميناً للخونة فتساعدهم، يقول الإمام الجواد(ع): "كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة". وهناك خيانة العلم، فلا بد لك عندما تريد أن تعطي العلم للناس أن تكون أميناً على هذا العلم لتعطيهم علم الحق لا الباطل، فلا تغشّهم في ذلك، وقد ورد: "تناصحوا في العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشدّ من خيانته في ماله"، لأن المال يأتي ويذهب، أما عندما يعطيك فكرة على أساس أنها الحق وهي الباطل، وعلى أساس أنها العلم وهي الجهل، فإنه يخرّب حياتك، لأنك سوف تتحرك من خلال ما أعطاك. يقول الإمام عليّ(ع): "أعظم الخيانة خيانة الأمة"، ويقول(ع): "شر الرجال التجار الخونة".

وهكذا تتنوّع الخيانة في كل مواردها، سواء في خيانة الودائع والأموال والعرض والسياسة والاقتصاد والأمن. لذلك، أن تكون مؤمناً، أن تكون وفيّاً في كل التزاماتك: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله في كلِّ ما أراد لكم أن تتقوه فيه، في إطاعة أوامره ونواهيه، وفي الإخلاص للإسلام والمسلمين والسير على الخط المستقيم، وفي مواجهة كل قضايا الأمة، بالدعم والتأييد والوحدة في مجابهة كل أعدائها في كل قضاياها العامة، ولا بد لنا أن نواجه ما تعيشه الأمة أمام التحديات، فماذا هناك:

استهداف أمريكي ـ إسرائيلي للمنطقة كلها

لا تزال الإدارة الأمريكية ـ بكل مسؤوليها وأصواتها الإعلامية ـ تؤكد في ضغطها على العالم مواجهة ما تسمّيه معاداة السامية، في تفسيرها لها بأنها تمثل كل نقد للصهيونية ورفض للاعتراف بدولة إسرائيل، ولكل ما يقوم به اليهود في كيانهم من المجازر الوحشية في قتل المدنيين وذبح الأطفال ـ كما حدث أخيراً في غزة ـ وتدمير الواقع الفلسطيني كله، لأن هذه الإدارة تخطط لتبقى حليفتها إسرائيل فوق مستوى النقد والإدانة في العالم كله، لأنها تملك ـ أي إسرائيل ـ الحرية في العبث بكل قرارات الأمم المتحدة وكل حقوق الإنسان، وتحريك الفتن والمشاكل في أكثر من موقع، إلى جانب أمريكا التي تخطط معها في احتلالاتها ومخابراتها ومشاركتها لكل أوضاعها الاستكبارية.

وهكذا لاحظنا كيف أدخلت المقاومة الفلسطينية في الانتفاضة في دائرة ما تسمّيه الحرب على الإرهاب واعتبار فصائلها منظمات إرهابية، في الوقت الذي يعرف الجميع أنها تتحرك في عملية ردِّ فعلٍ للاحتلال الصهيوني، لا من فعل ابتدائي عدواني على اليهود، حتى إن الإدارة الأمريكية منعت كل تفاوض سياسي مع الفلسطينيين، إلا على أساس الخضوع للشروط الصهيونية في تفكيك الانتفاضة وتدمير بنيتها التحتية ومصادرة أسلحتها، مع إعطاء الحرية لليهود في اغتيال رجالاتها وقتل مدنييها، من دون أيّ إنكار لما يقومون به من أعمال وحشية مضادّة للإنسانية وللسامية العربية.

وهذا ما نلاحظه في التجميد السياسي للمفاوضات السلمية التي حاصرتها أمام جدار الرفض السياسي لمصلحة إسرائيل، التي احتجت على أبي مازن لأنه تحدث ـ في احتجاجه على مذبحة الأطفال ـ عن "العدو الصهيوني"، كأنها تريد منه أن يتحدث عن "الجزّارين الأصدقاء"، في الوقت الذي سمع الجميع من هذا الزعيم الفلسطيني الصوت العالي في رفض بقاء الانتفاضة بالوسائل العسكرية، والتوجّه إلى المفاوضات السياسية التي ترفضها إسرائيل إلا بشروطها في رفض حق العودة ومسألة القدس وتفكيك المستوطنات، وبقاء سيطرتها على كل مواقع الرفض الفلسطيني بكل أساليب الاغتيال، إلى غير ذلك مما يفقد الشعب الفلسطيني أكثر أهدافه، لتبقى فلسطين دولة مقطّعة الأوصال، خاضعة للنفوذ الصهيوني بأدنى من مشروع الحكم الذاتي المحلي، ولتتحرك في متاهات المستقبل الذي لا حدود له في نهاية مشروع الدولة.

إن المرحلة التي تواجه الواقع الفلسطيني، لا تتمحور حول فلسطين فحسب، بل تمتد إلى المنطقة كلها التي تتحرك في نطاق التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي الذي يعمل من أجل الضغط الشامل على الواقع العربي الذي سقط تحت تأثير هذا التحالف، والإسلامي الذي اهتز أكثره في زلزال الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية.

وهذا ما نلاحظ بعضه في الضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية المتحركة في القرارات الأمريكية ـ على صعيد الكونغرس الأمريكي ورجال الإدارة ـ على سوريا ولبنان، ولا سيما في القرار 1559 الذي يُراد له ـ في خلفياته الواقعية ـ أن يمثّل حركة للضغط على سوريا بما يتعلق بالاحتلال الأمريكي للعراق، مما اعتبرت المسألة اللبنانية فيه مجرد ورقة ضغط على سوريا مع بعض التهاويل السياسية التي قد يُراد منها خلق بعض المخاوف في الوضع الداخلي اللبناني، الذي قد يحوّل الواقع السياسي إلى ما يشبه الملهاة الاهتزازية، تماماً كما هي الترددات الناتجة من أصداء الزلازل.

وإذا كنا نتصوّر أن هناك أكثر من خطة وأكثر من فرصة لدراسة الأوضاع السورية ـ اللبنانية، لإيجاد حالة من التوازن في العلاقات بين الدولتين بملاحقة كل نقاط الضعف الكامنة في الواقع، ولمنع القوى المضادة من استغلالها في إثارة المشاكل أو من إفساح في المجال للذين يصطادون في الماء العكر، فإننا نعتقد أن من الضروري البدء في ذلك بعيداً عن حالات الضغط، لمواجهة المتغيّرات الدولية في العالم والمنطقة التي هي بحاجة دائمة إلى التغيير في الواقع من حيث الوسائل والمفردات السياسية والأمنية، حفاظاً على الأهداف الكبرى في القضايا المصيرية..

إن البلدين الشقيقين يمثِّلان حالة ارتباط عضوي وتداخل في المصالح المشتركة والقضايا الحيوية الكبرى، ولذلك فلا بد من الارتفاع إلى مستوى الحاجة الملحة على مستوى المرحلة في تحقيق النتائج الإيجابية للوصول إلى الهدف الكبير، فلا يبقى للمصطادين في الماء العكر ـ من الداخل والخارج ـ أية فرصة لذلك.

العراق قادر على صنع مستقبل حرّ

وإذا كانت الدول المجاورة للعراق قد التقت لدراسة الأوضاع القلقة من الناحية الأمنية والسياسية في هذا البلد الجريح، فإننا نتصوّر أن المشكلة الأساس التي لا بد للجميع أن يبحثوها، هي مشكلة الاحتلال الأمريكي الذي هو سرّ كل الأحداث المأساوية لهذا البلد المنكوب، وليست المشكلة هي ما يُراد إثارته ضد سوريا وإيران من التدخّل في أوضاعه بتشجيع عناصر العنف الخارجية في هذا البلد المجاور أو ذاك، مما يدخل في نطاق الإثارة لا في نطاق الواقع، وهذا ما يتحدث به البعض عمّا يسمّونه "الخطر الشيعي" في الانتخابات ونتائجها.

إننا نعتقد أن العراقيين في قياداتهم الدينية والسياسية، قادرون على إدارة أمورهم بأنفسهم عندما يملكون حرية صنع القرار السياسي والاقتصادي والأمني، وخصوصاً إذا أخذوا بأسباب الوحدة الإسلامية والوطنية، وواجهوا الأصوات الناشزة التي تلعب لعبة الطائفية المذهبية في عملية الإثارة من الداخل والخارج، وكذا الفئات الإرهابية الإجرامية من التكفيريين والمجرمين.

إن العراق قادر على صنع مستقبل حرّ، قوي، فاعل ومنتج على مستوى الطاقات المبدعة الكامنة في داخل شعبه، ولكنه بحاجة إلى الحرية والاستقلال والاستقرار، فلا تعبثوا به لخدمة مصالح الاستكبار العالمي وأعوانه.

لبنان في الدوامة الانتخابية

أما لبنان، فإنه لا يزال في الدوّامة الانتخابية التي يتداولها الجميع في متاهات متنوّعة ترتكز على حقوق الطوائف أكثر مما ترتكز على حقوق الوطن، الذي يبحث عن إرادة المواطن في اختيار ممثليه من الأمناء والصادقين والأكفّاء والخبراء والمخلصين للإنسان كله، ولا سيما للجيل الجديد الذي نريد له أن يسبح في الينابيع الصافية ولا يغرق في المياه الموحلة، لأن الأجيال الماضية في كثير من نماذجها، قد فشلت في تجربة تأسيس الوطن الحرّ المستقل، المتوازن، الغني والمنتج، فلماذا لا يبدأ هذا الجيل الباحث عن واقعية الحلول، وعن حركية الإنسان، وروحية المواطن، في تجربة جديدة، يتعلّم فيها من حركة التقدّم في العالم كله، ومن روحية الخير في القيم الكبرى التي تلتقي فيها الأديان ـ ولا سيما المسيحية والإسلام ـ على قاعدة المحبة والرحمة والانفتاح على الله، لا الانغلاق باسمه.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير