الصبر أساس الإيمان

الصبر أساس الإيمان
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الدّينيّة:

 

   الخطبة الأولى الصبر أساس الإيمان

الصّبر والجزع
أولى الإسلام أهميّةً كبرى للجانب الأخلاقيّ، وتحدّث القرآن الكريم عن عناوين كثيرة تختصّ بهذا الجانب، ومن بين هاتيك العناوين، عنوانان يبرزان عندما يواجه الإنسان المصاعب والتحدّيات: الأوّل: عنوان الصّبر. والثّاني: عنوان الجزع. أمّا الصّبر، فهو عنوان التّوازن والتّماسك حينما يواجه الإنسان قضايا الحياة في كلّ مشاكلها وآلامها وأحزانها. وأمّا الجزع، فإنّه يمثّل سقوط الإنسان أمام المشكلة، حيث لا يقدر على مواجهة القضايا الأساسية التي يعيشها في حياته.

وقد جاء في تراثنا عن عليّ(ع): "واعلم أنّ الصّبرمن الإيمانبمنـزلةالرّأس من الجسد،فكما لا خير في جسدٍ لا رأس معه، لا خير في إيمانٍ لا صبر معه". وقد ورد في حديثٍ آخر عن عليّ(ع): "من لم يُنجهِ الصّبر أهلكه الجزع". فالجزع يمثّل أمراً سلبيّاً يسقط الإنسان فيه أمام القضايا الصّعبة التي يعيشها في حياته.

أنواع البلاء
ولهذا يريد الله سبحانه أن نعيش الصّبر بكلّ قوّة وبكلّ انفتاح وبكلّ وعي؛ الصّبر على جميع المستويات: الصّبر على الطّاعة، والصّبر عن المعصية، والصّبر على البلاء. وقد جعل الله الصّبر أساساً لرضاه وأساساً للقرب منه. يقول تعالى في كتابه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}[البقرة: 155ـ156].

فالإنسان يواجه في هذه الحياة الكثيرَ من التحدّيات والمشاكل والمآسي التي يشعر  فيها بالخوف تارةً، والجوعِ تارةً أخرى، والموتِ ثالثةً، فيريد الله من الإنسان أن يقف وقفة إيمانٍ واعٍ، يعرف بها أنّه تعالى قد أقام الحياة على أساس السّنن التي أودعها فيها، فليست هي عسراً كلّها، وليست يُسراً كلّها، بل هي العسر في طريق اليُسر، واليُسر في نهايات العُسر ونتائجه. فإذا واجه الإنسان بعضاً من العسر في طريقه إلى الله، ـ وكُلّنا في الطّريق إلى الله ـ أو ثقلت عليه الأعباء، فلا بدّ له من الاستعانة بالصّبر، ليدعم إرادته ويقوّيها من أجل الحصول على الموقف الصّلب المتوازن، والشّخصيّة المتماسكة.

{ولنَبْلُوَنّكُم} أي نختبركم في حجم الإرادة التي تملكونها {بشيءٍ مِنَ الخوْفِ} الذي يتحدّى الأمن الداخلي في نفوسكم، فلا تملكون الطّمأنينة الروحيّة، والأمن الخارجيّ في حياتكم، فتعيشون الاهتزاز الجسديّ في كيانكم، والخطر السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ في نظامكم،{وَالْجُوعِ} أيضاً نبلوكم به، وهو الحرمان الغذائيّ الضّروريّ،{وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ} في الخسائر المتنوّعة التي تصيب الإنسان بفعل الكوارث أو الحروب أو ما إلى ذلك{وَالأنفُسِ} من رجالكم ونسائكم وأطفالكم الّذين تقضي عليهم الحروب والأمراض والزّلازل والبراكين والكوارث الجويّة أو البحريّة أو البرّيّة، كما نعيشه الآن في مسألة الطّائرة الأثيوبيّة المنكوبة،{وَالثَّمَرَاتِ} التي تمثّل ارتفاع البركات من حياة الإنسان،{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} الذين يعيشون صلابة الموقف، وقوّة التحمّل، والتمرّد على الحرمان، والثّبات في مواقع الزّلزال، ليتابعوا رسالتهم في الحياة من دون تراجعٍ أو انهيارٍ أو انحرافٍ.

هو اختبارٌ ينطلق من إرادة الله وقضائه وقَدَره من خلال الأسباب والقوانين الطبيعيّة التي أودعها الله في الكون؛ فلا بدّ للإنسان من أن يتألّم إذا عاش في الظّروف التي تفرز الآلام، وأن يجوع إذا تحرّكت أسباب الجوع، وأن يخاف إذا فرضت الحياة أجواء الخوف.

بشرى الصّابرين
وأمام ذلك تنطلق البشارة للصّابرين {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} من خلال أسبابها الطبيعيّة في إرادة الله{قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ} فنحن ملكه، نخضع لإرادته، {وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، فكُلّنا في الطّريق إلى الله، و{كلّ نفسٍ ذائقةُ الموت}[الأنبياء:35].

فما هي هذه البشرى؟
{أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، فالله يصلّي على المؤمنين كما يصلّي على رسوله(ص). والصّلاة من الله هي رأفته بعباده، ومغفرته ورعايته لهم، وتفريج كربهم، وقضاء حوائجهم. {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:157] الّذين توازنوا في طريق الحقّ، وتحمّلوا كلّ مصاعبه وآلامه، وتقرّبوا إلى الله في ذلك كلّه ليصلوا إلى مواقع القرب عنده، ومواطن الرّضا لديه.

الخطبة الثّانية

فلسطين: بين الاحتلال الصّهيوني والحصار العربيّ
في المشهد الفلسطينيّ، تبرز صورة معبِّرة لرئيس وزراء العدوّ وهو يغرس شجرة المشروع الاستيطاني الصّهيوني، معلناً عن بقاء الاحتلال والمستوطنات على صدر الفلسطينيّين "إلى الأبد"، فيما يقف أحد المسؤولين العرب خطيباً ليدافع عن الجدار الفولاذي الذي أعطاه عنوان "الإنشاءات" التي تحمي "السيادة والأمن القومي"، على حدّ قوله، ليواصل العدوّ بناء المشروع فيما تواصل الأنظمة العربيّة بناء الجدر التي تحمي كيان العدوّ، وتحاصر الشّعب الفلسطيني في لقمة عيشه ووسائل الدّفاع المشروعة عن حياته!!

تهويد النّقب والجليل
وإلى جانب ما يجري في الضفّة الغربيّة، بدأ العدوّ بإرساء دعائم خطّةٍ جديدةٍ لتهويد النّقب والجليل، حيث صادق رئيس وزراء العدوّ على منح الجنود الصّهاينة قسائم بناء مجانيّة في أراضي هاتين المنطقتين، لتأكيد يهوديّة الكيان، وطرد العرب، وفرض أمر واقع يغطّي الحديث عن استئناف المفاوضات التي ستكون محصّلتها المزيد من التّفاوض على الورق، فيما يسيطر العدوّ على بقيّة الأرض في الميدان.

إنّها اللّعبة الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة التي يتوزّع فيها الطّرفان الأدوار، والتي بدأت تظهر معالمها من خلال ما طرحه مبعوث الرّئيس الأمريكي في زيارته الأخيرة حول التّفاوض بهدف ما أسماه "تحسين أوضاع الفلسطينيّين في الضفة"، والذي يشكّل ترديداً حرفيّاً لمشروع نتنياهو القاضي بمنح الفلسطينيّين تحسينات اقتصاديّة معيّنة، مقابل تمرير المزيد من مشاريع الاستيطان المؤدّية إلى ضياع القضيّة بالكامل.

إنّنا نحذّر الجميع، بمن فيهم من يتراشق مع أهله وشعبه تحت عنوان الحرص على السيادة، من أنّ سقوط القضيّة الفلسطينيّة بيد العدوّ سوف يؤدّي إلى سقوط كلّ الجدر أمامه، وهو ما سيشجّعه على استباحة بقايا السيادة العربيّة والأمن القومي لحساب أمنه الذي يتجاوز المحيط والخليج.

العراق: الغرق في بحر الدّماء
وليس بعيداً من فلسطين، تبرز مأساة العراقيّين الذين أرادهم الاحتلال من جهة، وجماعات القتل والإجرام والوحشيّة من جهة أخرى، أن يكونوا الحطب لمشاريع التّمزيق التي تطيل أمد الاحتلال، وتحرّك دفّة الانتخابات القادمة بما يتناسب مع طموحات المحاور والقوى المعادية للأمّة، والسّاعية لإغراقها ببحارٍ من الدّماء، عبر التفجيرات الحاقدة التي تناسى منتجوها الاحتلالَ، وصوّبوا نيرانهم القاتلة باتجاه المدنيّين والأبرياء من شعبهم وأهلهم.

إنّنا ننبّه من أنّ العراق يمثّل المحطّة الثانية من محطّات الضّغط بعد فلسطين المحتلّة، ويُراد له أن يكون ساحة الاختبار لمشاريع دوليّة وإقليميّة لم تكتمل صورتها، ولم تخبُ نيرانها. وعلى العراقيّين بمختلف انتماءاتهم وتوجّهاتهم أن يتوحّدوا لرفض هذه الخطط والمشاريع التي يوضع فيها الشعب بين خيارين أحلاهما مرّ: إمّا أن يخضع لشروط الاحتلال قبل الانسحاب، أو أن يربط العجلة السياسيّة والانتخابيّة بقطار الاحتلال ومن يركبه في طول المنطقة وعرضها! وقد كان خيار الشعب العراقيّ التوحّد في خطّ العزّة والكرامة والسيادة، ولا نعتقد أنّه سيتنازل عنه لحساب الاحتلال وزمرته.

لبنان: العمل على تمتين روابط المحبّة
أمّا لبنان، فقد دخل في نوع جديد من الاختبارات قبل أيّام، تمثّل بكارثة الطّائرة التي وحّدت اللّبنانيين في المأساة والآلام، وفي التّفاعل مع العائلات المفجوعة الذي قدّم صورةً حيّةً عن هذا الشّعب الذي لاحقته قوى الاحتلال والعدوان، وطاردته الحروب والأزمات الاقتصاديّة والكوارث الكبرى، ولكنّه بقي صامداً متماسكاً، حتى في اللّحظات التي فُجع فيها بأعزّ أبنائه وأبرز كوادره وطاقاته.

إنّنا نقول للمسؤولين: إنّ هذه الكارثة التي استطاعت أن تجمعكم، وأن تحشد حركة الدولة كلّها في ميدان واحد، تمثّل رسالة إليكم لكي تعملوا جميعاً لحساب هذا الشّعب، عبر الاندفاع بخطوات عمليّة تؤسّس لقيام الدولة القويّة العادلة التي تحتضن أبناءها وطاقاتها، فلا ترمي بهم في عرض البحر، أو تجعلهم فريسةً للقدر في رحلة العذاب المستمرّة بحثاً عن لقمة العيش، وصناعة المستقبل المجبول بعرق الكرامة المسفوح على جباهٍ أعياها الجهد والجهاد، وأذوى الموتُ بهاءها وعطاءها.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الدّينيّة:

 

   الخطبة الأولى الصبر أساس الإيمان

الصّبر والجزع
أولى الإسلام أهميّةً كبرى للجانب الأخلاقيّ، وتحدّث القرآن الكريم عن عناوين كثيرة تختصّ بهذا الجانب، ومن بين هاتيك العناوين، عنوانان يبرزان عندما يواجه الإنسان المصاعب والتحدّيات: الأوّل: عنوان الصّبر. والثّاني: عنوان الجزع. أمّا الصّبر، فهو عنوان التّوازن والتّماسك حينما يواجه الإنسان قضايا الحياة في كلّ مشاكلها وآلامها وأحزانها. وأمّا الجزع، فإنّه يمثّل سقوط الإنسان أمام المشكلة، حيث لا يقدر على مواجهة القضايا الأساسية التي يعيشها في حياته.

وقد جاء في تراثنا عن عليّ(ع): "واعلم أنّ الصّبرمن الإيمانبمنـزلةالرّأس من الجسد،فكما لا خير في جسدٍ لا رأس معه، لا خير في إيمانٍ لا صبر معه". وقد ورد في حديثٍ آخر عن عليّ(ع): "من لم يُنجهِ الصّبر أهلكه الجزع". فالجزع يمثّل أمراً سلبيّاً يسقط الإنسان فيه أمام القضايا الصّعبة التي يعيشها في حياته.

أنواع البلاء
ولهذا يريد الله سبحانه أن نعيش الصّبر بكلّ قوّة وبكلّ انفتاح وبكلّ وعي؛ الصّبر على جميع المستويات: الصّبر على الطّاعة، والصّبر عن المعصية، والصّبر على البلاء. وقد جعل الله الصّبر أساساً لرضاه وأساساً للقرب منه. يقول تعالى في كتابه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}[البقرة: 155ـ156].

فالإنسان يواجه في هذه الحياة الكثيرَ من التحدّيات والمشاكل والمآسي التي يشعر  فيها بالخوف تارةً، والجوعِ تارةً أخرى، والموتِ ثالثةً، فيريد الله من الإنسان أن يقف وقفة إيمانٍ واعٍ، يعرف بها أنّه تعالى قد أقام الحياة على أساس السّنن التي أودعها فيها، فليست هي عسراً كلّها، وليست يُسراً كلّها، بل هي العسر في طريق اليُسر، واليُسر في نهايات العُسر ونتائجه. فإذا واجه الإنسان بعضاً من العسر في طريقه إلى الله، ـ وكُلّنا في الطّريق إلى الله ـ أو ثقلت عليه الأعباء، فلا بدّ له من الاستعانة بالصّبر، ليدعم إرادته ويقوّيها من أجل الحصول على الموقف الصّلب المتوازن، والشّخصيّة المتماسكة.

{ولنَبْلُوَنّكُم} أي نختبركم في حجم الإرادة التي تملكونها {بشيءٍ مِنَ الخوْفِ} الذي يتحدّى الأمن الداخلي في نفوسكم، فلا تملكون الطّمأنينة الروحيّة، والأمن الخارجيّ في حياتكم، فتعيشون الاهتزاز الجسديّ في كيانكم، والخطر السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ في نظامكم،{وَالْجُوعِ} أيضاً نبلوكم به، وهو الحرمان الغذائيّ الضّروريّ،{وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ} في الخسائر المتنوّعة التي تصيب الإنسان بفعل الكوارث أو الحروب أو ما إلى ذلك{وَالأنفُسِ} من رجالكم ونسائكم وأطفالكم الّذين تقضي عليهم الحروب والأمراض والزّلازل والبراكين والكوارث الجويّة أو البحريّة أو البرّيّة، كما نعيشه الآن في مسألة الطّائرة الأثيوبيّة المنكوبة،{وَالثَّمَرَاتِ} التي تمثّل ارتفاع البركات من حياة الإنسان،{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} الذين يعيشون صلابة الموقف، وقوّة التحمّل، والتمرّد على الحرمان، والثّبات في مواقع الزّلزال، ليتابعوا رسالتهم في الحياة من دون تراجعٍ أو انهيارٍ أو انحرافٍ.

هو اختبارٌ ينطلق من إرادة الله وقضائه وقَدَره من خلال الأسباب والقوانين الطبيعيّة التي أودعها الله في الكون؛ فلا بدّ للإنسان من أن يتألّم إذا عاش في الظّروف التي تفرز الآلام، وأن يجوع إذا تحرّكت أسباب الجوع، وأن يخاف إذا فرضت الحياة أجواء الخوف.

بشرى الصّابرين
وأمام ذلك تنطلق البشارة للصّابرين {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} من خلال أسبابها الطبيعيّة في إرادة الله{قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ} فنحن ملكه، نخضع لإرادته، {وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، فكُلّنا في الطّريق إلى الله، و{كلّ نفسٍ ذائقةُ الموت}[الأنبياء:35].

فما هي هذه البشرى؟
{أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، فالله يصلّي على المؤمنين كما يصلّي على رسوله(ص). والصّلاة من الله هي رأفته بعباده، ومغفرته ورعايته لهم، وتفريج كربهم، وقضاء حوائجهم. {وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:157] الّذين توازنوا في طريق الحقّ، وتحمّلوا كلّ مصاعبه وآلامه، وتقرّبوا إلى الله في ذلك كلّه ليصلوا إلى مواقع القرب عنده، ومواطن الرّضا لديه.

الخطبة الثّانية

فلسطين: بين الاحتلال الصّهيوني والحصار العربيّ
في المشهد الفلسطينيّ، تبرز صورة معبِّرة لرئيس وزراء العدوّ وهو يغرس شجرة المشروع الاستيطاني الصّهيوني، معلناً عن بقاء الاحتلال والمستوطنات على صدر الفلسطينيّين "إلى الأبد"، فيما يقف أحد المسؤولين العرب خطيباً ليدافع عن الجدار الفولاذي الذي أعطاه عنوان "الإنشاءات" التي تحمي "السيادة والأمن القومي"، على حدّ قوله، ليواصل العدوّ بناء المشروع فيما تواصل الأنظمة العربيّة بناء الجدر التي تحمي كيان العدوّ، وتحاصر الشّعب الفلسطيني في لقمة عيشه ووسائل الدّفاع المشروعة عن حياته!!

تهويد النّقب والجليل
وإلى جانب ما يجري في الضفّة الغربيّة، بدأ العدوّ بإرساء دعائم خطّةٍ جديدةٍ لتهويد النّقب والجليل، حيث صادق رئيس وزراء العدوّ على منح الجنود الصّهاينة قسائم بناء مجانيّة في أراضي هاتين المنطقتين، لتأكيد يهوديّة الكيان، وطرد العرب، وفرض أمر واقع يغطّي الحديث عن استئناف المفاوضات التي ستكون محصّلتها المزيد من التّفاوض على الورق، فيما يسيطر العدوّ على بقيّة الأرض في الميدان.

إنّها اللّعبة الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة التي يتوزّع فيها الطّرفان الأدوار، والتي بدأت تظهر معالمها من خلال ما طرحه مبعوث الرّئيس الأمريكي في زيارته الأخيرة حول التّفاوض بهدف ما أسماه "تحسين أوضاع الفلسطينيّين في الضفة"، والذي يشكّل ترديداً حرفيّاً لمشروع نتنياهو القاضي بمنح الفلسطينيّين تحسينات اقتصاديّة معيّنة، مقابل تمرير المزيد من مشاريع الاستيطان المؤدّية إلى ضياع القضيّة بالكامل.

إنّنا نحذّر الجميع، بمن فيهم من يتراشق مع أهله وشعبه تحت عنوان الحرص على السيادة، من أنّ سقوط القضيّة الفلسطينيّة بيد العدوّ سوف يؤدّي إلى سقوط كلّ الجدر أمامه، وهو ما سيشجّعه على استباحة بقايا السيادة العربيّة والأمن القومي لحساب أمنه الذي يتجاوز المحيط والخليج.

العراق: الغرق في بحر الدّماء
وليس بعيداً من فلسطين، تبرز مأساة العراقيّين الذين أرادهم الاحتلال من جهة، وجماعات القتل والإجرام والوحشيّة من جهة أخرى، أن يكونوا الحطب لمشاريع التّمزيق التي تطيل أمد الاحتلال، وتحرّك دفّة الانتخابات القادمة بما يتناسب مع طموحات المحاور والقوى المعادية للأمّة، والسّاعية لإغراقها ببحارٍ من الدّماء، عبر التفجيرات الحاقدة التي تناسى منتجوها الاحتلالَ، وصوّبوا نيرانهم القاتلة باتجاه المدنيّين والأبرياء من شعبهم وأهلهم.

إنّنا ننبّه من أنّ العراق يمثّل المحطّة الثانية من محطّات الضّغط بعد فلسطين المحتلّة، ويُراد له أن يكون ساحة الاختبار لمشاريع دوليّة وإقليميّة لم تكتمل صورتها، ولم تخبُ نيرانها. وعلى العراقيّين بمختلف انتماءاتهم وتوجّهاتهم أن يتوحّدوا لرفض هذه الخطط والمشاريع التي يوضع فيها الشعب بين خيارين أحلاهما مرّ: إمّا أن يخضع لشروط الاحتلال قبل الانسحاب، أو أن يربط العجلة السياسيّة والانتخابيّة بقطار الاحتلال ومن يركبه في طول المنطقة وعرضها! وقد كان خيار الشعب العراقيّ التوحّد في خطّ العزّة والكرامة والسيادة، ولا نعتقد أنّه سيتنازل عنه لحساب الاحتلال وزمرته.

لبنان: العمل على تمتين روابط المحبّة
أمّا لبنان، فقد دخل في نوع جديد من الاختبارات قبل أيّام، تمثّل بكارثة الطّائرة التي وحّدت اللّبنانيين في المأساة والآلام، وفي التّفاعل مع العائلات المفجوعة الذي قدّم صورةً حيّةً عن هذا الشّعب الذي لاحقته قوى الاحتلال والعدوان، وطاردته الحروب والأزمات الاقتصاديّة والكوارث الكبرى، ولكنّه بقي صامداً متماسكاً، حتى في اللّحظات التي فُجع فيها بأعزّ أبنائه وأبرز كوادره وطاقاته.

إنّنا نقول للمسؤولين: إنّ هذه الكارثة التي استطاعت أن تجمعكم، وأن تحشد حركة الدولة كلّها في ميدان واحد، تمثّل رسالة إليكم لكي تعملوا جميعاً لحساب هذا الشّعب، عبر الاندفاع بخطوات عمليّة تؤسّس لقيام الدولة القويّة العادلة التي تحتضن أبناءها وطاقاتها، فلا ترمي بهم في عرض البحر، أو تجعلهم فريسةً للقدر في رحلة العذاب المستمرّة بحثاً عن لقمة العيش، وصناعة المستقبل المجبول بعرق الكرامة المسفوح على جباهٍ أعياها الجهد والجهاد، وأذوى الموتُ بهاءها وعطاءها.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير