لنكن مجتمع المحبة لا مجتمع القسوة

 لنكن مجتمع المحبة لا مجتمع القسوة
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
 
الرحمة قيمة روحية

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، ويقول الله سبحانه وتعالى في حديث عن عيسى بن مريم(ع): {ثم قفّينا على آثارهم برسلنا وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفة ورحمة}، ويقول سبحانه وتعالى: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}.

في هذه الآيات وفي غيرها، يتحدث الله عن الرحمة كقيمة روحية إنسانية في شخصية الإنسان الذي يؤمن بالله وبرسالاته، ولا سيما أن هذه الرحمة هي صفة الله "الرحمن الرحيم"، الذي أرادنا أن نذكره بها عندما نتكلم بالبسملة، فنقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى أن {رحمة الله قريب من المحسنين} {ورحمتي وسعت كل شيء}.

وبذلك فإن علينا عندما نتمثل الله سبحانه وتعالى من موقع رحمته، أن ننفتح عليه في مواقع الرحمة، فلا نيأس من رحمته مهما صدر منا، وقد قال سبحانه وتعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}.

وهكذا أرادنا الله أن نعيش هذه الرحمة في أنفسنا، فلا نضيّق على أي إنسان رحمة الله، وقد قال تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق}، فلو أن الله ودع خزائن رحمته بأيديكم، لما أعطيتم الكثيرين من الناس من هذه الرحمة.

ولذلك علينا أن لا نتدخل بأمور الله وإن كان من عصى الله يستحق العذاب والعقاب، لأن الله يقول: {ورحمتي وسعت كل شيء}. وكما في الحديث: "إن لله رحمة في يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس".

الانفتاح على رحمة الله

ولذلك علينا أن نعيش في أنفسنا الانفتاح على رحمة الله سبحانه وتعالى، فلا نيأس منها، ولا ندع حتى الذين ارتكبوا المعاصي مهما بلغت من أن ييأسوا، وإن كان كما جاء في الآية الكريمة: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، ويبقى علينا أن نطلب من الناس أن يتوبوا إلى الله وأن يطلبوا رحمته من خلال ذلك.

وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى عن رسوله أنه يمثل الرحمة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، لأن ما جاء به الرسول(ص) يمثل رحمة لعقول الناس ولقلوبهم ولحياتهم في الدنيا وفي الآخرة، ولأنه(ص) نبي الرحمة الذي امتلأ قلبه رحمة بالناس، فكان قلبه يبكي على الناس الذين لا يؤمنون، لا من جهة أنهم لم يستجيبوا له من ناحية ذاتية، بل لابتعادهم عن طريق الحق وعن طريق رضى الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الله يسليه ويقول له: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}، وهكذا رأينا كيف أن رسول الله(ص) تحرك برحمته، فلان لسانه وقلبه للناس الآخرين: {فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.

وفي هذا درس لكل العلماء الذين يعظون الناس ويرشدونهم، ولكل المبلغين الذين يبلغون رسالات الله، بحيث يجب عليهم أن يتميزوا بقلب رقيق يحب الناس، وأن يتميزوا بلسان لين طيب يطلق الكلمة الأحسن والموعظة الحسنة.

المجتمع المؤمن متراحم

وهكذا نقرأ في قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، ونستوحي من هذه الآية أن الله يريد من المجتمع المسلم أن يكون المجتمع المتراحم الذي يرحم بعضه بعضاً، فلا يعيش المسلم القسوة ضد المسلم الآخر، في نفسه، وفي نيته، وفي كلمته، ولا في معاملاته وفي علاقته به، بل يكون شأنه معه الرحمة له في كل قضاياه، وفي كل نقاط ضعفه.

وعلى هذا الأساس، لا بد أن يكون مجتمعنا مجتمعاً متراحماً، كما يجب أن تكون القيادة، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، قيادة رحيمة، ولا بد أن يكون الناس الذين يتحركون معها رحماء بينهم، بأن لا يضر أحدهم الآخر، وأن لا يؤذيه، وأن لا يدمره ويشوه سمعته، وما إلى ذلك.

الرحمة موضع للتواصي

وهكذا، حدثنا الله سبحانه وتعالى أن رسالة السيد المسيح(ع) هي رسالة الرحمة التي تأثر بها الذين اتبعوه من الحواريين وغيرهم، ولذا قال: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ـ السيد المسيح(ع) في رسالته ـ رأفة ورحمة}، فهم يعيشون الرحمة فيما بينهم وللناس الذين يعيشون معهم ويتحملون مسؤوليتهم.

ثم يحدثنا الله سبحانه وتعالى أن الرحمة لا بد أن تكون موضعاً للتواصي بين الناس في المجتمع المؤمن، خاصة الرحمة بالضعفاء: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر ـ أمام البلاء والتحديات ـ وتواصوا بالمرحمة}.

وفي هذا المجال نقرأ بعض الأحاديث الواردة عن عطاءات الله للإنسان الذي يعيش الرحمة، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة"، أن يرحم الإنسان من حوله، أن يرحم زوجته، ولده، جاره، العامل، وهكذا أن يرحم من في الأرض يرحمه من في السماء.

العفو عمّن ظلم

وفي حديث آخر عن علي(ع): "أحسن كما تحب أن يُحسن إليك"، أحسن للناس يحسن الله إليك جزاءً لإحسانك، ارحم تُرحم، وهكذا يقول الإمام علي(ع) في بعض ما روي عنه: "ارحم من دونك ـ أي من هو تحت يديك أو الأضعف منك ـ يرحمك من فوقك ـ وهو الله ـ وقف سهوه بسهوك ـ بأن تفكر بأنه إذا أخطأ فأنت أيضاً عرضة للخطأ، فكيف تريد ممن أخطأت معه أن يغفر خطأك ولا تغفر خطأ من أخطأ معك ـ ومعصيته لك بمعصيته لربك ـ فإذا كان يقع تحت مسؤوليتك وعصاك وترى في ذلك شيئاً كبيراً، فأنت تعصي ربك، فهل ترى أن معصيته لك أقل من معصيتك لربك، ولذلك عليك أن تتعامل مع الذي هو دونك إذا عصاك كما تريد أن يتعامل معك ربك ـ وفقّره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربك ـ ألا تفكر بأن هذا الإنسان الذي عصاك يفتقر إلى رحمتك، فتذكر فقرك إلى رحمة ربك ـ فاغفر له حتى يغفر لك ربك".

وقد ورد في الدعاء الذي يرويه أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين(ع): "اللهم إنك أنزلت في كتابك العفو وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعفو عنا فإنك أولى بذلك منا".

ويقول الإمام علي(ع): "عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه كيف لا يرحم من دونه"، أنت عندما تكون تحت يد إنسان آخر، ألا ترجو منه أن يرحمك إذا أخطأت؟! فارحم أيضاً من هو تحت يدك، وهكذا عندما يرجو الإنسان رحمة الله، فعليه أن يرحم من دونه كما يرجو رحمة من فوقه.

الرحمة حتى بأضعف الخلق

"من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة"، وهو مثال لأضعف المخلوقات، حيث يجب أن لا تقتصر رحمة الإنسان على الإنسان فحسب، بل عليه أن يرحم حتى الحيوان، وبمعنى آخر، أن تكون الرحمة طبيعة، أي أن تكون رقيق القلب، كما تتألم لآلام الإنسان، تألم لآلام الحيوان، وهكذا..

وفي الحديث: "ينادي مَن في النار، يا حنّان يا منّان، نجّنا من النار، فيأمر الله ملكاً فيخرجه حتى يقف بين يديه، فيقول الله عز وجل: هل رحمت عصفوراً"، وقد لا يلتفت الكثيرون إلى هذا المعنى، فيأخذ بعضنا حريته في التصرف بالحيوان، فيؤلمه ويؤذيه. وقد ورد في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً.

وقد ورد في الكثير من الأحاديث أن الله أحلّ لنا ذبح الحيوان، ولكن على الإنسان الذي يريد أن يذبح الحيوان أن يحدّ شفرته حتى لا يؤلمه، أو أن يخفف ألمه، وأنه إذا رأى كلباً أو هراً أو ما إلى ذلك ظامئاً أو جائعاً، وسقاه وأطعمه، "لكل كبد حرّة أجر"، فالله يؤجره لقيامه على الرفق بالحيوان وبرعايته، وهذه هي أخلاقية الإسلام في هذا المجال.

وورد في الحديث عن النبي(ص): "من لا يرحم لا يُرحَم، ومن لا يغفر لا يُغفر له، ومن لا يتب لا يتوب الله عليه"، و"من لا يرحم الناس لا يرحمه الله". وهكذا، "والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا رحيم ـ يعني أنه لا يدخل الجنة الإنسان القاسي القلب الذي لا يرحم أحداً ـ قالوا: كلنا رحيم، قال: لا حتى ترحم"..

وفي حديث آخر: "إن الله رحيم يحب الرحيم، يضع رحمته على كل رحيم"، وأيضاً: "خاب عبد وخسر لن يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر".

موارد رحمة الله لعباده

وفي المقابل، وردت بعض الأحاديث التي يرحم الله فيها عباده، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع): "إني لأرحم ثلاثاً، وحق لهم أن يرحموا: عزيز أصابته مذلة بعد العز، وغني أصابته حاجة بعد الغنى، وعالم يستخف به أهله والجهلة".

وورد أيضاً: "ارحم المساكين" بأن تخرجهم من مسكنتهم بحسب إمكاناتك. وقد ورد عن رسول الله(ص) في وصيته لأنس: "يا أنس، ارحم الصغير ووقر الكبير تكن من رفقائي ـ أن نرحم صغارنا، بأن نلاحظ ذهنيتهم وعقليتهم وآلامهم ومشاكلهم، وهكذا ـ من لم يرحم صغيرنا ولم يعرف حق كبيرنا فليس منا"، ويخرج إذا لم يعمل بهذه القاعدة من دائرة الإسلام.

الابتعاد عن الذنوب والمعصية

ويقول الإمام علي(ع): "وإنما ينبغي لأهل العصمة ـ الشخص الذي وفقه الله لأن يكون معصوماً في أقواله وأعماله ـ والمسموع إليهم في السلامة ـ الذين يكونون في سلامة من دينهم ـ أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية ـ أي أن يقدّروا ظروفهم ـ وأن يكون الشكر هو الغالب عليهم".

ثم بعد ذلك، على الإنسان أن يرحم نفسه: "فارحموا نفوسكم، فإنكم قد جررتموها في مصائب الدنيا. ويا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك، أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك". فلا توقع نفسك في المعصية أو الذنب، لأنك تظلم نفسك بذلك وتعرضها لغضب الله سبحانه وتعالى.

الإحساس بالرحمة

أيها الأحبة، هذه هي الخطوط الإسلامية في مسألة الرحمة، ولا بد أن نربي أطفالنا وأنفسنا على ذلك، لأننا عندما نعيش هذا الإحساس بالرحمة، يجب أن تكون قلوبنا نابضة بالرحمة، وأن نتحمل مسؤولية كل الفئات المحرومة والجاهلة والضالة في المجتمع، بأن نعمل على رعاية المحرومين، وعلى هداية الضالين، وعلى تعليم الجاهلين، أن نعيش الإحساس بالمسؤولية اتجاه كل القضايا الموجودة في مجتمعنا، عند ذلك يمكن لنا أن ننطلق في مجتمع يتراحم أفراده، ويتعاونون ويتواصلون فيما بينهم، وهذا هو المجتمع الذي يحبه الله ويرضاه، ويعيش فيه أهل الجنة، لأن أهل الجنة هم الرحماء فيما بينهم هناك، وعلينا أن نعيش أخلاق الله، وأخلاق رسول الله، وأخلاق أوليائه، وأخلاق أهل الجنة، لنحصل على رحمة الله في الدنيا وفي الآخرة، يوم لا رحمة إلا رحمته، ولا ظل إلا ظله..
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
 
عباد الله.. اتقوا الله في كل ما حمّلكم من المسؤوليات، واتقوا الله في كل ما اختزنتموه في شهر رمضان، من تقوى وروحانية ومن قرب إلى الله سبحانه وتعالى، لا تضيّعوا ذلك بالاستغراق باللهو والعبث والغفلة والبعد عن الله سبحانه وتعالى، فإن الله أراد أن يجعل شهر رمضان خزاناً روحياً يختزن فيه الإنسان كل ما يقرّبه إلى ربه وكل ما يبعده عن الشيطان.

لذلك لا تضيعوا النتائج التي حصلتم عليها من خلال جهد الصيام والقيام وتلاوة القرآن، حتى تحوّلوا السنة كلها إلى رمضان بالمعنى الروحي للكلمة، وحتى تحوّلوا كل يوم إلى عيد، كما قال علي(ع): "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه"، "وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد". وفي ما يخص أوضاعنا وقضايانا، فإن هناك جملة من القضايا المطروحة في ساحتنا:

الأعياد: احتفال بالقيم

المرحلة الآن هي مرحلة الاحتفال بالسيد المسيح عليه السلام في يوم ميلاده، حيث الروح تفيض محبةً ورحمةً وحناناً وبركةً، من خلال رسالته الإلهية في القيم الروحية الإنسانية، والاحتفال بعيد الفطر المبارك، حيث طاعة الله تمثّل معنى العيد في الامتثال بأوامره ونواهيه ، بكل ما يعنيه ذلك من الروحانية الفيّاضة على الإنسان كلّه في العقل والقلب والروح والحياة ، من خلال رسالة الاسلام ، رسالة الله.

وتقارب الأعياد في القيم الروحية المشتركة بين الإسلام والمسيحية لا بد من أن يبعث على تقارب العقول والقلوب بين المسلمين والنصارى في العالم كله، في مواجهة الإلحاد كله والاستكبار كلّه، وفي رعاية الخطوط الأخلاقية المشتركة، وفي الانفتاح على الحوار في مواقع الاختلاف بروحية الكلمة السواء، للابتعاد عن التعقيدات الطائفية والأحقاد العدوانية التي لن تخدم أحداً، بل تسقط الهيكل على رؤوس الجميع .

ونلتقي بعد أيام بالسنة الميلادية الجديدة التي تمثل في وعي الإنسان الإحساس بالزمن وحساب المسؤولية في كل أوضاع السنة الماضية، ليتخفف من نتائجها السلبية، وليستزيد من إيجابياتها والتخطيط لحركة المسؤولية، مما حمّله الله إيّاه في نفسه وأهله ومجتمعه وأمته بحسب طاقته في جهده الفكري والعمليّ ، والبعد عن الاستغراق في غيبوبة اللهو ومتاهات الضياع الروحي مما اعتاده الناس من الغرق في جنون السكر والعربدة والفجور بما يبتعد به عن وعي المستقبل في أول خطواته .

الانتفاضة: ثبات على الحق

وتتحرك الانتفاضة الفلسطينية في عيد الشهادة وفي حركة التحرير المضمّخة بعطر الدماء وإرادة القوة وصرخة الحرية وثبات الموقف وصمود الجهاد ... إنه عيد الشعب الفلسطيني المنفتح على قيم الصبر والعزة والكرامة في خط الإيمان بالرسالات والرسل كلهم ... وتستمر الانتفاضة ، ولكنها تصطدم الآن بالمساعي الأميركية من خلال اقتراحات الرئيس الأميركي التي هي في العمق اقتراحات إسرائيلية ممهدة للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي تتميّز بالغموض الذي لا يحسم الموقف، لتبقى مثاراً للجدل المستقبلي حتى بعد التوقيع، كما هو الحال في اتفاق أوسلو الذي كانت كل مادة فيه تثير مائة سؤال وسؤال . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لا ضمان للتنفيذ ، بل إن التجربة السابقة أثبتت أن اليهود لا يلتزمون بتنفيذ ما وقّعوا عليه ، لا سيما أن اليمين الإسرائيلي القادم إلى الحكم أعلن عدم التزامه بأي اتفاق، ما يوحي بأن أميركا تعمل على حل المأزق الإسرائيلي ووقف الانتفاضة لا تحقيق المطالب الفلسطينية .

إننا نعتقد أن الانتفاضة الفلسطينية وضعت خطوطاً حمراء ضد كل قرار في التنازل عن الحق الفلسطيني في التحرير، أيّاً كانت الضغوط الدولية أو الإقليمية التي لا تملك التحرّك بحريّة في القرارات الصادرة عن أيّة جهة كانت تحت تأثير ذلك .

المستوطنات عبء على جيش العدو

إننا نعتقد بأن الشعب الفلسطيني المجاهد قد استطاع - من خلال الانتفاضة - أن يزرع المشكلة في داخل الكيان الصهيوني، سواء في الواقع السياسي أو الأمني ، وأن ينقل المسألة من الصراع بين الدول العربية وإسرائيل، إلى مرحلة الصراع العنيف في الداخل بين الشعب الفلسطيني واليهود ، بحيث أصبحت المسألة مسألة داخلية، وهذا ما تحقق في إنهاء حالة الأمن للمستوطنات التي أصبحت عبئاً على جيش العدو ، وفي إثارة الخوف والقلق في نفس كل يهودي بفعل العمليات الجهادية ، كما حدث بالأمس في تل أبيب وفي غزة ، الأمر الذي جعل رئيس الليكود يتحدث عن مواجهة هذا الخطر الجديد القديم الذي يسمّيه بالإرهاب ، متناسياً إرهاب كيانه الوحشيّ الذي لا مثيل له في العالم .

إننا نقول للشعب الفلسطيني إن المرحلة التي قطعها في حركته نحو مستقبل التحرير بحاجة - للاستكمال لبلوغ الأهداف - إلى أكثر من مرحلة من الجهاد والمعاناة ، فلا تسمحوا لأحد بإسقاط النتائج وحرق المراحل بحجة إنهاء الآلام ، فإنها ستتحول إلى أحلام سعيدة بعد التحرير: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين* إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} .

العلاقات الإيرانية ـ الروسية

وفي جانب آخر ، فإننا نجد في العلاقات الروسيّة الإيرانية في الاتفاقات الجديدة المعقودة بينهما في النطاق الأمني والسياسي لتلك المنطقة ، بادرة عهد جديد لكسر الحصار الأميركي من خلال الضغوط المتنوعة على روسيا لمنعها من بيع الأسلحة لإيران.

إننا نعتقد أن المصالح الدولية بدأت تضغط على السياسة الأمريكية، وسوف يأتي الوقت الذي تفقد فيه أمريكا تأثيرها على دول العالم في أكثر من موقع.

الأعياد.. منطلق جديد

وعندما نأتي إلى لبنان ، فإننا نريد لهذه الأعياد أن لا تمثّل مناسبةً للقاء في مصادفاتها الزمنية فحسب، بل أن تشكّل منطلقاً جديداً للّبنانيين، لينهضوا من خلال رؤية مشتركة جديدة تأخذ مصلحة البلد والأمة بعين الاعتبار ، فقيمة هذه المناسبات هي بمقدار ما تؤسس له من أجواء حقيقية من التفاهم واللقاء والوحدة، لا أن تبقى مناسبات احتفالية يستعاد فيها الخطاب التقليدي البارد على المستوى الديني والسياسي، بل أن تتحرّك في قضايا الناس وأوضاعهم في الحاضر والمستقبل .

الأمن مسؤولية الجميع

وأخيراً، هناك مسألة حيوية، وهي أن يتحمل الجميع مسؤولية المحافظة على أمن الناس، لا سيما في الجنوب المحرّر، حيث قد يحاول البعض أن يخلق من أيّ عمل فردي سلبي مسألة طائفية، ليبرّر بذلك المطالبة بإدخال الجيش إلى الجنوب، الذي يمثل في هذه المرحلة مطلباً دولياً وإقليمياً من أجل إراحة إسرائيل التي لا تزال تشعر بالقلق من المقاومة ولا سيما المقاومة الإسلامية، التي لا تتحرك لأهداف أمنية داخلية، بل من أجل تحرير بقية الأجزاء اللبنانية المحتلة وحماية الجنوب من أيّ عدوان إسرائيلي، خاصةً أن لبنان لا يزال في حالة حربٍ مع العدو، وأن ظروف الجيش اللبناني لا تسمح له بالدخول في حرب نظامية مع الاحتلال .

إننا نقول للجميع ، إن الجنوبيين قد استطاعوا أن يرتفعوا بالأمن إلى المستوى الرفيع، بحيث إن الخلل الأمني في سائر المناطق أكثر من أي خللٍ في الجنوب ، الأمر الذي يفرض على كل الجهات أن تمارس الحذر في الخلافات الفردية أو الحزبية التي قد تعطي صورة غير واقعية عن الواقع هناك ، لقد عانت الأراضي المحرّرة الكثير من الآلام إبّان الاحتلال، فاتركوا الناس يرتاحون بعد التحرير، لا سيّما أنّهم يعيشون في أقسى الحالات من الجوع والحرمان وفقدان الخدمات الحيوية من قبل الدولة .
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
 
الرحمة قيمة روحية

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، ويقول الله سبحانه وتعالى في حديث عن عيسى بن مريم(ع): {ثم قفّينا على آثارهم برسلنا وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفة ورحمة}، ويقول سبحانه وتعالى: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}.

في هذه الآيات وفي غيرها، يتحدث الله عن الرحمة كقيمة روحية إنسانية في شخصية الإنسان الذي يؤمن بالله وبرسالاته، ولا سيما أن هذه الرحمة هي صفة الله "الرحمن الرحيم"، الذي أرادنا أن نذكره بها عندما نتكلم بالبسملة، فنقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى أن {رحمة الله قريب من المحسنين} {ورحمتي وسعت كل شيء}.

وبذلك فإن علينا عندما نتمثل الله سبحانه وتعالى من موقع رحمته، أن ننفتح عليه في مواقع الرحمة، فلا نيأس من رحمته مهما صدر منا، وقد قال سبحانه وتعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}.

وهكذا أرادنا الله أن نعيش هذه الرحمة في أنفسنا، فلا نضيّق على أي إنسان رحمة الله، وقد قال تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق}، فلو أن الله ودع خزائن رحمته بأيديكم، لما أعطيتم الكثيرين من الناس من هذه الرحمة.

ولذلك علينا أن لا نتدخل بأمور الله وإن كان من عصى الله يستحق العذاب والعقاب، لأن الله يقول: {ورحمتي وسعت كل شيء}. وكما في الحديث: "إن لله رحمة في يوم القيامة يتطاول لها عنق إبليس".

الانفتاح على رحمة الله

ولذلك علينا أن نعيش في أنفسنا الانفتاح على رحمة الله سبحانه وتعالى، فلا نيأس منها، ولا ندع حتى الذين ارتكبوا المعاصي مهما بلغت من أن ييأسوا، وإن كان كما جاء في الآية الكريمة: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، ويبقى علينا أن نطلب من الناس أن يتوبوا إلى الله وأن يطلبوا رحمته من خلال ذلك.

وقد حدثنا الله سبحانه وتعالى عن رسوله أنه يمثل الرحمة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، لأن ما جاء به الرسول(ص) يمثل رحمة لعقول الناس ولقلوبهم ولحياتهم في الدنيا وفي الآخرة، ولأنه(ص) نبي الرحمة الذي امتلأ قلبه رحمة بالناس، فكان قلبه يبكي على الناس الذين لا يؤمنون، لا من جهة أنهم لم يستجيبوا له من ناحية ذاتية، بل لابتعادهم عن طريق الحق وعن طريق رضى الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الله يسليه ويقول له: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}، وهكذا رأينا كيف أن رسول الله(ص) تحرك برحمته، فلان لسانه وقلبه للناس الآخرين: {فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.

وفي هذا درس لكل العلماء الذين يعظون الناس ويرشدونهم، ولكل المبلغين الذين يبلغون رسالات الله، بحيث يجب عليهم أن يتميزوا بقلب رقيق يحب الناس، وأن يتميزوا بلسان لين طيب يطلق الكلمة الأحسن والموعظة الحسنة.

المجتمع المؤمن متراحم

وهكذا نقرأ في قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، ونستوحي من هذه الآية أن الله يريد من المجتمع المسلم أن يكون المجتمع المتراحم الذي يرحم بعضه بعضاً، فلا يعيش المسلم القسوة ضد المسلم الآخر، في نفسه، وفي نيته، وفي كلمته، ولا في معاملاته وفي علاقته به، بل يكون شأنه معه الرحمة له في كل قضاياه، وفي كل نقاط ضعفه.

وعلى هذا الأساس، لا بد أن يكون مجتمعنا مجتمعاً متراحماً، كما يجب أن تكون القيادة، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، قيادة رحيمة، ولا بد أن يكون الناس الذين يتحركون معها رحماء بينهم، بأن لا يضر أحدهم الآخر، وأن لا يؤذيه، وأن لا يدمره ويشوه سمعته، وما إلى ذلك.

الرحمة موضع للتواصي

وهكذا، حدثنا الله سبحانه وتعالى أن رسالة السيد المسيح(ع) هي رسالة الرحمة التي تأثر بها الذين اتبعوه من الحواريين وغيرهم، ولذا قال: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه ـ السيد المسيح(ع) في رسالته ـ رأفة ورحمة}، فهم يعيشون الرحمة فيما بينهم وللناس الذين يعيشون معهم ويتحملون مسؤوليتهم.

ثم يحدثنا الله سبحانه وتعالى أن الرحمة لا بد أن تكون موضعاً للتواصي بين الناس في المجتمع المؤمن، خاصة الرحمة بالضعفاء: {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر ـ أمام البلاء والتحديات ـ وتواصوا بالمرحمة}.

وفي هذا المجال نقرأ بعض الأحاديث الواردة عن عطاءات الله للإنسان الذي يعيش الرحمة، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة"، أن يرحم الإنسان من حوله، أن يرحم زوجته، ولده، جاره، العامل، وهكذا أن يرحم من في الأرض يرحمه من في السماء.

العفو عمّن ظلم

وفي حديث آخر عن علي(ع): "أحسن كما تحب أن يُحسن إليك"، أحسن للناس يحسن الله إليك جزاءً لإحسانك، ارحم تُرحم، وهكذا يقول الإمام علي(ع) في بعض ما روي عنه: "ارحم من دونك ـ أي من هو تحت يديك أو الأضعف منك ـ يرحمك من فوقك ـ وهو الله ـ وقف سهوه بسهوك ـ بأن تفكر بأنه إذا أخطأ فأنت أيضاً عرضة للخطأ، فكيف تريد ممن أخطأت معه أن يغفر خطأك ولا تغفر خطأ من أخطأ معك ـ ومعصيته لك بمعصيته لربك ـ فإذا كان يقع تحت مسؤوليتك وعصاك وترى في ذلك شيئاً كبيراً، فأنت تعصي ربك، فهل ترى أن معصيته لك أقل من معصيتك لربك، ولذلك عليك أن تتعامل مع الذي هو دونك إذا عصاك كما تريد أن يتعامل معك ربك ـ وفقّره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربك ـ ألا تفكر بأن هذا الإنسان الذي عصاك يفتقر إلى رحمتك، فتذكر فقرك إلى رحمة ربك ـ فاغفر له حتى يغفر لك ربك".

وقد ورد في الدعاء الذي يرويه أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين(ع): "اللهم إنك أنزلت في كتابك العفو وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعفو عنا فإنك أولى بذلك منا".

ويقول الإمام علي(ع): "عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه كيف لا يرحم من دونه"، أنت عندما تكون تحت يد إنسان آخر، ألا ترجو منه أن يرحمك إذا أخطأت؟! فارحم أيضاً من هو تحت يدك، وهكذا عندما يرجو الإنسان رحمة الله، فعليه أن يرحم من دونه كما يرجو رحمة من فوقه.

الرحمة حتى بأضعف الخلق

"من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة"، وهو مثال لأضعف المخلوقات، حيث يجب أن لا تقتصر رحمة الإنسان على الإنسان فحسب، بل عليه أن يرحم حتى الحيوان، وبمعنى آخر، أن تكون الرحمة طبيعة، أي أن تكون رقيق القلب، كما تتألم لآلام الإنسان، تألم لآلام الحيوان، وهكذا..

وفي الحديث: "ينادي مَن في النار، يا حنّان يا منّان، نجّنا من النار، فيأمر الله ملكاً فيخرجه حتى يقف بين يديه، فيقول الله عز وجل: هل رحمت عصفوراً"، وقد لا يلتفت الكثيرون إلى هذا المعنى، فيأخذ بعضنا حريته في التصرف بالحيوان، فيؤلمه ويؤذيه. وقد ورد في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً.

وقد ورد في الكثير من الأحاديث أن الله أحلّ لنا ذبح الحيوان، ولكن على الإنسان الذي يريد أن يذبح الحيوان أن يحدّ شفرته حتى لا يؤلمه، أو أن يخفف ألمه، وأنه إذا رأى كلباً أو هراً أو ما إلى ذلك ظامئاً أو جائعاً، وسقاه وأطعمه، "لكل كبد حرّة أجر"، فالله يؤجره لقيامه على الرفق بالحيوان وبرعايته، وهذه هي أخلاقية الإسلام في هذا المجال.

وورد في الحديث عن النبي(ص): "من لا يرحم لا يُرحَم، ومن لا يغفر لا يُغفر له، ومن لا يتب لا يتوب الله عليه"، و"من لا يرحم الناس لا يرحمه الله". وهكذا، "والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا رحيم ـ يعني أنه لا يدخل الجنة الإنسان القاسي القلب الذي لا يرحم أحداً ـ قالوا: كلنا رحيم، قال: لا حتى ترحم"..

وفي حديث آخر: "إن الله رحيم يحب الرحيم، يضع رحمته على كل رحيم"، وأيضاً: "خاب عبد وخسر لن يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر".

موارد رحمة الله لعباده

وفي المقابل، وردت بعض الأحاديث التي يرحم الله فيها عباده، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع): "إني لأرحم ثلاثاً، وحق لهم أن يرحموا: عزيز أصابته مذلة بعد العز، وغني أصابته حاجة بعد الغنى، وعالم يستخف به أهله والجهلة".

وورد أيضاً: "ارحم المساكين" بأن تخرجهم من مسكنتهم بحسب إمكاناتك. وقد ورد عن رسول الله(ص) في وصيته لأنس: "يا أنس، ارحم الصغير ووقر الكبير تكن من رفقائي ـ أن نرحم صغارنا، بأن نلاحظ ذهنيتهم وعقليتهم وآلامهم ومشاكلهم، وهكذا ـ من لم يرحم صغيرنا ولم يعرف حق كبيرنا فليس منا"، ويخرج إذا لم يعمل بهذه القاعدة من دائرة الإسلام.

الابتعاد عن الذنوب والمعصية

ويقول الإمام علي(ع): "وإنما ينبغي لأهل العصمة ـ الشخص الذي وفقه الله لأن يكون معصوماً في أقواله وأعماله ـ والمسموع إليهم في السلامة ـ الذين يكونون في سلامة من دينهم ـ أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية ـ أي أن يقدّروا ظروفهم ـ وأن يكون الشكر هو الغالب عليهم".

ثم بعد ذلك، على الإنسان أن يرحم نفسه: "فارحموا نفوسكم، فإنكم قد جررتموها في مصائب الدنيا. ويا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك، أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك". فلا توقع نفسك في المعصية أو الذنب، لأنك تظلم نفسك بذلك وتعرضها لغضب الله سبحانه وتعالى.

الإحساس بالرحمة

أيها الأحبة، هذه هي الخطوط الإسلامية في مسألة الرحمة، ولا بد أن نربي أطفالنا وأنفسنا على ذلك، لأننا عندما نعيش هذا الإحساس بالرحمة، يجب أن تكون قلوبنا نابضة بالرحمة، وأن نتحمل مسؤولية كل الفئات المحرومة والجاهلة والضالة في المجتمع، بأن نعمل على رعاية المحرومين، وعلى هداية الضالين، وعلى تعليم الجاهلين، أن نعيش الإحساس بالمسؤولية اتجاه كل القضايا الموجودة في مجتمعنا، عند ذلك يمكن لنا أن ننطلق في مجتمع يتراحم أفراده، ويتعاونون ويتواصلون فيما بينهم، وهذا هو المجتمع الذي يحبه الله ويرضاه، ويعيش فيه أهل الجنة، لأن أهل الجنة هم الرحماء فيما بينهم هناك، وعلينا أن نعيش أخلاق الله، وأخلاق رسول الله، وأخلاق أوليائه، وأخلاق أهل الجنة، لنحصل على رحمة الله في الدنيا وفي الآخرة، يوم لا رحمة إلا رحمته، ولا ظل إلا ظله..
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
 
عباد الله.. اتقوا الله في كل ما حمّلكم من المسؤوليات، واتقوا الله في كل ما اختزنتموه في شهر رمضان، من تقوى وروحانية ومن قرب إلى الله سبحانه وتعالى، لا تضيّعوا ذلك بالاستغراق باللهو والعبث والغفلة والبعد عن الله سبحانه وتعالى، فإن الله أراد أن يجعل شهر رمضان خزاناً روحياً يختزن فيه الإنسان كل ما يقرّبه إلى ربه وكل ما يبعده عن الشيطان.

لذلك لا تضيعوا النتائج التي حصلتم عليها من خلال جهد الصيام والقيام وتلاوة القرآن، حتى تحوّلوا السنة كلها إلى رمضان بالمعنى الروحي للكلمة، وحتى تحوّلوا كل يوم إلى عيد، كما قال علي(ع): "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه"، "وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد". وفي ما يخص أوضاعنا وقضايانا، فإن هناك جملة من القضايا المطروحة في ساحتنا:

الأعياد: احتفال بالقيم

المرحلة الآن هي مرحلة الاحتفال بالسيد المسيح عليه السلام في يوم ميلاده، حيث الروح تفيض محبةً ورحمةً وحناناً وبركةً، من خلال رسالته الإلهية في القيم الروحية الإنسانية، والاحتفال بعيد الفطر المبارك، حيث طاعة الله تمثّل معنى العيد في الامتثال بأوامره ونواهيه ، بكل ما يعنيه ذلك من الروحانية الفيّاضة على الإنسان كلّه في العقل والقلب والروح والحياة ، من خلال رسالة الاسلام ، رسالة الله.

وتقارب الأعياد في القيم الروحية المشتركة بين الإسلام والمسيحية لا بد من أن يبعث على تقارب العقول والقلوب بين المسلمين والنصارى في العالم كله، في مواجهة الإلحاد كله والاستكبار كلّه، وفي رعاية الخطوط الأخلاقية المشتركة، وفي الانفتاح على الحوار في مواقع الاختلاف بروحية الكلمة السواء، للابتعاد عن التعقيدات الطائفية والأحقاد العدوانية التي لن تخدم أحداً، بل تسقط الهيكل على رؤوس الجميع .

ونلتقي بعد أيام بالسنة الميلادية الجديدة التي تمثل في وعي الإنسان الإحساس بالزمن وحساب المسؤولية في كل أوضاع السنة الماضية، ليتخفف من نتائجها السلبية، وليستزيد من إيجابياتها والتخطيط لحركة المسؤولية، مما حمّله الله إيّاه في نفسه وأهله ومجتمعه وأمته بحسب طاقته في جهده الفكري والعمليّ ، والبعد عن الاستغراق في غيبوبة اللهو ومتاهات الضياع الروحي مما اعتاده الناس من الغرق في جنون السكر والعربدة والفجور بما يبتعد به عن وعي المستقبل في أول خطواته .

الانتفاضة: ثبات على الحق

وتتحرك الانتفاضة الفلسطينية في عيد الشهادة وفي حركة التحرير المضمّخة بعطر الدماء وإرادة القوة وصرخة الحرية وثبات الموقف وصمود الجهاد ... إنه عيد الشعب الفلسطيني المنفتح على قيم الصبر والعزة والكرامة في خط الإيمان بالرسالات والرسل كلهم ... وتستمر الانتفاضة ، ولكنها تصطدم الآن بالمساعي الأميركية من خلال اقتراحات الرئيس الأميركي التي هي في العمق اقتراحات إسرائيلية ممهدة للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي تتميّز بالغموض الذي لا يحسم الموقف، لتبقى مثاراً للجدل المستقبلي حتى بعد التوقيع، كما هو الحال في اتفاق أوسلو الذي كانت كل مادة فيه تثير مائة سؤال وسؤال . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لا ضمان للتنفيذ ، بل إن التجربة السابقة أثبتت أن اليهود لا يلتزمون بتنفيذ ما وقّعوا عليه ، لا سيما أن اليمين الإسرائيلي القادم إلى الحكم أعلن عدم التزامه بأي اتفاق، ما يوحي بأن أميركا تعمل على حل المأزق الإسرائيلي ووقف الانتفاضة لا تحقيق المطالب الفلسطينية .

إننا نعتقد أن الانتفاضة الفلسطينية وضعت خطوطاً حمراء ضد كل قرار في التنازل عن الحق الفلسطيني في التحرير، أيّاً كانت الضغوط الدولية أو الإقليمية التي لا تملك التحرّك بحريّة في القرارات الصادرة عن أيّة جهة كانت تحت تأثير ذلك .

المستوطنات عبء على جيش العدو

إننا نعتقد بأن الشعب الفلسطيني المجاهد قد استطاع - من خلال الانتفاضة - أن يزرع المشكلة في داخل الكيان الصهيوني، سواء في الواقع السياسي أو الأمني ، وأن ينقل المسألة من الصراع بين الدول العربية وإسرائيل، إلى مرحلة الصراع العنيف في الداخل بين الشعب الفلسطيني واليهود ، بحيث أصبحت المسألة مسألة داخلية، وهذا ما تحقق في إنهاء حالة الأمن للمستوطنات التي أصبحت عبئاً على جيش العدو ، وفي إثارة الخوف والقلق في نفس كل يهودي بفعل العمليات الجهادية ، كما حدث بالأمس في تل أبيب وفي غزة ، الأمر الذي جعل رئيس الليكود يتحدث عن مواجهة هذا الخطر الجديد القديم الذي يسمّيه بالإرهاب ، متناسياً إرهاب كيانه الوحشيّ الذي لا مثيل له في العالم .

إننا نقول للشعب الفلسطيني إن المرحلة التي قطعها في حركته نحو مستقبل التحرير بحاجة - للاستكمال لبلوغ الأهداف - إلى أكثر من مرحلة من الجهاد والمعاناة ، فلا تسمحوا لأحد بإسقاط النتائج وحرق المراحل بحجة إنهاء الآلام ، فإنها ستتحول إلى أحلام سعيدة بعد التحرير: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين* إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} .

العلاقات الإيرانية ـ الروسية

وفي جانب آخر ، فإننا نجد في العلاقات الروسيّة الإيرانية في الاتفاقات الجديدة المعقودة بينهما في النطاق الأمني والسياسي لتلك المنطقة ، بادرة عهد جديد لكسر الحصار الأميركي من خلال الضغوط المتنوعة على روسيا لمنعها من بيع الأسلحة لإيران.

إننا نعتقد أن المصالح الدولية بدأت تضغط على السياسة الأمريكية، وسوف يأتي الوقت الذي تفقد فيه أمريكا تأثيرها على دول العالم في أكثر من موقع.

الأعياد.. منطلق جديد

وعندما نأتي إلى لبنان ، فإننا نريد لهذه الأعياد أن لا تمثّل مناسبةً للقاء في مصادفاتها الزمنية فحسب، بل أن تشكّل منطلقاً جديداً للّبنانيين، لينهضوا من خلال رؤية مشتركة جديدة تأخذ مصلحة البلد والأمة بعين الاعتبار ، فقيمة هذه المناسبات هي بمقدار ما تؤسس له من أجواء حقيقية من التفاهم واللقاء والوحدة، لا أن تبقى مناسبات احتفالية يستعاد فيها الخطاب التقليدي البارد على المستوى الديني والسياسي، بل أن تتحرّك في قضايا الناس وأوضاعهم في الحاضر والمستقبل .

الأمن مسؤولية الجميع

وأخيراً، هناك مسألة حيوية، وهي أن يتحمل الجميع مسؤولية المحافظة على أمن الناس، لا سيما في الجنوب المحرّر، حيث قد يحاول البعض أن يخلق من أيّ عمل فردي سلبي مسألة طائفية، ليبرّر بذلك المطالبة بإدخال الجيش إلى الجنوب، الذي يمثل في هذه المرحلة مطلباً دولياً وإقليمياً من أجل إراحة إسرائيل التي لا تزال تشعر بالقلق من المقاومة ولا سيما المقاومة الإسلامية، التي لا تتحرك لأهداف أمنية داخلية، بل من أجل تحرير بقية الأجزاء اللبنانية المحتلة وحماية الجنوب من أيّ عدوان إسرائيلي، خاصةً أن لبنان لا يزال في حالة حربٍ مع العدو، وأن ظروف الجيش اللبناني لا تسمح له بالدخول في حرب نظامية مع الاحتلال .

إننا نقول للجميع ، إن الجنوبيين قد استطاعوا أن يرتفعوا بالأمن إلى المستوى الرفيع، بحيث إن الخلل الأمني في سائر المناطق أكثر من أي خللٍ في الجنوب ، الأمر الذي يفرض على كل الجهات أن تمارس الحذر في الخلافات الفردية أو الحزبية التي قد تعطي صورة غير واقعية عن الواقع هناك ، لقد عانت الأراضي المحرّرة الكثير من الآلام إبّان الاحتلال، فاتركوا الناس يرتاحون بعد التحرير، لا سيّما أنّهم يعيشون في أقسى الحالات من الجوع والحرمان وفقدان الخدمات الحيوية من قبل الدولة .
اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير