مسؤولية الإرث الرسالي في خط الحق كله

مسؤولية الإرث الرسالي في خط الحق كله

في يوم ولادة الحسين (ع) المضرَّج بدمه لتحيا أمته:
مسؤولية الإرث الرسالي في خط الحق كله


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

عاش حياته لله وللإسلام

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام)، الذي قال فيه رسول الله (ص) وفي أخيه: "اللهم إني أحبهما فأحبّهما وأحبّ من يحبهما"، وقال (ص) فيهما: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".

وقد كان الإمام الحسين (ع) الوليد الثاني لعليّ وفاطمة (ع) والسبط الثاني لرسول الله (ص)، وإننا عندما نستذكر الإمام الحسين(ع)، فإننا نستذكر هذا الإمام العظيم الذي عاش كل حياته لله وللإسلام، وكان الله كل دعوته، وكان الإسلام كل همه، عاش حياته من أجل أن يرفع مستوى الناس ليكونوا من المقرّبين لله، ليعرفوا الله كما ينبغي أن يعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استطاعوا أن يجعلوا الحياة كلها في خطه، وطوع مناهج دينه، وهو الإنسان الذي شعر بأن الإسلام هو أمانة الله ورسوله عنده، فكان الإمام الذي يتحرك حيث يُراد للإسلام أن يفرض حركته على واقع الناس، وكان يقف عندما يُراد للإسلام أن يتوقف من خلال ما يصلح أمره وأمر المسلمين جميعاً.

الثائر على كل انحراف

كان (ع) الثائر على كل الانحراف الذي يصيب الواقع الإسلامي، سواء كان الانحراف يتمثل في المسؤول الأول في السلطة الإسلامية، أو كان يتمثل في الذين يتولّون أمور المسلمين، وكان يريد للمسلمين أن يعيشوا العزة كل العزة داخل دولتهم، ويرفض أن يتحرك المسؤول الأول وجماعته في الدولة ليستعبدوا الناس، وأن يستأثروا بمال الأمة، ليجعله الحكم شركة بينه وبين جماعته، وكان يتحدث عن المجتمع من حوله: "اتخذوا مال الله دولاً ـ يتداولونه فيما بينهم ـ وعباده خولاً".

وعندما قرر الإمام الحسين (ع) أن يتحرك، قال في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية، أن حركته ليست حركة إنسان يريد العلوّ في الأرض من خلال عقدة ذاتية في الاستعلاء، أو يريد التحكّم في الناس من خلال شهوة الحكم، ولكنه تحرك من أجل أن ينقذ الواقع الإسلامي كله من الانحراف عن خط الإسلام. كان يواجه الانحراف الثقافي في تصور المسلمين للإسلام، والانحراف السياسي في مسألة السلطة والحكم الذي يفقد الشرعية، والانحراف الاجتماعي في التمزقات التي كانت تحصل بين المسلمين، أو في إقبال الكثيرين منهم على أتباع الذين يتحركون من خلال صوت هنا ومال هناك، بعيداً عن شرعية الحق.

أبعاد حركته

وهكذا، كتب (ع) وصيته التي تلخّص كل أبعاد حركته التي انتهت باستشهاده في تلك المأساة الدامية التي لا تزال تثير الألم من جهة، والعنفوان في نفس الإنسان كله من جهة أخرى.. تلك هي وصيته: "هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بـ"ابن الحنفية"، أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ـ وعندما يذكر أمة جده فإنه لا يتحدث عن إرث نسبي بل عن إرث رسالي، لأن جده (ص) حمّله مسؤولية السير في الخط الرسالي ليتجسّد جده فيه، عقلاً وقلباً وعصمة ورسالة وحركة في اتجاه الإسلام كله، من خلال السير في خط الحق كله والعدل كله، عندما قال (ص): "حسين مني وأنا من حسين"، حسين منه لأنه ابن بنته وأعطاه الكثير من روحه وخلقه، و"أنا من حسين"، لأن النبي(ص) حلّ في الحسين، فكان منه رسالة حملها الإمام الحسين (ع) حتى تضرج بدماء هذه الرسالة عندما أعطاها كل حياته.. خرج ليصلح في أمة جده كل الانحرافات السياسية والثقافية والاجتماعية، وليقوّم الانحراف، لأن الله تعالى أراد للمؤتمنين على الرسالة أن يكون الإصلاح شعاراً لهم في كل مرحلة من المراحل التي ينحرف فيها الواقع، وهذا ما قاله النبي شعيب (ع) عندما واجه قومه الذين كانوا يطففون المكيال والميزان، ويبتعدون عن عبادة الله إلى عبادة الاصنام: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} ـ أريد أن آمر بالمعروف ـ والمعروف هو كل قول وعمل يرتفع بمستوى الإنسان مما يرضاه الله ويأمر به ويحبّه ـ وأنهى عن المنكر ـ والمنكر هو كل ما يحط بمستوى الإنسان مما يجعله ينحرف عن مواقع صلاحه، ويقترب به من مواقع فساده مما لا يرضاه الله ـ وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ـ لأنها السيرة المعصومة المنفتحة على الإسلام كله، لأن عليّاً (ع) كان من رسول الله (ص) عقلاً وقلباً وروحاً، وكان "يتبعه اتباع الفصيل إثر أمه"، ولأن: "عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار"..تلك هي دعوتي، ليست دعوة حرب أو عنف، ولكنها دعوة عقل يخاطب عقلاً، وقلب ينبض بالمحبة للناس كلهم، ودعوة منهج يريد للناس أن يتبعوه ويأخذوا به ـ فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ـ لم يقبلني بذاتي، وإنما يقبل الحق الذي هو الله والخط الذي يريد الله للناس أن يلتزموه ـ ومن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".

خطابه للأمة والأجيال

لقد خاطب الإمام الحسين (ع) في هذه الوصية أخاه، وخاطب من خلاله الأجيال كلها، ليقول لهم: إن الحركة التي انطلقت بها ليست حركة جيل معين أو مرحلة معينة، إنها حركة الإصلاح في كل مرحلة يزحف فيها الفساد إلى الواقع والتصور الإسلامي، وفي كل مرحلة من المراحل التي يعيش فيها المسلمون الانحراف عن خط الاستقامة. ولذلك، إذا كنتم تريدون أن تسيروا على خط الإمام الحسين (ع)، فالقضية هي أن ينطلق كل القائمين على الواقع الإسلامي في كل زمان ومكان، وأن تنطلق الأمة الإسلامية، وتدرس جيداً كل الانحرافات التي تزحف إلى مفاصلها وأهدافها ووسائلها، لتقوم القيادات والأمة كلها بمهمة الإصلاح، لينهى الجميع عن كل منكر، وليأمر الجميع بكل معروف، سواء كان المعروف عاماً أو خاصاً، ولا نقتصر على المسألة السياسية لنستغرق فيها وإن كانت لها الأهمية الكبرى في مصير المسلمين، وأن لا نستغرق في المسالة الجهادية العسكرية لتكون كل شيء عندنا، وإن كان لها الدور الأكبر في الدفاع عن المسلمين، ولكن أن ننفتح على المسألة الثقافية لنصحح ما انحرف فيها، لأننا نُحارَبُ في هذه المرحلة من تاريخنا في الثقافة الإسلامية، التي ينطلق بعضها ليتحدث عن أن الإسلام دين عنف وإرهاب وقتل ومصادرة للحريات.

الاعتداء على الرسول اعتداء على القيم

ولقد سمعنا في هذه الأيام رجلاً يعتبر نفسه رجل دين، سمعنا قساً أمريكياً ينتمي إلى المسيحية الصهيونية التي يتبعها الكثيرون في أمريكا، ليتحدث عن رسول الله (ص) بأنه قاتل وإرهابي ويتحرك على أساس العنف، وأن العنف الإسلامي انطلق من الإسلام، لأنه دين يحمل سيفاً يحاول فيه أن يقتل كل من يقف في طريقه، على حدّ زعمه، بينما المسيحية والسيد المسيح يدعوان إلى المحبة والرحمة وما إلى ذلك.

إن هذه المسألة لا تزال تتحرك، ولم يصدر من أي مسؤول أمريكي أيّ احتجاج على هذا الكلام، ولكننا نتساءل: لو أن قساً أو غيره وقف ليتحدث عن اليهودية والمجازر الصهيونية في فلسطين، فهل تسمح له الإدارة الأمريكية والإعلام الأمريكي بأن يتفوّه بمثل هذا الكلام؟ المسألة عندهم هي أنه إذا تحدث إنسان عن جرائم الصهيونية واليهودية فإنهم يتهمونه بمعاداة السامية، والملفت أن هذا القس ينتمي إلى فئة دينية متعصبة متطرفة تأخذ المسيحية عنواناً لها، والمسيحية براء منها، وهو يدعو إلى قتل الفلسطينيين في فلسطين وطردهم منها. إنه يتحدث عن المحبة، ولكنه عندما يتحدث عن الفلسطينيين فإنه يتحدث عن القتل كله.

إن المسألة هي أن هذا الحدث انطلق قبل أيام، ولكننا لم نجد هناك صوتاً قوياً في العالم الإسلامي يواجه مثل هذا التعدي على كرامة الرسول (ص) وكرامة الإسلام كله. إننا في موقفنا هذا لا نريد الدعوة إلى عنف جسدي ضد هذا الشخص وأمثاله ممن يلتزم فكره، ومنهم الرئيس بوش الذي ينتمي إلى هذه المسيحية المتصهينة، لأن ذلك قد يؤدي إلى نتيجة عكسية، ولكننا نتحدث عن ضرورة أن يقف المسلمون كلهم وقفة واحدة ضد مثل هذا التحدي للإسلام ولنبيّه وللمسلمين، وأن ينطلق كل المثقفين والعلماء المسلمين ليقوموا بحملة ثقافية في العالم كله، من أجل أن يشرحوا الإسلام شرحاً علمياً ينفتح على كل الناس الذين قد يُخدعون بمثل هذا الكلام، وأن تنطلق كل أجهزة الإعلام باللغات التي يفهمها الغرب وغيره، للوقوف ضد هذه الحملة الظالمة التي تواجه الإسلام والمسلمين، لأن ذلك هو الأسلوب الإسلامي الذي يقابل كل هذه الحملات الخبيثة.

إننا نقول لكل المسلمين في العالم، من علماء ومثقفين وفعاليات: إن الاعتداء على رسول الله (ص) هو اعتداء على كل ما نملكه من معنى وحيوية وقوة وكرامة وعزة وحرية، ويجب أن نقف مع رسول الله وقفة قوية فيها العقل كله، والحركة الواعية كلها، حتى نمنع الكثيرين من الذين قد لا يفهمون أو يتحركون بفعل عصبياتهم من التحرك بهذه الحملات. قيمتنا بقيمة رسول الله، عزتنا بعزة رسول الله، كبرياؤنا بكبرياء رسول الله، لذلك لا يجوز لنا أن نتلهى بعصبياتنا ومذهبياتنا وحزبياتنا وطائفياتنا وحساسياتنا، والإسلام يُهدَّم في كل موقع من مواقعنا.

صرخة الحسين(ع).. إصلاح الأمة

إنها صرخة الحسين (ع) الآن: "خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، وإن المسألة تقتضي إصلاحاً لكل هذا التخاذل الإسلامي، والضعف الإسلامي، واللامبالاة الإسلامية، ولكل هذه الخلافات الهامشية التي تفرق المسلمين عن بعضهم البعض، والتي تجعل المستكبرين والظالمين والكافرين يهدمون في كل يوم موقعاً من مواقعنا، ويتحركون من أجل إسقاط ثقافاتنا وكل أمتنا. إن المسألة بحاجة إلى حركة وعي وإرادة انطلاق وانتصار، ومن الطبيعي أن الأمة إذا وجدت وحدتها واعتصمت بحبل الله ولم تتفرّق، فإن الله سوف ينصرها، {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقويّ عزيز}.

تلك هي رسالة الحسين (ع) في يوم مولده، وتلك هي رسالة أخيه أبي الفضل العباس (ع) الذي يصادف هذا اليوم ـ الرابع من شعبان ـ يوم مولده: "والله إن قطعتم يميني فإني أحامي أبداً عن ديني"، وتلك هي رسالة الإمام زين العابدين علي بن الحسين الذي يصادف غداً يوم مولده، عندما علّمنا أن ندعو الله في كل يوم وليلة: "اللهم وفقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير وهجران الشر، وشكر النعم واتباع السنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف". تلك هي صرخة الأئمة من أهل البيت(ع) للإسلام كله، وللحق كله، وللعدل كله، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وكونوا أمة واحدة تعبد الله كما يريد الله لنا أن نعبده، بكل إخلاص "مخلصين له الدين"، وأن نتقي الله باجتناب نواهيه وامتثال أوامره، كونوا الأمة الواحدة التي تواجه الأعداء من موقع واحد، سواء كان القتال سياسياً أو ثقافياً أو أمنياً، لأن المرحلة التي نمر بها في هذه الأيام هي المرحلة التي تحتاج إلى أن نكون جميعاً موقعاً واحداً، موقفاً واحداً، أمة واحدة، لأن المسألة هي أن العالم المستكبر يجمّع كل عناصره وقواته ليواجه الموقف من موقع واحد، لينتصروا على الإسلام كله في كل مواقع الأرض.

وهذا ما نلاحظه في حركة الذين يُسمّون الخمسة الكبار في مجلس الأمن،عندما اختلفت مصالحهم، فإننا نراهم يجتمعون في الليل والنهار ويطوفون في هذه العاصمة أو تلك لتوحيد قرارهم.. أما نحن، فإننا لا نزال نتفرّق ونتمزّق ونخلق عصبية جديدة وحساسية جديدة تفرق المؤمن عن أخيه، وتحوّل مواقعنا الاستراتيجية إلى مواقع للمستكبرين، يقتلوننا بأيدينا، ويسقطون حرياتنا من خلال الذين ينتمون إلينا. تلك هي المرحلة، فكيف تكون المسؤولية؟ هذا ما ينبغي لنا أن نواجهه فيما مرّ علينا من أحداث، فماذا هناك:

الانتفاضة وحدها هي الرد

المجازر الإسرائيلية مستمرة، وآخرها مجزرة غزة التي سقط فيها 17 شهيداً وحوالي مائة جريح بينهم عدد كبير من الأطفال، بالإضافة إلى المدنيين.. ورئيس حكومة العدو يتباهى بكل صلافة أمام العالم بنجاح العملية ـ المجزرة، متوعداً بمجازر أخرى.. أما البيانان الأمريكي والبريطاني فلم يتجاوزا الأسف لسقوط مدنيين، ولأنه يؤخّر الإصلاحات، مع تقديرهم لحاجات إسرائيل لضمان أمنها (كما قالوا)، ولم تحرّك البيانات الغربية الأخرى ـ وحتى البيانات العربية والإسلامية ـ ساكناً، لأنها لا تملك من أمرها شيئاً..

وحدها الانتفاضة الفلسطينية التي قامت بالرد بالعملية الاستشهادية في "تل أبيب"، التي اخترق بطلها كل حواجز الأمن الصهيوني، بالإضافة إلى عدد من العمليات الجهادية في الضفة الغربية وغزة، تأكيداً على أن الانتفاضة مستمرة حتى زوال الاحتلال بالرغم من التأييد الأمريكي المطلق للعدو في كل عملياته، واعتبار حربه في فلسطين حرباً أمريكية ضد ما يسمّونه الإرهاب، ما يجعل من عمليات الانتفاضة التي يقودها الشعب الفلسطيني كله انتفاضة جهادية تحريرية ضد أمريكا وإسرائيل معاً، لأن أمريكا الإسرائيلية لا تؤمن بحرية الشعوب في تقرير مصيرها، بل تعمل على شرعنة الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية المحتلة باعتباره حرباً على ما يسمّى الإرهاب، في الوقت الذي يملك فيه الفلسطينيون شرعية انتفاضتهم، لأنها حرب ضد إرهاب الدولة الذي يحظى بالتأييد الأمريكي بإدارته ومجلسيه الخاضعين للصهيونية اليهودية والمسيحية..

مواجهة النازية الصهيونية

إن المطلوب الآن هو قيام الشعوب العربية والإسلامية ـ مع الشعب الفلسطيني ـ في وجه النازية الصهيونية المدعومة بـ"الهتلرية" الأمريكية، وذلك بالوسائل المتنوّعة المدروسة للضغط على المصالح الأمريكية، بالمقاطعة الشاملة لمنتجاتها، وبسحب الأرصدة العربية والإسلامية من المصارف الأمريكية، والتحوّل إلى مواقع مالية أخرى في العالم، فإن ذلك هو الذي يمثّل الرد العملي على كل هذه الغطرسة الأمريكية في حربها على الإسلام والمسلمين باسم الحرب على الإرهاب.. إن المسألة تحتاج إلى موقف حاسم من خلال خطة دقيقة واسعة، فإن الشعوب تملك من وسائل الرد على الوحشية السياسية والأمنية ضدها ما لا تستطيعه الحكومات.

وفي هذا الاتجاه ـ في العمل على حماية الانتفاضة ـ لا بدّ لنا من رفض كل قتال فلسطيني ـ فلسطيني، الأمر الذي يفرض حلّ المشاكل الطارئة بالوسائل السلمية بعيداً عن الرصاص الذي يستهدف في نتائجه الانتفاضة، لأن هذه الأحداث المؤسفة هي ما تسعى إليه المخابرات الصهيونية والأمريكية في تحقيق الانتصار على الشعب الفلسطيني من الداخل، بعد عجزها عن الانتصار عليه من الخارج.. وإننا من موقعنا الشرعي، نؤكد بأن أيّ إشعال للفتنة في الساحة الفلسطينية هو حرام شرعاً، وهو كبيرة من الكبائر، فلا بد من تضافر كل الجهود المخلصة للسيطرة على خلفيات الفتنة وامتداداتها الداخلية والخارجية.

تشريد وحصار الشعب العراقي

وفي جانب آخر، نسمع الرئيس "بوش" ـ ومن المضحك المبكي ـ يتحدث عن أن أمريكا صديقة للشعب العراقي، ويبدو أن هذه الصداقة الحميمة هي التي دفعت بها لجعل مئات الآلاف من هذا الشعب، وخاصة الأطفال، يموتون جوعاً أو يتشرّدون في أنحاء الأرض، وهي تعرف أن الحصار الاقتصادي في ظروفه الخاصة لا يمسّ النظام، بل يضغط على الشعب الذي يعرف أن لأمريكا مصلحة اقتصادية للسيطرة على بترول العراق وأسواقه واستثماراته، بالإضافة إلى سعيها للإطباق على أية محاولة للتقدّم العلمي الحقيقي في نطاق التكنولوجيا في أيّ موقع من مواقع العالم العربي والإسلامي، لتبقى إسرائيل في المنطقة ـ بمساعدة أمريكا ـ الدولة الوحيدة التي تملك أسلحة الدمار الشامل التي تهدد بها المنطقة بما في ذلك الأسلحة النووية، ولتبقى في موقع التفوّق النوعي على دول المنطقة، لتكون اليد الضاربة من خلال التحالف مع أمريكا ضد المعارضين للسياستين الأمريكية والإسرائيلية..

إن أمريكا تحاول أن تحصل على امتيازات استراتيجية في المنطقة للتطويق والضغط على أكثر من دولة، لاسيما مع تحويل المنطقة إلى قواعد عسكرية أمريكية لحماية مصالحها ضد مصالح شعوب المنطقة.. إنه الاستعمار الجديد بوسائل جديدة من أجل دكتاتورية ساحقة في ثوبٍ ديموقراطي يتحدث باسم الحرية والتقدّم والحضارة في واقع النفاق السياسي.. وعلى الشعوب أن تخطط للمستقبل في وعي للنتائج المدمّرة للعصر الأمريكي الوحشي.

مواجهة التحدي بمزيد من الصمود

أما في لبنان، فإن أمريكا تتدخّل بأكثر من ضغط ديبلوماسي عليه لمنعه من استخدام حقوقه القانونية في الاستفادة من مياهه في الوزاني والحاصباني، والتلويح بالتهديد الإسرائيلي في قصف المنشآت لتجميد مشاريعه في الريّ، إلا بالعودة إليها باعتبارها الدولة القائدة في العالم كما تزعم، لأن العودة إلى الأمم المتحدة لا تحقق لها شيئاً، لأنها لا تملك تنفيذ أي قرار دولي بعيداً عن الإرادة الأمريكية.

إن على لبنان ـ الدولة والشعب ـ أن يصمد أمام هذا الضغط الأمريكي الإسرائيلي الجديد، وأن يواجه هذا التحدي الجديد بكل دقة وعناية، لأن "وراء الأكمة ما وراءها"، في الانتقال من ضغط مائي إلى ضغط سياسي، وربما نقرأ من بعض السياسيين الأمريكيين حديثاً عن ضغط عسكري.. إن السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تحمل عنواناً واحداً، وهو إسرائيل أولاً في كل شيء، ثم دول المنطقة إذا بقي لها شيء بعد ذلك.

متى تفتح ملفات الوطن؟!

وفي الواقع الداخلي اللبناني، هناك سياسة ضائعة تبحث عن عنوان يجتذب الاهتمام الشعبي، وغرائزية طائفية تبحث عن مقدسات، وطائفية تلبس لبوس الوطنية، وشعاراتية تفتش عن جمهور يهتف ويصفّق وينفعل و"يميت" هذا و"يحيي" ذاك. والدوّامة الدولية والإقليمية والمحلية تجعل الناس تغرق في غيبوبة سياسية وأمنية واقتصادية يبتعدون فيها عن الواقع..

والسؤال الكبير: إذا لم يتفق اللبنانيون في هذه المرحلة ففي أي مرحلة يأتي الوفاق، والخطر يحدق بالجميع؟ ومتى يزرعون المحبة والأرض يزرعها الحقد بكل طوائفه وأحزابه، والشتاء قادم يصنع في كل موسم للعواصف أكثر من صاعقة، وأكثر من طوفان، وأكثر من عاصفة ثلجية تجمّد قضايا الحياة في لعبة التجميد؟.. هناك أكثر من ملف يفتح ثم يغلق، وهناك أكثر من لغو يحتوي كل الكلمات، فمتى يفتح ملف الوطن ليغلق ملف الطائفية؟.. ومتى ينفتح الجميع على المستقبل في ينابيعه الصافية ليتجاوزوا كل وحول الحاضر؟.. ومتى تعود اليقظة إلى حياتنا ويعود الصحو المبدع إلى آفاقنا؟.. متى؟.. أيها الذين يصنعون الضباب ويفترسون اليقظة.. متى؟؟

في يوم ولادة الحسين (ع) المضرَّج بدمه لتحيا أمته:
مسؤولية الإرث الرسالي في خط الحق كله


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

عاش حياته لله وللإسلام

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام)، الذي قال فيه رسول الله (ص) وفي أخيه: "اللهم إني أحبهما فأحبّهما وأحبّ من يحبهما"، وقال (ص) فيهما: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة".

وقد كان الإمام الحسين (ع) الوليد الثاني لعليّ وفاطمة (ع) والسبط الثاني لرسول الله (ص)، وإننا عندما نستذكر الإمام الحسين(ع)، فإننا نستذكر هذا الإمام العظيم الذي عاش كل حياته لله وللإسلام، وكان الله كل دعوته، وكان الإسلام كل همه، عاش حياته من أجل أن يرفع مستوى الناس ليكونوا من المقرّبين لله، ليعرفوا الله كما ينبغي أن يعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استطاعوا أن يجعلوا الحياة كلها في خطه، وطوع مناهج دينه، وهو الإنسان الذي شعر بأن الإسلام هو أمانة الله ورسوله عنده، فكان الإمام الذي يتحرك حيث يُراد للإسلام أن يفرض حركته على واقع الناس، وكان يقف عندما يُراد للإسلام أن يتوقف من خلال ما يصلح أمره وأمر المسلمين جميعاً.

الثائر على كل انحراف

كان (ع) الثائر على كل الانحراف الذي يصيب الواقع الإسلامي، سواء كان الانحراف يتمثل في المسؤول الأول في السلطة الإسلامية، أو كان يتمثل في الذين يتولّون أمور المسلمين، وكان يريد للمسلمين أن يعيشوا العزة كل العزة داخل دولتهم، ويرفض أن يتحرك المسؤول الأول وجماعته في الدولة ليستعبدوا الناس، وأن يستأثروا بمال الأمة، ليجعله الحكم شركة بينه وبين جماعته، وكان يتحدث عن المجتمع من حوله: "اتخذوا مال الله دولاً ـ يتداولونه فيما بينهم ـ وعباده خولاً".

وعندما قرر الإمام الحسين (ع) أن يتحرك، قال في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية، أن حركته ليست حركة إنسان يريد العلوّ في الأرض من خلال عقدة ذاتية في الاستعلاء، أو يريد التحكّم في الناس من خلال شهوة الحكم، ولكنه تحرك من أجل أن ينقذ الواقع الإسلامي كله من الانحراف عن خط الإسلام. كان يواجه الانحراف الثقافي في تصور المسلمين للإسلام، والانحراف السياسي في مسألة السلطة والحكم الذي يفقد الشرعية، والانحراف الاجتماعي في التمزقات التي كانت تحصل بين المسلمين، أو في إقبال الكثيرين منهم على أتباع الذين يتحركون من خلال صوت هنا ومال هناك، بعيداً عن شرعية الحق.

أبعاد حركته

وهكذا، كتب (ع) وصيته التي تلخّص كل أبعاد حركته التي انتهت باستشهاده في تلك المأساة الدامية التي لا تزال تثير الألم من جهة، والعنفوان في نفس الإنسان كله من جهة أخرى.. تلك هي وصيته: "هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بـ"ابن الحنفية"، أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ـ وعندما يذكر أمة جده فإنه لا يتحدث عن إرث نسبي بل عن إرث رسالي، لأن جده (ص) حمّله مسؤولية السير في الخط الرسالي ليتجسّد جده فيه، عقلاً وقلباً وعصمة ورسالة وحركة في اتجاه الإسلام كله، من خلال السير في خط الحق كله والعدل كله، عندما قال (ص): "حسين مني وأنا من حسين"، حسين منه لأنه ابن بنته وأعطاه الكثير من روحه وخلقه، و"أنا من حسين"، لأن النبي(ص) حلّ في الحسين، فكان منه رسالة حملها الإمام الحسين (ع) حتى تضرج بدماء هذه الرسالة عندما أعطاها كل حياته.. خرج ليصلح في أمة جده كل الانحرافات السياسية والثقافية والاجتماعية، وليقوّم الانحراف، لأن الله تعالى أراد للمؤتمنين على الرسالة أن يكون الإصلاح شعاراً لهم في كل مرحلة من المراحل التي ينحرف فيها الواقع، وهذا ما قاله النبي شعيب (ع) عندما واجه قومه الذين كانوا يطففون المكيال والميزان، ويبتعدون عن عبادة الله إلى عبادة الاصنام: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} ـ أريد أن آمر بالمعروف ـ والمعروف هو كل قول وعمل يرتفع بمستوى الإنسان مما يرضاه الله ويأمر به ويحبّه ـ وأنهى عن المنكر ـ والمنكر هو كل ما يحط بمستوى الإنسان مما يجعله ينحرف عن مواقع صلاحه، ويقترب به من مواقع فساده مما لا يرضاه الله ـ وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ـ لأنها السيرة المعصومة المنفتحة على الإسلام كله، لأن عليّاً (ع) كان من رسول الله (ص) عقلاً وقلباً وروحاً، وكان "يتبعه اتباع الفصيل إثر أمه"، ولأن: "عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار"..تلك هي دعوتي، ليست دعوة حرب أو عنف، ولكنها دعوة عقل يخاطب عقلاً، وقلب ينبض بالمحبة للناس كلهم، ودعوة منهج يريد للناس أن يتبعوه ويأخذوا به ـ فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ـ لم يقبلني بذاتي، وإنما يقبل الحق الذي هو الله والخط الذي يريد الله للناس أن يلتزموه ـ ومن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".

خطابه للأمة والأجيال

لقد خاطب الإمام الحسين (ع) في هذه الوصية أخاه، وخاطب من خلاله الأجيال كلها، ليقول لهم: إن الحركة التي انطلقت بها ليست حركة جيل معين أو مرحلة معينة، إنها حركة الإصلاح في كل مرحلة يزحف فيها الفساد إلى الواقع والتصور الإسلامي، وفي كل مرحلة من المراحل التي يعيش فيها المسلمون الانحراف عن خط الاستقامة. ولذلك، إذا كنتم تريدون أن تسيروا على خط الإمام الحسين (ع)، فالقضية هي أن ينطلق كل القائمين على الواقع الإسلامي في كل زمان ومكان، وأن تنطلق الأمة الإسلامية، وتدرس جيداً كل الانحرافات التي تزحف إلى مفاصلها وأهدافها ووسائلها، لتقوم القيادات والأمة كلها بمهمة الإصلاح، لينهى الجميع عن كل منكر، وليأمر الجميع بكل معروف، سواء كان المعروف عاماً أو خاصاً، ولا نقتصر على المسألة السياسية لنستغرق فيها وإن كانت لها الأهمية الكبرى في مصير المسلمين، وأن لا نستغرق في المسالة الجهادية العسكرية لتكون كل شيء عندنا، وإن كان لها الدور الأكبر في الدفاع عن المسلمين، ولكن أن ننفتح على المسألة الثقافية لنصحح ما انحرف فيها، لأننا نُحارَبُ في هذه المرحلة من تاريخنا في الثقافة الإسلامية، التي ينطلق بعضها ليتحدث عن أن الإسلام دين عنف وإرهاب وقتل ومصادرة للحريات.

الاعتداء على الرسول اعتداء على القيم

ولقد سمعنا في هذه الأيام رجلاً يعتبر نفسه رجل دين، سمعنا قساً أمريكياً ينتمي إلى المسيحية الصهيونية التي يتبعها الكثيرون في أمريكا، ليتحدث عن رسول الله (ص) بأنه قاتل وإرهابي ويتحرك على أساس العنف، وأن العنف الإسلامي انطلق من الإسلام، لأنه دين يحمل سيفاً يحاول فيه أن يقتل كل من يقف في طريقه، على حدّ زعمه، بينما المسيحية والسيد المسيح يدعوان إلى المحبة والرحمة وما إلى ذلك.

إن هذه المسألة لا تزال تتحرك، ولم يصدر من أي مسؤول أمريكي أيّ احتجاج على هذا الكلام، ولكننا نتساءل: لو أن قساً أو غيره وقف ليتحدث عن اليهودية والمجازر الصهيونية في فلسطين، فهل تسمح له الإدارة الأمريكية والإعلام الأمريكي بأن يتفوّه بمثل هذا الكلام؟ المسألة عندهم هي أنه إذا تحدث إنسان عن جرائم الصهيونية واليهودية فإنهم يتهمونه بمعاداة السامية، والملفت أن هذا القس ينتمي إلى فئة دينية متعصبة متطرفة تأخذ المسيحية عنواناً لها، والمسيحية براء منها، وهو يدعو إلى قتل الفلسطينيين في فلسطين وطردهم منها. إنه يتحدث عن المحبة، ولكنه عندما يتحدث عن الفلسطينيين فإنه يتحدث عن القتل كله.

إن المسألة هي أن هذا الحدث انطلق قبل أيام، ولكننا لم نجد هناك صوتاً قوياً في العالم الإسلامي يواجه مثل هذا التعدي على كرامة الرسول (ص) وكرامة الإسلام كله. إننا في موقفنا هذا لا نريد الدعوة إلى عنف جسدي ضد هذا الشخص وأمثاله ممن يلتزم فكره، ومنهم الرئيس بوش الذي ينتمي إلى هذه المسيحية المتصهينة، لأن ذلك قد يؤدي إلى نتيجة عكسية، ولكننا نتحدث عن ضرورة أن يقف المسلمون كلهم وقفة واحدة ضد مثل هذا التحدي للإسلام ولنبيّه وللمسلمين، وأن ينطلق كل المثقفين والعلماء المسلمين ليقوموا بحملة ثقافية في العالم كله، من أجل أن يشرحوا الإسلام شرحاً علمياً ينفتح على كل الناس الذين قد يُخدعون بمثل هذا الكلام، وأن تنطلق كل أجهزة الإعلام باللغات التي يفهمها الغرب وغيره، للوقوف ضد هذه الحملة الظالمة التي تواجه الإسلام والمسلمين، لأن ذلك هو الأسلوب الإسلامي الذي يقابل كل هذه الحملات الخبيثة.

إننا نقول لكل المسلمين في العالم، من علماء ومثقفين وفعاليات: إن الاعتداء على رسول الله (ص) هو اعتداء على كل ما نملكه من معنى وحيوية وقوة وكرامة وعزة وحرية، ويجب أن نقف مع رسول الله وقفة قوية فيها العقل كله، والحركة الواعية كلها، حتى نمنع الكثيرين من الذين قد لا يفهمون أو يتحركون بفعل عصبياتهم من التحرك بهذه الحملات. قيمتنا بقيمة رسول الله، عزتنا بعزة رسول الله، كبرياؤنا بكبرياء رسول الله، لذلك لا يجوز لنا أن نتلهى بعصبياتنا ومذهبياتنا وحزبياتنا وطائفياتنا وحساسياتنا، والإسلام يُهدَّم في كل موقع من مواقعنا.

صرخة الحسين(ع).. إصلاح الأمة

إنها صرخة الحسين (ع) الآن: "خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، وإن المسألة تقتضي إصلاحاً لكل هذا التخاذل الإسلامي، والضعف الإسلامي، واللامبالاة الإسلامية، ولكل هذه الخلافات الهامشية التي تفرق المسلمين عن بعضهم البعض، والتي تجعل المستكبرين والظالمين والكافرين يهدمون في كل يوم موقعاً من مواقعنا، ويتحركون من أجل إسقاط ثقافاتنا وكل أمتنا. إن المسألة بحاجة إلى حركة وعي وإرادة انطلاق وانتصار، ومن الطبيعي أن الأمة إذا وجدت وحدتها واعتصمت بحبل الله ولم تتفرّق، فإن الله سوف ينصرها، {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقويّ عزيز}.

تلك هي رسالة الحسين (ع) في يوم مولده، وتلك هي رسالة أخيه أبي الفضل العباس (ع) الذي يصادف هذا اليوم ـ الرابع من شعبان ـ يوم مولده: "والله إن قطعتم يميني فإني أحامي أبداً عن ديني"، وتلك هي رسالة الإمام زين العابدين علي بن الحسين الذي يصادف غداً يوم مولده، عندما علّمنا أن ندعو الله في كل يوم وليلة: "اللهم وفقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير وهجران الشر، وشكر النعم واتباع السنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف". تلك هي صرخة الأئمة من أهل البيت(ع) للإسلام كله، وللحق كله، وللعدل كله، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وكونوا أمة واحدة تعبد الله كما يريد الله لنا أن نعبده، بكل إخلاص "مخلصين له الدين"، وأن نتقي الله باجتناب نواهيه وامتثال أوامره، كونوا الأمة الواحدة التي تواجه الأعداء من موقع واحد، سواء كان القتال سياسياً أو ثقافياً أو أمنياً، لأن المرحلة التي نمر بها في هذه الأيام هي المرحلة التي تحتاج إلى أن نكون جميعاً موقعاً واحداً، موقفاً واحداً، أمة واحدة، لأن المسألة هي أن العالم المستكبر يجمّع كل عناصره وقواته ليواجه الموقف من موقع واحد، لينتصروا على الإسلام كله في كل مواقع الأرض.

وهذا ما نلاحظه في حركة الذين يُسمّون الخمسة الكبار في مجلس الأمن،عندما اختلفت مصالحهم، فإننا نراهم يجتمعون في الليل والنهار ويطوفون في هذه العاصمة أو تلك لتوحيد قرارهم.. أما نحن، فإننا لا نزال نتفرّق ونتمزّق ونخلق عصبية جديدة وحساسية جديدة تفرق المؤمن عن أخيه، وتحوّل مواقعنا الاستراتيجية إلى مواقع للمستكبرين، يقتلوننا بأيدينا، ويسقطون حرياتنا من خلال الذين ينتمون إلينا. تلك هي المرحلة، فكيف تكون المسؤولية؟ هذا ما ينبغي لنا أن نواجهه فيما مرّ علينا من أحداث، فماذا هناك:

الانتفاضة وحدها هي الرد

المجازر الإسرائيلية مستمرة، وآخرها مجزرة غزة التي سقط فيها 17 شهيداً وحوالي مائة جريح بينهم عدد كبير من الأطفال، بالإضافة إلى المدنيين.. ورئيس حكومة العدو يتباهى بكل صلافة أمام العالم بنجاح العملية ـ المجزرة، متوعداً بمجازر أخرى.. أما البيانان الأمريكي والبريطاني فلم يتجاوزا الأسف لسقوط مدنيين، ولأنه يؤخّر الإصلاحات، مع تقديرهم لحاجات إسرائيل لضمان أمنها (كما قالوا)، ولم تحرّك البيانات الغربية الأخرى ـ وحتى البيانات العربية والإسلامية ـ ساكناً، لأنها لا تملك من أمرها شيئاً..

وحدها الانتفاضة الفلسطينية التي قامت بالرد بالعملية الاستشهادية في "تل أبيب"، التي اخترق بطلها كل حواجز الأمن الصهيوني، بالإضافة إلى عدد من العمليات الجهادية في الضفة الغربية وغزة، تأكيداً على أن الانتفاضة مستمرة حتى زوال الاحتلال بالرغم من التأييد الأمريكي المطلق للعدو في كل عملياته، واعتبار حربه في فلسطين حرباً أمريكية ضد ما يسمّونه الإرهاب، ما يجعل من عمليات الانتفاضة التي يقودها الشعب الفلسطيني كله انتفاضة جهادية تحريرية ضد أمريكا وإسرائيل معاً، لأن أمريكا الإسرائيلية لا تؤمن بحرية الشعوب في تقرير مصيرها، بل تعمل على شرعنة الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية المحتلة باعتباره حرباً على ما يسمّى الإرهاب، في الوقت الذي يملك فيه الفلسطينيون شرعية انتفاضتهم، لأنها حرب ضد إرهاب الدولة الذي يحظى بالتأييد الأمريكي بإدارته ومجلسيه الخاضعين للصهيونية اليهودية والمسيحية..

مواجهة النازية الصهيونية

إن المطلوب الآن هو قيام الشعوب العربية والإسلامية ـ مع الشعب الفلسطيني ـ في وجه النازية الصهيونية المدعومة بـ"الهتلرية" الأمريكية، وذلك بالوسائل المتنوّعة المدروسة للضغط على المصالح الأمريكية، بالمقاطعة الشاملة لمنتجاتها، وبسحب الأرصدة العربية والإسلامية من المصارف الأمريكية، والتحوّل إلى مواقع مالية أخرى في العالم، فإن ذلك هو الذي يمثّل الرد العملي على كل هذه الغطرسة الأمريكية في حربها على الإسلام والمسلمين باسم الحرب على الإرهاب.. إن المسألة تحتاج إلى موقف حاسم من خلال خطة دقيقة واسعة، فإن الشعوب تملك من وسائل الرد على الوحشية السياسية والأمنية ضدها ما لا تستطيعه الحكومات.

وفي هذا الاتجاه ـ في العمل على حماية الانتفاضة ـ لا بدّ لنا من رفض كل قتال فلسطيني ـ فلسطيني، الأمر الذي يفرض حلّ المشاكل الطارئة بالوسائل السلمية بعيداً عن الرصاص الذي يستهدف في نتائجه الانتفاضة، لأن هذه الأحداث المؤسفة هي ما تسعى إليه المخابرات الصهيونية والأمريكية في تحقيق الانتصار على الشعب الفلسطيني من الداخل، بعد عجزها عن الانتصار عليه من الخارج.. وإننا من موقعنا الشرعي، نؤكد بأن أيّ إشعال للفتنة في الساحة الفلسطينية هو حرام شرعاً، وهو كبيرة من الكبائر، فلا بد من تضافر كل الجهود المخلصة للسيطرة على خلفيات الفتنة وامتداداتها الداخلية والخارجية.

تشريد وحصار الشعب العراقي

وفي جانب آخر، نسمع الرئيس "بوش" ـ ومن المضحك المبكي ـ يتحدث عن أن أمريكا صديقة للشعب العراقي، ويبدو أن هذه الصداقة الحميمة هي التي دفعت بها لجعل مئات الآلاف من هذا الشعب، وخاصة الأطفال، يموتون جوعاً أو يتشرّدون في أنحاء الأرض، وهي تعرف أن الحصار الاقتصادي في ظروفه الخاصة لا يمسّ النظام، بل يضغط على الشعب الذي يعرف أن لأمريكا مصلحة اقتصادية للسيطرة على بترول العراق وأسواقه واستثماراته، بالإضافة إلى سعيها للإطباق على أية محاولة للتقدّم العلمي الحقيقي في نطاق التكنولوجيا في أيّ موقع من مواقع العالم العربي والإسلامي، لتبقى إسرائيل في المنطقة ـ بمساعدة أمريكا ـ الدولة الوحيدة التي تملك أسلحة الدمار الشامل التي تهدد بها المنطقة بما في ذلك الأسلحة النووية، ولتبقى في موقع التفوّق النوعي على دول المنطقة، لتكون اليد الضاربة من خلال التحالف مع أمريكا ضد المعارضين للسياستين الأمريكية والإسرائيلية..

إن أمريكا تحاول أن تحصل على امتيازات استراتيجية في المنطقة للتطويق والضغط على أكثر من دولة، لاسيما مع تحويل المنطقة إلى قواعد عسكرية أمريكية لحماية مصالحها ضد مصالح شعوب المنطقة.. إنه الاستعمار الجديد بوسائل جديدة من أجل دكتاتورية ساحقة في ثوبٍ ديموقراطي يتحدث باسم الحرية والتقدّم والحضارة في واقع النفاق السياسي.. وعلى الشعوب أن تخطط للمستقبل في وعي للنتائج المدمّرة للعصر الأمريكي الوحشي.

مواجهة التحدي بمزيد من الصمود

أما في لبنان، فإن أمريكا تتدخّل بأكثر من ضغط ديبلوماسي عليه لمنعه من استخدام حقوقه القانونية في الاستفادة من مياهه في الوزاني والحاصباني، والتلويح بالتهديد الإسرائيلي في قصف المنشآت لتجميد مشاريعه في الريّ، إلا بالعودة إليها باعتبارها الدولة القائدة في العالم كما تزعم، لأن العودة إلى الأمم المتحدة لا تحقق لها شيئاً، لأنها لا تملك تنفيذ أي قرار دولي بعيداً عن الإرادة الأمريكية.

إن على لبنان ـ الدولة والشعب ـ أن يصمد أمام هذا الضغط الأمريكي الإسرائيلي الجديد، وأن يواجه هذا التحدي الجديد بكل دقة وعناية، لأن "وراء الأكمة ما وراءها"، في الانتقال من ضغط مائي إلى ضغط سياسي، وربما نقرأ من بعض السياسيين الأمريكيين حديثاً عن ضغط عسكري.. إن السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تحمل عنواناً واحداً، وهو إسرائيل أولاً في كل شيء، ثم دول المنطقة إذا بقي لها شيء بعد ذلك.

متى تفتح ملفات الوطن؟!

وفي الواقع الداخلي اللبناني، هناك سياسة ضائعة تبحث عن عنوان يجتذب الاهتمام الشعبي، وغرائزية طائفية تبحث عن مقدسات، وطائفية تلبس لبوس الوطنية، وشعاراتية تفتش عن جمهور يهتف ويصفّق وينفعل و"يميت" هذا و"يحيي" ذاك. والدوّامة الدولية والإقليمية والمحلية تجعل الناس تغرق في غيبوبة سياسية وأمنية واقتصادية يبتعدون فيها عن الواقع..

والسؤال الكبير: إذا لم يتفق اللبنانيون في هذه المرحلة ففي أي مرحلة يأتي الوفاق، والخطر يحدق بالجميع؟ ومتى يزرعون المحبة والأرض يزرعها الحقد بكل طوائفه وأحزابه، والشتاء قادم يصنع في كل موسم للعواصف أكثر من صاعقة، وأكثر من طوفان، وأكثر من عاصفة ثلجية تجمّد قضايا الحياة في لعبة التجميد؟.. هناك أكثر من ملف يفتح ثم يغلق، وهناك أكثر من لغو يحتوي كل الكلمات، فمتى يفتح ملف الوطن ليغلق ملف الطائفية؟.. ومتى ينفتح الجميع على المستقبل في ينابيعه الصافية ليتجاوزوا كل وحول الحاضر؟.. ومتى تعود اليقظة إلى حياتنا ويعود الصحو المبدع إلى آفاقنا؟.. متى؟.. أيها الذين يصنعون الضباب ويفترسون اليقظة.. متى؟؟

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير