كونوا مع العدل تكونوا من جنوده

كونوا مع العدل تكونوا من جنوده

في رحاب ولادة الإمام المهدي(عج):  كونوا مع العدل تكونوا من جنوده


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى: 

يرونه بعيداً ونراه قريباً

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}، وأولهم بعد رسول الله(ص) هو عليّ أمير المؤمنين(ع)، وخاتمهم الإمام الحجة بن الحسن (عجل الله فرجه)، الذي أعدّه الله تعالى "ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً": "اللهم صلّ علي وليّ أمرك القائم والعدل المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين وأيده بروح القدس منك يا ربّ العالمين، اللهم اجعله الداعي إلى كتابك، والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكّن له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً يعبدك لا يشرك بك شيئاً، اللهم أعزّه وأعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً".

إننا ننتظره ونترقب ظهوره في كل وقت، "إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً" ولكننا ونحن ننتظر قدومه، علينا أن لا نتجمّد أمام حركة الكفر الذي يريد أن يقتلع الإسلام من جذوره، ولا نقف متخاذلين حائرين أمام الظلم كله والاستكبار كله، الذي يريد أن يقهر المستضعفين في كل قضاياهم، ولكننا ـ وهو الذي يحمل رسالة العدل في العالم، لأن الله تعالى أعدّه لتحقيق العدل العالمي في مواجهة الظلم العالمي ـ لا بد لنا أن ننتظره ونحن نحمل رسالة العدل في كل قلوبنا وحياتنا، لنمهّد له القاعدة حتى يأتي فيستكمل العدل في كل مكان.

مواجهة الكافرين والمستكبرين

وعلى ضوء هذا، فإن المسألة التي لا بد أن نعيشها، ولا سيما عندما تتحرك الرياح العاصفة من أجل أن تقتلع كل أشجار الخير، ومن أجل أن تهدم كل أسوار العدل، هي أن نعيش في الساحة أمام مسؤولياتنا الإسلامية التي تنفتح على خط الإسلام؛ في الثقافة السياسية، والأمن والعسكر، لأن الإسلام جاء للحياة كلها ولم يأتِ لجانب منها دون جانب: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم إلى ما يحييكم}.

ولهذا، فإنّ على الأمة الإسلامية أن تواجه في هذه المرحلة الكافرين والمستكبرين الذين يعملون من أجل أن يظلموا الإسلام في عقيدته وشريعته ومفاهيمه، ليشوّهوا صورته ويسقطوا معناه في عقول الناس، ومسؤولية مواجهة هذه الحرب الثقافية تقع على عاتق كل مثقفي العالم الإسلامي، من علماء في الحوزات، ومن مثقفين في الجامعات. إذاً علينا أن نواجه هذه الحملات، لأن الله تعالى أراد لنا أن لا نكتم ما أنزله من البيّنات، ولأن رسول الله (ص) قال: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله"، فكيف إذا ظهرت التحديات للحرب ضد الإسلام كله؟ ولذلك يجب على كل العلماء والمثقفين الإسلاميين وحركيّيهم أن يجمّدوا كل خلافاتهم، سواء كانت خلافات مذهبية أو فتوائية أو سياسية أو حزبية، لأن العدو قد توحّد في كل مواقعه ليحارب الإسلام كله.

ولا بد لنا من أن نخوض الحرب السياسية التي يثيرها الاستكبار العالمي، ليظلم المسلمين في سياستهم حتى يسقطها، وليوزّع التهمة بالإرهاب والتخلّف والتشدد هنا وهناك، ليحارب كلَّ سياسة إسلامية تريد أن تؤكد الأصالة في حريتها واستقلالها والحفاظ على قوتها، وهكذا نلاحظ كيف يقف الرئيس الأمريكي ليتحدث ـ كما لو أنه كان الخير كله ـ عن محور الشر، ومحور الشر عنده إيران الإسلام والمواقع الإسلامية هنا وهناك.

إننا لا ننكر أن هناك شيئاً من الشر في بعض حكّام المسلمين، ولكن ماذا عن الشر في كل حكام المستكبرين؟ إنه يريد أن يرجم الواقع الإسلامي الذي يبحث عن أصالته واستقلاله وحريته وعزته وكرامته، إنه يتحدث عن أن هذا الواقع يمثل محور الشر لأن الشر عنده هو كل معارض لاستكباره ومصالحه التي تتحرك ضد مصالح المستضعفين.

تجنيد الطاقات لمواجهة التحدي

وعلينا أن نجمّد كثيراً من خلافاتنا السياسية الصغيرة التي يتنوع فيها الصراع بين فريق هنا وفريق هناك، نتيجة القضايا الصغيرة والهامشية، إن هناك سياسة استكبارية ينطلق فيها المستكبرون في العالم، الذين يمسكون بأيديهم مقدّرات العالم الاقتصادية والسياسية والأمنية، ليفرضوا علينا سياستهم من خلال مجلس الأمن وكل المواقع التي يشرفون ويسيطرون عليها. إنّ علينا أن نجمّد كل هذا اللغو السياسي وهذه الصغائر التي يتحرك فيها الكثيرون من الزعماء وقادة الأحزاب والجماعات، الذين يشغلون الناس بالخلافات الصغيرة الهامشية، وبالعصبيات السياسية والحزبية والطائفية، والعدوُّ يتكامل ويتوحَّد ويواجهنا من موقع واحد، ونحن نواجهه من مواقع ليس لها عدٌّ ولا حصر.

إن الاستكبار العالمي يثير علينا حرباً أمنية حارّة يستخدم فيها كل أسلحته المتطورة، وربما يبلغ به الأمر أن يستخدم السلاح النووي إذا ضايقته الجماعات المجاهدة، كما فعل ذلك في اليابان، إنه يحاول أن يحشد كل بوارجه وأسلحته المتطورة في بلداننا ومواقعنا، لا من أجل أن يوجهها إلى أعدائنا، بل ليقاتلنا في أرضنا ومن أرضنا..
هناك ظلم ثقافي على مستوى العالم ضد المسلمين والمستضعفين، وهناك ظلم سياسي وعسكري وأمني واقتصادي، ولذلك فإننا ونحن نحتفل بذكرى مولده(عج)، نستذكر قوله تعالى عندما أراد لفرعون وهامان وكل الذين معه أن يسقطوا: {ونريد أن نمن على الذين استُضعفوا في الأرض ـ استضعفهم المستكبرون والمفسدون لأنهم لا يملكون المال والسلطة، ولكنهم لم يسقطوا أمام الاستكبار ولم يذلوا أنفسهم، ولم يتراجعوا عن حقوقهم ـ ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين* ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}، وسقط فرعون وهامان وانتصر موسى (ع) والمستضعفون معه. وهناك روايات تقول إن هذه الآية قد تتمثل في موقع هنا وموقع هناك، عندما ينطلق المؤمنون والمستضعفون ليسقطوا أكثر من فرعون هنا وهناك، وقد ورد في بعض الأحاديث بأن هذه الآية قد تفسّر في حركة الواقع بالانتصار الأكبر، عندما ينطلق العدل كله ليسقط الظلم كله، وقد ورد في الأحاديث عن النبي (ص): "لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي"، وفي حديث آخر قال(ص): "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لبعث الله رجلاً اسمه اسمي وخلقه خلقي"، وقد كان النبي (ص) يقول للمسلمين: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

تقوية مواقع العدل

عندما نستذكر مناسبة مولد الإمام المهدي (عج)، فإن علينا أن نعمل على تقوية مواقع العدل في كل أمتنا الإسلامية، لتكون أمتنا الأمة العادلة، فلنجرب العدالة في بيوتنا ونوادينا وأسواقنا، لأن الأمة عندما تتربى على العدل ويعطي كل إنسان لكل ذي حق حقه، فإنها سوف تملك القوة والعزة والحرية والكرامة بالعدل، وسوف تنتصر على كل الظالمين بالعدل، والعدل هو عنوان الرسالات كلها: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط }، رسالة الأديان رسالة العدل، ورسالة الإسلام هي العدل، ورسالة النبي والأئمة من بعده هي العدل، ورسالته (عج) هي العدل.

فإذا كنتم تريدون أن تكونوا من أنصاره وجنوده وأتباعه، فلا يكفي أن ترفعوا أيديكم بالدعاء لتكونوا من أنصاره وأعوانه، بل انظروا إلى واقعكم: هل تعدلون في بيوتكم؟ هل تعدلون في سياستكم؟ هل تعدلون في اقتصادكم وفي القضايا الأمنية فيكم؟ هل يعيش صاحب الحق آمناً على حقه؟ لندرس أنفسنا هل نحن من جنوده أم أننا من جنود أعدائه، لأن الظلم الصغير يساوي الظلم الكبير، فمن يظلم في الصغير سوف يتحوّل إذا ما سمحت له الظروف إلى أن يظلم في الكبير.

الإمام المهدي (عج) ليس مجرد كلمة ووعد وحالة عاطفية ننفتح من خلالها عليه، إنه رسالة، إنه قضية، إنه حركة، إنه موقف، إنه الإخلاص لله ولرسوله وللمسلمين، إنه الذي يأتي ليقود المستضعفين في حركة إسقاط المستكبرين، لهذا علينا أن نعيش الوحدة الإسلامية مع المسلمين جميعاً، وعلينا أن نعيش الوحدة مع المستضعفين كلهم، فقد أصبح العالم عالمين: عالم الاستضعاف وعالم الاستكبار، وعلينا أن نحدد موقعنا من هذين العالمين، لأننا سوف نقف أمام الله تعالى لنُسأل عن مواقفنا ومواقعنا: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}.

اللهمّ عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، واجعلنا من السائرين على خطه، ومن المنتظرين له بالعمل الصالح الذي يواجه المسؤولية في كل مكان، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه، "اللهم أرنا الطلعة الرشيدة، والغرّة الحميدة، واجعلنا من أنصاره وأتباعه".


الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم


عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا الموقف الصعب الذي يتحدانا في كل قضايانا الحيوية والمصيرية، كونوا أمة واحدة واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار. إن الله يريد منا أن نواجه مسؤوليتنا الفردية والجماعية في مستوى مسؤولية الأمة كلها، لأننا إذا لم نتوحد ولم ننطلق من موقع واحد باتجاه هدف واحد، فسيأكلنا المستكبرون ويحوّلوننا مزقاً متناثرة، كما هو الحال في الواقع العربي والإسلامي..

لذلك، فإنّ مشكلتنا أن المستكبرين استطاعوا أن يضعفونا، لأننا استضعفنا أنفسنا وأنتجنا في كل يوم فتنة وعصبية تمزقنا، إن القضايا الكبيرة تحتاج إلى أمة كبيرة وموقع كبير، لا يمكن أن نعالج القضايا الكبرى بالكلمات ولا القضايا المصيرية بالعصبيات، إن الواقع الآن يمثل أخطر واقع عاش في تاريخنا، فتعالوا لنتعرّف ماذا هناك:

أمريكا.. منطق الحقائق المقلوبة

تصعِّد أمريكا خطتها في سياسة السيطرة الأحادية على العالم، إلى مستوى تجربة العصا الغليظة بطريقة دبلوماسية في وجه مجلس الأمن، وتهديد الدول المعارضة لقرارها في الحرب على العراق بمصالحها المتنوّعة بعد إسقاط النظام.. ويحاول الرئيس الأمريكي توزيع مفرداته الأخلاقية في صفة واعظ مسيحي متصهين، في حديثه عمّا أسماه "محور الخير" المتمثّل في أمريكا وأتباعها، و"محور الشر" المتمثّل في معارضي سياستها وبعض مصالحها.. بالإضافة إلى حديثه عن السلام الذي يصف نفسه فيه بأنه "رجل سلام"، في الوقت الذي يدق فيه طبول الحرب في تضخيم خطر هنا وخطر هناك، ليؤكد بأن هذه الحرب هي من أجل السلام لإنقاذ الإنسانية والحضارة والحرية والتقدّم مما يسمّيه الإرهاب..
ويتابع الرئيس الأمريكي حديثه عن السلام، ويصف "شارون" المجرم بأنه "رجل سلام"، مشيداً بـ"إنسانيته" في التعامل مع الفلسطينيين!! وما ندري ما هو مفهومه للسلام في قيام "شارون" بتدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني وقتل الأطفال والنساء والشيوخ؟ وما هي الإنسانية في شخصية هذا الجزّار الوحش (شارون) الذي ردّ على الرئيس الأمريكي بأنه "أفضل رئيس أمريكي تعاملت معه إسرائيل"، لأنه عمل ـ ولا يزال ـ على منحها الحرية المطلقة لتحقيق استراتيجيتها التي قد تؤدي إلى إخراج الفلسطينيين من فلسطين، لتكون فلسطين إسرائيلية يهودية بالكامل..

العرب في الحجر السياسي الأمريكي

أما العرب، فقد استطاعت أمريكا ـ من خلال رئيسها ـ أن تفرض عليهم الحَجْر السياسي والأمني، مهددة كل مسؤول بالضغط على موقعه، وملوّحة بالكلمات الاستهلاكية المائعة التي تخاطب مشاعرهم، والخضوع لأكثر من خديعة سياسية في الرسائل واللقاءات الرئاسية والرسمية الأمريكية.. أما المسلمون، فإن غالبيتهم خضعوا للمظلة الأمريكية التي أطبقت على "منظمة المؤتمر الإسلامي"، حتى لا ينفتحوا على الآفاق الواسعة في أجواء الحرية والكرامة..
إن المرحلة لا تزال تتحرك ابتداءً من المجازر الوحشية الإسرائيلية الحائزة على التأييد الأمريكي، وآخرها مجزرة "رفح" التي سقط فيها عدد من الشهداء من بينهم طفلان، وانتهاءً بالتخطيط للحرب على العراق للإمساك بكل ثرواته وأسواقه واستثماراته ومواقعه الاستراتيجية في ظل حكومة أمريكية عسكرية، في عملية احتلال كامل تحت شعار إعادة الديمقراطية التي ترفضها أمريكا في كل مواقع العالم الثالث الذي ترتبط به مصالحها الحيوية الخاضعة للأنظمة المستبدة..
إن أمريكا هي الدولة التي تمثّل التهديد للشعوب المستضعفة، وهي التي أعطت لكل دكتاتور موقعه وقوته، من أجل أن تلعب لعبة الأمم في إخضاع الشعوب المعارضة.. وإن إسرائيل الحليفة الاستراتيجية لأمريكا هي الخطر الأكبر على المنطقة كلها، من خلال قوتها الذاتية والحماية الأمريكية..

صمود فلسطيني في وجه التحديات

أما الشّعب الفلسطيني الصابر الذي يعيش المأساة المتحركة يومياً، فيُراد له أن يكون الضحية بفعل سياسة الخداع الأمريكي في لعبة الوعد المنافق بالدولة الفلسطينية، بعد المطالبة بالإصلاحات الأمنية والإدارية والاقتصادية، كوسيلة من وسائل الإذلال المستمر الذي يحاول أن يقهر روحية هذا الشعب الذي قرر أن يبقى في موقف العزة والكرامة والعنفوان، صامداً في مواجهة الاحتلال، للوصول ـ في نهاية المطاف ـ إلى القدس، ليبقى المأزق الإسرائيلي والأمريكي في التحدي الكبير للصمود الفلسطيني الثابت أمام مسيرة الشهداء، ولتبقى القضية حارّة بالرغم من المحاولات الأمريكية للتبريد الأمني والسياسي لمصلحة الخطة الأمريكية في حرب العراق.

إنتاج عقدة الكراهية ضد المسلمين

وفي جانب آخر، فإننا نشعر بالقلق للمجازر المتنقلة من إندونيسيا إلى الفليبين فالجزائر، لا سيما أن الإعلام الأمريكي وحلفاءه يشير إلى الإسلاميين كعنوان كبير للجماعات التي يسمّيها إرهابية، بعيداً عن أيّ دليل، لأن الخطة هي إيجاد رأي عالمي ضد الإسلام والمسلمين، لإنتاج عقدة الكراهية لدى الشعوب الأخرى، ولا سيما الغربية ضد الجاليات الإسلامية، ما قد يؤدي إلى التعدي عليها..
إننا ندعو كل العاملين في الحقل الإسلامي إلى أن يحدّقوا بالواقع جيداً، وأن يدرسوا المرحلة في تداعياتها الخطرة وحاجتها إلى المزيد من الوعي والواقعية، والتخطيط للأساليب الفاعلة التي قد تحقق النتائج الإيجابية للشعوب المستضعفة ـ ولا سيما المسلمة ـ من دون عنف يطال الأبرياء بما قد يشوّه صورة الإسلام والمسلمين في العالم، ويؤكد الاتهامات الاستكبارية بأن الإرهاب هو خصوصية إسلامية، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع بأن الإسلام هو دين الرفق والرحمة للإنسانية كلها، وأن الجهاد لا يمثّل حركة عدوانية ضد الناس غير المسلمين، بل هو حركة دفاعية ووقائية من أجل حماية الأمة من المعتدين عليها.

لبنان يحقق الانتصار الثاني

أمّا في لبنان، فقد استطاعت الوحدة الوطنية حول القضايا الحيوية للشعب كله، والتفافها حول الذين يصنعون القوة للبلد من خلال منطق القوة والمقاومة، بالدرجة التي تحوّل فيها الموقف إلى حالة من توازن الرعب عندما أخذ في حسابه الظروف السياسية والأمنية الملائمة.. إن ذلك كله استطاع أن يحقق للبنان الانتصار الثاني على الاحتلال الصهيوني، وذلك من خلال مشروع ضخ مياه الوزاني للقرى العطشى في الجنوب.

إننا نأمل أن تتبع هذه الخطوة خطوات أخرى، باستكمال الأخذ بحقوقنا في الأرض والمياه، والعمل على تحريك المشاريع التي تضمن الثبات والصمود لأهل الجنوب ولكل اللبنانيين في وجه التحديات الصهيونية والاستكبارية.. وعلى اللبنانيين الاستفادة من هذه التجربة الناجحة في التخطيط السياسي للوحدة الداخلية، وذلك بالابتعاد عن لغة العنف والتشنج والتوتر الطائفي والحزبي، والتركيز على الحلول الواقعية للمشاكل، لا سيما في هذا المناخ الدولي العاصف الذي يحاول تهديد الاستقرار في المنطقة، وإثارة أكثر من احتمال في تغيير صورتها الجغرافية والسياسية، ونهب ثرواتها الاقتصادية.

الكفّ عن لعبة الصبيان

إن المطلوب هو الكف عن لعبة الصبيان الذين يبنون بيوتهم الرملية على الشاطئ ويتنازعون عليها، ثم تأتي الموجة لتجرف البيوت كلها.. إن المطلوب هو الكف عن فتح الملفات غير الواقعية التي تثير النزاع، وتحرّك العصبيات، وتثير الغرائز، وتحاصر الحريات.

وأخيراً، إننا ندعو جيل الشباب الحر الواعي الذي يحدّق بالشمس، ويتحرك في الهواء الطلق، أن يعقلن طروحاته، ويدرس خطواته، ويبتعد عن العصبية الغرائزية، ليصنع لبنان المستقبل، حيث الحرية عنوانه، والإشعاع الفكري حركيته، والإنسانية في خط العدالة للجميع والمواطنية للشعب كله هي كل معناه.

في رحاب ولادة الإمام المهدي(عج):  كونوا مع العدل تكونوا من جنوده


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى: 

يرونه بعيداً ونراه قريباً

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}، وأولهم بعد رسول الله(ص) هو عليّ أمير المؤمنين(ع)، وخاتمهم الإمام الحجة بن الحسن (عجل الله فرجه)، الذي أعدّه الله تعالى "ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً": "اللهم صلّ علي وليّ أمرك القائم والعدل المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين وأيده بروح القدس منك يا ربّ العالمين، اللهم اجعله الداعي إلى كتابك، والقائم بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مكّن له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً يعبدك لا يشرك بك شيئاً، اللهم أعزّه وأعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً".

إننا ننتظره ونترقب ظهوره في كل وقت، "إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً" ولكننا ونحن ننتظر قدومه، علينا أن لا نتجمّد أمام حركة الكفر الذي يريد أن يقتلع الإسلام من جذوره، ولا نقف متخاذلين حائرين أمام الظلم كله والاستكبار كله، الذي يريد أن يقهر المستضعفين في كل قضاياهم، ولكننا ـ وهو الذي يحمل رسالة العدل في العالم، لأن الله تعالى أعدّه لتحقيق العدل العالمي في مواجهة الظلم العالمي ـ لا بد لنا أن ننتظره ونحن نحمل رسالة العدل في كل قلوبنا وحياتنا، لنمهّد له القاعدة حتى يأتي فيستكمل العدل في كل مكان.

مواجهة الكافرين والمستكبرين

وعلى ضوء هذا، فإن المسألة التي لا بد أن نعيشها، ولا سيما عندما تتحرك الرياح العاصفة من أجل أن تقتلع كل أشجار الخير، ومن أجل أن تهدم كل أسوار العدل، هي أن نعيش في الساحة أمام مسؤولياتنا الإسلامية التي تنفتح على خط الإسلام؛ في الثقافة السياسية، والأمن والعسكر، لأن الإسلام جاء للحياة كلها ولم يأتِ لجانب منها دون جانب: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم إلى ما يحييكم}.

ولهذا، فإنّ على الأمة الإسلامية أن تواجه في هذه المرحلة الكافرين والمستكبرين الذين يعملون من أجل أن يظلموا الإسلام في عقيدته وشريعته ومفاهيمه، ليشوّهوا صورته ويسقطوا معناه في عقول الناس، ومسؤولية مواجهة هذه الحرب الثقافية تقع على عاتق كل مثقفي العالم الإسلامي، من علماء في الحوزات، ومن مثقفين في الجامعات. إذاً علينا أن نواجه هذه الحملات، لأن الله تعالى أراد لنا أن لا نكتم ما أنزله من البيّنات، ولأن رسول الله (ص) قال: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله"، فكيف إذا ظهرت التحديات للحرب ضد الإسلام كله؟ ولذلك يجب على كل العلماء والمثقفين الإسلاميين وحركيّيهم أن يجمّدوا كل خلافاتهم، سواء كانت خلافات مذهبية أو فتوائية أو سياسية أو حزبية، لأن العدو قد توحّد في كل مواقعه ليحارب الإسلام كله.

ولا بد لنا من أن نخوض الحرب السياسية التي يثيرها الاستكبار العالمي، ليظلم المسلمين في سياستهم حتى يسقطها، وليوزّع التهمة بالإرهاب والتخلّف والتشدد هنا وهناك، ليحارب كلَّ سياسة إسلامية تريد أن تؤكد الأصالة في حريتها واستقلالها والحفاظ على قوتها، وهكذا نلاحظ كيف يقف الرئيس الأمريكي ليتحدث ـ كما لو أنه كان الخير كله ـ عن محور الشر، ومحور الشر عنده إيران الإسلام والمواقع الإسلامية هنا وهناك.

إننا لا ننكر أن هناك شيئاً من الشر في بعض حكّام المسلمين، ولكن ماذا عن الشر في كل حكام المستكبرين؟ إنه يريد أن يرجم الواقع الإسلامي الذي يبحث عن أصالته واستقلاله وحريته وعزته وكرامته، إنه يتحدث عن أن هذا الواقع يمثل محور الشر لأن الشر عنده هو كل معارض لاستكباره ومصالحه التي تتحرك ضد مصالح المستضعفين.

تجنيد الطاقات لمواجهة التحدي

وعلينا أن نجمّد كثيراً من خلافاتنا السياسية الصغيرة التي يتنوع فيها الصراع بين فريق هنا وفريق هناك، نتيجة القضايا الصغيرة والهامشية، إن هناك سياسة استكبارية ينطلق فيها المستكبرون في العالم، الذين يمسكون بأيديهم مقدّرات العالم الاقتصادية والسياسية والأمنية، ليفرضوا علينا سياستهم من خلال مجلس الأمن وكل المواقع التي يشرفون ويسيطرون عليها. إنّ علينا أن نجمّد كل هذا اللغو السياسي وهذه الصغائر التي يتحرك فيها الكثيرون من الزعماء وقادة الأحزاب والجماعات، الذين يشغلون الناس بالخلافات الصغيرة الهامشية، وبالعصبيات السياسية والحزبية والطائفية، والعدوُّ يتكامل ويتوحَّد ويواجهنا من موقع واحد، ونحن نواجهه من مواقع ليس لها عدٌّ ولا حصر.

إن الاستكبار العالمي يثير علينا حرباً أمنية حارّة يستخدم فيها كل أسلحته المتطورة، وربما يبلغ به الأمر أن يستخدم السلاح النووي إذا ضايقته الجماعات المجاهدة، كما فعل ذلك في اليابان، إنه يحاول أن يحشد كل بوارجه وأسلحته المتطورة في بلداننا ومواقعنا، لا من أجل أن يوجهها إلى أعدائنا، بل ليقاتلنا في أرضنا ومن أرضنا..
هناك ظلم ثقافي على مستوى العالم ضد المسلمين والمستضعفين، وهناك ظلم سياسي وعسكري وأمني واقتصادي، ولذلك فإننا ونحن نحتفل بذكرى مولده(عج)، نستذكر قوله تعالى عندما أراد لفرعون وهامان وكل الذين معه أن يسقطوا: {ونريد أن نمن على الذين استُضعفوا في الأرض ـ استضعفهم المستكبرون والمفسدون لأنهم لا يملكون المال والسلطة، ولكنهم لم يسقطوا أمام الاستكبار ولم يذلوا أنفسهم، ولم يتراجعوا عن حقوقهم ـ ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين* ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}، وسقط فرعون وهامان وانتصر موسى (ع) والمستضعفون معه. وهناك روايات تقول إن هذه الآية قد تتمثل في موقع هنا وموقع هناك، عندما ينطلق المؤمنون والمستضعفون ليسقطوا أكثر من فرعون هنا وهناك، وقد ورد في بعض الأحاديث بأن هذه الآية قد تفسّر في حركة الواقع بالانتصار الأكبر، عندما ينطلق العدل كله ليسقط الظلم كله، وقد ورد في الأحاديث عن النبي (ص): "لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي"، وفي حديث آخر قال(ص): "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لبعث الله رجلاً اسمه اسمي وخلقه خلقي"، وقد كان النبي (ص) يقول للمسلمين: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

تقوية مواقع العدل

عندما نستذكر مناسبة مولد الإمام المهدي (عج)، فإن علينا أن نعمل على تقوية مواقع العدل في كل أمتنا الإسلامية، لتكون أمتنا الأمة العادلة، فلنجرب العدالة في بيوتنا ونوادينا وأسواقنا، لأن الأمة عندما تتربى على العدل ويعطي كل إنسان لكل ذي حق حقه، فإنها سوف تملك القوة والعزة والحرية والكرامة بالعدل، وسوف تنتصر على كل الظالمين بالعدل، والعدل هو عنوان الرسالات كلها: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط }، رسالة الأديان رسالة العدل، ورسالة الإسلام هي العدل، ورسالة النبي والأئمة من بعده هي العدل، ورسالته (عج) هي العدل.

فإذا كنتم تريدون أن تكونوا من أنصاره وجنوده وأتباعه، فلا يكفي أن ترفعوا أيديكم بالدعاء لتكونوا من أنصاره وأعوانه، بل انظروا إلى واقعكم: هل تعدلون في بيوتكم؟ هل تعدلون في سياستكم؟ هل تعدلون في اقتصادكم وفي القضايا الأمنية فيكم؟ هل يعيش صاحب الحق آمناً على حقه؟ لندرس أنفسنا هل نحن من جنوده أم أننا من جنود أعدائه، لأن الظلم الصغير يساوي الظلم الكبير، فمن يظلم في الصغير سوف يتحوّل إذا ما سمحت له الظروف إلى أن يظلم في الكبير.

الإمام المهدي (عج) ليس مجرد كلمة ووعد وحالة عاطفية ننفتح من خلالها عليه، إنه رسالة، إنه قضية، إنه حركة، إنه موقف، إنه الإخلاص لله ولرسوله وللمسلمين، إنه الذي يأتي ليقود المستضعفين في حركة إسقاط المستكبرين، لهذا علينا أن نعيش الوحدة الإسلامية مع المسلمين جميعاً، وعلينا أن نعيش الوحدة مع المستضعفين كلهم، فقد أصبح العالم عالمين: عالم الاستضعاف وعالم الاستكبار، وعلينا أن نحدد موقعنا من هذين العالمين، لأننا سوف نقف أمام الله تعالى لنُسأل عن مواقفنا ومواقعنا: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}.

اللهمّ عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، واجعلنا من السائرين على خطه، ومن المنتظرين له بالعمل الصالح الذي يواجه المسؤولية في كل مكان، وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه، "اللهم أرنا الطلعة الرشيدة، والغرّة الحميدة، واجعلنا من أنصاره وأتباعه".


الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم


عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا الموقف الصعب الذي يتحدانا في كل قضايانا الحيوية والمصيرية، كونوا أمة واحدة واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار. إن الله يريد منا أن نواجه مسؤوليتنا الفردية والجماعية في مستوى مسؤولية الأمة كلها، لأننا إذا لم نتوحد ولم ننطلق من موقع واحد باتجاه هدف واحد، فسيأكلنا المستكبرون ويحوّلوننا مزقاً متناثرة، كما هو الحال في الواقع العربي والإسلامي..

لذلك، فإنّ مشكلتنا أن المستكبرين استطاعوا أن يضعفونا، لأننا استضعفنا أنفسنا وأنتجنا في كل يوم فتنة وعصبية تمزقنا، إن القضايا الكبيرة تحتاج إلى أمة كبيرة وموقع كبير، لا يمكن أن نعالج القضايا الكبرى بالكلمات ولا القضايا المصيرية بالعصبيات، إن الواقع الآن يمثل أخطر واقع عاش في تاريخنا، فتعالوا لنتعرّف ماذا هناك:

أمريكا.. منطق الحقائق المقلوبة

تصعِّد أمريكا خطتها في سياسة السيطرة الأحادية على العالم، إلى مستوى تجربة العصا الغليظة بطريقة دبلوماسية في وجه مجلس الأمن، وتهديد الدول المعارضة لقرارها في الحرب على العراق بمصالحها المتنوّعة بعد إسقاط النظام.. ويحاول الرئيس الأمريكي توزيع مفرداته الأخلاقية في صفة واعظ مسيحي متصهين، في حديثه عمّا أسماه "محور الخير" المتمثّل في أمريكا وأتباعها، و"محور الشر" المتمثّل في معارضي سياستها وبعض مصالحها.. بالإضافة إلى حديثه عن السلام الذي يصف نفسه فيه بأنه "رجل سلام"، في الوقت الذي يدق فيه طبول الحرب في تضخيم خطر هنا وخطر هناك، ليؤكد بأن هذه الحرب هي من أجل السلام لإنقاذ الإنسانية والحضارة والحرية والتقدّم مما يسمّيه الإرهاب..
ويتابع الرئيس الأمريكي حديثه عن السلام، ويصف "شارون" المجرم بأنه "رجل سلام"، مشيداً بـ"إنسانيته" في التعامل مع الفلسطينيين!! وما ندري ما هو مفهومه للسلام في قيام "شارون" بتدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني وقتل الأطفال والنساء والشيوخ؟ وما هي الإنسانية في شخصية هذا الجزّار الوحش (شارون) الذي ردّ على الرئيس الأمريكي بأنه "أفضل رئيس أمريكي تعاملت معه إسرائيل"، لأنه عمل ـ ولا يزال ـ على منحها الحرية المطلقة لتحقيق استراتيجيتها التي قد تؤدي إلى إخراج الفلسطينيين من فلسطين، لتكون فلسطين إسرائيلية يهودية بالكامل..

العرب في الحجر السياسي الأمريكي

أما العرب، فقد استطاعت أمريكا ـ من خلال رئيسها ـ أن تفرض عليهم الحَجْر السياسي والأمني، مهددة كل مسؤول بالضغط على موقعه، وملوّحة بالكلمات الاستهلاكية المائعة التي تخاطب مشاعرهم، والخضوع لأكثر من خديعة سياسية في الرسائل واللقاءات الرئاسية والرسمية الأمريكية.. أما المسلمون، فإن غالبيتهم خضعوا للمظلة الأمريكية التي أطبقت على "منظمة المؤتمر الإسلامي"، حتى لا ينفتحوا على الآفاق الواسعة في أجواء الحرية والكرامة..
إن المرحلة لا تزال تتحرك ابتداءً من المجازر الوحشية الإسرائيلية الحائزة على التأييد الأمريكي، وآخرها مجزرة "رفح" التي سقط فيها عدد من الشهداء من بينهم طفلان، وانتهاءً بالتخطيط للحرب على العراق للإمساك بكل ثرواته وأسواقه واستثماراته ومواقعه الاستراتيجية في ظل حكومة أمريكية عسكرية، في عملية احتلال كامل تحت شعار إعادة الديمقراطية التي ترفضها أمريكا في كل مواقع العالم الثالث الذي ترتبط به مصالحها الحيوية الخاضعة للأنظمة المستبدة..
إن أمريكا هي الدولة التي تمثّل التهديد للشعوب المستضعفة، وهي التي أعطت لكل دكتاتور موقعه وقوته، من أجل أن تلعب لعبة الأمم في إخضاع الشعوب المعارضة.. وإن إسرائيل الحليفة الاستراتيجية لأمريكا هي الخطر الأكبر على المنطقة كلها، من خلال قوتها الذاتية والحماية الأمريكية..

صمود فلسطيني في وجه التحديات

أما الشّعب الفلسطيني الصابر الذي يعيش المأساة المتحركة يومياً، فيُراد له أن يكون الضحية بفعل سياسة الخداع الأمريكي في لعبة الوعد المنافق بالدولة الفلسطينية، بعد المطالبة بالإصلاحات الأمنية والإدارية والاقتصادية، كوسيلة من وسائل الإذلال المستمر الذي يحاول أن يقهر روحية هذا الشعب الذي قرر أن يبقى في موقف العزة والكرامة والعنفوان، صامداً في مواجهة الاحتلال، للوصول ـ في نهاية المطاف ـ إلى القدس، ليبقى المأزق الإسرائيلي والأمريكي في التحدي الكبير للصمود الفلسطيني الثابت أمام مسيرة الشهداء، ولتبقى القضية حارّة بالرغم من المحاولات الأمريكية للتبريد الأمني والسياسي لمصلحة الخطة الأمريكية في حرب العراق.

إنتاج عقدة الكراهية ضد المسلمين

وفي جانب آخر، فإننا نشعر بالقلق للمجازر المتنقلة من إندونيسيا إلى الفليبين فالجزائر، لا سيما أن الإعلام الأمريكي وحلفاءه يشير إلى الإسلاميين كعنوان كبير للجماعات التي يسمّيها إرهابية، بعيداً عن أيّ دليل، لأن الخطة هي إيجاد رأي عالمي ضد الإسلام والمسلمين، لإنتاج عقدة الكراهية لدى الشعوب الأخرى، ولا سيما الغربية ضد الجاليات الإسلامية، ما قد يؤدي إلى التعدي عليها..
إننا ندعو كل العاملين في الحقل الإسلامي إلى أن يحدّقوا بالواقع جيداً، وأن يدرسوا المرحلة في تداعياتها الخطرة وحاجتها إلى المزيد من الوعي والواقعية، والتخطيط للأساليب الفاعلة التي قد تحقق النتائج الإيجابية للشعوب المستضعفة ـ ولا سيما المسلمة ـ من دون عنف يطال الأبرياء بما قد يشوّه صورة الإسلام والمسلمين في العالم، ويؤكد الاتهامات الاستكبارية بأن الإرهاب هو خصوصية إسلامية، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع بأن الإسلام هو دين الرفق والرحمة للإنسانية كلها، وأن الجهاد لا يمثّل حركة عدوانية ضد الناس غير المسلمين، بل هو حركة دفاعية ووقائية من أجل حماية الأمة من المعتدين عليها.

لبنان يحقق الانتصار الثاني

أمّا في لبنان، فقد استطاعت الوحدة الوطنية حول القضايا الحيوية للشعب كله، والتفافها حول الذين يصنعون القوة للبلد من خلال منطق القوة والمقاومة، بالدرجة التي تحوّل فيها الموقف إلى حالة من توازن الرعب عندما أخذ في حسابه الظروف السياسية والأمنية الملائمة.. إن ذلك كله استطاع أن يحقق للبنان الانتصار الثاني على الاحتلال الصهيوني، وذلك من خلال مشروع ضخ مياه الوزاني للقرى العطشى في الجنوب.

إننا نأمل أن تتبع هذه الخطوة خطوات أخرى، باستكمال الأخذ بحقوقنا في الأرض والمياه، والعمل على تحريك المشاريع التي تضمن الثبات والصمود لأهل الجنوب ولكل اللبنانيين في وجه التحديات الصهيونية والاستكبارية.. وعلى اللبنانيين الاستفادة من هذه التجربة الناجحة في التخطيط السياسي للوحدة الداخلية، وذلك بالابتعاد عن لغة العنف والتشنج والتوتر الطائفي والحزبي، والتركيز على الحلول الواقعية للمشاكل، لا سيما في هذا المناخ الدولي العاصف الذي يحاول تهديد الاستقرار في المنطقة، وإثارة أكثر من احتمال في تغيير صورتها الجغرافية والسياسية، ونهب ثرواتها الاقتصادية.

الكفّ عن لعبة الصبيان

إن المطلوب هو الكف عن لعبة الصبيان الذين يبنون بيوتهم الرملية على الشاطئ ويتنازعون عليها، ثم تأتي الموجة لتجرف البيوت كلها.. إن المطلوب هو الكف عن فتح الملفات غير الواقعية التي تثير النزاع، وتحرّك العصبيات، وتثير الغرائز، وتحاصر الحريات.

وأخيراً، إننا ندعو جيل الشباب الحر الواعي الذي يحدّق بالشمس، ويتحرك في الهواء الطلق، أن يعقلن طروحاته، ويدرس خطواته، ويبتعد عن العصبية الغرائزية، ليصنع لبنان المستقبل، حيث الحرية عنوانه، والإشعاع الفكري حركيته، والإنسانية في خط العدالة للجميع والمواطنية للشعب كله هي كل معناه.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير