لنتأسَّ بالنبي(ص) والأئمة(ع) ونتحرك على أساس المحبة ونبذ العصبية

لنتأسَّ بالنبي(ص) والأئمة(ع) ونتحرك على أساس المحبة ونبذ العصبية

بين حمية الجاهلية وسكينة الإيمان:
لنتأسَّ بالنبي(ص) والأئمة(ع) ونتحرك على أساس المحبة ونبذ العصبية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

بين حمية الجاهلية وسكينة الإيمان

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً}.

في هذه الآية الكريمة، يريد الله تعالى أن يبيّن للناس الفرق بين الذين يسيرون في خط الكفر وبين الذين يسيرون في خط الإيمان، من خلال حال وجدانية حركية في علاقات الإنسان بالآخرين وبالأشياء. فهناك الناس الذين يعيشون حال الانفعال والغرائزية، بحيث يتحركون على أساس العصبية التي تغلق الإنسان على شخص معيّن أو جهة معيّنة، فتجعله مشدوداً إلى هذا الشخص ومفصولاً عن غيره، بحيث يبقى الإنسان يحدّق في زنزانة التعصّب، فلا يرى غير ما يتعصّب له، لأن الانفعال لا ينطلق من موقف فكري، وإنما ينطلق من حال غريزية، فالغريزة تتحرك من خلال الحالات الذاتية للإنسان، بينما الفكر يتحرك من المنهج العقلي الذي يدرس الأمور بموضوعية وعقلانية، كما لو لم يكن لها أية علاقة بالذات، بحيث يدرس الإنسان القضية بقطع النظر عن علاقتها بأيِّ شخص ممن يحترم وممن لا يحترم.

هذا هو الفرق بين حميّة الجاهلية وسكينة الإيمان، التي أعطى الله تعالى رسوله (ص) عقلانيتها وهدوءها وموضوعيتها وعدالتها في النظرة إلى الأشياء ودراستها بشكل دقيق، وأعطى الله تعالى ذلك للمؤمنين أيضاً، بحيث يعيشون الهدوء العقلي والنفسي في النظرة إلى الأشياء والأشخاص والأحداث بشكل حيادي، وجعل المؤمنين يستحضرون الله تعالى في كل ما يتحركون به، لأن التقوى تفرض ذلك، ومعنى أن تكون تقياً، أن تشعر بحضور الله في إشرافه على عقلك وقلبك وحياتك، فعندما تفكر، تشعر بعين الله تطل على فكرك وقلبك لتقول لك ليكن عقلك وقلبك عقل الحق وقلب المحبة، وتطل على حياتك لتقول لك لتكن حياتك حياة الحق والعدل، أن تحسب حساب الله في كل أمورك، لا حساب شهواتك وغرائزك، والتقوى هي التي تؤمّن لشخصيتك الضوابط كي لا تسقط وتنحرف وتظلم.

المتعصب ليس مؤمناً

فالله تعالى يريد أن يقول: أن تكون مؤمناً يعني أن لا تكون متعصباً، فتغلق عقلك وقلبك وحياتك عن الكل باستثناء من تعصَّبت له، الأمر الذي يعني أن هناك ضعفاً في إيمانك، لأنك عندما تلغي الآخر تماماً بوحي العصبية، فأنت تظلمه، فقد يكون الحق والخير معه، وقد يكون العدل في حساباته، أما عندما تظل في عملية مقارنة بين من تحب وبين من لا تحب، بين الحدث الذي يعيش في دائرتك أو الذي يعيش في الدوائر الأخرى، فلا ترى إلا الإيجابية هنا والسلبية هناك... إن التعصّب يلغي عقلك، ويعقّد قلبك، ويربك حياتك، لأنك تنظر بعين واحدة، والله تعالى خلق لك عينين في وجهك وعقلك وقلبك لتنظر إلى الأشياء بوضوح وعمق ودقة.

ويحدّثنا القرآن الكريم عن الذين كانوا ينطلقون مع الأنبياء في عملية مضادّة، حيث كان هؤلاء يتعصبون لأصنامهم وتقاليدهم وكبرائهم، ولذلك فإنهم يحتقرون ويرفضون كل الذين يختلفون مع الأصنام والكبراء والتقاليد، ولا يفكرون في ما يُعرض عليهم وفي ما هو لديهم، بل ينطلقون في حكم أعمى غبي. فهل أنت من هؤلاء؟ حاول أن تدرس الأسس التي يرتكز عليها حقدك وحبّك، وتذكر أن التعصّب يقول لك: ابغض كل من هو على خلاف عصبيتك، واحكم على كل من ليس مع عصبيتك بالضلال وحاول أن تحتقره.

يحدثنا الله تعالى عن منطق الكافرين في مواجهتهم للدعوات النبوية التي تصدم ما يتعصبون له: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ـ لم يفكروا في الرسالة التي يدعو إليها ولا في عناصر شخصيته ـ ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون}، هذا هو منطقهم؛ احتقار الآخر وإنكار ما يطرحه من دون مناقشة، وذلك بفعل العصبية التي التزموا بها...

فلننطلق مع النبي (ص) في علاج العصبية، وهناك عصبية للذات "الأنا"، ومن يصاب بها، يعتبر عقله وعلمه ومنطقه أفضل العقول والعلوم، فتتضخّم شخصيته حتى يحتقر الآخرين. وهناك أيضاً التعصّب للعائلة والتعصّب للبلد وللوطن وللقومية والحزبية والرموز السياسية والاجتماعية وربما الدينية، بحيث تلغي الآخر. لقد رُوي عن النبي(ص) أنه قال: "من تعصّب ـ عاش ذهنية العصبية التي تغلق نفسها على دائرة معينة ولا تنفتح على بقية الدوائر حتى على مستوى الفكر والاحتمال ـ أو تُعصّب له ـ بحيث عمل على أن يتعصب الناس له ويوجههم نحو ذلك، كالكثير من الذهنيات الحزبية والشخصانية الضيقة، هؤلاء الذين يخططون من أجل أن يتعصب الناس لهم، يحيث يذوبون في شخصياتهم من غير وعي ـ فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه". فالإيمان قيد يقيّد شخصية الإنسان وعنقه، فإذا كنت متعصباً أو تشجع على التعصب، فأنت لست مؤمناً، لأن الإيمان لا يلتقي مع العصبية.

وفي حديث آخر للنبي (ص): "من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"، وعنه (ص): "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"، وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "من تعصّب عصّبه الله سبحانه وتعالى بعصابة من نار"، وعن أمير المؤمنين(ع) في كتاب له للأشتر: "إملك حميّة أنفك، وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك"..

العصبية المذمومة

ولقد عرّف الإمام زين العابدين (ع) العصبية بالقول: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ـ قد يفكر البعض بأن الشرير في عائلتنا أفضل من الخيّر من العائلة الفلانية، وهكذا في مواقع العصبيات الأخرى من جمعيات وأحزاب ومنظمات، وقد تحدثنا عن الآية القرآنية التي تدعونا إلى العدل حتى مع عدوّك أو خصمك: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} ـ وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه ـ من الطبيعي أن ينجذب الإنسان إلى الشخص الذي يلتقي معه بالهدف الديني أو الاجتماعي أو النسب، لكن عندما تصل المسالة إلى أن تعين من تحبه على الظلم، هنا يتوقف الحب وتتحرك المبادئ ـ ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم".

وعن الإمام علي (ع) في خطبة له يبيّن فيها من هو إمام المتعصبين، حتى يعرف المتعصّب طائفياً وسياسياً وحزبياً وعشائرياً من هو إمامه. يقول (ع) في ذم إبليس: "فافتخر على آدم في خلقه، وتعصّب عليه في أصله، فعدوّ الله ـ وليسمع كل المتعصبين ـ إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين ـ فإبليس يمثل الجذور التاريخية التي يرجع إليها المستكبرون والمتعصبون ـ الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادّرع لباس التعزّز، وخلع لباس التذلّل".. وعن الإمام الصادق (ع): "إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم الله ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحميّة والغضب، فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين".

التعصب للمبادىء

ويهدينا أمير المؤمنين إلى من يمكن أن نتعصّب له، إذا كان لا بد من التعصّب، فلا تعصّب للأشخاص بل للمبادئ، يقول (ع): "ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلا عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يُعرف له سبب ولا علّة ـ تتعصبون على أساس شهواتكم وغرائزكم لا على أساس تفكير وعقل ووعي ـ أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناري وأنت طيني، وأما الأغنياء من مترفة الأمم، فتعصبوا لآثار مواقع النعم، فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذَّبين، فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة، فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبرّ، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكفّ عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض"..

وهكذا، نعرف أن الإسلام يريد للإنسان المسلم أن يكون الإنسان الذي يفكر بعقله، ويتحرك على أساس دراسة الأمور بموضوعية ودقة وعدالة. ولذلك يجب أن نلتزم بالشعار الذي نطلقه بعد أن ندرسه ونؤمن به ونستمع إلى الآخر في وجهة نظره وندخل في حوار معه، فعلينا أن لا نلغي الآخر، بل نناقشه ونحاوره ونتعايش معه، هذا هو الذي يجعل المجتمع يرتفع في عقله وإنسانيته.

إننا نعيش هذه الإرباكات الاجتماعية والسياسية والدينية، لأننا أخذنا بأسباب العصبية، ولذلك ابتلانا الله تعالى في أمننا واقتصادنا وسياستنا، لأن العصبية فصلت بعضنا عن بعض، وخلقت في داخلنا الحقد بدل المحبة، والعداوة بدل الصداقة، هذا ونحن مؤمنون يبرأ بعضنا من بعض، ويكفّر بعضنا بعضاً من دون وعي، فإذا كانت العصبية في النار، فكيف يمكننا أن نطلب الجنة في خط العصبية، ولا عصبية في الجنة: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين}، لذلك لن يدخل الجنة إلا من كان قلبه خالياً من الحقد، وممتلئاً بالمحبة، فتعالوا لنحبّ بعضنا بعضاً على أساس الإنسانية وعلى أساس محبة الله ورسوله وأوليائه، تعالوا نرفض العصبية لنكون مجتمعاً واحداً، فالله تعالى {الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في ما تتحركون فيه في حياتكم من المنهج، العقل لا الغريزة، والعدل لا الظلم، والحق لا الباطل، والمحبة لا الحقد، والوحدة لا التمزق والتفرق. إننا نريد أن نكون أمة واحدة، لأنه بالوحدة نكون أقوياء، حيث تلتقي الطاقات وتتكامل المواقع، وينطلق الناس في كل مواقعهم من أجل مجابهة التحديات الكبرى التي يفرضها الكفر من جهة، والاستكبار من جهة أخرى. إن التحديات التي تواجه المسلمين والمستضعفين، هي أنهم يعيشون التمزق في مذاهبهم ويتعصبون بعضهم ضد بعض، ويعيشون التفرق في أوضاعهم وسياستهم وعصبياتهم..

فلننطلق أمّةً واحدةً، جيشاً واحداً، صفاً واحداً، إنكم ترون كيف أن المستكبرين يلتقون ويتجمعون ويخططون لمصادرتنا كأمة، فلا يسمحون لنا بأن نتحد، ويصادروننا كموقع للثرواث، فيمنعوننا من أن نأخذ بالزراعة والصناعة التي تقوّي الأمة في حاجاتها، لأنهم يريدون لنا أن نبقى مجرد أسواق استهلاكية. لذلك، فلنرتفع إلى مستوى الوعي، ونحن لا نزال نعيش التحديات، فلنفهم ماذا هناك لنفهم خلفيات الواقع، حتى لا يبعدنا الإعلام المضادّ عن معرفة حقنا هنا وهناك، فماذا هناك؟

أمريكا: المساندة في إبادة الشعب الفلسطيني

لا يزال الأطفال الفلسطينيون الذين يحرمهم الاحتلال من حقهم في التعلّم والغذاء والكساء، يواجهون عملية القتل اليومي المتصاعد من خلال الاجتياح للمدن والقرى والمخيمات، كما يعانون من التشريد المتواصل المنظَّم، في التدمير الوحشي لبيوتهم، ليقضوا ليلهم ونهارهم في العراء في هذا الشتاء القارس..

ولم نسمع صرخة قوية عميقة واسعة ضد الوحشية الصهيونية من قِبَل لجان حقوق الإنسان في اليوم العالمي للمطالبة بحقوق الإنسان، ولكننا نفاجأ بالحديث المتكرر لأكثر من جهة دولية وإعلامية عن بعض الأطفال اليهود الذين سقطوا في العمليات الجهادية الفلسطينية، ما يوحي بالتمييز العنصري بين "ابن الست" اليهودي و"ابن الجارية" الفلسطيني!!

وفي الوقت نفسه، تمارس الطائرات والدبابات والصواريخ الأمريكية عملية القتل المنظَّم للمدنيين الفلسطينيين بدم بارد، بحيث أصبح الفلسطينيون هدفاً لتدريبات الجيش الصهيوني على القتل ، الأمر الذي حوّل الجنود إلى وحوش لا تملك حتى قيم الوحوش، وذلك تحت سمع الإدارة الأمريكية وبصرها، في موقف مساند لعملية إبادة الفلسطينيين، في نفاق سياسي مخادع يلوّح بالدولة الفلسطينية التي لا بد لها أن تنتظر الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ريثما تستكمل إسرائيل مصادرة الشعب الفلسطيني وتخفيف أعداده، لأن أمريكا لا تنظر إلى الفلسطينيين إلا بعين المصالح الصهيونية.

وفي هذا الجو، يحدّثنا الإعلام عن اجتماع مرتقب بين رئيس الحكومة الفلسطينية ورئيس الحكومة الصهيونية، ولكن من دون أن يحمل الفلسطينيون أيّ مطالب على مستوى شروط اللقاء ليكون واقعياً.. وهكذا، تستمر المهزلة التي تجعل من هذه اللقاءات جهداً ضائعاً، وتمييعاً للقضية، وضغطاً أمريكياً وإسرائيلياً لتقديم التنازلات لإسرائيل، من أجل إثبات الجدّية الفلسطينية في السعي إلى السلام، كما يقولون؟!

إن اللعبة الدولية في حركة اللجنة الرباعية في تحريك خريطة الطريق المشبوهة، تعمل على تقطيع الوقت الضائع، ريثما يستكمل الأمريكيون الخطة التي تحقق كل أهداف إسرائيل، ليبقى للفلسطينيين البقايا من أرضهم وأمنهم وسياستهم، وليتحوّلوا إلى ملحق عمّالي يخدم الأوضاع الإسرائيلية الاقتصادية، وإلى كيان لا يملك حقيقة الدولة ولا حرية المصير في الانفتاح على المستقبل.

أما الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني، فإننا نجد فيه عنصراً إيجابياً على مستوى تجربة التداول حول القضية الفلسطينية في بُعدها السياسي والأمني والجهادي، لأن هذا القرب الحواري سوف يقلّص من حال التباعد الفكري والحركي، ويؤسس للتفاهم حول القضايا المشتركة التي يلتقي عليها الجميع، وللحوار حول القضايا المختلفة..

وإذا كانت اللقاءات الأخيرة لم تصل إلى نتيجة حاسمة في كل الطروحات، فإننا نرجو أن يبقى هذا الحوار كمؤسسة مستمرة في امتداد التطورات الفلسطينية في الداخل والخارج، منعاً للذين يصطادون في الماء العكر من استغلال الخلافات لإيجاد الفتنة الداخلية المميتة.

العراق أمانة الله

وفي العراق، فإننا نشعر بقلق وحذر من التعقيدات الأمنية ـ على صعيد الواقع أو الإعلام ـ التي يراد لها التحضير للفتنة الطائفية، وهذا ما لاحظناه في الخطب التي أُثيرت حول إعطاء الدور الأمني للميليشيات الحزبية، ما جعل البعض يتحدث عنها كحالة طائفية لخدمة وضع طائفي معيّن في مقابل وضع آخر، أو في الحادث الفظيع في تفجير مسجد "أحباء المصطفى" في بغداد، الأمر الذي حاول البعض استغلاله في حساسيات مذهبية لإثارة الفتنة.

إننا من موقعنا الشرعي، نتوجه إلى أهلنا وأحبابنا في العراق، سواء في الدائرة الإسلامية أو في الدائرة الوطنية العامة، بالتأكيد على الوحدة الإسلامية والوطنية بالمزيد من الوعي والحذر والانتباه إلى خلفيات اللعبة السياسية والأمنية، والدخول في حوار موضوعي هادف عميق لمعالجة القضايا التي يختلف فيها الرأي، أو تتحرك معها الحساسيات.. إن العراق أمانة الله في أعناق الجميع، وإن المستقبل ينتظر منكم تجميع الطاقات من أجل عراق حضاري مستقبلي يضيء لنفسه وللمنطقة كلها.. وحذارِ من القوى التي تثير الفتنة العمياء، وليكن كل مواطن خفيراً وحارساً للوحدة.

شراكة إسرائيلية لأمريكا في احتلال العراق

وعلى صعيد العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية في العراق، فقد حملت لنا وسائل الإعلام ـ حتى الأمريكية ـ أن الحضور الأمني الإسرائيلي في العراق يزداد ـ وبطلب من أمريكا ـ التي ترى في تجربة إسرائيل في فلسطين نجاحاً يستحق التقليد لتثبيت احتلالها في العراق، وقد بدأت إسرائيل تنفيذ خطتها المرسومة لدورها في عراق المستقبل.. وقد قال مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الاستخبارات، أن "لا حوار رسمياً بين أمريكا وإسرائيل، بل إننا نعمل معاً".

إن إسرائيل تشارك أمريكا في احتلالها للعراق، وفي تحريك استخباراتها بالتكامل مع الاستخبارات الأمريكية، وتعمل على اختراق المجتمع العراقي والمستقبل، مع محاولات بارزة للدخول في سوق إعادة الإعمار والاقتصاد والتجارة.. والسؤال: أين العالم العربي عن كل هذه الخطة وهذا الاختراق الذي سوف يؤكد الحضور السياسي الصهيوني بأكبر من الحضور العربي الذي يعاني من الغياب المطلق والاهتراء السياسي، ما قد يخلق الكثير من المشاكل للمنطقة كلها بفعل التحالف الاستراتيجي الأمريكي ـ الإسرائيلي، الذي يعمل على إسقاط كل مواقع القوة العربية، لا سيما في عراق المستقبل الذي يُراد له أن يطلّ على المستقبل من خلال رؤية أمريكية مغطّاة بوجه عربي؟ إننا نريد لأهلنا في العراق الانتباه إلى خيوط اللعبة العنكبوتية، بالوعي والوحدة والصمود.

لبنان بين مؤتمرات الفكر ومناخ الظلام السياسي

ونبقى مع لبنان، في العدوان الإسرائيلي على شابين مدنيين بريئين باغتيالهما ظلماً وعدواناً، وفي الخطة التاريخية لإضعاف الجامعة اللبنانية التي لا بد أن تكون من أقوى الجامعات، لأنها للفقراء وللبنانيين جميعاً، وفي الواقع الاقتصادي الذي لا يزال يراوح مكانه في تراكم الأزمات المالية والمعيشية، وفي الفضائح الكبيرة والصغيرة من الكبار والصغار، وفي الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان، وفي تجاذب الجدل السياسي بالطريقة الطائفية الخاضعة لأكثر من عصبية عمياء تنسف بعض ما تحقق من الوفاق الوطني، وتتحرك لمنع الوفاق في المستقبل.

والسؤال: هل تريدون لهذا البلد الذي يحتضن مؤتمرات الفكر والثقافة وحقوق الإنسان، أن يضيع في أكثر من مناخ للظلام السياسي والاقتصادي، أم تريدون له أن يبقى ـ كما اعتاد الناس أن يصفوه ـ بلد الإشعاع؟؟ إننا قد نجد الإشعاع في أكثر من موقع شعبي، ولكن أين الإشعاع في الدولة التي تفقد معالمها الكثير من كهرباء النور والإصلاح وحقوق الإنسان؟

بين حمية الجاهلية وسكينة الإيمان:
لنتأسَّ بالنبي(ص) والأئمة(ع) ونتحرك على أساس المحبة ونبذ العصبية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

بين حمية الجاهلية وسكينة الإيمان

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً}.

في هذه الآية الكريمة، يريد الله تعالى أن يبيّن للناس الفرق بين الذين يسيرون في خط الكفر وبين الذين يسيرون في خط الإيمان، من خلال حال وجدانية حركية في علاقات الإنسان بالآخرين وبالأشياء. فهناك الناس الذين يعيشون حال الانفعال والغرائزية، بحيث يتحركون على أساس العصبية التي تغلق الإنسان على شخص معيّن أو جهة معيّنة، فتجعله مشدوداً إلى هذا الشخص ومفصولاً عن غيره، بحيث يبقى الإنسان يحدّق في زنزانة التعصّب، فلا يرى غير ما يتعصّب له، لأن الانفعال لا ينطلق من موقف فكري، وإنما ينطلق من حال غريزية، فالغريزة تتحرك من خلال الحالات الذاتية للإنسان، بينما الفكر يتحرك من المنهج العقلي الذي يدرس الأمور بموضوعية وعقلانية، كما لو لم يكن لها أية علاقة بالذات، بحيث يدرس الإنسان القضية بقطع النظر عن علاقتها بأيِّ شخص ممن يحترم وممن لا يحترم.

هذا هو الفرق بين حميّة الجاهلية وسكينة الإيمان، التي أعطى الله تعالى رسوله (ص) عقلانيتها وهدوءها وموضوعيتها وعدالتها في النظرة إلى الأشياء ودراستها بشكل دقيق، وأعطى الله تعالى ذلك للمؤمنين أيضاً، بحيث يعيشون الهدوء العقلي والنفسي في النظرة إلى الأشياء والأشخاص والأحداث بشكل حيادي، وجعل المؤمنين يستحضرون الله تعالى في كل ما يتحركون به، لأن التقوى تفرض ذلك، ومعنى أن تكون تقياً، أن تشعر بحضور الله في إشرافه على عقلك وقلبك وحياتك، فعندما تفكر، تشعر بعين الله تطل على فكرك وقلبك لتقول لك ليكن عقلك وقلبك عقل الحق وقلب المحبة، وتطل على حياتك لتقول لك لتكن حياتك حياة الحق والعدل، أن تحسب حساب الله في كل أمورك، لا حساب شهواتك وغرائزك، والتقوى هي التي تؤمّن لشخصيتك الضوابط كي لا تسقط وتنحرف وتظلم.

المتعصب ليس مؤمناً

فالله تعالى يريد أن يقول: أن تكون مؤمناً يعني أن لا تكون متعصباً، فتغلق عقلك وقلبك وحياتك عن الكل باستثناء من تعصَّبت له، الأمر الذي يعني أن هناك ضعفاً في إيمانك، لأنك عندما تلغي الآخر تماماً بوحي العصبية، فأنت تظلمه، فقد يكون الحق والخير معه، وقد يكون العدل في حساباته، أما عندما تظل في عملية مقارنة بين من تحب وبين من لا تحب، بين الحدث الذي يعيش في دائرتك أو الذي يعيش في الدوائر الأخرى، فلا ترى إلا الإيجابية هنا والسلبية هناك... إن التعصّب يلغي عقلك، ويعقّد قلبك، ويربك حياتك، لأنك تنظر بعين واحدة، والله تعالى خلق لك عينين في وجهك وعقلك وقلبك لتنظر إلى الأشياء بوضوح وعمق ودقة.

ويحدّثنا القرآن الكريم عن الذين كانوا ينطلقون مع الأنبياء في عملية مضادّة، حيث كان هؤلاء يتعصبون لأصنامهم وتقاليدهم وكبرائهم، ولذلك فإنهم يحتقرون ويرفضون كل الذين يختلفون مع الأصنام والكبراء والتقاليد، ولا يفكرون في ما يُعرض عليهم وفي ما هو لديهم، بل ينطلقون في حكم أعمى غبي. فهل أنت من هؤلاء؟ حاول أن تدرس الأسس التي يرتكز عليها حقدك وحبّك، وتذكر أن التعصّب يقول لك: ابغض كل من هو على خلاف عصبيتك، واحكم على كل من ليس مع عصبيتك بالضلال وحاول أن تحتقره.

يحدثنا الله تعالى عن منطق الكافرين في مواجهتهم للدعوات النبوية التي تصدم ما يتعصبون له: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ـ لم يفكروا في الرسالة التي يدعو إليها ولا في عناصر شخصيته ـ ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون}، هذا هو منطقهم؛ احتقار الآخر وإنكار ما يطرحه من دون مناقشة، وذلك بفعل العصبية التي التزموا بها...

فلننطلق مع النبي (ص) في علاج العصبية، وهناك عصبية للذات "الأنا"، ومن يصاب بها، يعتبر عقله وعلمه ومنطقه أفضل العقول والعلوم، فتتضخّم شخصيته حتى يحتقر الآخرين. وهناك أيضاً التعصّب للعائلة والتعصّب للبلد وللوطن وللقومية والحزبية والرموز السياسية والاجتماعية وربما الدينية، بحيث تلغي الآخر. لقد رُوي عن النبي(ص) أنه قال: "من تعصّب ـ عاش ذهنية العصبية التي تغلق نفسها على دائرة معينة ولا تنفتح على بقية الدوائر حتى على مستوى الفكر والاحتمال ـ أو تُعصّب له ـ بحيث عمل على أن يتعصب الناس له ويوجههم نحو ذلك، كالكثير من الذهنيات الحزبية والشخصانية الضيقة، هؤلاء الذين يخططون من أجل أن يتعصب الناس لهم، يحيث يذوبون في شخصياتهم من غير وعي ـ فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه". فالإيمان قيد يقيّد شخصية الإنسان وعنقه، فإذا كنت متعصباً أو تشجع على التعصب، فأنت لست مؤمناً، لأن الإيمان لا يلتقي مع العصبية.

وفي حديث آخر للنبي (ص): "من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"، وعنه (ص): "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"، وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "من تعصّب عصّبه الله سبحانه وتعالى بعصابة من نار"، وعن أمير المؤمنين(ع) في كتاب له للأشتر: "إملك حميّة أنفك، وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك"..

العصبية المذمومة

ولقد عرّف الإمام زين العابدين (ع) العصبية بالقول: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ـ قد يفكر البعض بأن الشرير في عائلتنا أفضل من الخيّر من العائلة الفلانية، وهكذا في مواقع العصبيات الأخرى من جمعيات وأحزاب ومنظمات، وقد تحدثنا عن الآية القرآنية التي تدعونا إلى العدل حتى مع عدوّك أو خصمك: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} ـ وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه ـ من الطبيعي أن ينجذب الإنسان إلى الشخص الذي يلتقي معه بالهدف الديني أو الاجتماعي أو النسب، لكن عندما تصل المسالة إلى أن تعين من تحبه على الظلم، هنا يتوقف الحب وتتحرك المبادئ ـ ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم".

وعن الإمام علي (ع) في خطبة له يبيّن فيها من هو إمام المتعصبين، حتى يعرف المتعصّب طائفياً وسياسياً وحزبياً وعشائرياً من هو إمامه. يقول (ع) في ذم إبليس: "فافتخر على آدم في خلقه، وتعصّب عليه في أصله، فعدوّ الله ـ وليسمع كل المتعصبين ـ إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين ـ فإبليس يمثل الجذور التاريخية التي يرجع إليها المستكبرون والمتعصبون ـ الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادّرع لباس التعزّز، وخلع لباس التذلّل".. وعن الإمام الصادق (ع): "إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم الله ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحميّة والغضب، فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين".

التعصب للمبادىء

ويهدينا أمير المؤمنين إلى من يمكن أن نتعصّب له، إذا كان لا بد من التعصّب، فلا تعصّب للأشخاص بل للمبادئ، يقول (ع): "ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلا عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يُعرف له سبب ولا علّة ـ تتعصبون على أساس شهواتكم وغرائزكم لا على أساس تفكير وعقل ووعي ـ أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناري وأنت طيني، وأما الأغنياء من مترفة الأمم، فتعصبوا لآثار مواقع النعم، فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذَّبين، فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة، فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبرّ، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكفّ عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض"..

وهكذا، نعرف أن الإسلام يريد للإنسان المسلم أن يكون الإنسان الذي يفكر بعقله، ويتحرك على أساس دراسة الأمور بموضوعية ودقة وعدالة. ولذلك يجب أن نلتزم بالشعار الذي نطلقه بعد أن ندرسه ونؤمن به ونستمع إلى الآخر في وجهة نظره وندخل في حوار معه، فعلينا أن لا نلغي الآخر، بل نناقشه ونحاوره ونتعايش معه، هذا هو الذي يجعل المجتمع يرتفع في عقله وإنسانيته.

إننا نعيش هذه الإرباكات الاجتماعية والسياسية والدينية، لأننا أخذنا بأسباب العصبية، ولذلك ابتلانا الله تعالى في أمننا واقتصادنا وسياستنا، لأن العصبية فصلت بعضنا عن بعض، وخلقت في داخلنا الحقد بدل المحبة، والعداوة بدل الصداقة، هذا ونحن مؤمنون يبرأ بعضنا من بعض، ويكفّر بعضنا بعضاً من دون وعي، فإذا كانت العصبية في النار، فكيف يمكننا أن نطلب الجنة في خط العصبية، ولا عصبية في الجنة: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين}، لذلك لن يدخل الجنة إلا من كان قلبه خالياً من الحقد، وممتلئاً بالمحبة، فتعالوا لنحبّ بعضنا بعضاً على أساس الإنسانية وعلى أساس محبة الله ورسوله وأوليائه، تعالوا نرفض العصبية لنكون مجتمعاً واحداً، فالله تعالى {الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في ما تتحركون فيه في حياتكم من المنهج، العقل لا الغريزة، والعدل لا الظلم، والحق لا الباطل، والمحبة لا الحقد، والوحدة لا التمزق والتفرق. إننا نريد أن نكون أمة واحدة، لأنه بالوحدة نكون أقوياء، حيث تلتقي الطاقات وتتكامل المواقع، وينطلق الناس في كل مواقعهم من أجل مجابهة التحديات الكبرى التي يفرضها الكفر من جهة، والاستكبار من جهة أخرى. إن التحديات التي تواجه المسلمين والمستضعفين، هي أنهم يعيشون التمزق في مذاهبهم ويتعصبون بعضهم ضد بعض، ويعيشون التفرق في أوضاعهم وسياستهم وعصبياتهم..

فلننطلق أمّةً واحدةً، جيشاً واحداً، صفاً واحداً، إنكم ترون كيف أن المستكبرين يلتقون ويتجمعون ويخططون لمصادرتنا كأمة، فلا يسمحون لنا بأن نتحد، ويصادروننا كموقع للثرواث، فيمنعوننا من أن نأخذ بالزراعة والصناعة التي تقوّي الأمة في حاجاتها، لأنهم يريدون لنا أن نبقى مجرد أسواق استهلاكية. لذلك، فلنرتفع إلى مستوى الوعي، ونحن لا نزال نعيش التحديات، فلنفهم ماذا هناك لنفهم خلفيات الواقع، حتى لا يبعدنا الإعلام المضادّ عن معرفة حقنا هنا وهناك، فماذا هناك؟

أمريكا: المساندة في إبادة الشعب الفلسطيني

لا يزال الأطفال الفلسطينيون الذين يحرمهم الاحتلال من حقهم في التعلّم والغذاء والكساء، يواجهون عملية القتل اليومي المتصاعد من خلال الاجتياح للمدن والقرى والمخيمات، كما يعانون من التشريد المتواصل المنظَّم، في التدمير الوحشي لبيوتهم، ليقضوا ليلهم ونهارهم في العراء في هذا الشتاء القارس..

ولم نسمع صرخة قوية عميقة واسعة ضد الوحشية الصهيونية من قِبَل لجان حقوق الإنسان في اليوم العالمي للمطالبة بحقوق الإنسان، ولكننا نفاجأ بالحديث المتكرر لأكثر من جهة دولية وإعلامية عن بعض الأطفال اليهود الذين سقطوا في العمليات الجهادية الفلسطينية، ما يوحي بالتمييز العنصري بين "ابن الست" اليهودي و"ابن الجارية" الفلسطيني!!

وفي الوقت نفسه، تمارس الطائرات والدبابات والصواريخ الأمريكية عملية القتل المنظَّم للمدنيين الفلسطينيين بدم بارد، بحيث أصبح الفلسطينيون هدفاً لتدريبات الجيش الصهيوني على القتل ، الأمر الذي حوّل الجنود إلى وحوش لا تملك حتى قيم الوحوش، وذلك تحت سمع الإدارة الأمريكية وبصرها، في موقف مساند لعملية إبادة الفلسطينيين، في نفاق سياسي مخادع يلوّح بالدولة الفلسطينية التي لا بد لها أن تنتظر الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ريثما تستكمل إسرائيل مصادرة الشعب الفلسطيني وتخفيف أعداده، لأن أمريكا لا تنظر إلى الفلسطينيين إلا بعين المصالح الصهيونية.

وفي هذا الجو، يحدّثنا الإعلام عن اجتماع مرتقب بين رئيس الحكومة الفلسطينية ورئيس الحكومة الصهيونية، ولكن من دون أن يحمل الفلسطينيون أيّ مطالب على مستوى شروط اللقاء ليكون واقعياً.. وهكذا، تستمر المهزلة التي تجعل من هذه اللقاءات جهداً ضائعاً، وتمييعاً للقضية، وضغطاً أمريكياً وإسرائيلياً لتقديم التنازلات لإسرائيل، من أجل إثبات الجدّية الفلسطينية في السعي إلى السلام، كما يقولون؟!

إن اللعبة الدولية في حركة اللجنة الرباعية في تحريك خريطة الطريق المشبوهة، تعمل على تقطيع الوقت الضائع، ريثما يستكمل الأمريكيون الخطة التي تحقق كل أهداف إسرائيل، ليبقى للفلسطينيين البقايا من أرضهم وأمنهم وسياستهم، وليتحوّلوا إلى ملحق عمّالي يخدم الأوضاع الإسرائيلية الاقتصادية، وإلى كيان لا يملك حقيقة الدولة ولا حرية المصير في الانفتاح على المستقبل.

أما الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني، فإننا نجد فيه عنصراً إيجابياً على مستوى تجربة التداول حول القضية الفلسطينية في بُعدها السياسي والأمني والجهادي، لأن هذا القرب الحواري سوف يقلّص من حال التباعد الفكري والحركي، ويؤسس للتفاهم حول القضايا المشتركة التي يلتقي عليها الجميع، وللحوار حول القضايا المختلفة..

وإذا كانت اللقاءات الأخيرة لم تصل إلى نتيجة حاسمة في كل الطروحات، فإننا نرجو أن يبقى هذا الحوار كمؤسسة مستمرة في امتداد التطورات الفلسطينية في الداخل والخارج، منعاً للذين يصطادون في الماء العكر من استغلال الخلافات لإيجاد الفتنة الداخلية المميتة.

العراق أمانة الله

وفي العراق، فإننا نشعر بقلق وحذر من التعقيدات الأمنية ـ على صعيد الواقع أو الإعلام ـ التي يراد لها التحضير للفتنة الطائفية، وهذا ما لاحظناه في الخطب التي أُثيرت حول إعطاء الدور الأمني للميليشيات الحزبية، ما جعل البعض يتحدث عنها كحالة طائفية لخدمة وضع طائفي معيّن في مقابل وضع آخر، أو في الحادث الفظيع في تفجير مسجد "أحباء المصطفى" في بغداد، الأمر الذي حاول البعض استغلاله في حساسيات مذهبية لإثارة الفتنة.

إننا من موقعنا الشرعي، نتوجه إلى أهلنا وأحبابنا في العراق، سواء في الدائرة الإسلامية أو في الدائرة الوطنية العامة، بالتأكيد على الوحدة الإسلامية والوطنية بالمزيد من الوعي والحذر والانتباه إلى خلفيات اللعبة السياسية والأمنية، والدخول في حوار موضوعي هادف عميق لمعالجة القضايا التي يختلف فيها الرأي، أو تتحرك معها الحساسيات.. إن العراق أمانة الله في أعناق الجميع، وإن المستقبل ينتظر منكم تجميع الطاقات من أجل عراق حضاري مستقبلي يضيء لنفسه وللمنطقة كلها.. وحذارِ من القوى التي تثير الفتنة العمياء، وليكن كل مواطن خفيراً وحارساً للوحدة.

شراكة إسرائيلية لأمريكا في احتلال العراق

وعلى صعيد العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية في العراق، فقد حملت لنا وسائل الإعلام ـ حتى الأمريكية ـ أن الحضور الأمني الإسرائيلي في العراق يزداد ـ وبطلب من أمريكا ـ التي ترى في تجربة إسرائيل في فلسطين نجاحاً يستحق التقليد لتثبيت احتلالها في العراق، وقد بدأت إسرائيل تنفيذ خطتها المرسومة لدورها في عراق المستقبل.. وقد قال مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الاستخبارات، أن "لا حوار رسمياً بين أمريكا وإسرائيل، بل إننا نعمل معاً".

إن إسرائيل تشارك أمريكا في احتلالها للعراق، وفي تحريك استخباراتها بالتكامل مع الاستخبارات الأمريكية، وتعمل على اختراق المجتمع العراقي والمستقبل، مع محاولات بارزة للدخول في سوق إعادة الإعمار والاقتصاد والتجارة.. والسؤال: أين العالم العربي عن كل هذه الخطة وهذا الاختراق الذي سوف يؤكد الحضور السياسي الصهيوني بأكبر من الحضور العربي الذي يعاني من الغياب المطلق والاهتراء السياسي، ما قد يخلق الكثير من المشاكل للمنطقة كلها بفعل التحالف الاستراتيجي الأمريكي ـ الإسرائيلي، الذي يعمل على إسقاط كل مواقع القوة العربية، لا سيما في عراق المستقبل الذي يُراد له أن يطلّ على المستقبل من خلال رؤية أمريكية مغطّاة بوجه عربي؟ إننا نريد لأهلنا في العراق الانتباه إلى خيوط اللعبة العنكبوتية، بالوعي والوحدة والصمود.

لبنان بين مؤتمرات الفكر ومناخ الظلام السياسي

ونبقى مع لبنان، في العدوان الإسرائيلي على شابين مدنيين بريئين باغتيالهما ظلماً وعدواناً، وفي الخطة التاريخية لإضعاف الجامعة اللبنانية التي لا بد أن تكون من أقوى الجامعات، لأنها للفقراء وللبنانيين جميعاً، وفي الواقع الاقتصادي الذي لا يزال يراوح مكانه في تراكم الأزمات المالية والمعيشية، وفي الفضائح الكبيرة والصغيرة من الكبار والصغار، وفي الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان، وفي تجاذب الجدل السياسي بالطريقة الطائفية الخاضعة لأكثر من عصبية عمياء تنسف بعض ما تحقق من الوفاق الوطني، وتتحرك لمنع الوفاق في المستقبل.

والسؤال: هل تريدون لهذا البلد الذي يحتضن مؤتمرات الفكر والثقافة وحقوق الإنسان، أن يضيع في أكثر من مناخ للظلام السياسي والاقتصادي، أم تريدون له أن يبقى ـ كما اعتاد الناس أن يصفوه ـ بلد الإشعاع؟؟ إننا قد نجد الإشعاع في أكثر من موقع شعبي، ولكن أين الإشعاع في الدولة التي تفقد معالمها الكثير من كهرباء النور والإصلاح وحقوق الإنسان؟

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير