خير الناس من ينفع الناس... فكن نافعاً لهم

خير الناس من ينفع الناس... فكن نافعاً لهم

إقتداء بقول وفعل الأسوة الحسنة :
خير الناس من ينفع الناس... فكن نافعاً لهم


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى وهو يصف بعض أنبيائه في كتابه المجيد: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار* إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار* وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار* واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكلٌّ من الأخيار} (ص:45-48).

مواصفات خيار الناس:

يصف الله تعالى أنبياءه بأنهم من الأخيار، وأنهم عاشوا حياتهم من أجل الخير للناس، لأنهم انطلقوا لتوعية الناس بالدعوة إلى الله ومعرفته، والسير في خط التقوى، والعمل على أساس كل ما يرفع مستواهم فكرياً وعملياً وحياتياً.

وقد تحدث رسول الله(ص) عمّن هو خير الناس، والمؤهّل للحصول على رضا الله والقرب منه، يقول(ص): "إنّ من خير رجالكم التقي ـ الذي يتقي الله في أموره كلها ـ النقي ـ الذي يعيش نقاء الروح والقلب والحركة والحياة، على مستوى علاقاته العامة والخاصة، بالناس الأقربين والأبعدين ـ السمح الكفين ـ الذي يعيش السخاء في العطاء، بحيث ينفق مما رزقه الله تعالى، فلا يعيش البخل في نفسه في ما يتطلّبه الناس منه، أو في ما يشعر بحاجاتهم إليه ـ النقي الطرفين ـ النقي في سلوكه، فلا يجد في سلوكه أيّ خبث أو انحراف، أو أي عمل من الأعمال التي تثقل أخلاقية الناس ـ البرّ بوالديه ـ لأن الله تعالى أمر الإنسان أن يبرّ والديه، بالإحسان إليهما، والرعاية لهما، وتحمّل الأذى منهما.

وقد ورد في الحديث أيضاً: "ووالديك فبرّهما، حيّين كانا أو ميتين" ـ ولا يُلجئ عياله إلى غيره"، يتحمّل مسؤولية عياله، فيلبي حاجاتهم، ويعولهم، وينفق عليهم مما رزقه الله، ولا يدعهم إلى غيره، وهو ليس كأولئك الذين رزقهم الله مالاً، فأنفقوه على شهواتهم وصرفوه في القمار وبذّروه، وذلك لأنه يشعر أن ما رزقه الله من مال هو شركة بينه وبين عياله، لأن الله أعطاه لحساب عياله كما أعطاه لحساب نفسه، فالله يُنزل المعونة على قدر المؤونة.

وقد سئل عليّ(ع): من هم خيار الله تعالى؟ قال(ع): "أخوفهم لله ـ الذي يراقب الله في سرّه وعلانيته، في ما يفكر فيه، وفي ما يتكلم به، وفي كل ما يعمله، فلا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أن في ذلك لله رضى ـ وأعملهم بالتقوى ـ فلا يجده الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره ـ وأزهدهم في الدنيا"، بحيث ينفتح على الدنيا بحاجاته الطبيعية، ولا يطمع فيها ليبيع دينه بدنيا غيره، بل يعتبر الدنيا مجرد مرحلة يستعد فيها للقاء الله في الآخرة.

بذل الطاقات بما ينفع الناس:

وعن الإمام الصادق(ع): "خياركم سمحاؤكم، وشراركم بخلاؤكم"، وعن رسول الله(ص)، لما سأله رجل قال لـه: أحبّ أن أكون خير الناس، فقال(ص): "خير الناس من ينفع الناس، فكن نافعاً لهم"، إذا أردت أن تكون خير الناس، فادرس إمكاناتك، وأدرس حاجات الناس وما تستطيع أن تقدمه لهم ممّا تملكه من طاقات، سواء كانت طاقات عقلية وعلمية أو ما إلى ذلك من أعمال، كن النافع للناس تكن خير الناس. وعنه(ص): "خير الناس من نفع الناس".

لذلك، فإن الله تعالى يريد للإنسان في الحياة أن يفجّر طاقاته في نفع الناس، لأنه سبحانه أعطانا هذه الطاقات، وحمّلنا مسؤولية أن نبذلها للناس في ما يحتاجون إليه. وفي الحديث عن الإمام الرضا(ع)، وقد سئل: مَن أحسن الناس معاشاً؟ فقال(ع): "من حَسُن معاش غيره في معاشه"، وسئل: ومَن أسوأ الناس معاشاً؟ فقال(ع): "من لم يعش غيره في معاشه".

وهذا يحمّل كل إنسان يملك أية طاقة، مالاً كانت أو جاهاً أو علماً أو خبرة، يحمّله مسؤولية أن يصرف ذلك على الناس. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "إن الله لم ينعم على عبد بنعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من قِبَله، فمن منّ الله عليه فجعله موسّعاً عليه في ماله، فحجته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بفرائضه ونوافله، ومن منّ الله عليه فجعله قوياً في بدنه، فحجته عليه القيام بما كلّفه، واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن منّ الله عليه فجعله شريفاً في قومه، جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن لا يغمط حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله". وقد ورد في كلام الله سبحانه وتعالى في الحديث عن الحق والباطل، أن معنى الحق في بعض الموارد، هو ما ينفع الناس، يقول تعالى: {أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (الرعد:17).

وقد ورد في الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ـ بأن عمّر مسجداً أو مدرسةً أو مستشفى، أو فتح طريقاً، أو ما إلى ذلك مما ينتفع به الناس ـ أو علم يُنتفع بها ـ في أي باب من أبواب العلم الذي ينفع الناس ـ أو ولد صالح يدعو له"، عندما يربي ولده على مخافة الله والعمل لما عند الله، فإن ذلك سيستمر بعد وفاته. وقد ورد في الحديث عن السيد المسيح(ع)، أنه مرّ بقبر يُعذّب صاحبه، ثم مرّ عليه في العام القادم فرآه وقد رُفع العذاب عنه، واستغرب ذلك، فأوحى الله إليه: "نشأ له ولد صالح، فآوى يتيماً، وأصلح طريقاً، فغفرت له من أجل ولده".

هذه هي الأعمال التي تدرّ على الإنسان الحسنات بعد وفاته، وإذا كان الناس لا يستطيعون جميعهم أن يقوموا بمثل هذه المشاريع، إلاّ أنّهم يمكنهم المشاركة فيها عبر المساهمة ولو بمقدار ضئيل، وبذلك ينالهم نصيب من هذه الصدقة الجارية.

وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): "إن خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال: إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، وإذا أُعطي شَكَر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا ظُلم غفر". وقد ورد في الحديث عن الإمام عليّ(ع): "خير الناس من كان في يسره سخياً شكوراً..."، وعنه(ع): "خير الناس من طهّر من الشهوات نفسه، وقمع غضبه، وأرضى ربه".

هذا ما يريده الله تعالى لنا في الحياة؛ أن نعيش من أجل أن نقوم بمسؤوليتنا في كل ما منحنا الله من طاقة، حتى إن العالِم لا بدّ من أن يبذل علمه للناس، خصوصاً إذا اشتدت أوضاع الضلال، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: "إذا ظهرت البدع، فعلى العالِم أن يُظهر علمه، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله". نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا موقف الاستكبار العالمي بالوعي والقوة والوحدة، حتى نكون جميعاً كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، وأن نعيش الاهتمام بأمور المسلمين بكل قضاياهم السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية، لأن الله تعالى يريدنا أن نكون أمة واحدة، وأن ننطلق بنعمة الله الذي جعلنا إخواناً، ونحن في هذه المرحلة الصعبة نواجه الكثير من التحديات اليهودية في فلسطين وغيرها، في ما يتحرك به اليهود من أجل السيطرة على مقدّراتنا بالتحالف مع الشيطان الأمريكي وكل قوى الشر في العالم، فماذا هناك؟

الأمم المتحدة تشرعن إبادة الشعب الفلسطيني

الشعب الفلسطيني يواجه القتل اليهودي اليومي المنظَّم، والاجتياحات الوحشية التي تمنع الناس من الاستقرار والاحتفال بالعيد، وترعب الأطفال والنساء، وتصادر حرية الشباب باعتقالاتها العشوائية، وتتحرك ـ من خلال بعض مسؤوليها ـ في المطالبة بضم أجزاء من الضفة الغربية إلى كيانها، وهي التي تقوم عليها المستوطنات الكبرى ومواقع الجدار العنصري الفاصل، في ظل صمت شامل من الدول الكبرى، وفي مقدمتها أمريكا.

أما الأمم المتحدة، فهي مشغولة بالتحضير للاحتفال بذكرى المحرقة "الهولوكوست" التي قام بها النظام النازي ضد اليهود الذين ضاعفوا أعداد الضحايا منهم إلى مستوى الملايين، من دون أية إحصاءات دقيقة، وذلك بالتخطيط لوضع برامج تربوية، لأخذ العبرة من ذلك، لتفادي حصول إبادات في المستقبل، في الوقت الذي لا تتحدث الأمم المتحدة عن إبادة إسرائيل للشعب الفلسطيني بشكل تدريجي، وعن المحرقة الصاروخية التي تستهدفه يومياً بالسلاح الأمريكي الذي يمنح اليهود كل الإمكانات لقتل هذا الشعب وتدمير بنيته التحتية، وملاحقة المطالبين بالحرية وبزوال الاحتلال من أرضهم بتهمة الإرهاب، كما لو كانت حرية الشعوب مطلباً إرهابياً. لقد مرّت مجزرة قانا وصبرا وشاتيلا وجنين وغزة من دون أن يقف المجتمع الدولي لإدانة إسرائيل التي تستعيد المحرقة لتثأر من شعوب المنطقة.

ونحن نتساءل في حديث مع الاتحاد الأوروبي: إذا كان اليهود تعرّضوا لمحارق على أيديكم، فلماذا يُراد لنا أن ندفع نحن الأثمان، في الوقت الذي كان العالم العربي والإسلامي يحتضنهم ويمنحهم الامتيازات الأمنية والاقتصادية والحريات الدينية، بحيث عاش اليهود معنا بكل حرية وكرامة، لأن الإسلام علّمنا احترام الأقليات الدينية في أوضاعهم العامة، من خلال القيم الروحية الإنسانية في الدين الإسلامي؟!

أمريكا: احتلال العراق لحماية إسرائيل

أما العراق، فإن أمريكا لا تزال تضغط على شعبه في احتلالها الذي أدّى إلى سقوط أكثر من ثلاثين ألف عراقي، من خلال الطريقة التي يدير بها الأوضاع في البلد، الذي لم يحصل على أيّ توازن أمني واقتصادي، حتى إنه هيّأ كل الظروف لتشجيع الجماعات التكفيرية الحاقدة مذهبياً لتفجير الناس في مساجدهم ومزاراتهم وشوارعهم ومواقع عيشهم، وعلى الرغم مما يملكه الاحتلال من قوة ضاربة، فإنه لم يواجه هذا الواقع لحماية الشعب المستضعف، وهو من يتحمّل مسؤولية أمنه بحسب قرارات الأمم المتحدة.

ومن الملفت ما صرّح به بعض المسؤولين الأمريكيين، من أن بقاء الاحتلال في العراق يمثل "حماية لإسرائيل التي قد تواجه الخطر إذا انسحبت أمريكا بقواتها منه". لقد بدأت أمريكا ـ من خلال سياسة الإدارة ـ تخسر الحرب في العراق اقتصادياً من خلال إنفاقها لعشرات المليارات من الدولارات، وعسكرياً من خلال القتلى الذين تجاوزوا الألفين، والجرحى الذين قاربوا العشرين ألفاً بفعل المقاومة العراقية للاحتلال، وسوف تبقى أمريكا غارقة في الرمال العراقية المتحركة، ما أدّى إلى خسارة الرئيس الأمريكي ثقة الرأي العام الأمريكي في استطلاعات الرأي، وتصاعدت الأصوات للمطالبة بانسحاب القوات الأمريكية من العراق.

أمريكا: استهداف لسوريا وإيران

وربما بدأت أمريكا ـ بإدارتها الحالية ـ الهروب إلى الأمام من المستنقع العراقي، للضغط على مجلس الأمن للاستفادة من علاقاتها بالاتحاد الأوروبي، ولتمارس ضغوطاً على الدول الأخرى المتحالفة معها، من أجل استصدار القرارات المتعلّقة بالمنطقة لإضعاف مواقع الممانعة السياسية، ولا سيما بالنسبة إلى سوريا، مستغلةً الجريمة الوحشية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري لفرض بعض الشروط التعجيزية، في عملية استغلال وإذلال.

كما أنها لا تزال ـ مع الاتحاد الأوروبي ـ تضغط على إيران في مشروعها النووي السلمي، متهمة إياها بالتخطيط لصنع السلاح النووي، في الوقت الذي تمتنع عن السماح للأمم المتحدة بإصدار أي قرار للضغط على إسرائيل التي تمتلك ترسانة نووية، إضافة إلى أسلحة الدمار الشامل، لأنها لا تريد للعالم الإسلامي ـ ومعه العالم العربي ـ أن يحصل على أية قوة تمكّنه من التقدّم العلمي في عملية صنع القوة لتنمية طاقاته وللدفاع عن نفسه.

المشروع الأمريكي: الهيمنة على العالم

إن أمريكا تخطِّط لإثارة الفوضى في المنطقة باسم الديمقراطية التي تريدها على صورة مصالحها لا مصالح الشعوب. وعلى المنطقة أن تواجه هذا المخطَّط لحماية شعوبها وإمكاناتها وثرواتها من المصادرة لذلك كله، بفعل مشروع العولمة الاقتصادية الذي يريد إفقار العالم ليزداد فقراً، في مقابل زيادة الأغنياء غنىً.

إننا نشعر بخطورة المشروع الأمريكي على العالم، لأنه يريد السيطرة المطلقة على الشعوب كلها من أجل قيام إمبراطوريته الشاملة، ونريد للعالم أن يرفض ذلك المشروع الأمريكي، لأنه يخطط للحروب المتنقّلة من مكان إلى مكان في العالم، ويعمل على تدمير أمنه واقتصاده، وقد يؤدي ذلك إلى تدمير الكثير من عناصر سلامة الكون. إننا لسنا ضد الشعب الأمريكي والشعوب الأوروبية، ولكننا ضد إداراتها التي تنشر الفساد في الأرض لمصلحة الشركات الاحتكارية التي تخطط للحروب ولإسقاط اقتصاد العالم الثالث.

إننا نسمع الكثير من الحديث عن الشرعية الدولية في فرض قراراتها على لبنان وسوريا والمنطقة، ولكن السؤال هو: أية شرعية هذه التي لا تفرض نفسها في قراراتها على إسرائيل، ومنها القرار194 الذي قررت فيه الأمم المتحدة عودة اللاجئين إلى بلادهم، وكان الرئيس الأمريكي الحالي هو الذي منع ذلك في رسالته إلى شارون؟؟

إننا نلاحظ أن أمريكا وبعض حلفائها هي التي تصادر مجلس الأمن ليكون سيفاً مسلّطاً على الشعوب لمصادرة كل مصالحها الحيوية، فيكف يمكننا أن نحترم هذا الواقع الدولي؟

لبنان: الوحدة الوطنية لا تبنى طوائفياً

أما لبنان، فلا يزال يتخبّط في أزماته الاقتصادية، ومتاهاته السياسية، وشعاراته الطائفية التي يخيّل فيها للإنسان اللبناني أن القائمين على شؤون الطوائف ـ دينياً وسياسياً ـ يتحركون فيها على أساس فدرالية الطوائف، تحت عناوين سياسية غير واقعية، على طريقة كلمة حق يُراد بها باطل، مما قد تكون المسألة فيه أن كل طائفة تنتخب ممثليها في الرئاسات لتفرضهم على الوطن كله، كما تنتخب وزراءها في الحكومة، وتتحدث عن قانون انتخابي يفسح في المجال لهذه الطائفة أو تلك أن تنتخب نوابها بعيداً عن خيارات الطوائف الأخرى، ويحدّثونك بعد ذلك عن الوحدة الوطنية وعن الاندماج الشعبي!!

ويبقى الإنسان اللبناني الذي يريد لحاضره ومستقبله أن يأخذ بالمواطنة لا الطائفية كعنوان للوطن، وللمؤسسات لا الأشخاص كطابع للبلد... ليظل يفتش عن لقمة عيشه، وعن فرصة عمله، وعن خدماته الحيوية، وعن سلامة مصيره، فلا يجد لبنانه في الساحة.

إقتداء بقول وفعل الأسوة الحسنة :
خير الناس من ينفع الناس... فكن نافعاً لهم


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى وهو يصف بعض أنبيائه في كتابه المجيد: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار* إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار* وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار* واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكلٌّ من الأخيار} (ص:45-48).

مواصفات خيار الناس:

يصف الله تعالى أنبياءه بأنهم من الأخيار، وأنهم عاشوا حياتهم من أجل الخير للناس، لأنهم انطلقوا لتوعية الناس بالدعوة إلى الله ومعرفته، والسير في خط التقوى، والعمل على أساس كل ما يرفع مستواهم فكرياً وعملياً وحياتياً.

وقد تحدث رسول الله(ص) عمّن هو خير الناس، والمؤهّل للحصول على رضا الله والقرب منه، يقول(ص): "إنّ من خير رجالكم التقي ـ الذي يتقي الله في أموره كلها ـ النقي ـ الذي يعيش نقاء الروح والقلب والحركة والحياة، على مستوى علاقاته العامة والخاصة، بالناس الأقربين والأبعدين ـ السمح الكفين ـ الذي يعيش السخاء في العطاء، بحيث ينفق مما رزقه الله تعالى، فلا يعيش البخل في نفسه في ما يتطلّبه الناس منه، أو في ما يشعر بحاجاتهم إليه ـ النقي الطرفين ـ النقي في سلوكه، فلا يجد في سلوكه أيّ خبث أو انحراف، أو أي عمل من الأعمال التي تثقل أخلاقية الناس ـ البرّ بوالديه ـ لأن الله تعالى أمر الإنسان أن يبرّ والديه، بالإحسان إليهما، والرعاية لهما، وتحمّل الأذى منهما.

وقد ورد في الحديث أيضاً: "ووالديك فبرّهما، حيّين كانا أو ميتين" ـ ولا يُلجئ عياله إلى غيره"، يتحمّل مسؤولية عياله، فيلبي حاجاتهم، ويعولهم، وينفق عليهم مما رزقه الله، ولا يدعهم إلى غيره، وهو ليس كأولئك الذين رزقهم الله مالاً، فأنفقوه على شهواتهم وصرفوه في القمار وبذّروه، وذلك لأنه يشعر أن ما رزقه الله من مال هو شركة بينه وبين عياله، لأن الله أعطاه لحساب عياله كما أعطاه لحساب نفسه، فالله يُنزل المعونة على قدر المؤونة.

وقد سئل عليّ(ع): من هم خيار الله تعالى؟ قال(ع): "أخوفهم لله ـ الذي يراقب الله في سرّه وعلانيته، في ما يفكر فيه، وفي ما يتكلم به، وفي كل ما يعمله، فلا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أن في ذلك لله رضى ـ وأعملهم بالتقوى ـ فلا يجده الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره ـ وأزهدهم في الدنيا"، بحيث ينفتح على الدنيا بحاجاته الطبيعية، ولا يطمع فيها ليبيع دينه بدنيا غيره، بل يعتبر الدنيا مجرد مرحلة يستعد فيها للقاء الله في الآخرة.

بذل الطاقات بما ينفع الناس:

وعن الإمام الصادق(ع): "خياركم سمحاؤكم، وشراركم بخلاؤكم"، وعن رسول الله(ص)، لما سأله رجل قال لـه: أحبّ أن أكون خير الناس، فقال(ص): "خير الناس من ينفع الناس، فكن نافعاً لهم"، إذا أردت أن تكون خير الناس، فادرس إمكاناتك، وأدرس حاجات الناس وما تستطيع أن تقدمه لهم ممّا تملكه من طاقات، سواء كانت طاقات عقلية وعلمية أو ما إلى ذلك من أعمال، كن النافع للناس تكن خير الناس. وعنه(ص): "خير الناس من نفع الناس".

لذلك، فإن الله تعالى يريد للإنسان في الحياة أن يفجّر طاقاته في نفع الناس، لأنه سبحانه أعطانا هذه الطاقات، وحمّلنا مسؤولية أن نبذلها للناس في ما يحتاجون إليه. وفي الحديث عن الإمام الرضا(ع)، وقد سئل: مَن أحسن الناس معاشاً؟ فقال(ع): "من حَسُن معاش غيره في معاشه"، وسئل: ومَن أسوأ الناس معاشاً؟ فقال(ع): "من لم يعش غيره في معاشه".

وهذا يحمّل كل إنسان يملك أية طاقة، مالاً كانت أو جاهاً أو علماً أو خبرة، يحمّله مسؤولية أن يصرف ذلك على الناس. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "إن الله لم ينعم على عبد بنعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من قِبَله، فمن منّ الله عليه فجعله موسّعاً عليه في ماله، فحجته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بفرائضه ونوافله، ومن منّ الله عليه فجعله قوياً في بدنه، فحجته عليه القيام بما كلّفه، واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن منّ الله عليه فجعله شريفاً في قومه، جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن لا يغمط حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله". وقد ورد في كلام الله سبحانه وتعالى في الحديث عن الحق والباطل، أن معنى الحق في بعض الموارد، هو ما ينفع الناس، يقول تعالى: {أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (الرعد:17).

وقد ورد في الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ـ بأن عمّر مسجداً أو مدرسةً أو مستشفى، أو فتح طريقاً، أو ما إلى ذلك مما ينتفع به الناس ـ أو علم يُنتفع بها ـ في أي باب من أبواب العلم الذي ينفع الناس ـ أو ولد صالح يدعو له"، عندما يربي ولده على مخافة الله والعمل لما عند الله، فإن ذلك سيستمر بعد وفاته. وقد ورد في الحديث عن السيد المسيح(ع)، أنه مرّ بقبر يُعذّب صاحبه، ثم مرّ عليه في العام القادم فرآه وقد رُفع العذاب عنه، واستغرب ذلك، فأوحى الله إليه: "نشأ له ولد صالح، فآوى يتيماً، وأصلح طريقاً، فغفرت له من أجل ولده".

هذه هي الأعمال التي تدرّ على الإنسان الحسنات بعد وفاته، وإذا كان الناس لا يستطيعون جميعهم أن يقوموا بمثل هذه المشاريع، إلاّ أنّهم يمكنهم المشاركة فيها عبر المساهمة ولو بمقدار ضئيل، وبذلك ينالهم نصيب من هذه الصدقة الجارية.

وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): "إن خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال: إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، وإذا أُعطي شَكَر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا ظُلم غفر". وقد ورد في الحديث عن الإمام عليّ(ع): "خير الناس من كان في يسره سخياً شكوراً..."، وعنه(ع): "خير الناس من طهّر من الشهوات نفسه، وقمع غضبه، وأرضى ربه".

هذا ما يريده الله تعالى لنا في الحياة؛ أن نعيش من أجل أن نقوم بمسؤوليتنا في كل ما منحنا الله من طاقة، حتى إن العالِم لا بدّ من أن يبذل علمه للناس، خصوصاً إذا اشتدت أوضاع الضلال، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: "إذا ظهرت البدع، فعلى العالِم أن يُظهر علمه، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله". نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا موقف الاستكبار العالمي بالوعي والقوة والوحدة، حتى نكون جميعاً كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، وأن نعيش الاهتمام بأمور المسلمين بكل قضاياهم السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية، لأن الله تعالى يريدنا أن نكون أمة واحدة، وأن ننطلق بنعمة الله الذي جعلنا إخواناً، ونحن في هذه المرحلة الصعبة نواجه الكثير من التحديات اليهودية في فلسطين وغيرها، في ما يتحرك به اليهود من أجل السيطرة على مقدّراتنا بالتحالف مع الشيطان الأمريكي وكل قوى الشر في العالم، فماذا هناك؟

الأمم المتحدة تشرعن إبادة الشعب الفلسطيني

الشعب الفلسطيني يواجه القتل اليهودي اليومي المنظَّم، والاجتياحات الوحشية التي تمنع الناس من الاستقرار والاحتفال بالعيد، وترعب الأطفال والنساء، وتصادر حرية الشباب باعتقالاتها العشوائية، وتتحرك ـ من خلال بعض مسؤوليها ـ في المطالبة بضم أجزاء من الضفة الغربية إلى كيانها، وهي التي تقوم عليها المستوطنات الكبرى ومواقع الجدار العنصري الفاصل، في ظل صمت شامل من الدول الكبرى، وفي مقدمتها أمريكا.

أما الأمم المتحدة، فهي مشغولة بالتحضير للاحتفال بذكرى المحرقة "الهولوكوست" التي قام بها النظام النازي ضد اليهود الذين ضاعفوا أعداد الضحايا منهم إلى مستوى الملايين، من دون أية إحصاءات دقيقة، وذلك بالتخطيط لوضع برامج تربوية، لأخذ العبرة من ذلك، لتفادي حصول إبادات في المستقبل، في الوقت الذي لا تتحدث الأمم المتحدة عن إبادة إسرائيل للشعب الفلسطيني بشكل تدريجي، وعن المحرقة الصاروخية التي تستهدفه يومياً بالسلاح الأمريكي الذي يمنح اليهود كل الإمكانات لقتل هذا الشعب وتدمير بنيته التحتية، وملاحقة المطالبين بالحرية وبزوال الاحتلال من أرضهم بتهمة الإرهاب، كما لو كانت حرية الشعوب مطلباً إرهابياً. لقد مرّت مجزرة قانا وصبرا وشاتيلا وجنين وغزة من دون أن يقف المجتمع الدولي لإدانة إسرائيل التي تستعيد المحرقة لتثأر من شعوب المنطقة.

ونحن نتساءل في حديث مع الاتحاد الأوروبي: إذا كان اليهود تعرّضوا لمحارق على أيديكم، فلماذا يُراد لنا أن ندفع نحن الأثمان، في الوقت الذي كان العالم العربي والإسلامي يحتضنهم ويمنحهم الامتيازات الأمنية والاقتصادية والحريات الدينية، بحيث عاش اليهود معنا بكل حرية وكرامة، لأن الإسلام علّمنا احترام الأقليات الدينية في أوضاعهم العامة، من خلال القيم الروحية الإنسانية في الدين الإسلامي؟!

أمريكا: احتلال العراق لحماية إسرائيل

أما العراق، فإن أمريكا لا تزال تضغط على شعبه في احتلالها الذي أدّى إلى سقوط أكثر من ثلاثين ألف عراقي، من خلال الطريقة التي يدير بها الأوضاع في البلد، الذي لم يحصل على أيّ توازن أمني واقتصادي، حتى إنه هيّأ كل الظروف لتشجيع الجماعات التكفيرية الحاقدة مذهبياً لتفجير الناس في مساجدهم ومزاراتهم وشوارعهم ومواقع عيشهم، وعلى الرغم مما يملكه الاحتلال من قوة ضاربة، فإنه لم يواجه هذا الواقع لحماية الشعب المستضعف، وهو من يتحمّل مسؤولية أمنه بحسب قرارات الأمم المتحدة.

ومن الملفت ما صرّح به بعض المسؤولين الأمريكيين، من أن بقاء الاحتلال في العراق يمثل "حماية لإسرائيل التي قد تواجه الخطر إذا انسحبت أمريكا بقواتها منه". لقد بدأت أمريكا ـ من خلال سياسة الإدارة ـ تخسر الحرب في العراق اقتصادياً من خلال إنفاقها لعشرات المليارات من الدولارات، وعسكرياً من خلال القتلى الذين تجاوزوا الألفين، والجرحى الذين قاربوا العشرين ألفاً بفعل المقاومة العراقية للاحتلال، وسوف تبقى أمريكا غارقة في الرمال العراقية المتحركة، ما أدّى إلى خسارة الرئيس الأمريكي ثقة الرأي العام الأمريكي في استطلاعات الرأي، وتصاعدت الأصوات للمطالبة بانسحاب القوات الأمريكية من العراق.

أمريكا: استهداف لسوريا وإيران

وربما بدأت أمريكا ـ بإدارتها الحالية ـ الهروب إلى الأمام من المستنقع العراقي، للضغط على مجلس الأمن للاستفادة من علاقاتها بالاتحاد الأوروبي، ولتمارس ضغوطاً على الدول الأخرى المتحالفة معها، من أجل استصدار القرارات المتعلّقة بالمنطقة لإضعاف مواقع الممانعة السياسية، ولا سيما بالنسبة إلى سوريا، مستغلةً الجريمة الوحشية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري لفرض بعض الشروط التعجيزية، في عملية استغلال وإذلال.

كما أنها لا تزال ـ مع الاتحاد الأوروبي ـ تضغط على إيران في مشروعها النووي السلمي، متهمة إياها بالتخطيط لصنع السلاح النووي، في الوقت الذي تمتنع عن السماح للأمم المتحدة بإصدار أي قرار للضغط على إسرائيل التي تمتلك ترسانة نووية، إضافة إلى أسلحة الدمار الشامل، لأنها لا تريد للعالم الإسلامي ـ ومعه العالم العربي ـ أن يحصل على أية قوة تمكّنه من التقدّم العلمي في عملية صنع القوة لتنمية طاقاته وللدفاع عن نفسه.

المشروع الأمريكي: الهيمنة على العالم

إن أمريكا تخطِّط لإثارة الفوضى في المنطقة باسم الديمقراطية التي تريدها على صورة مصالحها لا مصالح الشعوب. وعلى المنطقة أن تواجه هذا المخطَّط لحماية شعوبها وإمكاناتها وثرواتها من المصادرة لذلك كله، بفعل مشروع العولمة الاقتصادية الذي يريد إفقار العالم ليزداد فقراً، في مقابل زيادة الأغنياء غنىً.

إننا نشعر بخطورة المشروع الأمريكي على العالم، لأنه يريد السيطرة المطلقة على الشعوب كلها من أجل قيام إمبراطوريته الشاملة، ونريد للعالم أن يرفض ذلك المشروع الأمريكي، لأنه يخطط للحروب المتنقّلة من مكان إلى مكان في العالم، ويعمل على تدمير أمنه واقتصاده، وقد يؤدي ذلك إلى تدمير الكثير من عناصر سلامة الكون. إننا لسنا ضد الشعب الأمريكي والشعوب الأوروبية، ولكننا ضد إداراتها التي تنشر الفساد في الأرض لمصلحة الشركات الاحتكارية التي تخطط للحروب ولإسقاط اقتصاد العالم الثالث.

إننا نسمع الكثير من الحديث عن الشرعية الدولية في فرض قراراتها على لبنان وسوريا والمنطقة، ولكن السؤال هو: أية شرعية هذه التي لا تفرض نفسها في قراراتها على إسرائيل، ومنها القرار194 الذي قررت فيه الأمم المتحدة عودة اللاجئين إلى بلادهم، وكان الرئيس الأمريكي الحالي هو الذي منع ذلك في رسالته إلى شارون؟؟

إننا نلاحظ أن أمريكا وبعض حلفائها هي التي تصادر مجلس الأمن ليكون سيفاً مسلّطاً على الشعوب لمصادرة كل مصالحها الحيوية، فيكف يمكننا أن نحترم هذا الواقع الدولي؟

لبنان: الوحدة الوطنية لا تبنى طوائفياً

أما لبنان، فلا يزال يتخبّط في أزماته الاقتصادية، ومتاهاته السياسية، وشعاراته الطائفية التي يخيّل فيها للإنسان اللبناني أن القائمين على شؤون الطوائف ـ دينياً وسياسياً ـ يتحركون فيها على أساس فدرالية الطوائف، تحت عناوين سياسية غير واقعية، على طريقة كلمة حق يُراد بها باطل، مما قد تكون المسألة فيه أن كل طائفة تنتخب ممثليها في الرئاسات لتفرضهم على الوطن كله، كما تنتخب وزراءها في الحكومة، وتتحدث عن قانون انتخابي يفسح في المجال لهذه الطائفة أو تلك أن تنتخب نوابها بعيداً عن خيارات الطوائف الأخرى، ويحدّثونك بعد ذلك عن الوحدة الوطنية وعن الاندماج الشعبي!!

ويبقى الإنسان اللبناني الذي يريد لحاضره ومستقبله أن يأخذ بالمواطنة لا الطائفية كعنوان للوطن، وللمؤسسات لا الأشخاص كطابع للبلد... ليظل يفتش عن لقمة عيشه، وعن فرصة عمله، وعن خدماته الحيوية، وعن سلامة مصيره، فلا يجد لبنانه في الساحة.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير