مسؤوليّتنا في غياب المهديّ والتّعاطي مع الزّمن

مسؤوليّتنا في غياب المهديّ والتّعاطي مع الزّمن

أمامنا عنوانان: الأوَّل هو ولادة الإمام المهدي(عج) في الخامس عشر من شعبان، والعنوان الثّاني: هو رأس السنة الميلاديّة.

المهدي والعمر الطّويل

أمّا العنوان الأوّل، فقد لا يتّسع المجال للحديث عن كل ما أُثير حوله من القضايا الفكرية التي تتّصل بهذا الموضوع، لأن فكرة المهدية فكرة إسلامية، وليست مذهبيّة تتّصل بالمذهب الإمامي فحسب، فالمسلمون متّفقون على أنّ هناك مهديّاً يخرج في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

وقد ذكر (ابن خلدون) في مقدّمته، أنّ الروايات متواترة حول المهدي، وقد عدّ بعض العلماء من المؤلفين الروايات التي وردت في ذلك، فوصل العدد إلى ستة آلاف رواية، ولكنّ المسلمين اختلفوا بين من يعيّنه باسم خاصّ وهم الشيعة الإماميّة، كما يذكر ذلك مفصَّلاً المرحوم السيّد (محسن الأمين) في (أعيان الشيعة)، ويقولون إنّه محمد بن الحسن العسكري(ع)، وبين من يقول إنّه لم يولَد، ولكنَّ الله يبعثه في آخر الزمان من دون أن يعيّن اسمه ونسبه.

وقد أُثير حول العقيدة التي تقول بتعيينه وامتداد عمره إلى مدى لا يعرفه إلاّ الله جدلٌ كثير، فلقد ذكرت استبعادات، منها هذا العمر الطويل، وعندما ندرس مسألة العمر، فإنّنا نجد أنّ الإمكان العقلي ينفتح عليها، بمعنى أنّها ليست مستحيلةً عقلاً، إذ من الممكن أن يعيش الإنسان هذا المدى، ما دام العمر بقدرة الله تعالى.

وليس مستحيلاً علمياً، فإنَّ العلم لا يعتبر طول العمر أمراً مستحيلاً، ولذلك يتابع العلماء في شتّى أنحاء العالم، دراسة سرّ تجدّد الخلايا، علّهم يستطيعون إطالة عمر الإنسان بطريقة وبأخرى، فلا هي مستحيلة عقلياً، ولا هي مستحيلة علمياً.

المهديّة حقيقة ثابتة

وأمّا الأسئلة التي تُثار من قبيل ما هي الحكمة، وما هي الفائدة من ذلك، فالردّ عليها، أنَّ غيبة الإمام من غيب الله، شأنها شأن أيّة مسألة غيبية آمنّا بها، لأنّ الصادق المصدّق أخبرنا بها، فالحديث عن النبيّ(ص) ثابت: "إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً؛ الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"، فهذا النوع من الاتّصال بين العترة والكتاب في مدى الزّمن، يدلّ على أنّ العترة تظلّ مع الكتاب، وهذا لا يتمثّل إلاّ بالإمام المهديّ(عج).

وهكذا جاء في الحديث أيضاً: "يكون منّا إثنا عشر خليفةً، ينصرهم الله على مَن ناوأهم، ولا يضرّهم من عاداهم"(1)، وهو ممّا يرويه السنَّة والشِّيعة معاً، ولا ينطبق إلاّ على الأئمَّة الإثني عشر حصراً، فلا هو ينطبق على الخلفاء الرّاشدين، ولا على الأمويّين، ولا على العبّاسيّين، بل الخلافة منحصرة فيهم فقط.

وعن الرسول(ص) أيضاً، ورد تخصيص في هذا الأمر: "لن تنقضي الأيّام واللّيالي، حتى يبعث الله تعالى رجلاً من أهل بيتي، اسمُه اسمي، وكنيته كنيتي، واسمُ أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً"(2). ولقد تكاثرت وتضافرت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت(ع). فالإمام المهدي(عج) حقيقة حديثيّة، كما هو إمكانية عقلية وعلمية، وعلينا أن نصدِّق كلّ ما جاءنا عن رسول الله(ص)، ممّا عرفنا سرّه وممّا لم نعرف.

فالمهديّة ـــ من هذا المنطلق ـــ عقيدة ثابتة بالأدلّة الشرعيّة القطعيّة التي لا مجال لإنكارها من خلال الوسائل التي تثبت بها العقائد. ولقد تحدَّث العلماء في ذلك كثيراً، وحاولوا اكتشاف بعض الأسرار، وأن يوجّهوا بعض الاحتمالات، لكنّنا نختصر المسألة في أنها من أمور الغيب التي ثبتت لنا من خلال الرّسول(ص) والأئمّة من أهل بيته، سواء من جانب التعيين، أو من جانب المبدأ، كما ثبت ذلك بإجماع المسلمين.

مسؤوليّتنا في عصر الغيبة

غير أنّ ما يواجهنا هنا هو: ما هي مسؤوليّتنا في هذا الوقت الضّائع في المدّة التي تفصل بين غيبته وظهوره؟ هل إنَّ الإسلام قد تجمّد خلال ذلك، وهو دين الله الّذي أراد للناس أن يتحرّكوا فيه على مدى الزّمن؟ فالإنسان لا بدَّ من أن يكون مسلماً ممارساً ومسؤولاً ومنفتحاً على كلّ حكم من أحكام الإسلام على مدى الزّمن، فهو بكلّ أحكامه وشرائعه ومناهجه ومفاهيمه، لا يزال حيّاً متحركاً، يواجه الناس بمسؤوليّاتهم في هذا الوقت وفيما قبله. وفي ضوء ذلك، نعتقد أنّ كلّ العناوين الإسلامية، إنْ من ناحية المسائل الفردية المتصلة بتكليف الفرد من صلاة أو صوم وما إلى ذلك، أو من ناحية المسائل العامة المتصلة بالأمّة في حركتها، هي من أجل أن يكون الإسلام قاعدةً للفكر والعاطفة والحياة.

فما دام الإسلام هو دين الله، وهو الحلّ الّذي أراده لمشاكل الإنسان، والمنهج الّذي رسمه لتغطية حاجاته، فلا بدَّ للمسلمين من أن يحتضنوا الإسلام في وجدانهم، وفي ممارساتهم وحركتهم، فرديّاً وجماعياً، ليحقّقوا الخطوط العامّة بجهدهم، كما يحقّقون الخطى التفصيلية. ولهذا فإنّ مسؤولية المسلمين في غيابه(عج)، قد تكون أكثر من مسؤوليتهم في حال حضوره، باعتبار أنّ حضور الإمام، قد يخفّف الكثير من المسؤوليّات عن عاتق العاملين، لأنّهم يلقون ذلك إليه. ولكنّنا في غيابه، نحتاج إلى أن نحتضن الساحة ونلاحقها، ونستوحي كلّ كلماته التي هي ليست فقط ما صدر عنه بالخصوص، ولكنّ كلماته هي القرآن كلّه، وهي السنّة النبويّة الشريفة كلّها، وهي كلّ ما صدر عن آبائه الأئمة(ع)، وما صدر عنه هو شخصياً.

وعلى هذا الأساس، فنحن نعيش حضوره في كلّ هذا الخطّ الإسلاميّ، من الكتاب والسنّة بكلّ امتداداتها وتفاصيلها، فنحن لا نشكو فراغاً من خلال فراغ حضوره، لأنّ هذا الفراغ يمتلئ بهذا التراث الدينيّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولقد قال للذين سألوه عمّا يصنعون في حال غيبته، كما روي عنه: "وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله".

ومن هنا ابتدأت مسيرة العلماء في احتضان التراث الإسلاميّ في خطوطه العامة وتفاصيله.. ومن هنا أيضاً، انطلقت مسيرة العلماء المجتهدين المتّقين الواعين المجاهدين والمنفتحين على قضايا الإسلام وقضايا الحياة بكلّ اجتهادهم ووعيهم وإخلاصهم وجهادهم. فنحن مسؤولون عن أن نملأ الفراغ في كلّ مجالات حياتنا، ونتحسَّس وجوده من خلال ما نتحسَّسه من رقابته علينا، ورصده لنا وبركته علينا بكلّ ما للحركة الإسلاميّة من قضايا ومشاكل وتحدّيات.

العدل الكلّي هو الهدف

وأمّا النقطة الثّانية التي لا بدَّ من أن نتمثّلها ونستوحيها من خلال هذه الذّكرى، فهي أنّ العنوان الكبير الّذي وضع لظهوره، هو عنوان (العدل الكليّ الشّامل)، أي العدل للإنسان كلّه وللحياة كلّها، فالتّجربة الوحيدة التي لم يعهد الإنسان لها مثيلاً في كلّ تأريخه، هي التي أراد الله لها أن تتحقّق في حضوره.

وبديهيّ، فإنّ ذلك لا يتمّ بلمسة سحريّة تحوّل واقع الظلم إلى واقع عدل، ولكنها مسألة تنفتح على الجهاد معه، ومواجهة كلّ التحدّيات تحت قيادته، فنحن عندما ننفتح على ظهوره، فإنّنا ننفتح على العدل الشّامل، فماذا يوحي لنا ذلك؟ إنّه يوحي بأن تكون حركتنا في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني منطلقةً من قاعدة العدل، وأن لا يكون اهتمامنا بالعدل في الساحة الإسلامية فحسب، بحيث نفكّر في العدل للمسلمين جميعاً، ولا يهمنّا إذا ظلم الناس من غير المسلمين، كما يحاول الكثير من الناس أن يعتبروا أنّ معنى التزامك بالإسلام، هو أن تلتزم بالمسلمين فحسب في القضايا الأساسية في العالم، فقد نجد بعض الناس في تصوّراتهم الفكرية أو الاجتهادية، يستحلّون أموالَ النّاس غير المسلمين وأغراضَهم ونفوسَهم ودماءَهم، على أساس أنّ الاحترام للمسلمين فحسب.

إنَّ القِيَم في الإسلام ـــ أيّها الأحبَّة ـــ ليست محدودةً بجماعة خاصَّة، فعندما تكون صادقاً، فليس حدود الصِّدق في مَنْ تصدق معه، بل في قيمة الصِّدق في وجودك كلِّه، وكذلك الأمانة، فليست منحصرةً في مَن تكون أميناً معه، بل أن تكون قيمة روحيّة وأخلاقيّة في وجودك. وعندما يكون الصِّدق قيمة، والأمانة قيمة، وإنسانيَّة الإنسان قيمة، فإنَّ ذلك ليس ممّا يختلف عليه شخصان.

وعلى ضوء هذا نقول، إنّ مسألة العدل في الإسلام هي مسألة العدل لكلِّ الناس، وهذا ما نستوحيه أوَّلاً من قول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(1)، أي لا تمنعكم العداوات، سواء كانت دينيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة، أن تعدلوا مع الّذين تعادونهم وتخاصمونهم، فالعداوة شيء، والعدالة شيء آخر. فقد يكون الإنسان من أكفر الكافرين، ولكن إذا كان لديه حقّ عندك، فعليك أن تحمي حقّه وأن تعطيه حقّه.

وقد ورد في الحديث عن أئمّة أهل البيت(ع) في كتاب (الكافي) لــ (الكليني): "أوحى الله إلى نبيّ في مملكة جبّار من الجبّارين، قال له: إئتِ هذا الجبّار، وقل له إنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين، فإنّي لن أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّارا". فالله لا يريد للظّلم أن يتنوّع ليكون هناك ظلم مشروع وظلم غير مشروع. نعم، قد يكون لهذا حقّ وقد لا يكون، فإذا لم يكن هناك حقّ، فليست هناك قصّة عدل وظلم، ولكن ما دام له في شريعة الله حقّ، فعليك أن تعطيه حقّه حتى ولو كان كافراً.

ونلاحظ كذلك أنَّ العدل في القرآن لم يحدَّد بحدود: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}(2)، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}(3)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ}(4).

العدل ركيزة الأديان

ونجد أيضاً أنَّ الله ركّز الأديان على أساس العدل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(5)، مَن آمن ومَن لم يؤمن، حتى يكون العدل ممثِّلاً لقيمة الحياة وحركتها. وعلى هذا الأساس، فإنّنا نستوحي من هذا العدل الشّامل الذي لا يختلف فيه إنسان عن إنسان، أن نقف ضدّ قضايا الظّلم في العالَم، حتى لو كان المظلومون من المستضعفين من غير المسلمين، وعلينا أن نقف ضدّ الظّالمين في العالم، حتى لو كانوا من المسلمين، ومع قضايا العدل في العالم، حتى لو كانت في مصلحة غير المسلمين، الأمر الذي يفتح لنا الأبواب على المستضعفين في العالم، عندما يسرق الاستكبار العالمي ثرواتهم، ويخنق حريّاتهم، ويمنع تقرير مصيرهم.

فبوحي التزام الإنسان المسلم بقضايا العدل الشّامل، يصبح إنساناً يقف مع المستضعفين في العالم، وهذا هو الّذي جعل الإمام الخمينيّ يطلق نداء: (يا مستضعفي العالم اتّحدوا)، ليشكّل المستضعفون في العالم جبهةً من خلال الإيمان بالعدل ورفض الظلم، ذلك أنّ قضايا الجبهة لا تتجزّأ، فإذا ما قوي الظّلم في منطقة، فسيقوى في المناطق الأخرى، وإذا ضعف في منطقة، فسيضعف في المناطق الأخرى، فعلينا أن نؤسِّس لجبهة المستضعفين في العالم ضدّ كلّ المستكبرين في العالَم.

خطواتُ عدل على الطّريق

وأمّا النقطة الثّالثة، فهي أنّنا ونحن نؤمن بالعدالة في نهاية الزّمان على يدي الإمام المهدي(عج)، علينا أن نكون العادلين، ثم ندعو: (اللّهمّ اجعلني من أنصاره وأعوانه والمستشهدين معه)، أي أن تكون فريقَهُ وجنده، ففريقه فريق العدل، وجنده جند العدل، فإذا كنت تظلم زوجتك وولدك وجارك والذي تتعامل معه والذي تتحمّل مسؤوليته، فكيف يمكن أن تكون جنداً له، كيف تحارب الظّالمين وأنتَ معهم؟! فإذا كنّا جادّين بالالتزام به، فعلينا أن لا نظلم بعضنا بعضاً في أنانيّاتنا في حركة الواقع ضدّ الآخر، وعلينا أن لا نظلم بعضنا بعضاً في عصبيّاتنا، سواء كانت ذاتية أو عائلية أو إقليمية أو قومية أو طائفية أو مذهبية، وعلينا أن لا نتصوَّر أنّ لنا حقّاً وليس للآخرين حقّ، بل أن نفكّر في أنّ الله قد جعل لنا حقوقاً كما جعل علينا واجبات، وجعل للآخرين حقوقاً وجعل عليهم واجبات، وعلينا أن نؤدِّي للناس حقوقهم علينا، ونطالبهم بحقوقنا عليهم، وعلينا أن نؤدّي الحقّ الأكبر، وهو حقّ الله، فله كلّ الحق علينا، وليس لنا على الله أيّ حقّ، إلاّ ما تفضّل به علينا ممّا جعله لنا من حقّ عليه فيما يثيبنا ويعطينا.

وعندما نعيش هذه الأجواء، علينا أن نسال عمّا هي مسؤوليّتنا، ذلك أنَّ غيبته لم تكن مسؤوليّتنا، وظهوره كذلك ليس من مسؤوليّتنا، وأمّا ما هي علامات ظهوره، فذلك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه. فمسؤوليّتنا مع كلّ التّاريخ والرموز في مرحلتنا وعصرنا، هي أنْ نصنع التاريخ من خلال الخطوط الّتي نؤمن بها ونتعامل معها، والأهداف التي نسعى لبلوغها.

رأس السنة الميلاديّة

نستقبل هذه الأيام العام 1997م، ونريد أن نثير عناوين سريعة على أعتابه:

أوّلاً: ليست لدينا مشكلة في الالتزام بالتاريخ الميلادي، لأنّنا لا نفرّق بين أحد من رسل الله، فنحن نؤمن بعيسى(ع) على أنّه روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وأنّه عبد الله الذي آتاه الكتاب وجعله نبيّاً وجعله مباركاً أينما كان وأوصاه بالصّلاة والزكاة.

وعندما نتذكّر هذا التاريخ بوعي، فإنّنا نتذكّر ولادة عيسى من خلال (سورة مريم)، فنعيش مع روحانيّته وإخلاصه لربّه، ومع أخلاقيّته، فلا مشكلة عندنا في أن نلتزم التاريخ الميلاديّ أو نتبنّاه.

لكن علينا كمسلمين أن نؤكِّد ى التاريخ الهجريّ، لسبب بسيط، وهو أنّ قصّة التاريخ في كلّ أمّة هي قصّة مسيرة الأُمّة ـــ كلّ الأمة ـــ في هذا التاريخ، من حيث هزائمها وانتصاراتها وكلّ أوضاعها المتحركة، فكل سنة من سني هذا التاريخ، تحمل في داخلها حركة الأمّة في كل مواقعها في هذه السنة، فعندما نؤكّد التاريخ الهجري في كلّ يوم، فنسجّله في مذكّراتنا، ونؤرّخ به رسائلنا، ونثبّته في كلّ ما يحتاج إلى التّاريخ، فإنّ ذلك يجعلنا نعيش التاريخ الإسلامي منذ هجرة النبيّ(ص)، وكيف انطلقت الهجرة، وكيف عاشها المصطفى(ص)، وكيف كانت مرحلة الدّعوة قبل الهجرة وبعدها، ثم كيف تحرّك المسلمون إلى العالم، وكيف كانت الفتوحات والانتصارات والتّعقيدات الداخليّة السياسيّة منها أو الثقافية أو الأمنية، وكيف واجه المسلمون التحدّيات، فإنّك وأنتَ تعيش التاريخ الهجريّ، إنّما تعيش تاريخك وأصالتك، وأنّك جزء من هذا التاريخ، وأنّك يمكن أن تشارك في صنعه كما شارك الآخرون في صناعته أيضاً. فللتّاريخ الهجريّ في بعده الإسلامي معنى يتّصل بتركيز الأصالة في كياننا ووجودنا، ويتَّصل كذلك بحركة الأمَّة في هذا التاريخ، وبمسؤوليّتنا قبال هذا التاريخ، بحسب ما نملك من جهد وطاقة.

فإذا كان الواقع الّذي نعيش فيه واقعاً يسيطر فيه الاستكبار العالمي الّذي فرض علينا التاريخ الميلادي، فلا بدَّ من أن نضع التأريخ الهجري إلى جانب التأريخ الميلادي. وإذا أمكن أن نضعه جنباً إلى جنب مع الميلاديّ، كما نقول ـــ أحياناً ـــ التأريخ الهجري (كذا) الموافق للتأريخ الميلادي (كذا)، لأنّ أيّة أُمّة لا تحترم تأريخها، هي أمّة لا تحترم أصالتها ولا تحترم حركيّتها ووجودها. فعندما نستعير التّأريخ من غيرنا، فماذا يبقى لنا يا ترى، ذلك أنّ للآخرين تأريخهم، وقد نلتقي معهم في هذا التأريخ، ولنا تأريخنا وعلينا أن نؤكّده. لأنَّ هذا يمثّل نوعاً من الهزيمة النفسية والحضارية والإسلامية أمام الآخرين. والمؤسف أنَّ الكثير من المسلمين لا يتذكّرون التاريخ الإسلامي كما ينبغي، حتى إنّك إذا سألتهم ما هو التاريخ الهجري اليوم، فإنّهم لا يعرفون ذلك.

كيف نستقبل السنة الجديدة؟

وثمّة نقطة أخرى، وهي أنّ علينا أن لا نستقبل رأس السنة بالطريقة التي يستقبل بها العالم الوثني رأس السنة، فهي عملية تغييب للعقل بما يمارسه البعض من السِّكر واللّهو والفجور والعبث، فلنتأمّل المسألة جيّداً، فأن تموت سنة من عمرك، يعني أنّ قطعةً من عمرك دخلت في حسابك أمام الله، فلا تدري ما صنعت فيها من خير أو شرّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}(1)، فعندما تغيب سنة 1996م، أو سنة هـ،ـ فعليك أن تعرف أنّ ملفّ هذه السنة قد أغلق ودخلت في كتابك وستدعى إلى أن تقرأ كتابك، وقد يكون خيراً وقد يكون شرّاً، فلا بدَّ من أن تفكّر فيما قدّمت لغد من خلال سنتك هذه.

وبعد أن تغلق حسابات السّنة المنصرفة، ليفتح حساب السّنة القادمة، فكّر فيما أنت صانع فيه، فإنْ كنتَ قد عملت خيراً، فاطلب من الله أن يوفِّقك لخير جديد، وإنْ كنت عملت شرّاً، فكّر أن تستغفر ربّك وتتوب إليه، وأن تغيّر مسيرتك من الشرّ إلى الخير. فبداية الزمن إذاً، تفرض عليك التأمّل في حساب الأرباح والخسائر. أما نظرت إلى المصارف والشّركات في العالَم كيف تجمِّد كلّ أعمالها قبل بداية السّنة وبعد بدايتها بأيّام، لأنّها تقوم بعمليّة جرد وإحصاء للأرباح والخسائر، وقد تخسر ماديّاً وقد تربح، والخاسر الأكبر من يخسر نفسه {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1).

فعندما تموت قطعة من عمرك، فعليك أن تعرف أنّها هربت منك ولن تعود، فليكن حزنك إيجابياً عليها، وعندما تبدأ سنة، اِفرح، لأنّ الله أبقاك إلى هذه السّنة، واشكر ربّك على ذلك، وقل كما قال الإمام زين العابدين(ع) وهو يستقبل بداية يومه، ولا فرق بين بداية اليوم وبداية الأسبوع والشّهر والسّنة: "اللّهمّ وهذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنّا ودّعنا بحمد، وإنْ أسأنا فارقنا بذمّ. اللّهمّ ارزقنا حسن مصاحبته، واعصمنا من سوء مفارقته، بارتكاب جريرة، أو اقتراف صغيرة أو كبيرة، وأجزل لنا فيه من الحسنات، وأخلنا فيه من السيّئات، واملأ لنا ما بين طرفيه حمداً وشكراً وأجراً وذخراً وفضلاً وإحساناً".

فلنفرح ـــ أيّها الأحبّة ـــ فرح المسؤوليّة، وليكن فرحنا فرح الرّوح التي تريد أن تصفو وتنقّى وتحلّق في آفاق الله، وليكن فرحنا فرح الإنسان الّذي يريد أن يجعل من سنته سنة خير وحريّة واستقلال وعدالة.. وليكن فرحنا مع المستضعفين فرح الحقّ كلّه والعدل كلّه والمسؤوليّة كلّها {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2).

والحمد لله ربِّ العالمين.

[فكر وثقافة، ج2، المحاضرة الثّامنة والعشرون، بتاريخ: 28/12/1996].


(1) البحار، ج: 36، باب: 41، ص 174.

(2) البحار، ج: 37، باب: 49، ص 275.

(1) سورة المائدة، الآية: 8.

(2) سورة النحل، الآية: 90.

(3) سورة الأنعام، الآية: 152.

(4) سورة النساء، الآية: 135.

(5) سورة الحديد، الآية: 25.

(1) سورة الحشر، الآية: 18.

(1) سورة الزمر، الآية: 15.

(2) سورة التوبة، الآية: 105.

أمامنا عنوانان: الأوَّل هو ولادة الإمام المهدي(عج) في الخامس عشر من شعبان، والعنوان الثّاني: هو رأس السنة الميلاديّة.

المهدي والعمر الطّويل

أمّا العنوان الأوّل، فقد لا يتّسع المجال للحديث عن كل ما أُثير حوله من القضايا الفكرية التي تتّصل بهذا الموضوع، لأن فكرة المهدية فكرة إسلامية، وليست مذهبيّة تتّصل بالمذهب الإمامي فحسب، فالمسلمون متّفقون على أنّ هناك مهديّاً يخرج في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

وقد ذكر (ابن خلدون) في مقدّمته، أنّ الروايات متواترة حول المهدي، وقد عدّ بعض العلماء من المؤلفين الروايات التي وردت في ذلك، فوصل العدد إلى ستة آلاف رواية، ولكنّ المسلمين اختلفوا بين من يعيّنه باسم خاصّ وهم الشيعة الإماميّة، كما يذكر ذلك مفصَّلاً المرحوم السيّد (محسن الأمين) في (أعيان الشيعة)، ويقولون إنّه محمد بن الحسن العسكري(ع)، وبين من يقول إنّه لم يولَد، ولكنَّ الله يبعثه في آخر الزمان من دون أن يعيّن اسمه ونسبه.

وقد أُثير حول العقيدة التي تقول بتعيينه وامتداد عمره إلى مدى لا يعرفه إلاّ الله جدلٌ كثير، فلقد ذكرت استبعادات، منها هذا العمر الطويل، وعندما ندرس مسألة العمر، فإنّنا نجد أنّ الإمكان العقلي ينفتح عليها، بمعنى أنّها ليست مستحيلةً عقلاً، إذ من الممكن أن يعيش الإنسان هذا المدى، ما دام العمر بقدرة الله تعالى.

وليس مستحيلاً علمياً، فإنَّ العلم لا يعتبر طول العمر أمراً مستحيلاً، ولذلك يتابع العلماء في شتّى أنحاء العالم، دراسة سرّ تجدّد الخلايا، علّهم يستطيعون إطالة عمر الإنسان بطريقة وبأخرى، فلا هي مستحيلة عقلياً، ولا هي مستحيلة علمياً.

المهديّة حقيقة ثابتة

وأمّا الأسئلة التي تُثار من قبيل ما هي الحكمة، وما هي الفائدة من ذلك، فالردّ عليها، أنَّ غيبة الإمام من غيب الله، شأنها شأن أيّة مسألة غيبية آمنّا بها، لأنّ الصادق المصدّق أخبرنا بها، فالحديث عن النبيّ(ص) ثابت: "إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً؛ الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"، فهذا النوع من الاتّصال بين العترة والكتاب في مدى الزّمن، يدلّ على أنّ العترة تظلّ مع الكتاب، وهذا لا يتمثّل إلاّ بالإمام المهديّ(عج).

وهكذا جاء في الحديث أيضاً: "يكون منّا إثنا عشر خليفةً، ينصرهم الله على مَن ناوأهم، ولا يضرّهم من عاداهم"(1)، وهو ممّا يرويه السنَّة والشِّيعة معاً، ولا ينطبق إلاّ على الأئمَّة الإثني عشر حصراً، فلا هو ينطبق على الخلفاء الرّاشدين، ولا على الأمويّين، ولا على العبّاسيّين، بل الخلافة منحصرة فيهم فقط.

وعن الرسول(ص) أيضاً، ورد تخصيص في هذا الأمر: "لن تنقضي الأيّام واللّيالي، حتى يبعث الله تعالى رجلاً من أهل بيتي، اسمُه اسمي، وكنيته كنيتي، واسمُ أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً"(2). ولقد تكاثرت وتضافرت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت(ع). فالإمام المهدي(عج) حقيقة حديثيّة، كما هو إمكانية عقلية وعلمية، وعلينا أن نصدِّق كلّ ما جاءنا عن رسول الله(ص)، ممّا عرفنا سرّه وممّا لم نعرف.

فالمهديّة ـــ من هذا المنطلق ـــ عقيدة ثابتة بالأدلّة الشرعيّة القطعيّة التي لا مجال لإنكارها من خلال الوسائل التي تثبت بها العقائد. ولقد تحدَّث العلماء في ذلك كثيراً، وحاولوا اكتشاف بعض الأسرار، وأن يوجّهوا بعض الاحتمالات، لكنّنا نختصر المسألة في أنها من أمور الغيب التي ثبتت لنا من خلال الرّسول(ص) والأئمّة من أهل بيته، سواء من جانب التعيين، أو من جانب المبدأ، كما ثبت ذلك بإجماع المسلمين.

مسؤوليّتنا في عصر الغيبة

غير أنّ ما يواجهنا هنا هو: ما هي مسؤوليّتنا في هذا الوقت الضّائع في المدّة التي تفصل بين غيبته وظهوره؟ هل إنَّ الإسلام قد تجمّد خلال ذلك، وهو دين الله الّذي أراد للناس أن يتحرّكوا فيه على مدى الزّمن؟ فالإنسان لا بدَّ من أن يكون مسلماً ممارساً ومسؤولاً ومنفتحاً على كلّ حكم من أحكام الإسلام على مدى الزّمن، فهو بكلّ أحكامه وشرائعه ومناهجه ومفاهيمه، لا يزال حيّاً متحركاً، يواجه الناس بمسؤوليّاتهم في هذا الوقت وفيما قبله. وفي ضوء ذلك، نعتقد أنّ كلّ العناوين الإسلامية، إنْ من ناحية المسائل الفردية المتصلة بتكليف الفرد من صلاة أو صوم وما إلى ذلك، أو من ناحية المسائل العامة المتصلة بالأمّة في حركتها، هي من أجل أن يكون الإسلام قاعدةً للفكر والعاطفة والحياة.

فما دام الإسلام هو دين الله، وهو الحلّ الّذي أراده لمشاكل الإنسان، والمنهج الّذي رسمه لتغطية حاجاته، فلا بدَّ للمسلمين من أن يحتضنوا الإسلام في وجدانهم، وفي ممارساتهم وحركتهم، فرديّاً وجماعياً، ليحقّقوا الخطوط العامّة بجهدهم، كما يحقّقون الخطى التفصيلية. ولهذا فإنّ مسؤولية المسلمين في غيابه(عج)، قد تكون أكثر من مسؤوليتهم في حال حضوره، باعتبار أنّ حضور الإمام، قد يخفّف الكثير من المسؤوليّات عن عاتق العاملين، لأنّهم يلقون ذلك إليه. ولكنّنا في غيابه، نحتاج إلى أن نحتضن الساحة ونلاحقها، ونستوحي كلّ كلماته التي هي ليست فقط ما صدر عنه بالخصوص، ولكنّ كلماته هي القرآن كلّه، وهي السنّة النبويّة الشريفة كلّها، وهي كلّ ما صدر عن آبائه الأئمة(ع)، وما صدر عنه هو شخصياً.

وعلى هذا الأساس، فنحن نعيش حضوره في كلّ هذا الخطّ الإسلاميّ، من الكتاب والسنّة بكلّ امتداداتها وتفاصيلها، فنحن لا نشكو فراغاً من خلال فراغ حضوره، لأنّ هذا الفراغ يمتلئ بهذا التراث الدينيّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولقد قال للذين سألوه عمّا يصنعون في حال غيبته، كما روي عنه: "وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله".

ومن هنا ابتدأت مسيرة العلماء في احتضان التراث الإسلاميّ في خطوطه العامة وتفاصيله.. ومن هنا أيضاً، انطلقت مسيرة العلماء المجتهدين المتّقين الواعين المجاهدين والمنفتحين على قضايا الإسلام وقضايا الحياة بكلّ اجتهادهم ووعيهم وإخلاصهم وجهادهم. فنحن مسؤولون عن أن نملأ الفراغ في كلّ مجالات حياتنا، ونتحسَّس وجوده من خلال ما نتحسَّسه من رقابته علينا، ورصده لنا وبركته علينا بكلّ ما للحركة الإسلاميّة من قضايا ومشاكل وتحدّيات.

العدل الكلّي هو الهدف

وأمّا النقطة الثّانية التي لا بدَّ من أن نتمثّلها ونستوحيها من خلال هذه الذّكرى، فهي أنّ العنوان الكبير الّذي وضع لظهوره، هو عنوان (العدل الكليّ الشّامل)، أي العدل للإنسان كلّه وللحياة كلّها، فالتّجربة الوحيدة التي لم يعهد الإنسان لها مثيلاً في كلّ تأريخه، هي التي أراد الله لها أن تتحقّق في حضوره.

وبديهيّ، فإنّ ذلك لا يتمّ بلمسة سحريّة تحوّل واقع الظلم إلى واقع عدل، ولكنها مسألة تنفتح على الجهاد معه، ومواجهة كلّ التحدّيات تحت قيادته، فنحن عندما ننفتح على ظهوره، فإنّنا ننفتح على العدل الشّامل، فماذا يوحي لنا ذلك؟ إنّه يوحي بأن تكون حركتنا في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني منطلقةً من قاعدة العدل، وأن لا يكون اهتمامنا بالعدل في الساحة الإسلامية فحسب، بحيث نفكّر في العدل للمسلمين جميعاً، ولا يهمنّا إذا ظلم الناس من غير المسلمين، كما يحاول الكثير من الناس أن يعتبروا أنّ معنى التزامك بالإسلام، هو أن تلتزم بالمسلمين فحسب في القضايا الأساسية في العالم، فقد نجد بعض الناس في تصوّراتهم الفكرية أو الاجتهادية، يستحلّون أموالَ النّاس غير المسلمين وأغراضَهم ونفوسَهم ودماءَهم، على أساس أنّ الاحترام للمسلمين فحسب.

إنَّ القِيَم في الإسلام ـــ أيّها الأحبَّة ـــ ليست محدودةً بجماعة خاصَّة، فعندما تكون صادقاً، فليس حدود الصِّدق في مَنْ تصدق معه، بل في قيمة الصِّدق في وجودك كلِّه، وكذلك الأمانة، فليست منحصرةً في مَن تكون أميناً معه، بل أن تكون قيمة روحيّة وأخلاقيّة في وجودك. وعندما يكون الصِّدق قيمة، والأمانة قيمة، وإنسانيَّة الإنسان قيمة، فإنَّ ذلك ليس ممّا يختلف عليه شخصان.

وعلى ضوء هذا نقول، إنّ مسألة العدل في الإسلام هي مسألة العدل لكلِّ الناس، وهذا ما نستوحيه أوَّلاً من قول الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(1)، أي لا تمنعكم العداوات، سواء كانت دينيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة، أن تعدلوا مع الّذين تعادونهم وتخاصمونهم، فالعداوة شيء، والعدالة شيء آخر. فقد يكون الإنسان من أكفر الكافرين، ولكن إذا كان لديه حقّ عندك، فعليك أن تحمي حقّه وأن تعطيه حقّه.

وقد ورد في الحديث عن أئمّة أهل البيت(ع) في كتاب (الكافي) لــ (الكليني): "أوحى الله إلى نبيّ في مملكة جبّار من الجبّارين، قال له: إئتِ هذا الجبّار، وقل له إنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين، فإنّي لن أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّارا". فالله لا يريد للظّلم أن يتنوّع ليكون هناك ظلم مشروع وظلم غير مشروع. نعم، قد يكون لهذا حقّ وقد لا يكون، فإذا لم يكن هناك حقّ، فليست هناك قصّة عدل وظلم، ولكن ما دام له في شريعة الله حقّ، فعليك أن تعطيه حقّه حتى ولو كان كافراً.

ونلاحظ كذلك أنَّ العدل في القرآن لم يحدَّد بحدود: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}(2)، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}(3)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ}(4).

العدل ركيزة الأديان

ونجد أيضاً أنَّ الله ركّز الأديان على أساس العدل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(5)، مَن آمن ومَن لم يؤمن، حتى يكون العدل ممثِّلاً لقيمة الحياة وحركتها. وعلى هذا الأساس، فإنّنا نستوحي من هذا العدل الشّامل الذي لا يختلف فيه إنسان عن إنسان، أن نقف ضدّ قضايا الظّلم في العالَم، حتى لو كان المظلومون من المستضعفين من غير المسلمين، وعلينا أن نقف ضدّ الظّالمين في العالم، حتى لو كانوا من المسلمين، ومع قضايا العدل في العالم، حتى لو كانت في مصلحة غير المسلمين، الأمر الذي يفتح لنا الأبواب على المستضعفين في العالم، عندما يسرق الاستكبار العالمي ثرواتهم، ويخنق حريّاتهم، ويمنع تقرير مصيرهم.

فبوحي التزام الإنسان المسلم بقضايا العدل الشّامل، يصبح إنساناً يقف مع المستضعفين في العالم، وهذا هو الّذي جعل الإمام الخمينيّ يطلق نداء: (يا مستضعفي العالم اتّحدوا)، ليشكّل المستضعفون في العالم جبهةً من خلال الإيمان بالعدل ورفض الظلم، ذلك أنّ قضايا الجبهة لا تتجزّأ، فإذا ما قوي الظّلم في منطقة، فسيقوى في المناطق الأخرى، وإذا ضعف في منطقة، فسيضعف في المناطق الأخرى، فعلينا أن نؤسِّس لجبهة المستضعفين في العالم ضدّ كلّ المستكبرين في العالَم.

خطواتُ عدل على الطّريق

وأمّا النقطة الثّالثة، فهي أنّنا ونحن نؤمن بالعدالة في نهاية الزّمان على يدي الإمام المهدي(عج)، علينا أن نكون العادلين، ثم ندعو: (اللّهمّ اجعلني من أنصاره وأعوانه والمستشهدين معه)، أي أن تكون فريقَهُ وجنده، ففريقه فريق العدل، وجنده جند العدل، فإذا كنت تظلم زوجتك وولدك وجارك والذي تتعامل معه والذي تتحمّل مسؤوليته، فكيف يمكن أن تكون جنداً له، كيف تحارب الظّالمين وأنتَ معهم؟! فإذا كنّا جادّين بالالتزام به، فعلينا أن لا نظلم بعضنا بعضاً في أنانيّاتنا في حركة الواقع ضدّ الآخر، وعلينا أن لا نظلم بعضنا بعضاً في عصبيّاتنا، سواء كانت ذاتية أو عائلية أو إقليمية أو قومية أو طائفية أو مذهبية، وعلينا أن لا نتصوَّر أنّ لنا حقّاً وليس للآخرين حقّ، بل أن نفكّر في أنّ الله قد جعل لنا حقوقاً كما جعل علينا واجبات، وجعل للآخرين حقوقاً وجعل عليهم واجبات، وعلينا أن نؤدِّي للناس حقوقهم علينا، ونطالبهم بحقوقنا عليهم، وعلينا أن نؤدّي الحقّ الأكبر، وهو حقّ الله، فله كلّ الحق علينا، وليس لنا على الله أيّ حقّ، إلاّ ما تفضّل به علينا ممّا جعله لنا من حقّ عليه فيما يثيبنا ويعطينا.

وعندما نعيش هذه الأجواء، علينا أن نسال عمّا هي مسؤوليّتنا، ذلك أنَّ غيبته لم تكن مسؤوليّتنا، وظهوره كذلك ليس من مسؤوليّتنا، وأمّا ما هي علامات ظهوره، فذلك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه. فمسؤوليّتنا مع كلّ التّاريخ والرموز في مرحلتنا وعصرنا، هي أنْ نصنع التاريخ من خلال الخطوط الّتي نؤمن بها ونتعامل معها، والأهداف التي نسعى لبلوغها.

رأس السنة الميلاديّة

نستقبل هذه الأيام العام 1997م، ونريد أن نثير عناوين سريعة على أعتابه:

أوّلاً: ليست لدينا مشكلة في الالتزام بالتاريخ الميلادي، لأنّنا لا نفرّق بين أحد من رسل الله، فنحن نؤمن بعيسى(ع) على أنّه روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وأنّه عبد الله الذي آتاه الكتاب وجعله نبيّاً وجعله مباركاً أينما كان وأوصاه بالصّلاة والزكاة.

وعندما نتذكّر هذا التاريخ بوعي، فإنّنا نتذكّر ولادة عيسى من خلال (سورة مريم)، فنعيش مع روحانيّته وإخلاصه لربّه، ومع أخلاقيّته، فلا مشكلة عندنا في أن نلتزم التاريخ الميلاديّ أو نتبنّاه.

لكن علينا كمسلمين أن نؤكِّد ى التاريخ الهجريّ، لسبب بسيط، وهو أنّ قصّة التاريخ في كلّ أمّة هي قصّة مسيرة الأُمّة ـــ كلّ الأمة ـــ في هذا التاريخ، من حيث هزائمها وانتصاراتها وكلّ أوضاعها المتحركة، فكل سنة من سني هذا التاريخ، تحمل في داخلها حركة الأمّة في كل مواقعها في هذه السنة، فعندما نؤكّد التاريخ الهجري في كلّ يوم، فنسجّله في مذكّراتنا، ونؤرّخ به رسائلنا، ونثبّته في كلّ ما يحتاج إلى التّاريخ، فإنّ ذلك يجعلنا نعيش التاريخ الإسلامي منذ هجرة النبيّ(ص)، وكيف انطلقت الهجرة، وكيف عاشها المصطفى(ص)، وكيف كانت مرحلة الدّعوة قبل الهجرة وبعدها، ثم كيف تحرّك المسلمون إلى العالم، وكيف كانت الفتوحات والانتصارات والتّعقيدات الداخليّة السياسيّة منها أو الثقافية أو الأمنية، وكيف واجه المسلمون التحدّيات، فإنّك وأنتَ تعيش التاريخ الهجريّ، إنّما تعيش تاريخك وأصالتك، وأنّك جزء من هذا التاريخ، وأنّك يمكن أن تشارك في صنعه كما شارك الآخرون في صناعته أيضاً. فللتّاريخ الهجريّ في بعده الإسلامي معنى يتّصل بتركيز الأصالة في كياننا ووجودنا، ويتَّصل كذلك بحركة الأمَّة في هذا التاريخ، وبمسؤوليّتنا قبال هذا التاريخ، بحسب ما نملك من جهد وطاقة.

فإذا كان الواقع الّذي نعيش فيه واقعاً يسيطر فيه الاستكبار العالمي الّذي فرض علينا التاريخ الميلادي، فلا بدَّ من أن نضع التأريخ الهجري إلى جانب التأريخ الميلادي. وإذا أمكن أن نضعه جنباً إلى جنب مع الميلاديّ، كما نقول ـــ أحياناً ـــ التأريخ الهجري (كذا) الموافق للتأريخ الميلادي (كذا)، لأنّ أيّة أُمّة لا تحترم تأريخها، هي أمّة لا تحترم أصالتها ولا تحترم حركيّتها ووجودها. فعندما نستعير التّأريخ من غيرنا، فماذا يبقى لنا يا ترى، ذلك أنّ للآخرين تأريخهم، وقد نلتقي معهم في هذا التأريخ، ولنا تأريخنا وعلينا أن نؤكّده. لأنَّ هذا يمثّل نوعاً من الهزيمة النفسية والحضارية والإسلامية أمام الآخرين. والمؤسف أنَّ الكثير من المسلمين لا يتذكّرون التاريخ الإسلامي كما ينبغي، حتى إنّك إذا سألتهم ما هو التاريخ الهجري اليوم، فإنّهم لا يعرفون ذلك.

كيف نستقبل السنة الجديدة؟

وثمّة نقطة أخرى، وهي أنّ علينا أن لا نستقبل رأس السنة بالطريقة التي يستقبل بها العالم الوثني رأس السنة، فهي عملية تغييب للعقل بما يمارسه البعض من السِّكر واللّهو والفجور والعبث، فلنتأمّل المسألة جيّداً، فأن تموت سنة من عمرك، يعني أنّ قطعةً من عمرك دخلت في حسابك أمام الله، فلا تدري ما صنعت فيها من خير أو شرّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}(1)، فعندما تغيب سنة 1996م، أو سنة هـ،ـ فعليك أن تعرف أنّ ملفّ هذه السنة قد أغلق ودخلت في كتابك وستدعى إلى أن تقرأ كتابك، وقد يكون خيراً وقد يكون شرّاً، فلا بدَّ من أن تفكّر فيما قدّمت لغد من خلال سنتك هذه.

وبعد أن تغلق حسابات السّنة المنصرفة، ليفتح حساب السّنة القادمة، فكّر فيما أنت صانع فيه، فإنْ كنتَ قد عملت خيراً، فاطلب من الله أن يوفِّقك لخير جديد، وإنْ كنت عملت شرّاً، فكّر أن تستغفر ربّك وتتوب إليه، وأن تغيّر مسيرتك من الشرّ إلى الخير. فبداية الزمن إذاً، تفرض عليك التأمّل في حساب الأرباح والخسائر. أما نظرت إلى المصارف والشّركات في العالَم كيف تجمِّد كلّ أعمالها قبل بداية السّنة وبعد بدايتها بأيّام، لأنّها تقوم بعمليّة جرد وإحصاء للأرباح والخسائر، وقد تخسر ماديّاً وقد تربح، والخاسر الأكبر من يخسر نفسه {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1).

فعندما تموت قطعة من عمرك، فعليك أن تعرف أنّها هربت منك ولن تعود، فليكن حزنك إيجابياً عليها، وعندما تبدأ سنة، اِفرح، لأنّ الله أبقاك إلى هذه السّنة، واشكر ربّك على ذلك، وقل كما قال الإمام زين العابدين(ع) وهو يستقبل بداية يومه، ولا فرق بين بداية اليوم وبداية الأسبوع والشّهر والسّنة: "اللّهمّ وهذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنّا ودّعنا بحمد، وإنْ أسأنا فارقنا بذمّ. اللّهمّ ارزقنا حسن مصاحبته، واعصمنا من سوء مفارقته، بارتكاب جريرة، أو اقتراف صغيرة أو كبيرة، وأجزل لنا فيه من الحسنات، وأخلنا فيه من السيّئات، واملأ لنا ما بين طرفيه حمداً وشكراً وأجراً وذخراً وفضلاً وإحساناً".

فلنفرح ـــ أيّها الأحبّة ـــ فرح المسؤوليّة، وليكن فرحنا فرح الرّوح التي تريد أن تصفو وتنقّى وتحلّق في آفاق الله، وليكن فرحنا فرح الإنسان الّذي يريد أن يجعل من سنته سنة خير وحريّة واستقلال وعدالة.. وليكن فرحنا مع المستضعفين فرح الحقّ كلّه والعدل كلّه والمسؤوليّة كلّها {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2).

والحمد لله ربِّ العالمين.

[فكر وثقافة، ج2، المحاضرة الثّامنة والعشرون، بتاريخ: 28/12/1996].


(1) البحار، ج: 36، باب: 41، ص 174.

(2) البحار، ج: 37، باب: 49، ص 275.

(1) سورة المائدة، الآية: 8.

(2) سورة النحل، الآية: 90.

(3) سورة الأنعام، الآية: 152.

(4) سورة النساء، الآية: 135.

(5) سورة الحديد، الآية: 25.

(1) سورة الحشر، الآية: 18.

(1) سورة الزمر، الآية: 15.

(2) سورة التوبة، الآية: 105.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير