عاشوراء: حركة الإصلاح في الأمّة

عاشوراء: حركة الإصلاح في الأمّة

ما هي الصّورة الّتي نتمثّلها في الإمام الحسين(ع)؟

هل هي صورة الثّائر؛ ليكون الحسين(ع) كلّه حركة ثورة تأخذ بعدها السياسيّ في المرحلة التي عاشها ضدّ الحكم الأمويّ؟

هل صورته هي صورة الإنسان الّذي يحرّك العنف في مواجهة الانحراف، بحيث يرى أنّ العنف هو الوسيلة الّتي يمكن أن تحلّ المشكلة ولا وسيلة غيرها؟

هل إنّ صورة الإمام الحسين(ع) تختصرها كربلاء، لنحبسه(ع) في أجواء أحداث كربلاء فيما نتمثّله من عناصر شخصيّته؟

وهل للحسين(ع) في خطوطه الفكريّة والسياسيّة خصوصيّة خاصّة تختلف عن الخطّ العام للمنهج الفكريّ للإسلام؟

هذه علامات استفهام لا بدَّ من أن نجيب عنها.

أبعاد شخصيّة الإمام الحسين(ع)

فعندما ندرس الإمام الحسين(ع) في تأريخه كلّه، نجد أنّ ما يختصر الحسين(ع) هو الإسلام، فليس لدى الحسين(ع) شيء في الفكر وفي السياسة وفي الحركة إلا الخطّ الإسلاميّ الأصيل، ولم تكن تطلّعاته تطلّعات إنسان يختصر الثّورة في مسألة القيادة، بل تتّسع نظرته إلى المجتمع كلّه، بحيث تكون القيادة مشكلة من بين مشاكل عديدة يعانيها المجتمع في انحراف تصوّره عن القيادة.

كان الحسين(ع) إماماً بكلّ ما تتّسع له كلمة الإمامة في أبعادها الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وكانت الثّورة الّتي قادها إحدى وسائل الدّعوة. ولو درسنا الإمام الحسين(ع) في أسلوبه العمليّ، فإنّنا نراه يتمثّل أسلوب رسول الله(ص). فقد انطلق(ص) بالدعوة والرفق والانفتاح والصبر والكلمة التي تفتح العقل من خلال عقله المفتوح، وتفتح القلب من خلال قلبه المفتوح، حتّى إذا فرضت عليه المعركة دخلها مكرهاً. ولا نقول إنّ المعركة استثناء، بل إنّ الأسلوب الإنسانيّ في حركة تركيز الواقع هو كالأسلوب الطبيعيّ تماماً، فكما أنّ هناك رياحاً هادئة وأخرى عاصفة، وأنّ هناك نهراً هادئاً وآخر هائجاً، كذلك هناك أسلوب يتحرّك في مواجهة المشكلة بهدوء وبرفق، وهناك أسلوب آخر يتحرّك بشدّة وبعنف.

ولم يكن الحسين(ع) إنسان العنف في حركته، ولكنّه واجه العنف الّذي فرض عليه بعنف في مستوى المشكلة. ولم يكن(ع) مجرّد ثائر يريد أن يسقط شخصاً، ولكنّه كان يريد أن يسقط واقعاً.. والشّخص جزء من الواقع، وهذا ما يجب أن نفهمه حتّى في مواقعنا السياسيّة، عندما يثور الناس على شخص طاغية أو ظالم أو مستكبر، فإنّهم قد يتصوّرون أنّ الشخص إذا سقط انحلّت المشكلة، ولكنّنا نعرف أنّ أيّ شخص يحكم، إنما ينطلق من ذهنيّة تتحرّك في المجتمع؛ تفرضه أو تتقبّله أو تحميه.

وهذا ما لاحظناه في تأريخنا المعاصر، فعندما كانت الثّورات أو الانقلابات تسقط شخصاً، فإنّنا نجد أنّ إسقاط الشخص لا يحلّ المشكلة، لأنّ هناك أنظمة وقواعد ومؤسّسات يمكن أن تواصل نهجه. ولذلك لا بدَّ لك من أن تدرس الساحة كلّها، لتدرس موقع الشخص من السّاحة، ومدى تأثيره في خلفيّات السّاحة، حتّى تعالج المشكلة بجميع أبعادها.

صورة الحسين(ع) في النّصوص

ولكنّ مشكلتنا ـ أيّها الأحبّة ـ نحن الشرقيّين، ولا أقول العرب فحسب، أنّنا نحدّق بالبطل ولا نحدّق بالبطولة، وأننا نواجه الشخص ولا نواجه عناصر الشخصية أو عناصر القوّة. وعندما نريد أن ندرس النصوص التي وردت في كلمات الإمام الحسين(ع) على ضوء هذه الحقائق، فكيف يمكن أن نتمثّلها؟

النصّ الأوّل: وهو النصّ الذي تحدّث فيه عن الخطّ الإسلاميّ للقيادة في عناصرها السلبيّة، ولم يتحدّث عن خصوصيّة الشخص، ولكن عن خصوصيّة الخطّ الّذي يمثّله الشخص، حيث يقول: "أيّها النّاس: إنّ رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباده بالإثم والعدوان ـ فهو(ع) قد ركّز هنا على العناصر السلبيّة في الشخص القائد الّذي فرض قيادته على الواقع من خلال طبيعة الخطوط التي يتمثّلها الموقع في موقع النّاس منه أو في موقعه من النّاس ـ "فلم يُغِر عليه ـ أو فلم يغيّر ما عليه ـ بقول ولا بفعل، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله".

وعندما تحدّث(ع) عن موقفه من الانحراف، فإنه تحدّث عن الواقع، وعن النظام وأجهزته، وعن الذين يتحرّكون في خطوط فرض النظام: "ألا وإنّ هؤلاء القوم قد تركوا طاعة الرّحمن، ولزموا طاعة الشّيطان، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، واستأثروا بالفيء، وعطّلوا الحدود، وأنا أحقّ من غيّر". فهو هنا يتحدّث عن الشّخص في سلوكه السلبيّ وحركة قيادته في الحكم، ثم يتحدّث عن المجتمع الّذي التقى مع هذا الشّخص على أن يكون الواقع واقعاً غير إسلاميّ، وقدّم نفسه على أنّه الشخص القادم للتّغيير، لا لتغيير الشّخص، ولكنّ لتغيير خطّ القيادة من خلال ما يجسّده الشخص من هذا الخطّ، وخطّ النّظام من خلال ما يجسّده المجتمع الّذي يوالي هذا الشخص في واقع النظام.

ومن خلال ذلك، نفهم ـ أيّها الأحبّة ـ أنّنا عندما نواجه أيّ طاغية، فإنّ علينا أن لا نستغرق في شخصه بعيداً عن التّأثيرات التي تركها في المجتمع، وعن الفريق الّذي يؤيّده ويدعمه، وعن المجتمع الذي انطلق ليسقط تحت تأثيره. فلا بدّ من دراسة هذه المسألة في حركة الإمام الحسين(ع)، لنستوحيها في الوعي السياسي في مواجهة الظلم والانحراف، بحيث نخطّط لرأس الهرم ولقاعدته، لا أن نخطّط للرّأس وننسى القاعدة، فقد ينهض الرّأس من القاعدة من جديد.

النّصّ الثّاني: وهو الّذي أشار فيه(ع) إلى المجتمع بقوله: "ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً". إنّه يتحدّث عن الواقع الذي كان يعيشه المجتمع الإسلامي آنذاك، فالباطل يمثل الظاهرة المستشرية الّتي لا تجد في المجتمع من يواجهها، لأنّ المجتمع كان منقسماً بين فريقين: فريق يؤيّد الباطل، وفريق يقف موقف الحياد بين الحقّ والباطل، ويعيش أجواء اللامبالاة، والنّتيجة في كِلا الفريقين واحدة؛ بين الّذي يؤيّد الباطل والّذي لا يؤيّد الحقّ ولا يواجه الباطل، كما قال الإمام عليّ(ع) عن بعض الّذين تخلّفوا عنه: "إنهم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل". وكأنّه أراد أن يقول إنّ مثل هؤلاء لا يملكون عذراً في موقفهم، لأنّ الباطل يستفيد من الحياديّين ممن يمنعون الحقّ قوّته، وكلّما ضعف الحقّ قوي الباطل.

إنّ مشكلتنا ـ أيّها الأحبّة ـ في مواجهة إسرائيل، ومع الاستكبار العالميّ، هي مشكلة الحياديّين واللامبالين والسّاكتين والأكثريّة الصّامتة، فليست (إسرائيل) هي الأقوى، ولكنّنا كنّا الأضعف، فاستفادت من عناصر ضعفنا، وليس الاستكبار هو الأقوى، فنحن نملك الكثير من العناصر التي نستطيع أن نضغط بها عليه، ولكنَّنا نقول:

ما علينا إن قضى الشّعب جميع أفلسـنا فـي أمــان؟!

ونقول: "اللّهمّ أعطنا خبزنا كفاف يومنا، ونجّنا من الشرّير". ونقول: استرنا واستر عيالنا ولا دخل لنا بالنَّاس الآخرين. ونقول: ما لنا وللدّخول بين السّلاطين... غير مدركين أنَّ هذه الذهنيّات هي الّتي أسقطت عنفوان الأمَّة كلّه، وجعلت الذلّ مقدَّساً، حتّى قال شاعر عربي وهو يصوّر التّلاعب بالألفاظ:

"تأنّـق الذّلّ حتـى صـار غفـراناً"

فالبعض يقول: إنما نحن نعفو ونغفر، والقضيّة في واقعها ليست عفواً ولا غفراناً، وإنما هي ذلّ أمام الظّالم، ولذلك ترانا نتلاعب بالألفاظ ونقنع أنفسنا بأنّها حقائق.

فعندما يتحدّث الإمام الحسين(ع) في قوله: "ليرغب المؤمن في لقاء ربه"، فهو لا يتحدّث عن يأس، ولكنّه يتحدّث عن مرارة لا تنطلق من حالة ذاتيّة في مشاعره إزاء الواقع، ولكنّها تنطلق من حالة رساليّة موضوعيّة في نقد الواقع الّذي انطلق رسول الله(ص) والمسلمون معه من أجل أن يتغيّر من واقع باطل إلى واقع حقّ، ومن واقع ظلم إلى واقع عدل. إنّ واقع المسلمين في عهد يزيد تحوّل إلى واقع جاهليّة مغلّفة بالإسلام، ولذا كان الإمام الحسين(ع) يقول: "لا أرى الموت إلا سعادة"، فمثل هذا الواقع هو واقع لا يجعل من الحياة حياةً يشعر الإنسان فيها بالسّعادة، لأنّ الحياة التي يشعر فيها الإنسان بالسعادة، هي الحياة التي تؤكّد الرسالة والقضية، وتؤصّل الإنسانيّة، وتجعل الحياة متحرّكة في خطّ العدل لا في خطّ الظلم، "والحياة مع الظّالمين إلا برماً". فلقد كان يريد أن يعبّر عن مشاعره تجاه الواقع، لا ليوحي لنفسه بالسّقوط أمام الواقع، ولكن كان يتحدّث مع الناس من أجل أن يقول لهم إنّ هذه الحياة التي تعيشونها وأنتم ساكتون، لحياةُ الموت أفضل منها، فهل تريدون أن تكونوا في حالة الموت؟! إنّ على الإنسان أن يحبّ الحياة العزيزة والكريمة والرساليّة. ألا يقول ذلك الشّاعر:

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميـت الأحيـاء

إنّما الميـت من يعيش كئيب كاسفاً بالـه قليل الرّجـاء

وأمّا النصّ الثّالث، فهو في نطاق حديثٍ للإمام الحسين(ع) يقول فيه: "اتخذوا مال الله دولاً"، فالإمام(ع) يصوّر المشكلة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة في حركة النظام آنذاك. فمال الله تعالى هو مال الأمّة، ولعلّ كلمة (مال الله) تعطي معنى أكثر تأثيراً من كلمة مال الأمّة، فالله تعالى هو ربّنا، وهو خالقنا، وهو المهيمن على الأمر كلّه، وهو الجبّار القادر القاهر فوق عباده. فإذا كان المال ماله، فليس لك أن تسرق ماله، وليس لك أن تتصرّف بماله كيفما تشاء إلا بإذنه، ولذلك لا يجوز أن يعبث العابثون بمال الله، وقد تزوّر الأمّة فتعطيك شرعيّة أن تتصرّف بمالها كيفما كان، لأنها قد تُخدع وقد تُغشّ. فمال الله هو المال الّذي لا بدَّ من أن يعطيك الله شرعيّة إنفاقه والتصرّف فيه، وإلا فهو غصب وسحت وسرقة وعدوان {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ]}[1].

"وعباده خولاً"، فبعد التّلاعب بأموال الله، أموال الأمّة، يلجأ الطّغاة إلى تحويل النّاس إلى عبيد، فليس من حقّهم أن يأخذوا حريّتهم في أن يفكّروا بالطّريقة الّتي تحلو لهم، أو في أن يعبّروا عن الرّأي الّذي يؤمنون به، أي أن يكون كلّ واحد منهم عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء.

فالإمام الحسين(ع) في هاتين الفقرتين، عبّر عن طبيعة الانحراف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في طريقة التعامل بالميزانيّة العامّة، وفي طريقة التعامل مع الشعب، حيث إنّهم اختصروا الشّعب في أشخاصهم. فالإمام(ع) كان يركّز على المسألة الاجتماعيّة، لأنها المشكلة الكبرى، وكان يحاول أن ينقد النظام الفاسد المنحرف، ويعطي النّاس الصّورة العامّة للنظام، حتى يتحرّك الناس ضدّ ذلك الواقع، من أجل أن يوجد تعبئة شعبيّة تعمل لمصلحة حركته.

ولذا، فإننا عندما نقرأ رسائل الإمام الحسين(ع) لأهل الكوفة والبصرة، نجده يركّز على الجوانب الروحيّة، إذا صحّ التّعبير.

والنصّ الرّابع: عندما قال(ع) كلمته المشهورة: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليَّ أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين".

فهذه الكلمة المعبّرة عن هدف النهضة الحسينيّة، تعطينا عدّة مفاهيم، فهي تقول لنا إنّ أيّة ثورة في موقع أيّ ثائر، يجب أن لا تنطلق من عقدة ذاتيّة أو فئويّة، لأنّ النّاس ليسوا حقلاً لتجارب ذاتك، وليسوا ساحة لتنفيس عقدة شخصانيّتك، أو عقدة شخصانيّة حزبك، أو عقدة شخصانيّة عائلتك، وحدها الرّسالة هي اّلي تتّصل بمستقبل النّاس وحياتهم، وهي التي تعطيك شرعيّة إطلاق الحركة والتّخطيط للثّورة، لأنّك بذلك ترتفع بمستوى النّاس، وتنقذهم من الواقع الّذي يعيشون فيه، فلا بدّ لأيّ ثائر من أن يدرس كلّ عناصر ثورته، فلا يكون فيها ظلم لأحد، ولا إفساد للواقع، ولا تنفيس عن عقدة.

إنّ الحسين(ع) ربّما كان يشير إلى الّذين يتحرّكون على طريقة "قم لأجلس مكانك"، من دون قضيّة ورسالة، أو الّذين يتحرّكون لينشروا الفوضى من دون خطّة، أو من دون دراسة لواقعيّة الخطوات الّتي يخطونها.

"لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً"، فأنا ـ وهذا هو لسان حال الإمام(ع) ـ لا أبحث عن ذاتي في خروجي هذا، ولا أعيش حياة البطر في ذلك، ولست ظالماً لأحد، حتّى إنّي عندما أثور على الظّالم، فإني أريد أن أنقذه من ظلمه لإصلاحه، "ولا مفسداً"، لأنّ ما أفكّر فيه، هو أن ترجع الأمّة إلى الصّراط المستقيم، " وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي".

فهاتان الكلمتان (الإصلاح) و(أمّة جدّي) تعطياننا فكرتين: الفكرة الأولى، وهي أنّ الإمام الحسين(ع) عندما انطلق، درس الواقع الإسلامي كله، فلقد درس المسألة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، لأنه عندما يتحدّث عن الإصلاح في الأمّة، فمعنى ذلك أن هناك خللاً وفساداً في واقع الأمّة، وعندما لم يشر إلى موقع معيّن من الفساد، فإنّ معنى ذلك أنّه يتحدّث عن فساد شامل يراد من خلاله إيجاد إصلاح شامل.

مهمّة الإصلاح

وهذا مما ينبغي لنا أن نستوحيه في حياتنا كلّها، لأنّه ليس هناك في الأمّة شخص خارج المسؤوليّة، فلكلّ شخص منا طاقة، ولكلّ منا موقع، وإذا كانت طاقتك أو موقعك لا يسمح لك بأن تغيّر الواقع من خلاله، فإنّك تستطيع أن تضمّ طاقاتك إلى طاقة الآخرين، وأن تقارب بين موقعك ومواقع الآخرين، ذلك أنّ أوّل شرط للمسؤوليّة، هو وعي الواقع، وأن لا تكون لدينا أميّة سياسيّة، فقد نكون متعلّمين إلى مستوى الجامعة، ولكنّ مشكلتنا هي هذه الأميّة السياسيّة الّتي هي من أخطر ألوان الأميّات، فنحن ـ للأسف ـ لا نملك وعياً سياسيّاً شاملاً، فأين هي ثقافتنا في مشاكل الأمّة الاقتصاديّة؟ وما هي خلفيّات هذه المشكلة؛ هل هي محليّة أو إقليميّة أو دوليّة؟ وعندما ندرس الواقع السياسيّ والمشاكل السياسيّة في العالم الإسلاميّ، لا نعرف هل إنّها مشاكل محليّة أو إقليميّة أو مشكلة استكبار عالميّ؟ هل هي مشكلة رأس الهرم أو هي مشكلة قاعدة الهرم؟ أيّ وعي سياسيّ نملكه؟

إنّنا نسمع في كلّ يوم نشرة أخبار أو أكثر من نشرة، ونقرأ أكثر من صحيفة، ولكنّنا نستهلك السياسة كما نستهلك الطّعام، فنحن نأكل الطّعام من دون أن نعرف مكوّناته، ولا سيّما أنّ الطّعام أصبح معلّباً، والسياسة معلّبة، والاقتصاد معلّباً، ويحدّثونك عن السّموم في العلب الغذائيّة، وما في العلب الأخرى أخطر وأخطر! فنحن شعب لا يطيق أن يكون منتجاً، بل يعمل على أن يكون مستهلكاً؛ نستهلك الفكر الّذي يقدّم إلينا، ونستهلك الإشاعات الّتي تطلق بيننا، ونستهلك التخلّف الّذي يفرض علينا، ونستهلك السياسة والسياسيّين، ونستهلك الاقتصاد، ونستهلك الثّقافة وما إلى ذلك.

إنّ مشكلتنا هي أنّنا نقول للآخرين فكّروا لنا، ولا نقول لهم فكّروا معنا، فنحن نعيش في مرحلة غسل الأدمغة بالفضائيات والصحف والخطابات الاستهلاكيّة، ومشكلتنا هي أننا نستهلك ذلك كلّه، حتّى أصبحت صورتنا مشوّهة من النواحي الفكرية والروحية والحركية ونفتقر إلى الوعي. من منّا يعرف نفسه؟ دلّوني؟ هل تستطيعون أن تتحدّثوا عن أنفسكم بتفصيل؟

إنّ الإمام الحسين(ع) يوحي إلينا بأنَّ علينا أن ندرس مشاكل المجتمع لنعرف كيف نشارك المصلحين في إصلاحه، لأنّنا لم ندرس عمق الفساد فيه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}[2]. فكم من الّذين يدّعون الإصلاح يعمّقون الفساد في الواقع {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}[3]. ولا نشعر نحن بهم في هذا المجال.

فلا بدّّ من أن يكون لدينا الوعي السياسي إلى جانب الوعي الثقافيّ وإلى جانب الوعي الاجتماعيّ، فلا يقولنّ أحد: أنا لا أملك أن أتثقّف، فلدينا الكثير من أوقات الفراغ الّتي نصرفها بدون معنى وفائدة، ولننظر إلى الأمم الأخرى الّتي تحاسب وتراقب وتسقط وترفع، لنرى كيف تواجه الواقع السياسي الّذي هو واقع حياتها، وكذلك كيف تواجه الواقع الاجتماعي والاقتصادي من موقع وعيها لكلّ واقعها.

العمل بحجم الأمّة

وأمّا الكلمة الأخرى: (أمّة جدي)، فالحسين(ع) لم يتحدّث عن الأمّة المدنيّة، أو عن الأمّة العراقية أو الحجازية، بل كان يتحدّث عن حجم الأمّة كلّها؛ أمّة جده، أمّة الإسلام، من أجل أن يقول لنا إنّ الرساليّين قد يحتاجون إلى أن يعالجوا مشاكل منطقة معيّنة، لكن من دون أن يحبسوا حركتهم في داخل منطقتهم. {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[4]، ولكن عندما تعيش روحيّة الأمّة، فإنك سوف تحرّك خطوطك في موقع من مواقع الأمّة بعقليّة الأمّة، لا بالعقليّة المحليّة أو الإقليميّة.

والشّيء نفسه يقال في الخطوط الإسلاميّة للحركة، كما لو أن يتحوّل الإسلاميّ الّذي يتحرّك في منطقة عمله، إلى شخص يتعصّب لمنطقته في قبال منطقة أخرى، فلسنا مستعدّين ـ وأنا أتحدّث عن ظاهرة ـ أن نناقش المسائل من خلال وجهة نظر الأمّة، فعندما حصلت اتفاقيّة سايكس ـ بيكو، وقسّمت العالم الإسلامي والعربي إلى دول وإقطاعيّات، أصبحنا نخلص لبنود هذه الاتفاقيّة أكثر مما نخلص لما نؤمن به من التزامات الخطّ الإسلامي.

لذلك فالحسين(ع) يريد أن يوحي إلينا بالتفكير في الأمّة، وهي أمّة الرسول(ص) أينما كان امتدادها، وشخصيّة الأمّة تمثّلها كلمة النبيّ(ص): "من لَم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم".

"أمّة جدّي".. هل نعيش هذه الرّوح؟!

"فمن قبلني بقبول الحق"، لأنني أدعو إلى الحقّ، "فالله أولى بالحقّ". فعلى الملتحق بي أن لا يتحرّك على أساس أن يحمّلني جميلاً بذلك، فما دام ارتبط بالحقّ، فعليه أن يعرف أنّ ارتباطه هو بالله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[5].

"ومن ردّ عليّ أصبر"، كما صبر النبيّ(ص): {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[6]، "حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين".

درس عاشوراء

كان الإمام الحسين(ع) ثائراً في أسلوب داعية، وكان داعية في خطّ التّغيير، ولكن متى بدأ الحسين(ع) العنف؟ عندما قيل له: انزل على حكم يزيد وابن زياد، عند ذلك قال كلمته: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ إقرار العبيد". فعندما فرضوا عليه العنف، فإنّه لم يجد بدّاً من أن يواجه العنف بالعنف. فعلينا أن نفهم الحسين(ع) بكلّه، بصفته إماماً، وللإمامة امتداد يتسع لكلّ ما تتّسع له النبوّة ما عدا النبوّة: "يا عليّ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبيّ بعدي".

لننطلق مع الإمام الحسين(ع) في شخصيّة الإمامة، فثورته حركة في خطّ إمامته، ودعوته حركة في خطّ إمامته، وأخلاقه ووسائله وغاياته وعلمه وشجاعته وصبره.. كلّ ذلك كان في خطّ إمامته. لذلك لا تغرقوا الحسين(ع) في بحار الدّموع الّتي تبكي المأساة، ابكوه من خلال عمق معنى الإنسانيّة في المأساة، احتجّوا على الذين صنعوا المأساة في كربلاء، ليتحوّل احتجاجكم إلى احتجاج ضدّ كلّ الّذين يصنعون مأساة المستضعفين في العالم، لا أن نبكي ونلطم على الحسين(ع) في كربلاء، ونلعن الذين صنعوا المأساة، ثم نخضع لألف يزيد ويزيد، ولكلّ الّذين يسرقون الأمّة ويصادرونها.

أيّها الأحبّة، كانت كربلاء المنطلق ولم تكن النّهاية، ونريد لها أن تتحرّك في حياتنا من خلال حركتها في وعينا، أمّا أن ننظر إلى كربلاء في التّأريخ في سنة61هـ، فذلك لا يكلّفنا شيئاً سوى مقدار من الدّموع والشكليّات، وفي كلّ يوم ننتج ألعوبة جديدة تستهلك الزّخم الجماهيريّ في الأساليب الّتي لا توظّف طاقة الأمّة في خدمة أهدافها، بل تصرفها عنها، وتوحي إليها أنّ هذه هي مسؤوليّتها!

أيّها الأحبّة، حدّثوا الناس بكربلاء الحقّ، ولا تضيفوا إلى الحقّ شيئاً من الباطل، وحدّثوا النّاس بكربلاء القضيّة، ولا تقتصروا على كربلاء المأساة. ولقد أدّى الإمام الحسين(ع) والصّفوة من أهل بيته وأصحابه واجبهم ومسؤوليّتهم في خطّ الرّسالة، ولنا أكثر من قضية في حجم العالم الإسلامي، ولنا أكثر من مأساة، ويوجد أكثر من يزيد يقتل النفس المحترمة، ونحن ما زلنا نتناقش في الهوامش وفي جنس الملائكة، ولو أردنا أن ندرس كلّ ما نتناقش فيه، لرأينا أنّه مجرّد هواء في شبك، وليس شيئاً يتّصل بعقيدتنا ولا بشريعتنا ولا بحياتنا، ولكن ماذا نصنع بالّذين يفرضون التخلّف على الأمّة باسم الدّين وبأسماء أخرى؟!

أيّها الأحبّة، اخرجوا من المأساة كهدف إلى القضيّة، واخرجوا من الماضي إلى المستقبل، فقيمة الماضي حدّدها القرآن {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[7]. فلنأخذ العبرة، ولنتحمّل مسؤوليّتنا في المستقبل. الخطوة الأولى في الألف ميل هل نخطوها، أم نظلّ كما قال ذلك الشّاعر:

ونبقى نلفّ ونبقى ندور ونحن نفـتّش عـن قافيـة

ألا قتل الضّعـف فين فقد أضاع الرعيّة والراعية

المصدر : ندوة الشام الأسبوعيّة


[1] ـ [يونس:95].

[2] ـ [البقرة:11].

[3] ـ [البقرة:12].

[4] ـ [البقرة:286].

[5] ـ [الحجّ: 62].

[6] ـ [الأحقاف: 35].

[7]ـ [يوسف: 111].

ما هي الصّورة الّتي نتمثّلها في الإمام الحسين(ع)؟

هل هي صورة الثّائر؛ ليكون الحسين(ع) كلّه حركة ثورة تأخذ بعدها السياسيّ في المرحلة التي عاشها ضدّ الحكم الأمويّ؟

هل صورته هي صورة الإنسان الّذي يحرّك العنف في مواجهة الانحراف، بحيث يرى أنّ العنف هو الوسيلة الّتي يمكن أن تحلّ المشكلة ولا وسيلة غيرها؟

هل إنّ صورة الإمام الحسين(ع) تختصرها كربلاء، لنحبسه(ع) في أجواء أحداث كربلاء فيما نتمثّله من عناصر شخصيّته؟

وهل للحسين(ع) في خطوطه الفكريّة والسياسيّة خصوصيّة خاصّة تختلف عن الخطّ العام للمنهج الفكريّ للإسلام؟

هذه علامات استفهام لا بدَّ من أن نجيب عنها.

أبعاد شخصيّة الإمام الحسين(ع)

فعندما ندرس الإمام الحسين(ع) في تأريخه كلّه، نجد أنّ ما يختصر الحسين(ع) هو الإسلام، فليس لدى الحسين(ع) شيء في الفكر وفي السياسة وفي الحركة إلا الخطّ الإسلاميّ الأصيل، ولم تكن تطلّعاته تطلّعات إنسان يختصر الثّورة في مسألة القيادة، بل تتّسع نظرته إلى المجتمع كلّه، بحيث تكون القيادة مشكلة من بين مشاكل عديدة يعانيها المجتمع في انحراف تصوّره عن القيادة.

كان الحسين(ع) إماماً بكلّ ما تتّسع له كلمة الإمامة في أبعادها الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وكانت الثّورة الّتي قادها إحدى وسائل الدّعوة. ولو درسنا الإمام الحسين(ع) في أسلوبه العمليّ، فإنّنا نراه يتمثّل أسلوب رسول الله(ص). فقد انطلق(ص) بالدعوة والرفق والانفتاح والصبر والكلمة التي تفتح العقل من خلال عقله المفتوح، وتفتح القلب من خلال قلبه المفتوح، حتّى إذا فرضت عليه المعركة دخلها مكرهاً. ولا نقول إنّ المعركة استثناء، بل إنّ الأسلوب الإنسانيّ في حركة تركيز الواقع هو كالأسلوب الطبيعيّ تماماً، فكما أنّ هناك رياحاً هادئة وأخرى عاصفة، وأنّ هناك نهراً هادئاً وآخر هائجاً، كذلك هناك أسلوب يتحرّك في مواجهة المشكلة بهدوء وبرفق، وهناك أسلوب آخر يتحرّك بشدّة وبعنف.

ولم يكن الحسين(ع) إنسان العنف في حركته، ولكنّه واجه العنف الّذي فرض عليه بعنف في مستوى المشكلة. ولم يكن(ع) مجرّد ثائر يريد أن يسقط شخصاً، ولكنّه كان يريد أن يسقط واقعاً.. والشّخص جزء من الواقع، وهذا ما يجب أن نفهمه حتّى في مواقعنا السياسيّة، عندما يثور الناس على شخص طاغية أو ظالم أو مستكبر، فإنّهم قد يتصوّرون أنّ الشخص إذا سقط انحلّت المشكلة، ولكنّنا نعرف أنّ أيّ شخص يحكم، إنما ينطلق من ذهنيّة تتحرّك في المجتمع؛ تفرضه أو تتقبّله أو تحميه.

وهذا ما لاحظناه في تأريخنا المعاصر، فعندما كانت الثّورات أو الانقلابات تسقط شخصاً، فإنّنا نجد أنّ إسقاط الشخص لا يحلّ المشكلة، لأنّ هناك أنظمة وقواعد ومؤسّسات يمكن أن تواصل نهجه. ولذلك لا بدَّ لك من أن تدرس الساحة كلّها، لتدرس موقع الشخص من السّاحة، ومدى تأثيره في خلفيّات السّاحة، حتّى تعالج المشكلة بجميع أبعادها.

صورة الحسين(ع) في النّصوص

ولكنّ مشكلتنا ـ أيّها الأحبّة ـ نحن الشرقيّين، ولا أقول العرب فحسب، أنّنا نحدّق بالبطل ولا نحدّق بالبطولة، وأننا نواجه الشخص ولا نواجه عناصر الشخصية أو عناصر القوّة. وعندما نريد أن ندرس النصوص التي وردت في كلمات الإمام الحسين(ع) على ضوء هذه الحقائق، فكيف يمكن أن نتمثّلها؟

النصّ الأوّل: وهو النصّ الذي تحدّث فيه عن الخطّ الإسلاميّ للقيادة في عناصرها السلبيّة، ولم يتحدّث عن خصوصيّة الشخص، ولكن عن خصوصيّة الخطّ الّذي يمثّله الشخص، حيث يقول: "أيّها النّاس: إنّ رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباده بالإثم والعدوان ـ فهو(ع) قد ركّز هنا على العناصر السلبيّة في الشخص القائد الّذي فرض قيادته على الواقع من خلال طبيعة الخطوط التي يتمثّلها الموقع في موقع النّاس منه أو في موقعه من النّاس ـ "فلم يُغِر عليه ـ أو فلم يغيّر ما عليه ـ بقول ولا بفعل، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله".

وعندما تحدّث(ع) عن موقفه من الانحراف، فإنه تحدّث عن الواقع، وعن النظام وأجهزته، وعن الذين يتحرّكون في خطوط فرض النظام: "ألا وإنّ هؤلاء القوم قد تركوا طاعة الرّحمن، ولزموا طاعة الشّيطان، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، واستأثروا بالفيء، وعطّلوا الحدود، وأنا أحقّ من غيّر". فهو هنا يتحدّث عن الشّخص في سلوكه السلبيّ وحركة قيادته في الحكم، ثم يتحدّث عن المجتمع الّذي التقى مع هذا الشّخص على أن يكون الواقع واقعاً غير إسلاميّ، وقدّم نفسه على أنّه الشخص القادم للتّغيير، لا لتغيير الشّخص، ولكنّ لتغيير خطّ القيادة من خلال ما يجسّده الشخص من هذا الخطّ، وخطّ النّظام من خلال ما يجسّده المجتمع الّذي يوالي هذا الشخص في واقع النظام.

ومن خلال ذلك، نفهم ـ أيّها الأحبّة ـ أنّنا عندما نواجه أيّ طاغية، فإنّ علينا أن لا نستغرق في شخصه بعيداً عن التّأثيرات التي تركها في المجتمع، وعن الفريق الّذي يؤيّده ويدعمه، وعن المجتمع الذي انطلق ليسقط تحت تأثيره. فلا بدّ من دراسة هذه المسألة في حركة الإمام الحسين(ع)، لنستوحيها في الوعي السياسي في مواجهة الظلم والانحراف، بحيث نخطّط لرأس الهرم ولقاعدته، لا أن نخطّط للرّأس وننسى القاعدة، فقد ينهض الرّأس من القاعدة من جديد.

النّصّ الثّاني: وهو الّذي أشار فيه(ع) إلى المجتمع بقوله: "ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً". إنّه يتحدّث عن الواقع الذي كان يعيشه المجتمع الإسلامي آنذاك، فالباطل يمثل الظاهرة المستشرية الّتي لا تجد في المجتمع من يواجهها، لأنّ المجتمع كان منقسماً بين فريقين: فريق يؤيّد الباطل، وفريق يقف موقف الحياد بين الحقّ والباطل، ويعيش أجواء اللامبالاة، والنّتيجة في كِلا الفريقين واحدة؛ بين الّذي يؤيّد الباطل والّذي لا يؤيّد الحقّ ولا يواجه الباطل، كما قال الإمام عليّ(ع) عن بعض الّذين تخلّفوا عنه: "إنهم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل". وكأنّه أراد أن يقول إنّ مثل هؤلاء لا يملكون عذراً في موقفهم، لأنّ الباطل يستفيد من الحياديّين ممن يمنعون الحقّ قوّته، وكلّما ضعف الحقّ قوي الباطل.

إنّ مشكلتنا ـ أيّها الأحبّة ـ في مواجهة إسرائيل، ومع الاستكبار العالميّ، هي مشكلة الحياديّين واللامبالين والسّاكتين والأكثريّة الصّامتة، فليست (إسرائيل) هي الأقوى، ولكنّنا كنّا الأضعف، فاستفادت من عناصر ضعفنا، وليس الاستكبار هو الأقوى، فنحن نملك الكثير من العناصر التي نستطيع أن نضغط بها عليه، ولكنَّنا نقول:

ما علينا إن قضى الشّعب جميع أفلسـنا فـي أمــان؟!

ونقول: "اللّهمّ أعطنا خبزنا كفاف يومنا، ونجّنا من الشرّير". ونقول: استرنا واستر عيالنا ولا دخل لنا بالنَّاس الآخرين. ونقول: ما لنا وللدّخول بين السّلاطين... غير مدركين أنَّ هذه الذهنيّات هي الّتي أسقطت عنفوان الأمَّة كلّه، وجعلت الذلّ مقدَّساً، حتّى قال شاعر عربي وهو يصوّر التّلاعب بالألفاظ:

"تأنّـق الذّلّ حتـى صـار غفـراناً"

فالبعض يقول: إنما نحن نعفو ونغفر، والقضيّة في واقعها ليست عفواً ولا غفراناً، وإنما هي ذلّ أمام الظّالم، ولذلك ترانا نتلاعب بالألفاظ ونقنع أنفسنا بأنّها حقائق.

فعندما يتحدّث الإمام الحسين(ع) في قوله: "ليرغب المؤمن في لقاء ربه"، فهو لا يتحدّث عن يأس، ولكنّه يتحدّث عن مرارة لا تنطلق من حالة ذاتيّة في مشاعره إزاء الواقع، ولكنّها تنطلق من حالة رساليّة موضوعيّة في نقد الواقع الّذي انطلق رسول الله(ص) والمسلمون معه من أجل أن يتغيّر من واقع باطل إلى واقع حقّ، ومن واقع ظلم إلى واقع عدل. إنّ واقع المسلمين في عهد يزيد تحوّل إلى واقع جاهليّة مغلّفة بالإسلام، ولذا كان الإمام الحسين(ع) يقول: "لا أرى الموت إلا سعادة"، فمثل هذا الواقع هو واقع لا يجعل من الحياة حياةً يشعر الإنسان فيها بالسّعادة، لأنّ الحياة التي يشعر فيها الإنسان بالسعادة، هي الحياة التي تؤكّد الرسالة والقضية، وتؤصّل الإنسانيّة، وتجعل الحياة متحرّكة في خطّ العدل لا في خطّ الظلم، "والحياة مع الظّالمين إلا برماً". فلقد كان يريد أن يعبّر عن مشاعره تجاه الواقع، لا ليوحي لنفسه بالسّقوط أمام الواقع، ولكن كان يتحدّث مع الناس من أجل أن يقول لهم إنّ هذه الحياة التي تعيشونها وأنتم ساكتون، لحياةُ الموت أفضل منها، فهل تريدون أن تكونوا في حالة الموت؟! إنّ على الإنسان أن يحبّ الحياة العزيزة والكريمة والرساليّة. ألا يقول ذلك الشّاعر:

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميـت الأحيـاء

إنّما الميـت من يعيش كئيب كاسفاً بالـه قليل الرّجـاء

وأمّا النصّ الثّالث، فهو في نطاق حديثٍ للإمام الحسين(ع) يقول فيه: "اتخذوا مال الله دولاً"، فالإمام(ع) يصوّر المشكلة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة في حركة النظام آنذاك. فمال الله تعالى هو مال الأمّة، ولعلّ كلمة (مال الله) تعطي معنى أكثر تأثيراً من كلمة مال الأمّة، فالله تعالى هو ربّنا، وهو خالقنا، وهو المهيمن على الأمر كلّه، وهو الجبّار القادر القاهر فوق عباده. فإذا كان المال ماله، فليس لك أن تسرق ماله، وليس لك أن تتصرّف بماله كيفما تشاء إلا بإذنه، ولذلك لا يجوز أن يعبث العابثون بمال الله، وقد تزوّر الأمّة فتعطيك شرعيّة أن تتصرّف بمالها كيفما كان، لأنها قد تُخدع وقد تُغشّ. فمال الله هو المال الّذي لا بدَّ من أن يعطيك الله شرعيّة إنفاقه والتصرّف فيه، وإلا فهو غصب وسحت وسرقة وعدوان {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ]}[1].

"وعباده خولاً"، فبعد التّلاعب بأموال الله، أموال الأمّة، يلجأ الطّغاة إلى تحويل النّاس إلى عبيد، فليس من حقّهم أن يأخذوا حريّتهم في أن يفكّروا بالطّريقة الّتي تحلو لهم، أو في أن يعبّروا عن الرّأي الّذي يؤمنون به، أي أن يكون كلّ واحد منهم عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء.

فالإمام الحسين(ع) في هاتين الفقرتين، عبّر عن طبيعة الانحراف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في طريقة التعامل بالميزانيّة العامّة، وفي طريقة التعامل مع الشعب، حيث إنّهم اختصروا الشّعب في أشخاصهم. فالإمام(ع) كان يركّز على المسألة الاجتماعيّة، لأنها المشكلة الكبرى، وكان يحاول أن ينقد النظام الفاسد المنحرف، ويعطي النّاس الصّورة العامّة للنظام، حتى يتحرّك الناس ضدّ ذلك الواقع، من أجل أن يوجد تعبئة شعبيّة تعمل لمصلحة حركته.

ولذا، فإننا عندما نقرأ رسائل الإمام الحسين(ع) لأهل الكوفة والبصرة، نجده يركّز على الجوانب الروحيّة، إذا صحّ التّعبير.

والنصّ الرّابع: عندما قال(ع) كلمته المشهورة: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليَّ أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين".

فهذه الكلمة المعبّرة عن هدف النهضة الحسينيّة، تعطينا عدّة مفاهيم، فهي تقول لنا إنّ أيّة ثورة في موقع أيّ ثائر، يجب أن لا تنطلق من عقدة ذاتيّة أو فئويّة، لأنّ النّاس ليسوا حقلاً لتجارب ذاتك، وليسوا ساحة لتنفيس عقدة شخصانيّتك، أو عقدة شخصانيّة حزبك، أو عقدة شخصانيّة عائلتك، وحدها الرّسالة هي اّلي تتّصل بمستقبل النّاس وحياتهم، وهي التي تعطيك شرعيّة إطلاق الحركة والتّخطيط للثّورة، لأنّك بذلك ترتفع بمستوى النّاس، وتنقذهم من الواقع الّذي يعيشون فيه، فلا بدّ لأيّ ثائر من أن يدرس كلّ عناصر ثورته، فلا يكون فيها ظلم لأحد، ولا إفساد للواقع، ولا تنفيس عن عقدة.

إنّ الحسين(ع) ربّما كان يشير إلى الّذين يتحرّكون على طريقة "قم لأجلس مكانك"، من دون قضيّة ورسالة، أو الّذين يتحرّكون لينشروا الفوضى من دون خطّة، أو من دون دراسة لواقعيّة الخطوات الّتي يخطونها.

"لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً"، فأنا ـ وهذا هو لسان حال الإمام(ع) ـ لا أبحث عن ذاتي في خروجي هذا، ولا أعيش حياة البطر في ذلك، ولست ظالماً لأحد، حتّى إنّي عندما أثور على الظّالم، فإني أريد أن أنقذه من ظلمه لإصلاحه، "ولا مفسداً"، لأنّ ما أفكّر فيه، هو أن ترجع الأمّة إلى الصّراط المستقيم، " وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي".

فهاتان الكلمتان (الإصلاح) و(أمّة جدّي) تعطياننا فكرتين: الفكرة الأولى، وهي أنّ الإمام الحسين(ع) عندما انطلق، درس الواقع الإسلامي كله، فلقد درس المسألة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، لأنه عندما يتحدّث عن الإصلاح في الأمّة، فمعنى ذلك أن هناك خللاً وفساداً في واقع الأمّة، وعندما لم يشر إلى موقع معيّن من الفساد، فإنّ معنى ذلك أنّه يتحدّث عن فساد شامل يراد من خلاله إيجاد إصلاح شامل.

مهمّة الإصلاح

وهذا مما ينبغي لنا أن نستوحيه في حياتنا كلّها، لأنّه ليس هناك في الأمّة شخص خارج المسؤوليّة، فلكلّ شخص منا طاقة، ولكلّ منا موقع، وإذا كانت طاقتك أو موقعك لا يسمح لك بأن تغيّر الواقع من خلاله، فإنّك تستطيع أن تضمّ طاقاتك إلى طاقة الآخرين، وأن تقارب بين موقعك ومواقع الآخرين، ذلك أنّ أوّل شرط للمسؤوليّة، هو وعي الواقع، وأن لا تكون لدينا أميّة سياسيّة، فقد نكون متعلّمين إلى مستوى الجامعة، ولكنّ مشكلتنا هي هذه الأميّة السياسيّة الّتي هي من أخطر ألوان الأميّات، فنحن ـ للأسف ـ لا نملك وعياً سياسيّاً شاملاً، فأين هي ثقافتنا في مشاكل الأمّة الاقتصاديّة؟ وما هي خلفيّات هذه المشكلة؛ هل هي محليّة أو إقليميّة أو دوليّة؟ وعندما ندرس الواقع السياسيّ والمشاكل السياسيّة في العالم الإسلاميّ، لا نعرف هل إنّها مشاكل محليّة أو إقليميّة أو مشكلة استكبار عالميّ؟ هل هي مشكلة رأس الهرم أو هي مشكلة قاعدة الهرم؟ أيّ وعي سياسيّ نملكه؟

إنّنا نسمع في كلّ يوم نشرة أخبار أو أكثر من نشرة، ونقرأ أكثر من صحيفة، ولكنّنا نستهلك السياسة كما نستهلك الطّعام، فنحن نأكل الطّعام من دون أن نعرف مكوّناته، ولا سيّما أنّ الطّعام أصبح معلّباً، والسياسة معلّبة، والاقتصاد معلّباً، ويحدّثونك عن السّموم في العلب الغذائيّة، وما في العلب الأخرى أخطر وأخطر! فنحن شعب لا يطيق أن يكون منتجاً، بل يعمل على أن يكون مستهلكاً؛ نستهلك الفكر الّذي يقدّم إلينا، ونستهلك الإشاعات الّتي تطلق بيننا، ونستهلك التخلّف الّذي يفرض علينا، ونستهلك السياسة والسياسيّين، ونستهلك الاقتصاد، ونستهلك الثّقافة وما إلى ذلك.

إنّ مشكلتنا هي أنّنا نقول للآخرين فكّروا لنا، ولا نقول لهم فكّروا معنا، فنحن نعيش في مرحلة غسل الأدمغة بالفضائيات والصحف والخطابات الاستهلاكيّة، ومشكلتنا هي أننا نستهلك ذلك كلّه، حتّى أصبحت صورتنا مشوّهة من النواحي الفكرية والروحية والحركية ونفتقر إلى الوعي. من منّا يعرف نفسه؟ دلّوني؟ هل تستطيعون أن تتحدّثوا عن أنفسكم بتفصيل؟

إنّ الإمام الحسين(ع) يوحي إلينا بأنَّ علينا أن ندرس مشاكل المجتمع لنعرف كيف نشارك المصلحين في إصلاحه، لأنّنا لم ندرس عمق الفساد فيه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}[2]. فكم من الّذين يدّعون الإصلاح يعمّقون الفساد في الواقع {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}[3]. ولا نشعر نحن بهم في هذا المجال.

فلا بدّّ من أن يكون لدينا الوعي السياسي إلى جانب الوعي الثقافيّ وإلى جانب الوعي الاجتماعيّ، فلا يقولنّ أحد: أنا لا أملك أن أتثقّف، فلدينا الكثير من أوقات الفراغ الّتي نصرفها بدون معنى وفائدة، ولننظر إلى الأمم الأخرى الّتي تحاسب وتراقب وتسقط وترفع، لنرى كيف تواجه الواقع السياسي الّذي هو واقع حياتها، وكذلك كيف تواجه الواقع الاجتماعي والاقتصادي من موقع وعيها لكلّ واقعها.

العمل بحجم الأمّة

وأمّا الكلمة الأخرى: (أمّة جدي)، فالحسين(ع) لم يتحدّث عن الأمّة المدنيّة، أو عن الأمّة العراقية أو الحجازية، بل كان يتحدّث عن حجم الأمّة كلّها؛ أمّة جده، أمّة الإسلام، من أجل أن يقول لنا إنّ الرساليّين قد يحتاجون إلى أن يعالجوا مشاكل منطقة معيّنة، لكن من دون أن يحبسوا حركتهم في داخل منطقتهم. {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[4]، ولكن عندما تعيش روحيّة الأمّة، فإنك سوف تحرّك خطوطك في موقع من مواقع الأمّة بعقليّة الأمّة، لا بالعقليّة المحليّة أو الإقليميّة.

والشّيء نفسه يقال في الخطوط الإسلاميّة للحركة، كما لو أن يتحوّل الإسلاميّ الّذي يتحرّك في منطقة عمله، إلى شخص يتعصّب لمنطقته في قبال منطقة أخرى، فلسنا مستعدّين ـ وأنا أتحدّث عن ظاهرة ـ أن نناقش المسائل من خلال وجهة نظر الأمّة، فعندما حصلت اتفاقيّة سايكس ـ بيكو، وقسّمت العالم الإسلامي والعربي إلى دول وإقطاعيّات، أصبحنا نخلص لبنود هذه الاتفاقيّة أكثر مما نخلص لما نؤمن به من التزامات الخطّ الإسلامي.

لذلك فالحسين(ع) يريد أن يوحي إلينا بالتفكير في الأمّة، وهي أمّة الرسول(ص) أينما كان امتدادها، وشخصيّة الأمّة تمثّلها كلمة النبيّ(ص): "من لَم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم".

"أمّة جدّي".. هل نعيش هذه الرّوح؟!

"فمن قبلني بقبول الحق"، لأنني أدعو إلى الحقّ، "فالله أولى بالحقّ". فعلى الملتحق بي أن لا يتحرّك على أساس أن يحمّلني جميلاً بذلك، فما دام ارتبط بالحقّ، فعليه أن يعرف أنّ ارتباطه هو بالله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[5].

"ومن ردّ عليّ أصبر"، كما صبر النبيّ(ص): {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[6]، "حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين".

درس عاشوراء

كان الإمام الحسين(ع) ثائراً في أسلوب داعية، وكان داعية في خطّ التّغيير، ولكن متى بدأ الحسين(ع) العنف؟ عندما قيل له: انزل على حكم يزيد وابن زياد، عند ذلك قال كلمته: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ إقرار العبيد". فعندما فرضوا عليه العنف، فإنّه لم يجد بدّاً من أن يواجه العنف بالعنف. فعلينا أن نفهم الحسين(ع) بكلّه، بصفته إماماً، وللإمامة امتداد يتسع لكلّ ما تتّسع له النبوّة ما عدا النبوّة: "يا عليّ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه لا نبيّ بعدي".

لننطلق مع الإمام الحسين(ع) في شخصيّة الإمامة، فثورته حركة في خطّ إمامته، ودعوته حركة في خطّ إمامته، وأخلاقه ووسائله وغاياته وعلمه وشجاعته وصبره.. كلّ ذلك كان في خطّ إمامته. لذلك لا تغرقوا الحسين(ع) في بحار الدّموع الّتي تبكي المأساة، ابكوه من خلال عمق معنى الإنسانيّة في المأساة، احتجّوا على الذين صنعوا المأساة في كربلاء، ليتحوّل احتجاجكم إلى احتجاج ضدّ كلّ الّذين يصنعون مأساة المستضعفين في العالم، لا أن نبكي ونلطم على الحسين(ع) في كربلاء، ونلعن الذين صنعوا المأساة، ثم نخضع لألف يزيد ويزيد، ولكلّ الّذين يسرقون الأمّة ويصادرونها.

أيّها الأحبّة، كانت كربلاء المنطلق ولم تكن النّهاية، ونريد لها أن تتحرّك في حياتنا من خلال حركتها في وعينا، أمّا أن ننظر إلى كربلاء في التّأريخ في سنة61هـ، فذلك لا يكلّفنا شيئاً سوى مقدار من الدّموع والشكليّات، وفي كلّ يوم ننتج ألعوبة جديدة تستهلك الزّخم الجماهيريّ في الأساليب الّتي لا توظّف طاقة الأمّة في خدمة أهدافها، بل تصرفها عنها، وتوحي إليها أنّ هذه هي مسؤوليّتها!

أيّها الأحبّة، حدّثوا الناس بكربلاء الحقّ، ولا تضيفوا إلى الحقّ شيئاً من الباطل، وحدّثوا النّاس بكربلاء القضيّة، ولا تقتصروا على كربلاء المأساة. ولقد أدّى الإمام الحسين(ع) والصّفوة من أهل بيته وأصحابه واجبهم ومسؤوليّتهم في خطّ الرّسالة، ولنا أكثر من قضية في حجم العالم الإسلامي، ولنا أكثر من مأساة، ويوجد أكثر من يزيد يقتل النفس المحترمة، ونحن ما زلنا نتناقش في الهوامش وفي جنس الملائكة، ولو أردنا أن ندرس كلّ ما نتناقش فيه، لرأينا أنّه مجرّد هواء في شبك، وليس شيئاً يتّصل بعقيدتنا ولا بشريعتنا ولا بحياتنا، ولكن ماذا نصنع بالّذين يفرضون التخلّف على الأمّة باسم الدّين وبأسماء أخرى؟!

أيّها الأحبّة، اخرجوا من المأساة كهدف إلى القضيّة، واخرجوا من الماضي إلى المستقبل، فقيمة الماضي حدّدها القرآن {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[7]. فلنأخذ العبرة، ولنتحمّل مسؤوليّتنا في المستقبل. الخطوة الأولى في الألف ميل هل نخطوها، أم نظلّ كما قال ذلك الشّاعر:

ونبقى نلفّ ونبقى ندور ونحن نفـتّش عـن قافيـة

ألا قتل الضّعـف فين فقد أضاع الرعيّة والراعية

المصدر : ندوة الشام الأسبوعيّة


[1] ـ [يونس:95].

[2] ـ [البقرة:11].

[3] ـ [البقرة:12].

[4] ـ [البقرة:286].

[5] ـ [الحجّ: 62].

[6] ـ [الأحقاف: 35].

[7]ـ [يوسف: 111].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير