"من همّ بخير فليعجّله ولا يؤخره"

"من همّ بخير فليعجّله ولا يؤخره"

لأن المسارعة إلى الخير استباقٌ للأحداث والموانع:
"من همّ بخير فليعجّله ولا يؤخره"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والإجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

إستباق الخير

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {فاستبقوا الخيرات}، ويقول سبحانه: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض أُعدّت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}. في هاتين الآيتين وفي غيرهما دعوة دائمة إلى الإنسان المؤمن أن يسارع إلى الخير كلّما تمثّلت أمامه فرص الخير، وأن لا يسوّف ذلك ولا يؤخره، لأنّ الخير فرصة عليه أن لا يضيّعها، ولذلك، لا بد للإنسان من أن يكون مستَنفَراً للخير، بحيث يعيش حالة طوارئ، وهذا ما أكّدت عليه الأحاديث الواردة عن النبي(ص)وعن أهل بيته(ع).

ففي الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) يقول: "إذا همّ أحدكم بخير فلا يؤخّره - إذا انفتحت في نفسك إرادة الخير وعزيمته، بحيث فكرت بأن تتصدّق أو أن تقضي حاجة مؤمن، أو تُدخل السرور على مؤمن أو تصلي صلاة أو تدعو دعاءً، فبادر إلى ذلك ولا تؤخّره - فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: اعمل ما شئت بعدها فقد غفر الله لك"، ربما تكون هذه الساعة من الساعات التي يجري الله فيها نفحاته على عباده، فإذا وقف الإنسان بين يدي ربه وانفتح على طاعته سبحانه في هذه الساعة، فربما تكون هي هذه الساعة التي يغفر الله له فيها، وتمتد المغفرة من خلال طبيعة هذه النفحات الربانية إلى ما بعد ذلك.

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع)، وهو يعلّمنا كيف نجعل يومنا يوماً مرضياً عند الله تعالى، فيقول: "افتتحوا نهاركم بخير - ابدأ نهارك بخير يحبه الله في قولك أو عملك - وأملوا على حفظتكم في أوّله خيراً - لأن لكل واحد منا حافظين يحفظان عليه عمله، لذلك قولوا للحافظين: اكتبا كلمة خير أو عمل خير أو حركة خير - وفي آخره خيراً، يُغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله"، فإنك إذا جعلت أول يومك خيراً وآخره خيراً، فإن الله يغفر لك كلّ ما يصدر عنك من سيئات في هذا اليوم، ما بين الخير الأول والخير الثاني.

المبادرة إلى الخير

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع)، في ما يرويه عن أبيه الإمام الباقر(ع) قال: "كان أبي يقول: إذا هممت بخير فبادر - عندما تنطلق فكرة عمل الخير في ذهنك، أسرع إلى تنفيذها في الواقع- فإنك لا تدري ما يحدث"، فربما تكون الظروف الآنية مهيأة لتنفيذ هذا الخير، وقد تتعقّد الظروف بعد ذلك فتمنعك من فعل الخير.. وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) قال: "قال رسول الله(ص): إن الله يحب من الخير ما يُعجّل"، إن الله يحبّ للإنسان إذا همّ بالخير أو عزم عليه، أن لا تكون هناك فترة فاصلة بين التفكير بالخير وبين القيام به، باعتبار أن الله يريد للإنسان أن يعيش الخير في حياته بشكل يشعر معه أن حياته هي للخير كله.

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع) قال: "إن أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره، فإنّ العبد يصوم اليوم الحر يريد ما عند الله فيعتقه الله به من النار - وقد ذكر صوم اليوم الحار كنموذج للخير الذي قد يُجهد الإنسان وقد يتعبه، فالإنسان عندما يعمل عمل خير وهو مجهد ومتعب به، فيطّلع الله عليه بأنه أتعب نفسه بهذا العمل، فيناله الله برحمته فيعتقه من النار - ولا تستقلّ ما يتقرّب به إلى الله عزّ وجلّ ولو شقّ تمرة"، اعمل أي عمل يحبه الله ويرضى عنه مهما كان قليلاً، فالله لا يقيس العمل بحجمه عندما يعطيك ثوابه، بل يقيسه من حيث حجمه في نفسك مما يؤكد محبتك لله وتقربك إليه تعالى في ذلك.

وفي الحديث أيضاً عن الإمام الصادق(ع) قال: "من همّ بشيء فليعجّله ولا يؤخّره، فإن العبد ربما عمل العمل فيقول الله تبارك وتعالى: لقد غفرت لك ولا أكتب عليك شيئاً أبداً، ومن همّ بسيئة فلا يعملها فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الله سبحانه فيقول: لا، وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً، وهناك حديث آخر يطل على هذه الفكرة وهو: "لا تستصغرنّ حسنة فلربما أدخلتك الجنة، ولا تستصغرنّ سيئة فلربما أدخلتك النار"..

وورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) قال: "إذا همّ بخير أوصله، فإن عن يمينه وشماله شيطانين، فليبادر لا يكفّاه عن ذلك"، فكما أن للإنسان ملكين يحفظانه ويوحيان إليه بالخير، فهناك أيضاً شيطانان يحيطان به ليعطّلا إرادة الخير عنده، وكم في الناس من الشياطين الذين إذا رأوا إنساناً يهمّ بمشروع خير أو بمبادرة خير، فإنهم يحاولون أن يضعوا أمامه العوائق ويمنعوه من تحقيق ذلك.

الخير في نهاية الطريق..الجنة

وفي الرواية عن الإمام الباقر(ع) قال: "إن الله ثقّل الخير على أهل الدنيا كثقله في موازينهم يوم القيامة - باعتبار أن الخير على أنواعه يمثّل جهداً نفسياً وجسدياً، فبقدر ما تعيش من جهد وثقل ومعاناة وأنت تعمل الخير، سواء كانت معاناة نفسية أو اجتماعية أو جسدية، فإن هذا الثقل الذي تعانيه سوف يثقّل ميزانك يوم القيامة ويرفع درجتك عند الله تعالى - وإن الله عزّ وجلّ خفف الشر على أهل الدنيا كخفته في موازينهم يوم القيامة"، فترى أن الإنسان يركض إلى أعمال الشر ولا يشعر بثقلٍ فيها، ولذلك يقابل هذه الخفة في الانطلاق نحو الشرّ، خفة ميزان الأعمال يوم القيامة.

إنّ الله سبحانه وتعالى وضع أمامنا هدفاً وغاية ومكسباً وهي الجنة، وفوق الجنة رضوانه، ولذلك فإن علينا في كلّ أعمالنا وأقوالنا وعلاقاتنا، أن نضع الجنة نصب أعيننا، حتى تكون رغبتنا فيها هي التي تجعلنا نتحمل جهد الخير ومعاناته،لأن الإنسان عندما يعرف الربح في النتائج، فإن المتاعب في سبيل تحصيل الربح العظيم سوف تخفف عن الإنسان إحساسه بالتعب: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}، فاعملوا للجنة ولرضوان الله، فإن تعب الدنيا يزول، أما نعيم الآخرة فإنه باقٍ خالد، لذلك عمّقوا إرادة الخير في عقولكم فيما تخطط للخير، وفي قلوبكم فيما تنبض به من نبضات الخير، وفي حياتكم فيما تتحركون به من الخير، فإن النتيجة هي ما قاله الله تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أُعدّت للذين آمنوا بالله ورسله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وعليكم بنظم أمركم وصلاح ذات بينكم، وعليكم بالمحافظة على وحدة الفكر بما يرضي الله، ووحدة العمل بما يقربكم إلى الله، ووحدة العلاقات بما يقوّي روح الإيمان في نفوسكم، لتحبوا الله وتحبوا من أحبّه، ولتبغضوا أعداء الله ولتتحركوا في خط مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إياها، والله {يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، يقاتلون بالكلمة والموقف والمواجهة، لأن الله لا يريد للمؤمن أن يكون ذليلاً، بل يريده أن يكون عزيزاً، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

وعلينا أن نتذكر دائماً، عندما تحلّ بنا الخسائر والمشاكل، ونحن في خط الجهاد والمواجهة، أن نتذكر قول الله سبحانه وتعالى: {إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}، {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}، وهذا هو الذي يقوّي مواقفنا ويثبّت أقدامنا،لأننا في هذه المرحلة من الزمن نقف بين أمرين، سبقنا الإمام الحسين(ع) إليهما عندما قال: "ألا إن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة".

إن الاستكبار العالمي - وفي مقدمته الأمريكي - يريد أن يذلنا ويسقطنا ويسيطر علينا، ويريد أن يجعل اليهود فوق كل حاضرنا ومستقبلنا. لذلك، المسألة تحتاج إلى الكثير من الصبر في موقع القوّة الروحية، لا الصبر في موقع السقوط، أن نشعر أننا نستطيع أن نقف لندافع عن شرفنا ومستقبلنا، أن نثبت للعالم أننا - من خلال إيماننا بالله وبالخط الأصيل الذي رسمه لنا رسول الله(ص) والأنبياء(ع) من قبله والأئمة(ع) من بعده، ومن خلال هذا الإيمان الصلب القويّ - قادرون أن نسجّل تاريخاً جديداً لهذه الأمّة، فماذا هناك؟

البصمات الأمريكية في العدوان

لقد عشنا في هذا الأسبوع شكلاً جديداً من أشكال الهمجية الإسرائيلية، تمثّل في العدوان الواسع على البنى التحتية والأماكن المدنية اللبنانية، والذي ينزع الأوهام حول شخصية رئيس حكومة العدوّ، لأن العدوان الذي أمر به يمثل امتداداً لما قام به أسلافه، لتتضح أكثر صورة المسؤولين الصهاينة، سواء كانوا في "الليكود" أو في "العمل"، بأنهم يمثلون الامتداد للجريمة التي نشأت منذ ولادة الكيان الصهيوني في قلب الأمّة..

إن علينا - ونحن ندقق في حيثيات هذا العدوان ونتائجه - أن نحدّق جيداً في البصمات الأمريكية التي يتّسم بها، سواء بصمات السلاح الأمريكي، أو التغطية الواسعة له، لأن هذا العدوان انطلق منذ لحظاته الأولى بفعل ضوء أخضر أمريكي كبير..

إن هذه الإدارة (الأمريكية) التي تحاول منذ أشهر، لا بل منذ سنوات، أن تنتزع من لبنان موقفاً يتبنى وقف المقاومة والانصياع للشروط الإسرائيلية في الانسحاب والمفاوضات، هي التي شجعت العدوّ على تدمير المواقع الحيوية للشعب اللبناني، لأنها لم تلقَ آذاناً صاغية، ولم تجد في الدولة اللبنانية ولا في الشعب اللبناني من يرضى بالانصياع للشروط الصهيونية المذلّة، وعملت على تغطيته - بعد ذلك - من خلال محاولتها تحميل المقاومة السبب في ما حصل، والزعم بأن ذلك كله ما كان ليحصل لولا "الهجمات الاستفزازية" للمقاومة، على حدّ تعبير أحد المسؤولين الأمريكيين..

ليس هذا فحسب، بل إن أمريكا مهّدت الأجواء عربياً لهذه الهجمة الوحشية، فهي عملت على سوق أكثر من دولة عربية لطاولة المفاوضات المتعددة الجنسيات، وأجبرت أكثر من بلد عربي على الانفتاح على إسرائيل في هذه الأيام بالذات، لا بل ضغطت على بعض هذه الدول لكي تستقبل "باراك" الذي هدد وتوعّد من هناك بضرب لبنان، من دون أن تنطلق كلمة بوجهه لتقولله إن الشهامة العربية تمنعنا من أن نقبل أن يُهدد بلد عربي من هنا؟!

المقاومـة باقيـة

إن أمريكا تحاول أن تقول للبنانيين - من خلال هذا التبني للعدوان الإسرائيلي - إن أمامكم خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بالذلّ الذي ينجم عن انصياعكم للشروط الصهيونية بوقف المقاومة، وإما أن تدفعوا الثمن في معاناتكم اليومية في الكهرباء والمياه وما إلى ذلك.. إن علينا أمام هذا الواقع الجديد الذي تحاول فيه كل من أمريكا وإسرائيل أن تفرضاه علينا، أن نقول للعالم كله بأن المقاومة في لبنان لن تتوقف مهما ارتفع مستوى الضغوط، وإن على الاحتلال أن يرحل عن أرضنا، لأن المطلوب هو زوال الاحتلال وليس زوال من يقاومه، وليس هناك منطق يحترم نفسه في العالم يقول لشعب احتلّت أرضه بأن عليه إيقاف مقاومته حتى ينسحب المحتل براحة، لأن المحتل سوف يرفع من سقف شروطه ليمتد أكثر في احتلاله وعدوانه..

وإذا كان رئيس حكومة العدوّ يحاول الإيحاء بأنه عمل على "تعديل برنامجه"، وقرر أن ينسحب من لبنان بعيداً عما هي آفاق التسوية، نقول له بأن عليه الإسراع في ذلك، لأن المجاهدين الذين نالوا من جنوده في الأيام الماضية سوف يستمرون في القيام بمهمتهم المقدّسة في الأيام القادمة، وإن الجنائز والجرحى التي وصلت إليه حتى بعد العدوان على محطات تحويل الكهرباء في لبنان، ستصل إليه طالما بقي الاحتلال، ولا يمكن التسليم بالمنطق الأمريكي - الإسرائيلي الساعي لإراحة العدو قبل الانسحاب..

ليحتضن اللبنانيون المقاومة

إننا نريد للبنانيين أن يفهموا طبيعة اللعبة التي تديرها أمريكا في هذه الأيام بالذات، والتي تحاول من خلالها استكمال الأهداف الإسرائيلية بعد العدوان العسكري، بعدوان سياسي إعلامي تحمّل فيه المقاومة سبب ما حصل، لتبرّئ الاحتلال من كل هذه الجرائم والمآسي، فعلى اللبنانيين التنبه لذلك، ليعملوا - في المقابل - على رفع الصوت عالياً في المدارس والجامعات والمؤسسات ومواقع العبادة، وفي كل ساحات المجتمع، ويعلنوا تمسكهم بالمقاومة كوسيلة وحيدة للتحرير، وليؤكدوا على احتضان مجاهديها ودعمهم وحمايتهم من كل من تسوّل له نفسه الإساءة لهم، لأنهم نقطة الضوء الكبرى في هذا الليل العربي الدامس..

المقاومـة أرعبت العدوّ

إننا نقول للبنانيين: نحن نصرخ من بعض جراحنا ومن بعض ما سُلب منا من وسائل للراحة، ولكن العدوّ يصرخ أكثر، لأن صورة جيشه تهاوت، ولأنه بات يستقبل الجنائز ويبكي في مشهد شبه يومي، بالإضافة إلى سلبه وسائل الراحة والطمأنينة، لا سيما بالنسبة إلى مستوطنيه الذين يعيشون هاجس ردّ المقاومة في أيّ وقت، وفي ذلك دليل آخر على أننا نستطيع أن نرعب هذا العدوّ حتى في الوقت الذي لا نُطلق عليه صواريخ الكاتيوشا، لأنه يعيش هاجس هذه الصواريخ والوقت الذي تنطلق به..

إيران :إستهداف الاستقرار الداخلي

وأخيراً، وفي أجواء الذكرى الحادية والعشرين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، علينا أن نراقب ما يحاول أكثر من طرف دولي القيام به من مؤامرات تستهدف الاستقرار الداخلي في الجمهورية الإسلامية، للدخول على خط الانتخابات النيابية القادمة، التي ستكون فسحة جديدة من فسحات الحرية السياسية المستمرة في إيران..

إن الانفجارات الأخيرة في العاصمة الإيرانية، والتي انطلقت من خلال شرذمة متآمرة ضد شعبها، تمثل وجهاً من وجوه التآمر الدولي والإقليمي ضد الجمهورية الإسلامية، ولكن الشعب المسلم في إيران، والذي أسقط المؤامرات السابقة، يعرف كيف يُسقط هذه الحلقة الجديدة من سلسلة التآمر، بالاعتماد على إيمانه بالله وعلى قيادته الإسلامية الحكيمة، لتكون الانتخابات محطة للتنافس الحرّ والنـزيه، بما يؤسس لجوّ سياسي يُثبِّت النظام الإسلامي ويقوّيه أكثر، ويعطيه المزيد من الحصانة والحماية، في جوّ يتنفس فيه الجميع الحرية المسؤولة التي تحفظ للدولة هيبتها، وللمواطنين مصالحهم، وللأمّة قضاياها الكبرى.

لأن المسارعة إلى الخير استباقٌ للأحداث والموانع:
"من همّ بخير فليعجّله ولا يؤخره"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والإجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

إستباق الخير

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {فاستبقوا الخيرات}، ويقول سبحانه: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض أُعدّت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}. في هاتين الآيتين وفي غيرهما دعوة دائمة إلى الإنسان المؤمن أن يسارع إلى الخير كلّما تمثّلت أمامه فرص الخير، وأن لا يسوّف ذلك ولا يؤخره، لأنّ الخير فرصة عليه أن لا يضيّعها، ولذلك، لا بد للإنسان من أن يكون مستَنفَراً للخير، بحيث يعيش حالة طوارئ، وهذا ما أكّدت عليه الأحاديث الواردة عن النبي(ص)وعن أهل بيته(ع).

ففي الحديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) يقول: "إذا همّ أحدكم بخير فلا يؤخّره - إذا انفتحت في نفسك إرادة الخير وعزيمته، بحيث فكرت بأن تتصدّق أو أن تقضي حاجة مؤمن، أو تُدخل السرور على مؤمن أو تصلي صلاة أو تدعو دعاءً، فبادر إلى ذلك ولا تؤخّره - فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: اعمل ما شئت بعدها فقد غفر الله لك"، ربما تكون هذه الساعة من الساعات التي يجري الله فيها نفحاته على عباده، فإذا وقف الإنسان بين يدي ربه وانفتح على طاعته سبحانه في هذه الساعة، فربما تكون هي هذه الساعة التي يغفر الله له فيها، وتمتد المغفرة من خلال طبيعة هذه النفحات الربانية إلى ما بعد ذلك.

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع)، وهو يعلّمنا كيف نجعل يومنا يوماً مرضياً عند الله تعالى، فيقول: "افتتحوا نهاركم بخير - ابدأ نهارك بخير يحبه الله في قولك أو عملك - وأملوا على حفظتكم في أوّله خيراً - لأن لكل واحد منا حافظين يحفظان عليه عمله، لذلك قولوا للحافظين: اكتبا كلمة خير أو عمل خير أو حركة خير - وفي آخره خيراً، يُغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله"، فإنك إذا جعلت أول يومك خيراً وآخره خيراً، فإن الله يغفر لك كلّ ما يصدر عنك من سيئات في هذا اليوم، ما بين الخير الأول والخير الثاني.

المبادرة إلى الخير

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع)، في ما يرويه عن أبيه الإمام الباقر(ع) قال: "كان أبي يقول: إذا هممت بخير فبادر - عندما تنطلق فكرة عمل الخير في ذهنك، أسرع إلى تنفيذها في الواقع- فإنك لا تدري ما يحدث"، فربما تكون الظروف الآنية مهيأة لتنفيذ هذا الخير، وقد تتعقّد الظروف بعد ذلك فتمنعك من فعل الخير.. وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) قال: "قال رسول الله(ص): إن الله يحب من الخير ما يُعجّل"، إن الله يحبّ للإنسان إذا همّ بالخير أو عزم عليه، أن لا تكون هناك فترة فاصلة بين التفكير بالخير وبين القيام به، باعتبار أن الله يريد للإنسان أن يعيش الخير في حياته بشكل يشعر معه أن حياته هي للخير كله.

وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع) قال: "إن أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره، فإنّ العبد يصوم اليوم الحر يريد ما عند الله فيعتقه الله به من النار - وقد ذكر صوم اليوم الحار كنموذج للخير الذي قد يُجهد الإنسان وقد يتعبه، فالإنسان عندما يعمل عمل خير وهو مجهد ومتعب به، فيطّلع الله عليه بأنه أتعب نفسه بهذا العمل، فيناله الله برحمته فيعتقه من النار - ولا تستقلّ ما يتقرّب به إلى الله عزّ وجلّ ولو شقّ تمرة"، اعمل أي عمل يحبه الله ويرضى عنه مهما كان قليلاً، فالله لا يقيس العمل بحجمه عندما يعطيك ثوابه، بل يقيسه من حيث حجمه في نفسك مما يؤكد محبتك لله وتقربك إليه تعالى في ذلك.

وفي الحديث أيضاً عن الإمام الصادق(ع) قال: "من همّ بشيء فليعجّله ولا يؤخّره، فإن العبد ربما عمل العمل فيقول الله تبارك وتعالى: لقد غفرت لك ولا أكتب عليك شيئاً أبداً، ومن همّ بسيئة فلا يعملها فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الله سبحانه فيقول: لا، وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً، وهناك حديث آخر يطل على هذه الفكرة وهو: "لا تستصغرنّ حسنة فلربما أدخلتك الجنة، ولا تستصغرنّ سيئة فلربما أدخلتك النار"..

وورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) قال: "إذا همّ بخير أوصله، فإن عن يمينه وشماله شيطانين، فليبادر لا يكفّاه عن ذلك"، فكما أن للإنسان ملكين يحفظانه ويوحيان إليه بالخير، فهناك أيضاً شيطانان يحيطان به ليعطّلا إرادة الخير عنده، وكم في الناس من الشياطين الذين إذا رأوا إنساناً يهمّ بمشروع خير أو بمبادرة خير، فإنهم يحاولون أن يضعوا أمامه العوائق ويمنعوه من تحقيق ذلك.

الخير في نهاية الطريق..الجنة

وفي الرواية عن الإمام الباقر(ع) قال: "إن الله ثقّل الخير على أهل الدنيا كثقله في موازينهم يوم القيامة - باعتبار أن الخير على أنواعه يمثّل جهداً نفسياً وجسدياً، فبقدر ما تعيش من جهد وثقل ومعاناة وأنت تعمل الخير، سواء كانت معاناة نفسية أو اجتماعية أو جسدية، فإن هذا الثقل الذي تعانيه سوف يثقّل ميزانك يوم القيامة ويرفع درجتك عند الله تعالى - وإن الله عزّ وجلّ خفف الشر على أهل الدنيا كخفته في موازينهم يوم القيامة"، فترى أن الإنسان يركض إلى أعمال الشر ولا يشعر بثقلٍ فيها، ولذلك يقابل هذه الخفة في الانطلاق نحو الشرّ، خفة ميزان الأعمال يوم القيامة.

إنّ الله سبحانه وتعالى وضع أمامنا هدفاً وغاية ومكسباً وهي الجنة، وفوق الجنة رضوانه، ولذلك فإن علينا في كلّ أعمالنا وأقوالنا وعلاقاتنا، أن نضع الجنة نصب أعيننا، حتى تكون رغبتنا فيها هي التي تجعلنا نتحمل جهد الخير ومعاناته،لأن الإنسان عندما يعرف الربح في النتائج، فإن المتاعب في سبيل تحصيل الربح العظيم سوف تخفف عن الإنسان إحساسه بالتعب: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}، فاعملوا للجنة ولرضوان الله، فإن تعب الدنيا يزول، أما نعيم الآخرة فإنه باقٍ خالد، لذلك عمّقوا إرادة الخير في عقولكم فيما تخطط للخير، وفي قلوبكم فيما تنبض به من نبضات الخير، وفي حياتكم فيما تتحركون به من الخير، فإن النتيجة هي ما قاله الله تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أُعدّت للذين آمنوا بالله ورسله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله، وعليكم بنظم أمركم وصلاح ذات بينكم، وعليكم بالمحافظة على وحدة الفكر بما يرضي الله، ووحدة العمل بما يقربكم إلى الله، ووحدة العلاقات بما يقوّي روح الإيمان في نفوسكم، لتحبوا الله وتحبوا من أحبّه، ولتبغضوا أعداء الله ولتتحركوا في خط مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إياها، والله {يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، يقاتلون بالكلمة والموقف والمواجهة، لأن الله لا يريد للمؤمن أن يكون ذليلاً، بل يريده أن يكون عزيزاً، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

وعلينا أن نتذكر دائماً، عندما تحلّ بنا الخسائر والمشاكل، ونحن في خط الجهاد والمواجهة، أن نتذكر قول الله سبحانه وتعالى: {إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}، {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}، وهذا هو الذي يقوّي مواقفنا ويثبّت أقدامنا،لأننا في هذه المرحلة من الزمن نقف بين أمرين، سبقنا الإمام الحسين(ع) إليهما عندما قال: "ألا إن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة".

إن الاستكبار العالمي - وفي مقدمته الأمريكي - يريد أن يذلنا ويسقطنا ويسيطر علينا، ويريد أن يجعل اليهود فوق كل حاضرنا ومستقبلنا. لذلك، المسألة تحتاج إلى الكثير من الصبر في موقع القوّة الروحية، لا الصبر في موقع السقوط، أن نشعر أننا نستطيع أن نقف لندافع عن شرفنا ومستقبلنا، أن نثبت للعالم أننا - من خلال إيماننا بالله وبالخط الأصيل الذي رسمه لنا رسول الله(ص) والأنبياء(ع) من قبله والأئمة(ع) من بعده، ومن خلال هذا الإيمان الصلب القويّ - قادرون أن نسجّل تاريخاً جديداً لهذه الأمّة، فماذا هناك؟

البصمات الأمريكية في العدوان

لقد عشنا في هذا الأسبوع شكلاً جديداً من أشكال الهمجية الإسرائيلية، تمثّل في العدوان الواسع على البنى التحتية والأماكن المدنية اللبنانية، والذي ينزع الأوهام حول شخصية رئيس حكومة العدوّ، لأن العدوان الذي أمر به يمثل امتداداً لما قام به أسلافه، لتتضح أكثر صورة المسؤولين الصهاينة، سواء كانوا في "الليكود" أو في "العمل"، بأنهم يمثلون الامتداد للجريمة التي نشأت منذ ولادة الكيان الصهيوني في قلب الأمّة..

إن علينا - ونحن ندقق في حيثيات هذا العدوان ونتائجه - أن نحدّق جيداً في البصمات الأمريكية التي يتّسم بها، سواء بصمات السلاح الأمريكي، أو التغطية الواسعة له، لأن هذا العدوان انطلق منذ لحظاته الأولى بفعل ضوء أخضر أمريكي كبير..

إن هذه الإدارة (الأمريكية) التي تحاول منذ أشهر، لا بل منذ سنوات، أن تنتزع من لبنان موقفاً يتبنى وقف المقاومة والانصياع للشروط الإسرائيلية في الانسحاب والمفاوضات، هي التي شجعت العدوّ على تدمير المواقع الحيوية للشعب اللبناني، لأنها لم تلقَ آذاناً صاغية، ولم تجد في الدولة اللبنانية ولا في الشعب اللبناني من يرضى بالانصياع للشروط الصهيونية المذلّة، وعملت على تغطيته - بعد ذلك - من خلال محاولتها تحميل المقاومة السبب في ما حصل، والزعم بأن ذلك كله ما كان ليحصل لولا "الهجمات الاستفزازية" للمقاومة، على حدّ تعبير أحد المسؤولين الأمريكيين..

ليس هذا فحسب، بل إن أمريكا مهّدت الأجواء عربياً لهذه الهجمة الوحشية، فهي عملت على سوق أكثر من دولة عربية لطاولة المفاوضات المتعددة الجنسيات، وأجبرت أكثر من بلد عربي على الانفتاح على إسرائيل في هذه الأيام بالذات، لا بل ضغطت على بعض هذه الدول لكي تستقبل "باراك" الذي هدد وتوعّد من هناك بضرب لبنان، من دون أن تنطلق كلمة بوجهه لتقولله إن الشهامة العربية تمنعنا من أن نقبل أن يُهدد بلد عربي من هنا؟!

المقاومـة باقيـة

إن أمريكا تحاول أن تقول للبنانيين - من خلال هذا التبني للعدوان الإسرائيلي - إن أمامكم خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بالذلّ الذي ينجم عن انصياعكم للشروط الصهيونية بوقف المقاومة، وإما أن تدفعوا الثمن في معاناتكم اليومية في الكهرباء والمياه وما إلى ذلك.. إن علينا أمام هذا الواقع الجديد الذي تحاول فيه كل من أمريكا وإسرائيل أن تفرضاه علينا، أن نقول للعالم كله بأن المقاومة في لبنان لن تتوقف مهما ارتفع مستوى الضغوط، وإن على الاحتلال أن يرحل عن أرضنا، لأن المطلوب هو زوال الاحتلال وليس زوال من يقاومه، وليس هناك منطق يحترم نفسه في العالم يقول لشعب احتلّت أرضه بأن عليه إيقاف مقاومته حتى ينسحب المحتل براحة، لأن المحتل سوف يرفع من سقف شروطه ليمتد أكثر في احتلاله وعدوانه..

وإذا كان رئيس حكومة العدوّ يحاول الإيحاء بأنه عمل على "تعديل برنامجه"، وقرر أن ينسحب من لبنان بعيداً عما هي آفاق التسوية، نقول له بأن عليه الإسراع في ذلك، لأن المجاهدين الذين نالوا من جنوده في الأيام الماضية سوف يستمرون في القيام بمهمتهم المقدّسة في الأيام القادمة، وإن الجنائز والجرحى التي وصلت إليه حتى بعد العدوان على محطات تحويل الكهرباء في لبنان، ستصل إليه طالما بقي الاحتلال، ولا يمكن التسليم بالمنطق الأمريكي - الإسرائيلي الساعي لإراحة العدو قبل الانسحاب..

ليحتضن اللبنانيون المقاومة

إننا نريد للبنانيين أن يفهموا طبيعة اللعبة التي تديرها أمريكا في هذه الأيام بالذات، والتي تحاول من خلالها استكمال الأهداف الإسرائيلية بعد العدوان العسكري، بعدوان سياسي إعلامي تحمّل فيه المقاومة سبب ما حصل، لتبرّئ الاحتلال من كل هذه الجرائم والمآسي، فعلى اللبنانيين التنبه لذلك، ليعملوا - في المقابل - على رفع الصوت عالياً في المدارس والجامعات والمؤسسات ومواقع العبادة، وفي كل ساحات المجتمع، ويعلنوا تمسكهم بالمقاومة كوسيلة وحيدة للتحرير، وليؤكدوا على احتضان مجاهديها ودعمهم وحمايتهم من كل من تسوّل له نفسه الإساءة لهم، لأنهم نقطة الضوء الكبرى في هذا الليل العربي الدامس..

المقاومـة أرعبت العدوّ

إننا نقول للبنانيين: نحن نصرخ من بعض جراحنا ومن بعض ما سُلب منا من وسائل للراحة، ولكن العدوّ يصرخ أكثر، لأن صورة جيشه تهاوت، ولأنه بات يستقبل الجنائز ويبكي في مشهد شبه يومي، بالإضافة إلى سلبه وسائل الراحة والطمأنينة، لا سيما بالنسبة إلى مستوطنيه الذين يعيشون هاجس ردّ المقاومة في أيّ وقت، وفي ذلك دليل آخر على أننا نستطيع أن نرعب هذا العدوّ حتى في الوقت الذي لا نُطلق عليه صواريخ الكاتيوشا، لأنه يعيش هاجس هذه الصواريخ والوقت الذي تنطلق به..

إيران :إستهداف الاستقرار الداخلي

وأخيراً، وفي أجواء الذكرى الحادية والعشرين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، علينا أن نراقب ما يحاول أكثر من طرف دولي القيام به من مؤامرات تستهدف الاستقرار الداخلي في الجمهورية الإسلامية، للدخول على خط الانتخابات النيابية القادمة، التي ستكون فسحة جديدة من فسحات الحرية السياسية المستمرة في إيران..

إن الانفجارات الأخيرة في العاصمة الإيرانية، والتي انطلقت من خلال شرذمة متآمرة ضد شعبها، تمثل وجهاً من وجوه التآمر الدولي والإقليمي ضد الجمهورية الإسلامية، ولكن الشعب المسلم في إيران، والذي أسقط المؤامرات السابقة، يعرف كيف يُسقط هذه الحلقة الجديدة من سلسلة التآمر، بالاعتماد على إيمانه بالله وعلى قيادته الإسلامية الحكيمة، لتكون الانتخابات محطة للتنافس الحرّ والنـزيه، بما يؤسس لجوّ سياسي يُثبِّت النظام الإسلامي ويقوّيه أكثر، ويعطيه المزيد من الحصانة والحماية، في جوّ يتنفس فيه الجميع الحرية المسؤولة التي تحفظ للدولة هيبتها، وللمواطنين مصالحهم، وللأمّة قضاياها الكبرى.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير