"احذروا يوماً تُنشر فيه الصحائف"

"احذروا يوماً تُنشر فيه الصحائف"

لأن الميزان للأعمال يوم القيامة:
"احذروا يوماً تُنشر فيه الصحائف"


سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الأعمال في الميزان

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}، ويقول سبحانه وتعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}. وتتعدد الآيات الكريمة التي تتحدث عن الميزان يوم القيامة، ونحن نعرف أننا في الدنيا عندما نريد أن نعرف مقادير الأشياء ومقاييسها، فإننا نستعمل الموازين التي تختلف باختلاف الأشياء، والإنسان إذا لم يكن له ميزان يزن به الأمور، فإنه لا يستطيع أن يعرف مقاديرها، وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يتعامل معها بشكل دقيق، بحيث ينمّي هذا ويقلل من ذاك.

والله تعالى يبيّن لنا أنه في يوم القيامة ستوضع أعمالنا في الميزان، فأعمالنا هي التي تثقّل موازيننا أو تخففها، فالله تعالى يقول لنا إن الوزن هو الأساس الذي يتعامل به الله تعالى مع الناس يوم القيامة، بحيث يكون هو الحكم في ما يحكم به سلباً أو إيجاباً، ثواباً أو عقاباً، والأعمال الصالحة هي التي تثقّل ميزان الإنسان، لأنها هي التي تملك الحجم الكبير عند الله تعالى، لأن العمل الصالح يختزن في داخله كل رضى الله ومحبته وكل ما يُصلح حال الحياة والإنسان، ولذلك فهو ثقيل الوزن في الجانب المعنوي منه لا في الجانب المادي، أما الأعمال السيئة فإنها خفيفة الوزن، لأنها لا تملك في داخلها أيّ معنى يربطها بالله وبمصلحة الحياة والإنسان، فهي شيء خفيف في المعنى، لأنه لا يملك في داخله ثقل الخير والمصلحة.

وقد عبّر الله تعالى عن الذي آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم ممن ثقلت موازينهم، ولذلك فإنهم المفلحون في الآخرة، وعبّر عن الذين يعملون السيئات بأنهم ممن خفّت موازينهم، وسيواجهون العقوبة عند الله، لأنهم ظلموا ربهم وأنفسهم والحياة بالمعصية، لأن المعصية تمثل التمرّد على حق الله في توحيده والطاعة له، والتمرد على حق النفس في الإحسان إليها لتحقق لها ما يسعدها في الدنيا والآخرة، والتمرد على الحياة في حقها بأن تعطيها ما يرفع مستواها، لأن طاقتك في الخير هي التي ترفع مستوى الحياة في نفسك وفي الناس من حولك..

الميزان هو العدل

وروى أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) وهو "هشام بن الحكم"، أن بعض الزنادقة سألوا أبا عبد الله الصادق (ع): أوليس توزن الأعمال؟ قال (ع): "لا، إن الأعمال ليست بأجسام، وإنما هي صفة ما عملوا - الأعمال إنما هي صفة العمل في صلاحه أو فساده - وإنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها وخفتها، وإن الله لا يخفى عليه شيء" ـ فالله تعالى مطّلع على كل الأشياء، فهو يعرف النيات والأعمال الصالحة وغير الصالحة ـ فقال: فما معنى الميزان؟ قال (ع): "العدل"، فالله تعالى يضع الميزان بمعنى يضع العدل، فلا يظلم أحداً شيئاً، بل يعطي الناس ما يستحقون على أعمالهم ـ فقال: وما معناه في كتابه {فمن ثقلت موازينه}؟ فقال (ع): "من رُجّح عمله"، من كان عمله مشتملاً على العناصر التي تقرّبه إلى الله تعالى.

وعن "هشام بن سالم" قال: سألت أبا عبد الله الصادق (ع) عن قول الله عزّ وجلّ: {ونضع الموازين القسط}، فقال (ع): "هم الأنبياء والأوصياء" الذين يقفون ويشهدون على الناس بما عملوا يوم القيامة، لأن الله تعالى يأتي من كل أمة بشهيد. ومن وصايا النبي (ص) لابن مسعود: "يابن مسعود، احذر يوماً تُنشر فيه الصحائف وتظهر فيه الفضائح، فإن الله تعالى يقول: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة}". وفي الحديث: "إن الله ثقّل الخير على أهل الدنيا كثقله في موازينه يوم القيامة - لأن الإقبال على بعض الطاعات والابتعاد عن المعاصي قد يُشعر الإنسان بالثقل، فبمقدار ما كان الخير ثقيلاً على نفسك في الدنيا، فإن الله سوف يعطيك بثقله النتائج الكبرى التي تقبل عليها يوم القيامة - وإن الله خفف الشر على أهل الدنيا كخفته في موازينه يوم القيامة".

الشهادتان أساس العقيدة

ومن خطبة لأمير المؤمنين (ع): "ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، شهادتين تصعدان القول، وترفعان العمل، لا يخف ميزان توضعان فيه - لأن الشهادتين هما أساس العقيدة والإسلام - ولا يُثقل ميزان ترفعان منه". وعن النبي (ص) في حديث: "يقول الله تعالى لآدم يوم القيامة: قم عند الميزان فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم - أعمال أولادك - فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم أني لا أُدخل النار إلا ظالماً".. وفي الحديث: "يجاء بالعبد يوم القيامة فتوضع حسناته في كفة وسيئاته في كفة، فترجح السيئات، فتجيء بطاقة فتقع في كفة الحسنات، فترجح بها، فيقول: يا ربّ ما هذه البطاقة، فما من عمل عملته في ليلي ونهاري إلا وقد استقبلت به؟ قال: هذا ما قيل فيك وأنت منه بريء"، فالذي يتحدث عنه الناس ظلماً وعدواناً فإنه يربح في الآخرة وإن تأذى في الدنيا، والمهم أن يعمل صالحاً لآخرته وأن يصبر على الأذى.. وفي حديث آخر، فإن الله تعالى يعطي الإنسان الذي يتحدث الناس عنه من حسناتهم، فإن فرغت الحسنات فإنه يُضاف من سيئاته على سيئاتهم.

الحفاظ على الموازين

لذلك، "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل"، إننا نحافظ دائماً على الميزان في ما نبيع ونشتري، ولا بدّ أن نحافظ على موازيننا في أعمالنا وتصرفاتنا وعلاقاتنا، ولا يزال في العمر بقية، ولا تزال سيئاتنا بين أيدينا، وحسناتنا - إذا كان لنا حسنات - بين أيدينا، فتعالوا نفتح قلوبنا لله ونقول: يا ربّنا إننا نتوب إليك من صغائر ذنوبنا وكبائرها، وسوالف زلاتنا وحوادثها، وبواطن سيئاتنا وظواهرها، توبة من لا يُحدّث نفسه بمعصية ولا يضمر أن يعود إلى خطيئة، وقد قلت في كتابك إنك تقبل التوبة عن عبادك وتعفو عن السيئات وتحب التوّابين، فاقبل توبتي كما وعدت واعفُ عن سيئاتي كما ضمنت، وأوجب لي محبتك كما شرطت، ولك يا ربّ عهدي أن لا أرجع في مذمومك.. هل نقول ذلك؟! قولوها في الليل والنهار، وعندما تصبحون وتمسون، فإن من نام وهو تائب إلى ربه فإن الله يرضى عنه، ولا همّ أن يموت في نومه، فلعلنا نحصل على رضاه ولا شيء إلا رضاه، {ورضوان من الله أكبر}.

هل تريدون أن تسمعوا في آخر لحظات حياتكم: {خذوه فغلّوه * ثم الجحيم صلّوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين}، أم تسمعون: {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي}.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في أنفسكم، فإن الله أراد للإنسان أن يُحسن إلى نفسه بالإيمان والعمل الصالح، فإن ذلك هو الذي يجعل الإنسان رابحاً عند الله عندما يربح رضوان الله تعالى، وإن الله أراد لكم أن تتحمّلوا مسؤولياتكم في ما حمّلكم من مسؤوليات في أنفسكم وأهليكم والناس من حولكم، لأن الله جعل طاقاتكم أمانة الله للناس عندكم، فمن حجب طاقته عمّن كلّفه الله أن يعطيه إياها، فإنه يخون الأمانة في ذلك كله. وقد حمّلنا الله مسؤولية المسلمين جميعاً بحسب ما أعطانا من طاقات وإمكانات، فعلينا أن نهتم بأمور المسلمين، وأن نسعى بكل ما نستطيع إلى ما يحقق لهم القوة والعزة والكرامة. ونحن كمسلمين وكمستضعفين لا نزال نعيش الشدة من خلال الواقع السياسي والأمني والاقتصادي، وعلينا أن نتعرّف ماذا يُدبّر لنا، فماذا هناك:

الطروحات الأمريكية.. إيقاف الانتفاضة

لا يزال الوضع السياسي في المنطقة يعيش حالة من الغموض في واقع الانتفاضة الفلسطينية، وذلك من خلال الطروحات الأمريكية التي ترمي إلى فرض اتفاق بين الفلسطينيين والصهاينة، بما لا يتناسب مع حقوق الشعب الفلسطيني في القدس وعودة اللاجئين، في إطار الاستقلال الكامل لفلسطين، وإيجاد وضع سياسي دولي ضاغط - حتى من بعض الدول العربية - على سلطة الحكم الذاتي للقبول بالمبادرة الأمريكية، بزعم أنها الفرصة المناسبة وربما الوحيدة للحلول الواقعية للقضية، بحسب ما توحي به أمريكا..

ويتحرك الإعلام الأمريكي والإسرائيلي والدولي للحديث عن القبول الفلسطيني بالمبادرة الأمريكية مع بعض التحفظات، في الوقت الذي يتحدث فيه رئيس حكومة العدو عن رفضه منح الفلسطينيين السلطة على الحرم الشريف وعودة اللاجئين إلى بلادهم. ويعلن زعيم "الليكود" "شارون" - ومعه "نتنياهو" - عن رفض أيّ اتفاق بين الحكومة الحالية للعدو والفلسطينيين، ما يوحي بأن أيّ تطور سياسي للمبادرة الأمريكية لا يحمل أيّ فرصة للتنفيذ، ليبقى - مع كل سلبياته - مجرد جهد ضائع لا هدف له إلا إيقاف الانتفاضة..

وتأتي لجنة المتابعة العربية لتقرر التأكيد على مطالب القمة العربية والإسلامية، ما قد يوحي بإبقاء شيءٍ ما من التوازن السياسي في الموقف العربي - على قاعدة أضعف الإيمان - في دعم الانتفاضة، بالرغم من عدم الوفاء بالتعهدات العربية في مساعدة الفلسطينيين، حيث لا تزال الحركة الواقعية على الصعيد الاقتصادي ـ حتى الآن ـ حائرة بين شدّ وجذب وتسير بطريقة سلحفاتية..

إننا نأمل أن يكون العرب جادّين في إعلانهم السياسي في لجنة المتابعة، وأن لا تسقط السلطة الفلسطينية تحت تأثير الضغوط السياسية الأمريكية والدولية، في هذا الوقت الضائع الذي تودّع فيه الإدارة الأمريكية الحالية موقعها، لتحل محلها إدارة جديدة تحتاج إلى وقت طويل للتحرك السياسي في القضية الفلسطينية، لأنها ليست في موقع الأهمية في اهتماماتها المقبلة..

الصمود والصبر هما السبيل إلى التحرير

ويبقى للشعب الفلسطيني المجاهد كلمته الفاصلة في الاستمرار في الانتفاضة، بالرغم من الضغوط السياسية التي تمارس عليه، والتضحيات التي يقدمها، وجراحاته النازفة، والحصار الاقتصادي التجويعي، لأن الصمود في الموقف والصبر على الآلام هما السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف في الضغط على العدو، من أجل الحصول على الاستقلال، وتحقيق هدف التحرير، فقد استطاعت الانتفاضة أن تترك تأثيرات سلبية على استقرار العدو السياسي والأمني، إلى درجة أنه أصبح يعاني فيها من الاهتزاز في أكثر من موقع.

وعلى الفلسطينيين أن يعرفوا أن هذه هي الفرصة الأخيرة للوصول إلى النتائج الحاسمة، فقد لا تتاح الفرصة ثانية لأية انتفاضة جديدة تحريرية إذا سقطت هذه الانتفاضة، واستسلمت السلطة للتوقيع بإذلال على الطروحات الأمريكية ـ الإسرائيلية تحت تأثير الضغوط.. وعلى العرب والمسلمين أن يساندوا الانتفاضة على مستوى الشعوب والحكومات، لأن فلسطين ليست مسألة فلسطينية خاصة، بل هي - بالإضافة إلى ذلك - عربية إسلامية في تأثيراتها السياسية والأمنية على المستقبل العربي والإسلامي كله.

انحياز دولي لإسرائيل

أما في لبنان، فلا تزال التهديدات الإسرائيلية تترافق مع العدوان على المواطنين في أرواحهم وأرزاقهم، بالإضافة إلى القصف العدواني المتكرر.. إننا نتصوّر أن من الضروري معاقبة العدو على ذلك، ليعرف أن العدوان لا بد أن يُقابل بالرد، وأن يد اللبنانيين طويلة في ساحة المواجهة إذا كانت يده طويلة في العدوان، وأن الدول التي تتدخّل لدعوة اللبنانيين إلى التهدئة لا بدّ أن توجه خطابها إلى الكيان الصهيوني للامتناع عن العدوان أولاً، والانسحاب من بقية الأراضي اللبنانية المحتلة، ولكن المشكلة أن هذه الدول ـ وفي مقدمتها أمريكا ـ لا تعطي الأهمية إلا للأمن الإسرائيلي، ولحماية موقف إسرائيل في حاجاتها السياسية في الاحتلال وفي العدوان. وعلينا في مرحلتنا هذه - كلبنانيين وكعرب ومسلمين - أن نبقى في خط المواجهة، للحفاظ على حقوقنا الشرعية في القضايا المصيرية على صعيد الحاضر والمستقبل.

مزيد من الاهتمام بالمناطق المحرومة

وإذا وصلنا إلى الداخل اللبناني، فإننا في الوقت الذي نقدّر فيه المبادرات الحكومية في تخفيض الضرائب على السلع الاستهلاكية المستوردة، وفي الاستعداد لتشجيع الصناعة، نريد للحكومة أن تعمل على حماية الصناعة الوطنية ، والوفاء بتعهداتها بشكل سريع في تشجيع المواسم الزراعية والتخطيط للزراعات البديلة المنتجة، وحماية الإنتاج الزراعي من المنافسة الخارجية في المناطق المحرومة، ولا سيما في البقاع الذي امتنع مزارعوه عن زراعة المخدرات ولكنهم لم يجدوا أيّ تعويض دولي عن ذلك، كما هو الحال في التعويضات الدولية التي قُدّمت لتركيا وغيرها، ولم يلقوا أيّ اهتمام حقيقي من الحكومات الوطنية المتتابعة، الأمر الذي جعلهم يشعرون بأنهم خارج الوطن..

وبهذه المناسبة، فإننا نطلب من ممثلي البقاع في المجلس النيابي والحكومة وفي الواقع السياسي، أن يبادروا إلى الضغط السياسي لتنفيذ المطالب المحقة للشعب، قبل أن تتحرك الفوضى في صفوفه، لأن الجوع كافر، ولأن الفقر يؤدي إلى السلبية، وهذا ما لا يرغب به المخلصون للوطن كله.

وإذا كنا نتحدث عن البقاع المحروم، فإننا نطلق الصوت في كل المناطق المحرومة، لا سيما عكار شقيقة البقاع في الحرمان، والجنوب، وخاصة المناطق المحررة منه، التي لا تزال تنتظر الحكومة لتنفيذ وعودها، لتشعر بأنها عادت إلى الوطن، وأن الوطن قد عاد ليحتضن قضاياها وحاجاتها الحيوية، في الوقت الذي لا تزال تعيش فيه تحت تأثير الخوف من العدو من خلال تهديداته..

إننا نتفهّم الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان، وتواجهها الحكومة على الصعيد الاقتصادي، ولكن هناك أولويات للمناطق الأشد فقراً والأشد حاجة، لتبقى لها حياتها الطبيعية، ولا تموت.

لأن الميزان للأعمال يوم القيامة:
"احذروا يوماً تُنشر فيه الصحائف"


سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الأعمال في الميزان

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}، ويقول سبحانه وتعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}. وتتعدد الآيات الكريمة التي تتحدث عن الميزان يوم القيامة، ونحن نعرف أننا في الدنيا عندما نريد أن نعرف مقادير الأشياء ومقاييسها، فإننا نستعمل الموازين التي تختلف باختلاف الأشياء، والإنسان إذا لم يكن له ميزان يزن به الأمور، فإنه لا يستطيع أن يعرف مقاديرها، وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يتعامل معها بشكل دقيق، بحيث ينمّي هذا ويقلل من ذاك.

والله تعالى يبيّن لنا أنه في يوم القيامة ستوضع أعمالنا في الميزان، فأعمالنا هي التي تثقّل موازيننا أو تخففها، فالله تعالى يقول لنا إن الوزن هو الأساس الذي يتعامل به الله تعالى مع الناس يوم القيامة، بحيث يكون هو الحكم في ما يحكم به سلباً أو إيجاباً، ثواباً أو عقاباً، والأعمال الصالحة هي التي تثقّل ميزان الإنسان، لأنها هي التي تملك الحجم الكبير عند الله تعالى، لأن العمل الصالح يختزن في داخله كل رضى الله ومحبته وكل ما يُصلح حال الحياة والإنسان، ولذلك فهو ثقيل الوزن في الجانب المعنوي منه لا في الجانب المادي، أما الأعمال السيئة فإنها خفيفة الوزن، لأنها لا تملك في داخلها أيّ معنى يربطها بالله وبمصلحة الحياة والإنسان، فهي شيء خفيف في المعنى، لأنه لا يملك في داخله ثقل الخير والمصلحة.

وقد عبّر الله تعالى عن الذي آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم ممن ثقلت موازينهم، ولذلك فإنهم المفلحون في الآخرة، وعبّر عن الذين يعملون السيئات بأنهم ممن خفّت موازينهم، وسيواجهون العقوبة عند الله، لأنهم ظلموا ربهم وأنفسهم والحياة بالمعصية، لأن المعصية تمثل التمرّد على حق الله في توحيده والطاعة له، والتمرد على حق النفس في الإحسان إليها لتحقق لها ما يسعدها في الدنيا والآخرة، والتمرد على الحياة في حقها بأن تعطيها ما يرفع مستواها، لأن طاقتك في الخير هي التي ترفع مستوى الحياة في نفسك وفي الناس من حولك..

الميزان هو العدل

وروى أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) وهو "هشام بن الحكم"، أن بعض الزنادقة سألوا أبا عبد الله الصادق (ع): أوليس توزن الأعمال؟ قال (ع): "لا، إن الأعمال ليست بأجسام، وإنما هي صفة ما عملوا - الأعمال إنما هي صفة العمل في صلاحه أو فساده - وإنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها وخفتها، وإن الله لا يخفى عليه شيء" ـ فالله تعالى مطّلع على كل الأشياء، فهو يعرف النيات والأعمال الصالحة وغير الصالحة ـ فقال: فما معنى الميزان؟ قال (ع): "العدل"، فالله تعالى يضع الميزان بمعنى يضع العدل، فلا يظلم أحداً شيئاً، بل يعطي الناس ما يستحقون على أعمالهم ـ فقال: وما معناه في كتابه {فمن ثقلت موازينه}؟ فقال (ع): "من رُجّح عمله"، من كان عمله مشتملاً على العناصر التي تقرّبه إلى الله تعالى.

وعن "هشام بن سالم" قال: سألت أبا عبد الله الصادق (ع) عن قول الله عزّ وجلّ: {ونضع الموازين القسط}، فقال (ع): "هم الأنبياء والأوصياء" الذين يقفون ويشهدون على الناس بما عملوا يوم القيامة، لأن الله تعالى يأتي من كل أمة بشهيد. ومن وصايا النبي (ص) لابن مسعود: "يابن مسعود، احذر يوماً تُنشر فيه الصحائف وتظهر فيه الفضائح، فإن الله تعالى يقول: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة}". وفي الحديث: "إن الله ثقّل الخير على أهل الدنيا كثقله في موازينه يوم القيامة - لأن الإقبال على بعض الطاعات والابتعاد عن المعاصي قد يُشعر الإنسان بالثقل، فبمقدار ما كان الخير ثقيلاً على نفسك في الدنيا، فإن الله سوف يعطيك بثقله النتائج الكبرى التي تقبل عليها يوم القيامة - وإن الله خفف الشر على أهل الدنيا كخفته في موازينه يوم القيامة".

الشهادتان أساس العقيدة

ومن خطبة لأمير المؤمنين (ع): "ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، شهادتين تصعدان القول، وترفعان العمل، لا يخف ميزان توضعان فيه - لأن الشهادتين هما أساس العقيدة والإسلام - ولا يُثقل ميزان ترفعان منه". وعن النبي (ص) في حديث: "يقول الله تعالى لآدم يوم القيامة: قم عند الميزان فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم - أعمال أولادك - فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم أني لا أُدخل النار إلا ظالماً".. وفي الحديث: "يجاء بالعبد يوم القيامة فتوضع حسناته في كفة وسيئاته في كفة، فترجح السيئات، فتجيء بطاقة فتقع في كفة الحسنات، فترجح بها، فيقول: يا ربّ ما هذه البطاقة، فما من عمل عملته في ليلي ونهاري إلا وقد استقبلت به؟ قال: هذا ما قيل فيك وأنت منه بريء"، فالذي يتحدث عنه الناس ظلماً وعدواناً فإنه يربح في الآخرة وإن تأذى في الدنيا، والمهم أن يعمل صالحاً لآخرته وأن يصبر على الأذى.. وفي حديث آخر، فإن الله تعالى يعطي الإنسان الذي يتحدث الناس عنه من حسناتهم، فإن فرغت الحسنات فإنه يُضاف من سيئاته على سيئاتهم.

الحفاظ على الموازين

لذلك، "اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل"، إننا نحافظ دائماً على الميزان في ما نبيع ونشتري، ولا بدّ أن نحافظ على موازيننا في أعمالنا وتصرفاتنا وعلاقاتنا، ولا يزال في العمر بقية، ولا تزال سيئاتنا بين أيدينا، وحسناتنا - إذا كان لنا حسنات - بين أيدينا، فتعالوا نفتح قلوبنا لله ونقول: يا ربّنا إننا نتوب إليك من صغائر ذنوبنا وكبائرها، وسوالف زلاتنا وحوادثها، وبواطن سيئاتنا وظواهرها، توبة من لا يُحدّث نفسه بمعصية ولا يضمر أن يعود إلى خطيئة، وقد قلت في كتابك إنك تقبل التوبة عن عبادك وتعفو عن السيئات وتحب التوّابين، فاقبل توبتي كما وعدت واعفُ عن سيئاتي كما ضمنت، وأوجب لي محبتك كما شرطت، ولك يا ربّ عهدي أن لا أرجع في مذمومك.. هل نقول ذلك؟! قولوها في الليل والنهار، وعندما تصبحون وتمسون، فإن من نام وهو تائب إلى ربه فإن الله يرضى عنه، ولا همّ أن يموت في نومه، فلعلنا نحصل على رضاه ولا شيء إلا رضاه، {ورضوان من الله أكبر}.

هل تريدون أن تسمعوا في آخر لحظات حياتكم: {خذوه فغلّوه * ثم الجحيم صلّوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين}، أم تسمعون: {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي}.

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في أنفسكم، فإن الله أراد للإنسان أن يُحسن إلى نفسه بالإيمان والعمل الصالح، فإن ذلك هو الذي يجعل الإنسان رابحاً عند الله عندما يربح رضوان الله تعالى، وإن الله أراد لكم أن تتحمّلوا مسؤولياتكم في ما حمّلكم من مسؤوليات في أنفسكم وأهليكم والناس من حولكم، لأن الله جعل طاقاتكم أمانة الله للناس عندكم، فمن حجب طاقته عمّن كلّفه الله أن يعطيه إياها، فإنه يخون الأمانة في ذلك كله. وقد حمّلنا الله مسؤولية المسلمين جميعاً بحسب ما أعطانا من طاقات وإمكانات، فعلينا أن نهتم بأمور المسلمين، وأن نسعى بكل ما نستطيع إلى ما يحقق لهم القوة والعزة والكرامة. ونحن كمسلمين وكمستضعفين لا نزال نعيش الشدة من خلال الواقع السياسي والأمني والاقتصادي، وعلينا أن نتعرّف ماذا يُدبّر لنا، فماذا هناك:

الطروحات الأمريكية.. إيقاف الانتفاضة

لا يزال الوضع السياسي في المنطقة يعيش حالة من الغموض في واقع الانتفاضة الفلسطينية، وذلك من خلال الطروحات الأمريكية التي ترمي إلى فرض اتفاق بين الفلسطينيين والصهاينة، بما لا يتناسب مع حقوق الشعب الفلسطيني في القدس وعودة اللاجئين، في إطار الاستقلال الكامل لفلسطين، وإيجاد وضع سياسي دولي ضاغط - حتى من بعض الدول العربية - على سلطة الحكم الذاتي للقبول بالمبادرة الأمريكية، بزعم أنها الفرصة المناسبة وربما الوحيدة للحلول الواقعية للقضية، بحسب ما توحي به أمريكا..

ويتحرك الإعلام الأمريكي والإسرائيلي والدولي للحديث عن القبول الفلسطيني بالمبادرة الأمريكية مع بعض التحفظات، في الوقت الذي يتحدث فيه رئيس حكومة العدو عن رفضه منح الفلسطينيين السلطة على الحرم الشريف وعودة اللاجئين إلى بلادهم. ويعلن زعيم "الليكود" "شارون" - ومعه "نتنياهو" - عن رفض أيّ اتفاق بين الحكومة الحالية للعدو والفلسطينيين، ما يوحي بأن أيّ تطور سياسي للمبادرة الأمريكية لا يحمل أيّ فرصة للتنفيذ، ليبقى - مع كل سلبياته - مجرد جهد ضائع لا هدف له إلا إيقاف الانتفاضة..

وتأتي لجنة المتابعة العربية لتقرر التأكيد على مطالب القمة العربية والإسلامية، ما قد يوحي بإبقاء شيءٍ ما من التوازن السياسي في الموقف العربي - على قاعدة أضعف الإيمان - في دعم الانتفاضة، بالرغم من عدم الوفاء بالتعهدات العربية في مساعدة الفلسطينيين، حيث لا تزال الحركة الواقعية على الصعيد الاقتصادي ـ حتى الآن ـ حائرة بين شدّ وجذب وتسير بطريقة سلحفاتية..

إننا نأمل أن يكون العرب جادّين في إعلانهم السياسي في لجنة المتابعة، وأن لا تسقط السلطة الفلسطينية تحت تأثير الضغوط السياسية الأمريكية والدولية، في هذا الوقت الضائع الذي تودّع فيه الإدارة الأمريكية الحالية موقعها، لتحل محلها إدارة جديدة تحتاج إلى وقت طويل للتحرك السياسي في القضية الفلسطينية، لأنها ليست في موقع الأهمية في اهتماماتها المقبلة..

الصمود والصبر هما السبيل إلى التحرير

ويبقى للشعب الفلسطيني المجاهد كلمته الفاصلة في الاستمرار في الانتفاضة، بالرغم من الضغوط السياسية التي تمارس عليه، والتضحيات التي يقدمها، وجراحاته النازفة، والحصار الاقتصادي التجويعي، لأن الصمود في الموقف والصبر على الآلام هما السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف في الضغط على العدو، من أجل الحصول على الاستقلال، وتحقيق هدف التحرير، فقد استطاعت الانتفاضة أن تترك تأثيرات سلبية على استقرار العدو السياسي والأمني، إلى درجة أنه أصبح يعاني فيها من الاهتزاز في أكثر من موقع.

وعلى الفلسطينيين أن يعرفوا أن هذه هي الفرصة الأخيرة للوصول إلى النتائج الحاسمة، فقد لا تتاح الفرصة ثانية لأية انتفاضة جديدة تحريرية إذا سقطت هذه الانتفاضة، واستسلمت السلطة للتوقيع بإذلال على الطروحات الأمريكية ـ الإسرائيلية تحت تأثير الضغوط.. وعلى العرب والمسلمين أن يساندوا الانتفاضة على مستوى الشعوب والحكومات، لأن فلسطين ليست مسألة فلسطينية خاصة، بل هي - بالإضافة إلى ذلك - عربية إسلامية في تأثيراتها السياسية والأمنية على المستقبل العربي والإسلامي كله.

انحياز دولي لإسرائيل

أما في لبنان، فلا تزال التهديدات الإسرائيلية تترافق مع العدوان على المواطنين في أرواحهم وأرزاقهم، بالإضافة إلى القصف العدواني المتكرر.. إننا نتصوّر أن من الضروري معاقبة العدو على ذلك، ليعرف أن العدوان لا بد أن يُقابل بالرد، وأن يد اللبنانيين طويلة في ساحة المواجهة إذا كانت يده طويلة في العدوان، وأن الدول التي تتدخّل لدعوة اللبنانيين إلى التهدئة لا بدّ أن توجه خطابها إلى الكيان الصهيوني للامتناع عن العدوان أولاً، والانسحاب من بقية الأراضي اللبنانية المحتلة، ولكن المشكلة أن هذه الدول ـ وفي مقدمتها أمريكا ـ لا تعطي الأهمية إلا للأمن الإسرائيلي، ولحماية موقف إسرائيل في حاجاتها السياسية في الاحتلال وفي العدوان. وعلينا في مرحلتنا هذه - كلبنانيين وكعرب ومسلمين - أن نبقى في خط المواجهة، للحفاظ على حقوقنا الشرعية في القضايا المصيرية على صعيد الحاضر والمستقبل.

مزيد من الاهتمام بالمناطق المحرومة

وإذا وصلنا إلى الداخل اللبناني، فإننا في الوقت الذي نقدّر فيه المبادرات الحكومية في تخفيض الضرائب على السلع الاستهلاكية المستوردة، وفي الاستعداد لتشجيع الصناعة، نريد للحكومة أن تعمل على حماية الصناعة الوطنية ، والوفاء بتعهداتها بشكل سريع في تشجيع المواسم الزراعية والتخطيط للزراعات البديلة المنتجة، وحماية الإنتاج الزراعي من المنافسة الخارجية في المناطق المحرومة، ولا سيما في البقاع الذي امتنع مزارعوه عن زراعة المخدرات ولكنهم لم يجدوا أيّ تعويض دولي عن ذلك، كما هو الحال في التعويضات الدولية التي قُدّمت لتركيا وغيرها، ولم يلقوا أيّ اهتمام حقيقي من الحكومات الوطنية المتتابعة، الأمر الذي جعلهم يشعرون بأنهم خارج الوطن..

وبهذه المناسبة، فإننا نطلب من ممثلي البقاع في المجلس النيابي والحكومة وفي الواقع السياسي، أن يبادروا إلى الضغط السياسي لتنفيذ المطالب المحقة للشعب، قبل أن تتحرك الفوضى في صفوفه، لأن الجوع كافر، ولأن الفقر يؤدي إلى السلبية، وهذا ما لا يرغب به المخلصون للوطن كله.

وإذا كنا نتحدث عن البقاع المحروم، فإننا نطلق الصوت في كل المناطق المحرومة، لا سيما عكار شقيقة البقاع في الحرمان، والجنوب، وخاصة المناطق المحررة منه، التي لا تزال تنتظر الحكومة لتنفيذ وعودها، لتشعر بأنها عادت إلى الوطن، وأن الوطن قد عاد ليحتضن قضاياها وحاجاتها الحيوية، في الوقت الذي لا تزال تعيش فيه تحت تأثير الخوف من العدو من خلال تهديداته..

إننا نتفهّم الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان، وتواجهها الحكومة على الصعيد الاقتصادي، ولكن هناك أولويات للمناطق الأشد فقراً والأشد حاجة، لتبقى لها حياتها الطبيعية، ولا تموت.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير