في رحاب يوم الغدير الأغرّ: لنعش علياً منهجاً وسيرةً وشجاعةً وإخلاصاً

في رحاب يوم الغدير الأغرّ: لنعش علياً منهجاً وسيرةً وشجاعةً وإخلاصاً

في رحاب يوم الغدير الأغرّ: لنعش علياً منهجاً وسيرةً وشجاعةً وإخلاصاً


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

إبلاغ الرسالة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الرّسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}. في أواخر حياة النبي(ص)، وفي آخر حجة له جمع فيها المسلمين، أخبره الله تعالى بأن أجله قد اقترب، ونزلت هذه الآية لتقول له: إنك قد بلّ‍غت الإسلام ونصحت لله، وجاهدت في سبيله، وتحمّلت من الأذى كما لم يتحمّله نبي قبلك، وقد حان فراقك للدنيا لتنتقل إلى رحاب الله تعالى، ليجزيك أجر ما بلّغت وجاهدت، وبقيت هناك مسألة تتصل بمستقبل الإسلام، لأن الإسلام بحاجة إلى وليّ يعيش الإسلام في كل عقله، وكان عليّ(ع) هو الوليّ، لأنّ عقله إسلام لا مجال فيه لأيّ كفر ولأيّ ضلال، لأنه رضع الإسلام من روح رسول الله(ص)، فقد تربّى على يديه قبل أن يُبعث بالرسالة، وعاش الإسلام عندما انطلق في وحي الله تعالى لرسوله، وتربّى على خلقه، وكانت آفاقه آفاق رسول الله، لقد كرّم الله وجهه عن السجود لصنم، في الوقت الذي سجد الجميع للصنم، فقد عرف التوحيد وهو ابن سنتين، فكان توحيد الله في كل عقله وقلبه ومشاعره وأحاسيسه.

التفاني والإخلاص للإسلام

وهكذا، عاش الإسلام جهاداً في بدر وأحد والأحزاب وخيبر وحنين. أعطى الإسلام كل جهده وكان الفارس الذي لم يتقدّمه أحد من المسلمين، وقد سُمع في وقعة بدر: "لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار"، وانطلق في وقعة الأحزاب التي هُدد فيها الإسلام بجيوش المشركين وحلفائهم، وجاء عمرو بن عبد ود، والنبي(ص) يقول: "من لعمر وقد ضمنت على الله الجنة"، ولم يقم إلا عليّ ـ في المرات الثلاث ـ حتى أذن له النبي وقال: "لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، واندفع عليّ(ع) إلى الميدان، فبادره عمرو بالقول: لقد كان أبوك صديقاً لي ولا أحبّ أن أقتلك، فردّ عليه عليّ في عنفوان شباب الإسلام الذي يحمله: "ولكنك عدوّ للإسلام وأنا أحبّ أن أقتلك"، لقد بعت نفسي لله، ولذلك فإنني عدوّ لمن عادى الله ورسوله، وصديق لمن كان يحبّ الله ورسوله. وعرض عليّ(ع) عليه أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال له عمرو: دع هذه، فعرض عليه أن يرجع بهذا الجيش من حيث أتى، فقال: لا أريد أن تتحدث نساء قريش أنني جئت بهذا الجيش ورجعت من غير أن أقاتل، فعرض عليه أن ينزل ليتقاتلا، فقال: والله ما دعاني أحد من العرب قبلك ـ لأنه كان يعدّ بألف فارس ـ وتجاولا وصرعه عليّ(ع)، فشتم عمر بن عبد ودّ عليّاً(ع)، أو بصق في وجهه، والمسلمون ينادون: يا علي! احتز رأسه لأن الرجل غدّار، وعليّ لا يستجيب، ثم صرعه وقتله، وسئل بعد ذلك: لمَ تأخرت في قتله وكنا نخاف عليك منه؟ فقال: "لقد شتمني ـ أو بصق في وجهي ـ فثارت أعصابي، فخفت أن أقتله انتقاماً لنفسي، فانتظرت حتى بردت أعصابي وقتلته لله". لقد كان جهاد عليّ لله كما كانت صلاته لله، واستقبله رسول الله(ص) بالكلمة الرائعة: "ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين"، الإنس والجن.

لماذا هذه الكلمة؟ هل هي عاطفة من رسول الله، وهو الذي {لا ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى}؟ بل لأنه لو انتصر عمرو بن عبد ودّ على عليّ، وانتصر المشركون على المسلمين، لما بقيت للمسلمين قائمة، لأنهم انطلقوا من أجل إنهاء الإسلام في المدينة التي هي عاصمة الإسلام كلّه.

وفي خيبر، عندما برز مرحب في عملية استعراضية للمسلمين، وأرسل رسول الله شخصاً، فرجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه، وأرسل شخصاً آخر فرجع كذلك، وقال النبي(ص): "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"، وقال: "أين عليّ"؟ قيل له إنه يشكو من عينيه، فجاء عليّ إليه ومسح ببصاقه على عينيه، وانطلق عليّ(ع) وواجه مرحبًا وقدّه نصفين، واندفع اليهود إلى القلعة، ولكن عليّاً(ع) انطلق بساعده الممتلئ إيماناً بالله ورسوله، واقتلع الباب ووضعه جسراً للمسلمين. وقد قال عليّ(ع): "والله ما قلعت باب خيبر بقوة بشرية بل بقوة ربانية"، وانتصر الإسلام في خيبر وحنين، وكان عليّ بطل الإسلام.

العالم والمجاهد

كان عليّ(ع) يملك العلم كله، يملك علم رسول الله: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وقال(ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، من كل باب يُفتح لي ألف باب". كان عليّ(ع) الإنسان الذي عاش الفقر كله والزهد كلّه، حتى إنّه عندما خطب السيدة فاطمة الزهراء(ع) من رسول الله(ص)، قال له: "ما عندك"؟ قال له: "ليس عندي إلا سيفي ودرعي"، وباع درعه الذي كان مهر الزهراء(ع).

ونسأل بعيداً عن العاطفة: لماذا عليّ وحده؟ لأنه ليس هناك إلا عليّ، ليس هناك أحد من المسلمين يملك علم عليّ وتاريخه في الجهاد، وإخلاصه للإسلام، ليس هناك في المسلمين من يملك الإسلام كله إلا عليّ. ربما كان بعض المسلمين يملك شيئاً من العلم أو الجهاد هنا وهناك، نحن لا نغمط حقوق المسلمين، وقد مدح الله تعالى المسلمين من المهاجرين والأنصار، ولكن لم يجمع أحد من المسلمين ما جمعه عليّ(ع)، والإسلام بحاجة بعد النبي(ص) الذي كان يمثل المظلة للمسلمين جميعاً، والقوة الروحية التي أعطتهم كل هذه الروح، بحاجة إلى الشخص الذي يستطيع أن يكمل حركة الرسالة، لأن الإسلام كان بحاجة إلى أن يمتد ويتوسّع، ولذلك لم يجد رسول الله إلا عليًّا، ولم تكن المسألة مسألة شخصية من رسول الله، بل إنه(ص) عرف من عليّ كل ما يحتاجه الإسلام، والجميع يروون: "عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار"، ويروون: "يا عليّ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وكانت الأوسمة النبوية تتلاحق في كلمات رسول الله(ص) في عليّ(ع)، ولذلك أراد الله تعالى له أن يجعله وصيّه وخليفته من بعده، لتستمر الرسالة في خطّها المستقيم.

الناصح والمسالم

وقد نزلت هذه الآية، والمسلمون مجتمعون، والشمس في أشدّ حرارتها، وخاطب النبي(ص) المسلمين: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال(ص): "من كنت مولاه ـ أي من كنت أولى به من نفسه ـ فهذا عليّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار"، وانطلق المسلمون يبايعونه.

ومرت الأيام، وغاب رسول الله(ص)، وكان عليّ(ع) مشغولاً بتكفينه وتجهيزه، والمسلمون مشغولون: منا أمير ومنكم أمير... وكان ما كان، وابتعدت المسألة عن خطها المستقيم، وهوجم دار عليّ(ع)، وهُدد إذا لم يبايع أن يُحرق بالنار، وكان ما كان. لكن عليّاً(ع) لم يفكر في ظلامته وفي ظلامة وديعة رسول الله(ص) عنده عندما أُبعدت عن حقها في فدك، وعندما أُبعد عن حقه في الخلافة، بل كان يفكر في الإسلام والمسلمين، ووقف موقفاً سلبياً، ولكنه رأى أن هناك تطورات تجعل البعض يرتد عن الإسلام والمسلمين، ما جعله يتحرّك بشكل إيجابي فاعل، ليعاون الذين تقدّموه، ويعطيهم الرأي الذي كانوا بحاجة إليه، لأن علياً(ع) لا يحمل حقداً حتى لخصومه، والذين أبعدوه عن حقه الشرعي في الخلافة، وقد قال: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه". وكان(ع) يقول: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة"، المهم أن لا يُظلم الإسلام أو يضعف.

لقد كان عليّ(ع) لله بكله، وقد ورد في تفسير الآية الكريمة: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، أنها نزلت في عليّ (ع) ليلة الهجرة عندما بات على فراش رسول الله (ص)، وقد كان يقول لبعض الناس عنده: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"، كان عليّ(ع) يدعو الناس إلى أن يحاسبوه وينقدوه وهو فوق الحساب وفوق النقد.

إننا عندما ندرس علياً (ع) في كل حياته، منذ أن وُلد في الكعبة ومنذ أن احتضنه رسول الله، وفي كل محطات تاريخه حتى جاءه ابن ملجم وضربه في المحراب على رأسه، نجد أنه كان بكله لله، وقد ختم حياته بالكلمة التي عبّر فيها عن فوزه: "باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة".

رائد الوحدة الإسلامية

لقد كان عليّ(ع) رائد الوحدة الإسلامية، لم يتنازل عن حقه، لأنّ حقه في الإمامة من الله تعالى ومن رسوله(ص)، ولكنه جمّد المطالبة بحقه في سبيل الإسلام، وقد كان يريد وحدة المسلمين ومصلحتهم، وكان لا يريد لهم حتى في أشدِّ حالات النزاع أن يسبوا بعضهم بعضاً ويلعنوا بعضهم بعضاً، وقد قال لأصحابه وهو في طريقه إلى صفين: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به". وعلينا ونحن نعيش في هذه المرحلة، حيث يقتل المسلمون بعضهم بعضاً، ويكفِّرون بعضهم بعضًا أن نقتدي بعليّ(ع)، ونقول لهؤلاء الذين يستحلّون قتل المسلمين ممّن يلتزمون خطّ عليّ وأهل بيته، كما يحدث في العراق: إن الإسلام بحاجة إلى كل طاقات المسلمين، وعلى المسلمين عندما يختلفون أن يتحاوروا، كما قال الله تعالى. لقد برز الشرك كله والاستكبار كله إلى الإسلام كله، ونحن بحاجة إلى أن يبرز الإسلام كله والاستضعاف كله إلى الشرك كله والاستكبار كله.

إن علينا أن نعيش عليّاً(ع) في كل منهجه وسيرته وشجاعته وإخلاصه، ونقرأ في نهاية المطاف بيت الشعر للشاعر المسيحي بولس سلامة:

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنني ذكرت علياً

نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإسلام وولايته، وفي هذا اليوم ـ يوم الغدير ـ نقول: الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية عليّ(ع)، الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في نظم أمركم وإصلاح ذات بينكم، لأن المرحلة التي نعيشها تمثل أقسى المراحل التي يمر بها الإسلام وأهله، ولذلك علينا أن نتوحّد في خط عليّ(ع)،لنعمل على أساس أن نكون كما أراد الله تعالى، صفاً واحداً كالبنيان المرصوص. ولا نزال نعيش التحديات الكبرى التي يفرضها علينا الاستكبار العالمي، وهذا ما لا بد لنا أن نعيشه ونعرفه لنحدد مواقفنا في اتجاهه، فماذا هناك؟

محاولات الإجهاز على القضية الفلسطينية

التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي يستهدف خلط الأوراق في المنطقة لمصلحته، ويمتد إلى أكثر من مكان في العالم ليمنح الدولة الصهيونية أكثر من ساحة للنفوذ، من خلال استغلال شعار معاداة السامية لضرب أية حركة إعلامية مناهضة للسياسة الإسرائيلية في تحرّكها وفي جرائمها ضد الشعب الفلسطيني في مصادرة أراضيه، كما يحدث الآن في القدس من سرقة لبيوت الفلسطينيين الذين طُردوا إلى الضفة الغربية تحت قانون الاستيلاء على بيوت الغائبين، والتمدد في الجدار العنصري إلى أكثر من أرض فلسطينية، في الوقت الذي تلوّح بكلمات السلام بيد، وتواصل عمليات القتل والتدمير بيد أخرى...

وقد كانت آخر جريمة لها قتل الطفلة ذات الثلاث سنوات وهي في بيت أهلها، وتحميل الفلسطينيين مسؤولية ذلك، لتضاف هذه الطفلة إلى مئات الأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل بكل وحشية، من دون أيّ استنكار أو احتجاج أمريكي أو أوروبي أو عربي رسمي، لأن الجميع مشغولون بالحديث عن السلام الموعود الذي يطالب الفلسطينيين بتقديم التنازلات من حقوقهم الشرعية ومنح الأمن المطلق لليهود، من دون أيّ مقابل في إعطاء الأمن للشعب الفلسطيني، في نطاق أكذوبة خارطة الطريق التي طرحتها اللجنة الرباعية بقيادة أمريكية، ولكن على الطريقة الشارونية التي فرّغتها من مضمونها التحريري، لتشرّع منع الفلسطينيين من حق العودة، ومن رفض المستوطنات والرجوع إلى القدس، ليكون مشروع الدولة الفلسطينية مشروعاً فارغاً من معنى الدولة في معنى الحرية وتقرير المصير..

إن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي عمل منذ نشوء الدولة العبرية على الالتفاف على قرارات الأمم المتحدة، ليكون الحق لإسرائيل في السيطرة على فلسطين شعباً وأرضاً، وعلى ما حولها من أرض لبنان وسوريا، لتعبث بمقدّرات المنطقة، ولتقوم بالمناورة في الحديث عن الحلول المؤقتة والمشروطة، لامتصاص النقمة الدولية حيال مجازرها وحيال المآسي التي تسببت بها للفلسطينيين، ولتضع القيادة الفلسطينية الجديدة أمام خياراتها وشروطها، لأنها تريد لها أن تنفّذ الشروط الأمنية كما تريدها هي، ولا تريد الوصول إلى مستوى الحل السياسي أو المعالجة السياسية... إنها تريد أن تقود الفلسطينيين إلى حقل الألغام الأمني الذي يبعدهم عن حقوقهم، ويشغلهم عن المستقبل السياسي الذي ينبغي أن يعملوا له.

وهذا ما ينبغي للفلسطينيين ـ حكومةً وفصائل ـ الانتباه له، ولا سيما في حركة الخطة الأمريكية من خلال الموفدين الأمريكيين الذين يعملون من أجل تنفيذ الخطة الصهيونية بالمزيد من التضليل والخداع واللعب على الألفاظ والكلمات المعسولة التي لا تمثل شيئاً، ولا توحي بالجديّة الواقعية. إن المطلوب منهم مواصلة الحوار لاكتشاف خلفيات اللعبة الأمريكية ـ الإسرائيلية الجديدة في الحديث عن الحل السلمي الذي يتحرك في أكثر من ضغط على الشعب الجريح، للحفاظ على ساحتهم الداخلية أولاً وآخراً، ولرفض التفريط بكل سنوات الجهاد والمعاناة، فإن "المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين".

ديمقراطية أمريكا على ظهر الدبابات

إن السياسة الأمريكية في الولاية الجديدة للرئيس الأمريكي بوش هي "الحرب العالمية من اجل الديمقراطية لإسقاط الدكتاتورية"، ولكن السؤال هو: هل أن هذا الرجل جاء برسالة سماوية من أجل تحرير العالم من الطغاة، أو أنه يطرح هذه القيم السياسية الإنسانية من أجل تأكيد المصالح الأمريكية الاقتصادية والأمنية، وحماية أمريكا على حساب إسقاط أمن الشعوب المستضعفة، في حروبه الاستباقية التي تدمّر البلاد والعباد، كما حدث في أفغانستان والعراق اللذين لا يزالان يعانيان من القتل والفوضى الأمنية والسقوط الاقتصادي بشكل غير معقول؟

إن المنطق الأمريكي للإدارة الحالية، هو أن يكون العالم الآخر تابعاً للإمبراطورية الأمريكية، لا شريكاً لها في بناء الواقع الجديد الذي يؤكد حقوق الإنسان. وإننا نتساءل: هل الديمقراطية تدخل إلى حياة الشعوب على ظهر الدبابات التي تسحق هذه الشعوب، بما فيها المعارضة للاحتلال؟!

لقد دخل الجيش الأمريكي العراق بقرار ذاتي للإدارة، من دون موافقة الأمم المتحدة، بحجة تدمير أسلحة الدمار الشامل التي اكتُشف أخيراً أنها ليست موجودة، ولم يستطع بوش حتى الآن أن يجلب الأمن للعراقيين بالرغم من كل الأسلحة المتفوقة التي يملكها جيشه، الأمر الذي يوحي بأن القضية عنده هي إبقاء احتلاله في العراق، ولكن بموافقة الحكومة التي سوف تنشأ على طريقته لخدمة سياسته.. إن العراق يدخل في مشروع الانتخابات الوطنية بعد يومين، والسؤال: هل يملك الشعب الحرية في اختيار من يمثله؟ وهل أن الشروط الأمنية والسياسية متوفرة للمناخ الحرّ الذي لا بد للشعب أن يعيشه، وهل يحقق هذا المشروع المستقبل الذي يتطلع إليه الشعب تحت سلطة الاحتلال؟؟

نحذِّر العراقيين من الخلفيات المشبوهة

إننا ندعو الشعب العراقي إلى الوعي والوحدة والحذر من كل الخلفيات المشبوهة والألاعيب المتنوّعة، لينظر إلى الواقع بعينين مفتوحتين ترصدان الأمور بيقظة سياسية مستقبلية، ولا سيما أن الطريق إلى تحقيق مصالح أمريكا طويل، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ أن يتحوّل العراق إلى قاعدة مركزية دبلوماسية أمريكية كبرى، من خلال السفارة الأمريكية التي هي السفارة الأكبر في العالم، وإلى قاعدة عسكرية في أكثر من موقع من مواقعه الاستراتيجية التي تتيح لها محاصرة كل دول المنطقة للضغط عليها سياسياً وأمنياً، من خلال فرض شروطها الضاغطة، كما نجده في حساباتها التي يتحدث أحد المسؤولين الأمريكيين عن وجوب تصفيتها مع سوريا وإيران، بالتعاون مع إسرائيل التي هي حاملة الطائرات الأمريكية في الشرق الأوسط، على حدّ قول أحد المسؤولين الأمريكيين، ومن خلال وجود قواعد أمريكية سريّة في إسرائيل... إن المنطقة تقبل على أخطر وضع أمني سياسي من خلال الضغط الأمريكي ـ الإسرائيلي، ما يفرض على شعوبها ودولها الحذر الشديد من تأثيرات ذلك على حريتها ونموّها الاقتصادي واستقلالها.

موقف لبنان الأصيل في رفض الاحتلال

أما في لبنان، فقد نسي القائمون على سياسته كل شيء في حاضره ومستقبله، واستغرقوا في قانون الانتخاب الذي يُراد له أن يرفع فريقاً ويضع فريقاً آخر، لحساب أوضاع طائفية هنا وشخصانية هناك، باعتبار تأثيرات أطياف المجلس القادم في حسابات المعارضة والموالاة التي لا تزال موضع تجاذب في الدائرة الصغرى أو الوسطى، من أجل خصوصيات حزبية أو شخصية، لا من أجل الوضع العام للبنان الذي تحيط به الأخطار من كل جانب.

ولعلّ من المفارقة أن الانسحاب الإسرائيلي ليس في موقع الأهمية لدى بعض الفرقاء، بل الانسحاب العربي السوري، وأن التدخّل الأمريكي ليس هو المشكلة، بل المشكلة عندهم في التدخّل السوري.. إننا نقول للجميع: ليكن الصوت واحداً، أن يبقى للبنان موقعه الحرّ في قراره، وموقفه الأصيل في رفضه للاحتلال الإسرائيلي، وعلاقته المصيرية بالمحيط العربي، ولا سيما السوري، على أساس الاحترام المتبادل والمستقبل المشترك في مواجهة الاهتزازات السياسية والأمنية في المنطقة كلها.

في رحاب يوم الغدير الأغرّ: لنعش علياً منهجاً وسيرةً وشجاعةً وإخلاصاً


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

إبلاغ الرسالة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الرّسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس}. في أواخر حياة النبي(ص)، وفي آخر حجة له جمع فيها المسلمين، أخبره الله تعالى بأن أجله قد اقترب، ونزلت هذه الآية لتقول له: إنك قد بلّ‍غت الإسلام ونصحت لله، وجاهدت في سبيله، وتحمّلت من الأذى كما لم يتحمّله نبي قبلك، وقد حان فراقك للدنيا لتنتقل إلى رحاب الله تعالى، ليجزيك أجر ما بلّغت وجاهدت، وبقيت هناك مسألة تتصل بمستقبل الإسلام، لأن الإسلام بحاجة إلى وليّ يعيش الإسلام في كل عقله، وكان عليّ(ع) هو الوليّ، لأنّ عقله إسلام لا مجال فيه لأيّ كفر ولأيّ ضلال، لأنه رضع الإسلام من روح رسول الله(ص)، فقد تربّى على يديه قبل أن يُبعث بالرسالة، وعاش الإسلام عندما انطلق في وحي الله تعالى لرسوله، وتربّى على خلقه، وكانت آفاقه آفاق رسول الله، لقد كرّم الله وجهه عن السجود لصنم، في الوقت الذي سجد الجميع للصنم، فقد عرف التوحيد وهو ابن سنتين، فكان توحيد الله في كل عقله وقلبه ومشاعره وأحاسيسه.

التفاني والإخلاص للإسلام

وهكذا، عاش الإسلام جهاداً في بدر وأحد والأحزاب وخيبر وحنين. أعطى الإسلام كل جهده وكان الفارس الذي لم يتقدّمه أحد من المسلمين، وقد سُمع في وقعة بدر: "لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار"، وانطلق في وقعة الأحزاب التي هُدد فيها الإسلام بجيوش المشركين وحلفائهم، وجاء عمرو بن عبد ود، والنبي(ص) يقول: "من لعمر وقد ضمنت على الله الجنة"، ولم يقم إلا عليّ ـ في المرات الثلاث ـ حتى أذن له النبي وقال: "لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، واندفع عليّ(ع) إلى الميدان، فبادره عمرو بالقول: لقد كان أبوك صديقاً لي ولا أحبّ أن أقتلك، فردّ عليه عليّ في عنفوان شباب الإسلام الذي يحمله: "ولكنك عدوّ للإسلام وأنا أحبّ أن أقتلك"، لقد بعت نفسي لله، ولذلك فإنني عدوّ لمن عادى الله ورسوله، وصديق لمن كان يحبّ الله ورسوله. وعرض عليّ(ع) عليه أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال له عمرو: دع هذه، فعرض عليه أن يرجع بهذا الجيش من حيث أتى، فقال: لا أريد أن تتحدث نساء قريش أنني جئت بهذا الجيش ورجعت من غير أن أقاتل، فعرض عليه أن ينزل ليتقاتلا، فقال: والله ما دعاني أحد من العرب قبلك ـ لأنه كان يعدّ بألف فارس ـ وتجاولا وصرعه عليّ(ع)، فشتم عمر بن عبد ودّ عليّاً(ع)، أو بصق في وجهه، والمسلمون ينادون: يا علي! احتز رأسه لأن الرجل غدّار، وعليّ لا يستجيب، ثم صرعه وقتله، وسئل بعد ذلك: لمَ تأخرت في قتله وكنا نخاف عليك منه؟ فقال: "لقد شتمني ـ أو بصق في وجهي ـ فثارت أعصابي، فخفت أن أقتله انتقاماً لنفسي، فانتظرت حتى بردت أعصابي وقتلته لله". لقد كان جهاد عليّ لله كما كانت صلاته لله، واستقبله رسول الله(ص) بالكلمة الرائعة: "ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين"، الإنس والجن.

لماذا هذه الكلمة؟ هل هي عاطفة من رسول الله، وهو الذي {لا ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى}؟ بل لأنه لو انتصر عمرو بن عبد ودّ على عليّ، وانتصر المشركون على المسلمين، لما بقيت للمسلمين قائمة، لأنهم انطلقوا من أجل إنهاء الإسلام في المدينة التي هي عاصمة الإسلام كلّه.

وفي خيبر، عندما برز مرحب في عملية استعراضية للمسلمين، وأرسل رسول الله شخصاً، فرجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه، وأرسل شخصاً آخر فرجع كذلك، وقال النبي(ص): "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"، وقال: "أين عليّ"؟ قيل له إنه يشكو من عينيه، فجاء عليّ إليه ومسح ببصاقه على عينيه، وانطلق عليّ(ع) وواجه مرحبًا وقدّه نصفين، واندفع اليهود إلى القلعة، ولكن عليّاً(ع) انطلق بساعده الممتلئ إيماناً بالله ورسوله، واقتلع الباب ووضعه جسراً للمسلمين. وقد قال عليّ(ع): "والله ما قلعت باب خيبر بقوة بشرية بل بقوة ربانية"، وانتصر الإسلام في خيبر وحنين، وكان عليّ بطل الإسلام.

العالم والمجاهد

كان عليّ(ع) يملك العلم كله، يملك علم رسول الله: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وقال(ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، من كل باب يُفتح لي ألف باب". كان عليّ(ع) الإنسان الذي عاش الفقر كله والزهد كلّه، حتى إنّه عندما خطب السيدة فاطمة الزهراء(ع) من رسول الله(ص)، قال له: "ما عندك"؟ قال له: "ليس عندي إلا سيفي ودرعي"، وباع درعه الذي كان مهر الزهراء(ع).

ونسأل بعيداً عن العاطفة: لماذا عليّ وحده؟ لأنه ليس هناك إلا عليّ، ليس هناك أحد من المسلمين يملك علم عليّ وتاريخه في الجهاد، وإخلاصه للإسلام، ليس هناك في المسلمين من يملك الإسلام كله إلا عليّ. ربما كان بعض المسلمين يملك شيئاً من العلم أو الجهاد هنا وهناك، نحن لا نغمط حقوق المسلمين، وقد مدح الله تعالى المسلمين من المهاجرين والأنصار، ولكن لم يجمع أحد من المسلمين ما جمعه عليّ(ع)، والإسلام بحاجة بعد النبي(ص) الذي كان يمثل المظلة للمسلمين جميعاً، والقوة الروحية التي أعطتهم كل هذه الروح، بحاجة إلى الشخص الذي يستطيع أن يكمل حركة الرسالة، لأن الإسلام كان بحاجة إلى أن يمتد ويتوسّع، ولذلك لم يجد رسول الله إلا عليًّا، ولم تكن المسألة مسألة شخصية من رسول الله، بل إنه(ص) عرف من عليّ كل ما يحتاجه الإسلام، والجميع يروون: "عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار"، ويروون: "يا عليّ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وكانت الأوسمة النبوية تتلاحق في كلمات رسول الله(ص) في عليّ(ع)، ولذلك أراد الله تعالى له أن يجعله وصيّه وخليفته من بعده، لتستمر الرسالة في خطّها المستقيم.

الناصح والمسالم

وقد نزلت هذه الآية، والمسلمون مجتمعون، والشمس في أشدّ حرارتها، وخاطب النبي(ص) المسلمين: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال(ص): "من كنت مولاه ـ أي من كنت أولى به من نفسه ـ فهذا عليّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار"، وانطلق المسلمون يبايعونه.

ومرت الأيام، وغاب رسول الله(ص)، وكان عليّ(ع) مشغولاً بتكفينه وتجهيزه، والمسلمون مشغولون: منا أمير ومنكم أمير... وكان ما كان، وابتعدت المسألة عن خطها المستقيم، وهوجم دار عليّ(ع)، وهُدد إذا لم يبايع أن يُحرق بالنار، وكان ما كان. لكن عليّاً(ع) لم يفكر في ظلامته وفي ظلامة وديعة رسول الله(ص) عنده عندما أُبعدت عن حقها في فدك، وعندما أُبعد عن حقه في الخلافة، بل كان يفكر في الإسلام والمسلمين، ووقف موقفاً سلبياً، ولكنه رأى أن هناك تطورات تجعل البعض يرتد عن الإسلام والمسلمين، ما جعله يتحرّك بشكل إيجابي فاعل، ليعاون الذين تقدّموه، ويعطيهم الرأي الذي كانوا بحاجة إليه، لأن علياً(ع) لا يحمل حقداً حتى لخصومه، والذين أبعدوه عن حقه الشرعي في الخلافة، وقد قال: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه". وكان(ع) يقول: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة"، المهم أن لا يُظلم الإسلام أو يضعف.

لقد كان عليّ(ع) لله بكله، وقد ورد في تفسير الآية الكريمة: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، أنها نزلت في عليّ (ع) ليلة الهجرة عندما بات على فراش رسول الله (ص)، وقد كان يقول لبعض الناس عنده: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"، كان عليّ(ع) يدعو الناس إلى أن يحاسبوه وينقدوه وهو فوق الحساب وفوق النقد.

إننا عندما ندرس علياً (ع) في كل حياته، منذ أن وُلد في الكعبة ومنذ أن احتضنه رسول الله، وفي كل محطات تاريخه حتى جاءه ابن ملجم وضربه في المحراب على رأسه، نجد أنه كان بكله لله، وقد ختم حياته بالكلمة التي عبّر فيها عن فوزه: "باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة".

رائد الوحدة الإسلامية

لقد كان عليّ(ع) رائد الوحدة الإسلامية، لم يتنازل عن حقه، لأنّ حقه في الإمامة من الله تعالى ومن رسوله(ص)، ولكنه جمّد المطالبة بحقه في سبيل الإسلام، وقد كان يريد وحدة المسلمين ومصلحتهم، وكان لا يريد لهم حتى في أشدِّ حالات النزاع أن يسبوا بعضهم بعضاً ويلعنوا بعضهم بعضاً، وقد قال لأصحابه وهو في طريقه إلى صفين: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به". وعلينا ونحن نعيش في هذه المرحلة، حيث يقتل المسلمون بعضهم بعضاً، ويكفِّرون بعضهم بعضًا أن نقتدي بعليّ(ع)، ونقول لهؤلاء الذين يستحلّون قتل المسلمين ممّن يلتزمون خطّ عليّ وأهل بيته، كما يحدث في العراق: إن الإسلام بحاجة إلى كل طاقات المسلمين، وعلى المسلمين عندما يختلفون أن يتحاوروا، كما قال الله تعالى. لقد برز الشرك كله والاستكبار كله إلى الإسلام كله، ونحن بحاجة إلى أن يبرز الإسلام كله والاستضعاف كله إلى الشرك كله والاستكبار كله.

إن علينا أن نعيش عليّاً(ع) في كل منهجه وسيرته وشجاعته وإخلاصه، ونقرأ في نهاية المطاف بيت الشعر للشاعر المسيحي بولس سلامة:

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنني ذكرت علياً

نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإسلام وولايته، وفي هذا اليوم ـ يوم الغدير ـ نقول: الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية عليّ(ع)، الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في نظم أمركم وإصلاح ذات بينكم، لأن المرحلة التي نعيشها تمثل أقسى المراحل التي يمر بها الإسلام وأهله، ولذلك علينا أن نتوحّد في خط عليّ(ع)،لنعمل على أساس أن نكون كما أراد الله تعالى، صفاً واحداً كالبنيان المرصوص. ولا نزال نعيش التحديات الكبرى التي يفرضها علينا الاستكبار العالمي، وهذا ما لا بد لنا أن نعيشه ونعرفه لنحدد مواقفنا في اتجاهه، فماذا هناك؟

محاولات الإجهاز على القضية الفلسطينية

التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي يستهدف خلط الأوراق في المنطقة لمصلحته، ويمتد إلى أكثر من مكان في العالم ليمنح الدولة الصهيونية أكثر من ساحة للنفوذ، من خلال استغلال شعار معاداة السامية لضرب أية حركة إعلامية مناهضة للسياسة الإسرائيلية في تحرّكها وفي جرائمها ضد الشعب الفلسطيني في مصادرة أراضيه، كما يحدث الآن في القدس من سرقة لبيوت الفلسطينيين الذين طُردوا إلى الضفة الغربية تحت قانون الاستيلاء على بيوت الغائبين، والتمدد في الجدار العنصري إلى أكثر من أرض فلسطينية، في الوقت الذي تلوّح بكلمات السلام بيد، وتواصل عمليات القتل والتدمير بيد أخرى...

وقد كانت آخر جريمة لها قتل الطفلة ذات الثلاث سنوات وهي في بيت أهلها، وتحميل الفلسطينيين مسؤولية ذلك، لتضاف هذه الطفلة إلى مئات الأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل بكل وحشية، من دون أيّ استنكار أو احتجاج أمريكي أو أوروبي أو عربي رسمي، لأن الجميع مشغولون بالحديث عن السلام الموعود الذي يطالب الفلسطينيين بتقديم التنازلات من حقوقهم الشرعية ومنح الأمن المطلق لليهود، من دون أيّ مقابل في إعطاء الأمن للشعب الفلسطيني، في نطاق أكذوبة خارطة الطريق التي طرحتها اللجنة الرباعية بقيادة أمريكية، ولكن على الطريقة الشارونية التي فرّغتها من مضمونها التحريري، لتشرّع منع الفلسطينيين من حق العودة، ومن رفض المستوطنات والرجوع إلى القدس، ليكون مشروع الدولة الفلسطينية مشروعاً فارغاً من معنى الدولة في معنى الحرية وتقرير المصير..

إن التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي عمل منذ نشوء الدولة العبرية على الالتفاف على قرارات الأمم المتحدة، ليكون الحق لإسرائيل في السيطرة على فلسطين شعباً وأرضاً، وعلى ما حولها من أرض لبنان وسوريا، لتعبث بمقدّرات المنطقة، ولتقوم بالمناورة في الحديث عن الحلول المؤقتة والمشروطة، لامتصاص النقمة الدولية حيال مجازرها وحيال المآسي التي تسببت بها للفلسطينيين، ولتضع القيادة الفلسطينية الجديدة أمام خياراتها وشروطها، لأنها تريد لها أن تنفّذ الشروط الأمنية كما تريدها هي، ولا تريد الوصول إلى مستوى الحل السياسي أو المعالجة السياسية... إنها تريد أن تقود الفلسطينيين إلى حقل الألغام الأمني الذي يبعدهم عن حقوقهم، ويشغلهم عن المستقبل السياسي الذي ينبغي أن يعملوا له.

وهذا ما ينبغي للفلسطينيين ـ حكومةً وفصائل ـ الانتباه له، ولا سيما في حركة الخطة الأمريكية من خلال الموفدين الأمريكيين الذين يعملون من أجل تنفيذ الخطة الصهيونية بالمزيد من التضليل والخداع واللعب على الألفاظ والكلمات المعسولة التي لا تمثل شيئاً، ولا توحي بالجديّة الواقعية. إن المطلوب منهم مواصلة الحوار لاكتشاف خلفيات اللعبة الأمريكية ـ الإسرائيلية الجديدة في الحديث عن الحل السلمي الذي يتحرك في أكثر من ضغط على الشعب الجريح، للحفاظ على ساحتهم الداخلية أولاً وآخراً، ولرفض التفريط بكل سنوات الجهاد والمعاناة، فإن "المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين".

ديمقراطية أمريكا على ظهر الدبابات

إن السياسة الأمريكية في الولاية الجديدة للرئيس الأمريكي بوش هي "الحرب العالمية من اجل الديمقراطية لإسقاط الدكتاتورية"، ولكن السؤال هو: هل أن هذا الرجل جاء برسالة سماوية من أجل تحرير العالم من الطغاة، أو أنه يطرح هذه القيم السياسية الإنسانية من أجل تأكيد المصالح الأمريكية الاقتصادية والأمنية، وحماية أمريكا على حساب إسقاط أمن الشعوب المستضعفة، في حروبه الاستباقية التي تدمّر البلاد والعباد، كما حدث في أفغانستان والعراق اللذين لا يزالان يعانيان من القتل والفوضى الأمنية والسقوط الاقتصادي بشكل غير معقول؟

إن المنطق الأمريكي للإدارة الحالية، هو أن يكون العالم الآخر تابعاً للإمبراطورية الأمريكية، لا شريكاً لها في بناء الواقع الجديد الذي يؤكد حقوق الإنسان. وإننا نتساءل: هل الديمقراطية تدخل إلى حياة الشعوب على ظهر الدبابات التي تسحق هذه الشعوب، بما فيها المعارضة للاحتلال؟!

لقد دخل الجيش الأمريكي العراق بقرار ذاتي للإدارة، من دون موافقة الأمم المتحدة، بحجة تدمير أسلحة الدمار الشامل التي اكتُشف أخيراً أنها ليست موجودة، ولم يستطع بوش حتى الآن أن يجلب الأمن للعراقيين بالرغم من كل الأسلحة المتفوقة التي يملكها جيشه، الأمر الذي يوحي بأن القضية عنده هي إبقاء احتلاله في العراق، ولكن بموافقة الحكومة التي سوف تنشأ على طريقته لخدمة سياسته.. إن العراق يدخل في مشروع الانتخابات الوطنية بعد يومين، والسؤال: هل يملك الشعب الحرية في اختيار من يمثله؟ وهل أن الشروط الأمنية والسياسية متوفرة للمناخ الحرّ الذي لا بد للشعب أن يعيشه، وهل يحقق هذا المشروع المستقبل الذي يتطلع إليه الشعب تحت سلطة الاحتلال؟؟

نحذِّر العراقيين من الخلفيات المشبوهة

إننا ندعو الشعب العراقي إلى الوعي والوحدة والحذر من كل الخلفيات المشبوهة والألاعيب المتنوّعة، لينظر إلى الواقع بعينين مفتوحتين ترصدان الأمور بيقظة سياسية مستقبلية، ولا سيما أن الطريق إلى تحقيق مصالح أمريكا طويل، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ أن يتحوّل العراق إلى قاعدة مركزية دبلوماسية أمريكية كبرى، من خلال السفارة الأمريكية التي هي السفارة الأكبر في العالم، وإلى قاعدة عسكرية في أكثر من موقع من مواقعه الاستراتيجية التي تتيح لها محاصرة كل دول المنطقة للضغط عليها سياسياً وأمنياً، من خلال فرض شروطها الضاغطة، كما نجده في حساباتها التي يتحدث أحد المسؤولين الأمريكيين عن وجوب تصفيتها مع سوريا وإيران، بالتعاون مع إسرائيل التي هي حاملة الطائرات الأمريكية في الشرق الأوسط، على حدّ قول أحد المسؤولين الأمريكيين، ومن خلال وجود قواعد أمريكية سريّة في إسرائيل... إن المنطقة تقبل على أخطر وضع أمني سياسي من خلال الضغط الأمريكي ـ الإسرائيلي، ما يفرض على شعوبها ودولها الحذر الشديد من تأثيرات ذلك على حريتها ونموّها الاقتصادي واستقلالها.

موقف لبنان الأصيل في رفض الاحتلال

أما في لبنان، فقد نسي القائمون على سياسته كل شيء في حاضره ومستقبله، واستغرقوا في قانون الانتخاب الذي يُراد له أن يرفع فريقاً ويضع فريقاً آخر، لحساب أوضاع طائفية هنا وشخصانية هناك، باعتبار تأثيرات أطياف المجلس القادم في حسابات المعارضة والموالاة التي لا تزال موضع تجاذب في الدائرة الصغرى أو الوسطى، من أجل خصوصيات حزبية أو شخصية، لا من أجل الوضع العام للبنان الذي تحيط به الأخطار من كل جانب.

ولعلّ من المفارقة أن الانسحاب الإسرائيلي ليس في موقع الأهمية لدى بعض الفرقاء، بل الانسحاب العربي السوري، وأن التدخّل الأمريكي ليس هو المشكلة، بل المشكلة عندهم في التدخّل السوري.. إننا نقول للجميع: ليكن الصوت واحداً، أن يبقى للبنان موقعه الحرّ في قراره، وموقفه الأصيل في رفضه للاحتلال الإسرائيلي، وعلاقته المصيرية بالمحيط العربي، ولا سيما السوري، على أساس الاحترام المتبادل والمستقبل المشترك في مواجهة الاهتزازات السياسية والأمنية في المنطقة كلها.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير