لنطهّر عقولنا بالحق وقلوبنا بالمحبة وطاقاتنا بالخير

لنطهّر عقولنا بالحق وقلوبنا بالمحبة وطاقاتنا بالخير
في رحاب شهر رمضان المبارك:
لنطهّر عقولنا بالحق وقلوبنا بالمحبة وطاقاتنا بالخير


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون}.

هذه آخر جمعة من شهر شعبان، ونلتقي بأول شهر رمضان يوم الاثنين القادم، لأن شهر شعبان كان كاملاً، فأوله كان يوم السبت بحسب الحسابات الفلكية والرؤية الشائعة في منطقة الخليج، وقد دققنا في آخر شهر شعبان، ورأينا أن من المستحيل إمكانية الرؤية غداً ليلة الأحد، ولكن الهلال يُرى بوضوح في ليلة الإثنين. وعلى هذا، فيكون يوم الاثنين هو أول أيام شهر رمضان المبارك، سائلين الله تعالى أن يعيده على المسلمين بالنصر والعزة والكرامة والتقوى.

شهر الطهارة والإسلام

في هذه الأيام التي ننتظر فيها شهر رمضان المبارك، يروى أنَّ رسول الله (ص) وقف خطيباً في آخر جمعة من شعبان، من أجل إعداد المسلمين روحياً وفكرياً وعملياً، للدخول في هذا الشهر من موقع الوعي للمسؤوليات التي تنتظر الإنسان المؤمن ليرتفع بروحه وبقلبه وبكل طاقاته ليكون قريباً من الله تعالى وحبيباً له، فهذا الشهر هو شهر القرب إلى الله، وقد وصفه الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) في دعائه عند دخول شهر رمضان بأنه "شهر الرحمة وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر الإسلام"، كأن الإمام (ع) يريد أن يقول للناس: إنكم في هذا الشهر تتحركون في بيوتكم وأسواقكم ونواديكم، وفي كل مواقع النشاط في حياتكم، في ظلال رحمة الله، فالله ينظر إليكم بعين الرحمة.

ويقول (ع) لنا: أيُّها المؤمنون، إنكم جمعتم في هذه السنة التي عشتموها _ بين أواخر رمضان وبدايات رمضان آخر _ الكثير من الخطايا والذنوب، واختزنتم الكثير من العيوب، وأخذتم بالكثير من القذارات الروحية والفكرية والعملية، وقد حان وقت الطهور، لأن الإنسان عندما يشعر بقذارة جسده، فإنه يسرع إلى تطهيره من كلِّ القذارات، ألا نفعل ذلك في كل يوم؟ ولكن هناك قذارة أكثر خطورةً من قذارة الجسد والثوب، وهي قذارة العقل عندما يحمل فكراً خبيثاً، وقذارة القلب عندما يحمل عاطفة شريرة، وقذارة الطاقة عندما يحركها الإنسان في اتجاه الشر لا في اتجاه الخير. لذلك، اجلسوا وافحصوا قلوبكم بين يدي الله، واسألوه أن يطهِّر عقولكم بالحق، وقلوبكم بالمحبة، وطاقاتكم بالخير، حتى تكونوا جديرين بضيافته، وأية ضيافة أكثر إحساساً بالسعادة أن الله يستضيفك، ونحن نعرف أن المضيف يرعى الضيف بكل ما لديه من إكرام.

أن تشعر بضيافة الله أن تدخل إلى بيت الله طاهراً، وبيت الله طاعته وتقواه ومواقع عبادته، لذلك عندما ندخل في ضيافة الله، علينا أن نتطهّر لنخرج من شهر رمضان بعد ذلك طاهرين مطهّرين.

وهو شهرالإسلام، فالله تعالى أنزل القرآن الكريم في شهر رمضان ليهتدي به الناس، ليقرأوه ويتدبّروه ويفهموه، ليملأوا عقولهم من عقل القرآن، ويملأوا حياتهم بكلِّ قيم القرآن، {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}. وعندما يكون رمضان شهر الإسلام، فلا بد لنا من أن نعيش الإسلام كله في هذا الشهر، أن يدرس كل واحد منا هل أن ذاته إسلامية؟ هل يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه؟ هل يوالي أولياء الله ويعادي أعداءه؟ هل يأخذ بالحق أم يأخذ بالباطل؟ إذا كان شهر الإسلام، فعلى كل واحد منّا أن يفتش هل أن بيته بيت إسلامي؟ هل أن عياله وأولاده يطيعون الله أم يعصونه؟ هل يحملون الإسلام في عقولهم أم يحملون الكفر؟ وأن يفكر كل واحد منّا كيف نحمي الإسلام من كل الذين يكيدون له، وإن نستذكر ما حققه المسلمون في شهر رمضان، حيث انتصروا في بدر في بداية الجهاد، وكان الفتح المبين للنبي (ص) في مكة عندما فتح الله لنبيّه الفتح المبين.

وهو شهر التمحيص الذي يمحّص فيه الإنسان كلَّ نقاط ضعفه ليحوّلها إلى نقاط قوة، وأن يستزيد منها إذا كانت نقاط قوة، وعندما نعيش هذه الروح في ضيافة الله وأجواء كرامته، فإن أنفاسنا تسبّح، ونومنا يتحوّل إلى يقظة عبادية، وأعمالنا سوف تكون مقبولة، ودعاءنا سوف يكون مستجاباً، وسوف يمنحنا الله الكثير الكثير عندما ندعوه بنيّات صادقة وقلوب طاهرة من أجل أن يعيننا على صيامه وقيامه، وأن نطلب منه المغفرة لأنه موسم المغفرة والعفو والرضوان، ولهذا يقول رسول الله (ص): "فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم"، لأنه يخسر رأس ماله في الموسم.

منهاج متكامل

ويبيّن لنا رسول الله (ص) الأساليب التي يواجه فيها الإنسان هذا الشهر عندما يصوم، وذلك من خلال نقطتين: الأولى أن يتذكر جوع الفقراء والمساكين، وسيأتي الحديث عن هذا الموضوع. والثانية هي الحالة الروحية، وذلك أنك إذا جعت في شهر رمضان، فعليك أن لا تشغل بجوعك أو عطشك، بل أن تفكّر بيوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، وأن تتذكّر جوع يوم القيامة وعطشه، فإذا طال وقوفك بين يدي الله لأنك حمّلت ظهرك أوزاراً وخطايا، فسوف يطول موقف الحساب يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، ولكنك إذا كنت قد تخفَّفت من ذلك، فسوف يكون الحساب يسيراً، وسوف تنقلب إلى أهلك في الجنة مسروراً. لذلك تذكّروا بجوعكم وعطشكم هذا جوع يوم القيامة وعطشه، حتى لا تجوعوا ولا تعطشوا هناك.

ويريدنا رسول الله (ص) أن نتصدّق على الفقراء والمساكين، فإذا أكلنا وتلذَّذنا بأطايب الطعام والشراب، فإن هناك أناساً لا يجدون الطعام الطيب والشراب الذي يروي ظمأهم: "تصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم". ويريد (ص) للجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم: "وقرّوا كباركم ـ لأن الكبار هم الذين سبقونا إلى الإسلام وطاعة الله، وحصلوا على التجربة وفتحوا لنا أبواب الحياة في تربيتهم لنا وصبرهم علينا ـ وارحموا صغاركم"، لا تتعسفوا بهم، ادرسوا عقولهم ومشاعرهم وآلامهم وأحلامهم، لأنهم بدأوا الحياة وليست لديهم تجاربكم وخبرتكم، لذلك ارحموهم، فلا تحاسبوهم حساباً عسيراً على أخطائهم، بل أن ترحموا أخطاءهم بأن توجهوهم برفق وعاطفة وحنان.

وأراد الله تعالى منا أن نصل أرحامنا، حتى الرحم القاطع، فإنّ صلة الرحم تطيل العمر وتزيد في الرزق.. وعلينا أن نتقي الله في أسماعنا وأبصارنا، فلا نحدّق بما يحرم علينا من النظر، ولا نلقي بأسماعنا إلى ما يحرم علينا من السمع.

ويريدنا الله تعالى أن نرحم الأيتام وأن نتحنن عليهم، أن نكون آباءهم بدل آبائهم، وأمهاتهم بدل أمهاتهم، حتى لا يشعروا بالضياع والسقوط: "تحنّنوا على أيتام الناس يتحنَّن الله على أيتامكم". ويريدنا النبي (ص) أن نتوب من ذنوبنا، أن يحضر كل واحد بين يديه ذنوبه، وأن يستذكرها في نفسه ومع عياله وفي عمله وتجارته، وفي كلماته ومواقعه ومواقفه، ليشهد الله على ذلك ويقول: يا ربّ إني نادم على ما فعلت وعازم على تركه، والله تعالى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويحبّ التوابين، فأي كرم هذا الكرم الإلهي؟

ويشجعنا رسول الله (ص) بأن ندعو الله في أوقات الصلاة، لا تستعجلوا القيام منها، ادعوه في قنوتكم وركوعكم وسجودكم، فإن الدعاء مستحب في كل حالات الصلاة، والتعقيب بعدها بتسبيح الزهراء (ع) وبعض الأدعية، والنبي يركز على هذا الوقت، لأنها "أفضل الساعات، ينظر الله عباده فيها بالرحمة، ويجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه". وقد أراد النبي (ص) أن نحسن أخلاقنا مع الناس من حولنا، والجائزة في ذلك هي "جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام". "ومن خفف عما ملكت يمينه خفف الله عنه حسابه يوم القيامة"، وما ملكت يمينك تنسحب على الزوجة والأولاد والعمّال الذين هم تحت يديك، "ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن تلا فيه آيةً من القرآن فكأنما ختم القرآن في غيره من الشهور، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار"..

ثم يختم النبي (ص) بأن الجنة في هذا الشهر مفتّحة الأبواب، فاسألوا الله أن لا يغلقها عنكم بمعاصيكم، وإن النار مغلقة فاسألوا الله أن لا يفتحها عليكم، وأن الشياطين مغلولة فاسألوا الله أن لا يسلّطها عليكم.

إننا عندما ندخل في شهر رمضان في ضيافة الله، فإن علينا أن نفتح قلوبنا بالمحبة للمؤمنين جميعاً، وأن نتخفف فيه من عصبياتنا وحساسياتنا وكل خلافاتنا، إننا نختلف ولكن علينا أن نرجع الأمر إلى الله ورسوله. وعلينا في هذا الشهر أن نتواصى بالحق وبالصبر، وندعوه لأن يوفّقنا أن نخرج منه سالمين غانمين، وليكون عيدنا عيد الطاعة، كما قال عليّ (ع): "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه، وكل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد". إنه يقول لنا بأننا نستطيع أن نحوّل كل أيامنا إلى أعياد، عندما نحوّل كل أيامنا إلى أيام لطاعة لله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل ما حمّلكم الله مسؤوليته، وقد حمّل الله المسلمين جميعاً مسؤولية الاهتمام بأمور المسلمين؛ الاهتمام العقلي، بأن يفكروا بعقولهم كيف يمكن أن يرفعوا مستواهم ويدافعوا عنهم، والاهتمام بقلوبهم كيف يفتحون قلوبهم للمحبة للمسلمين، وكيف يحركون حياتهم للوحدة بين المسلمين، وكيف يفجّرون طاقاتهم من أجل الخير للمسلمين، في مواجهة كل الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، لا سيما في هذه المرحلة الصعبة التي برز فيها الاستكبار كله والكفر كله للإسلام كله والمستضعفين كلهم..

لذلك، لا بد أن نبقى في وعي دائم لنعرف من هم أعداؤنا ومن هم أصدقاؤنا، حتى لا تختلط الأمور على البعض، وقد وضع الإمام عليّ (ع) القاعدة لتحديد العدو والصديق فقال: "أعداؤك ثلاثة: عدوّك، وصديق عدوّك وعدوّ صديقك، وأصدقاؤك ثلاثة: صديقك، وصديق صديقك، وعدوّ عدوّك". هذا المنهج الذي يمكن أن يكون منهجاً سياسياً واقتصادياً، أن تشعر من خلاله بأنك صاحب قضية ورسالة، وأن لا تكون قضيتك كيف تحصل على الربح الذاتي، بل كيف تربح الأمة كلها. وعلينا أن نتابع أحداث الأسبوع الذي نعيش فيه، فماذا هناك؟

المجازر الإسرائيلية وصمة عار

إسرائيل تقصف المدنيين بالطائرات الأمريكية في غزة ورفح باسم ملاحقة الناشطين في الانتفاضة، وبالصواريخ التي استهدفت سيارة في ساحة مليئة بالأطفال والنساء والشيوخ، جاوزت فيه أعداد الجرحى المائة، والقتلى بما يصل إلى أكثر من عشرين، وتشرّد المدنيين من بيوتهم لتتركهم في العراء من دون مأوى..

أما وزير الشؤون الاستراتيجية في الحكومة الصهيونية، فإنه يعلّق على المذبحة بأن "المخرّبين هم المسؤولون عن هذا القتل ـ على حدّ تعبيره ـ فهم يحتمون بين المدنيين، والمدنيون الفلسطينيون يقبلون بهم، وفي التوراة آية تقول: "الويل للشريرين والويل لجيرانهم"، فقد اختاروا هذه النتيجة وعليهم أن يتحملوا المسؤولية"! إنه يطلب من كل مواطني غزة والضفة أن يخرجوا من بلدانهم ليتركوا المجاهدين وحدهم، لتصطادهم الطائرات الإسرائيلية!

والسؤال: هل هذا منطق إنساني أن تستهدف سيارة لتقتل كلَّ الناس في الشارع؟ ثم ما هو رأي هذا الوزير إذا قال المجاهدون الاستشهاديون إن على المدنيين الإسرائيليين أن لا يقتربوا من الجنود الصهاينة في الحافلات والمطاعم والمقاهي حتى لا يحتمي الجنود بهم، ولذلك فإن هؤلاء المدنيين يتحمّلون المسؤولية؟..

لقد أثارت المجازر التي ارتكبها الجيش الصهيوني ضد الفلسطينيين الكثيرين، حتى من اليهود في الكيان الصهيوني، الذين عبّر البعض منهم عن شعوره بالخزي والعار لما قام به الجيش اليهودي من مجازر غزة، فقد جاء في بعض الصحف الإسرائيلية: "إن ربّ البيت ـ ويقصد شارون ـ قد جُنّ"، وورد في صحيفة أخرى بـ"أننا تحوّلنا إلى مجتمع عديم الصبر يتبنى أنماط سلوك مختلّة"..

أمريكا تتماهى مع العنصرية الصهيونية

أما أمريكا التي أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لعملية الإبادة المتحركة في أكثر من اجتياح ومذبحة، فلم تجد في كل هذه الأعمال إلا الدفاع عن النفس، وهذا هو ما يفخر به الرئيس بوش بسياسته الخارجية القائمة على القتل وإثارة الفوضى، وإخضاع العالم لأكثر من قلق سياسي واقتصادي تعويضاً عن فشله في ما يسمّيه بالحرب ضد الإرهاب.

لقد استخدم المندوب الأمريكي حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن الذي صوّت بأكثريته مستنكراً بناء الجدار العنصري اليهودي، لأنه لا يسمح بإدانة إسرائيل حتى مع مخالفتها القانون الدولي.. وهكذا رأينا كيف أن المجتمع الدولي بأكثريته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، صوّت ضد الجدار، وبقيت أمريكا ـ ومعها إسرائيل وبعض الدول الصغيرة ـ لتصوّت ضد القرار، وشعر المسؤولون الصهاينة بالفخر والاعتزاز، لأن العزلة الدولية التي واجهتهم ـ مع أمريكا ـ لا قيمة لها ما دامت أمريكا معهم في تأييد كل احتقارهم للمجتمع الدولي باعتباره عدوّاً لإسرائيل، كما يقولون..

إنّنا نعلم أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قد لا يكون ملزماً من الناحية التنفيذية، ولكنّه يمثِّل رسالة للإدارة الأمريكية أنَّ سياستها الخارجية في الشرق الأوسط لا تنسجم مع قرارات المجتمع الدولي، ولا قيمة للكلمات الميّتة الاستهلاكية للمسؤولين في الإدارة ولحليفهم شارون عن خارطة الطريق وعن دولة فلسطينية إلى جانب دولة يهودية..

والسؤال: أين اللّجنة الرباعية، وكيف يتصرّف الاتحاد الأوروبي وروسيا، وماذا يملكون من قوة في مشروعهم للحل بما في ذلك خارطة الطريق؟ إن أمريكا وإسرائيل لا تسمحان لأعضاء اللجنة بأية فاعلية حقيقية، لأن الشرق الأوسط ـ حسب سياسة الإدارة الأمريكية ـ لأمريكا أولاً، ولإسرائيل ثانياً، ويبقى الفتات للدول الأخرى.

إيران: اختراق حقل الألغام الأمريكي

وفي جانب آخر، فقد وافقت إيران على توقيع البروتوكول الذي فرضته وكالة الطاقة النووية، بالضغط من أمريكا والاتحاد الأوروبي وغيرهما من الدول، لأنهم يخافون من امتلاكها السلاح الذري، ويخططون لإيقاعها في الفخ على أساس التهديد بالعزلة الدولية، ولا سيما في الجانب الاقتصادي، وبالتحرك الأمني.. وقد تحرَّكت إيران بطريقة دبلوماسية حذرة، حاولت فيها اختراق حقل الألغام الأمريكي والمحافظة على علاقاتها المتينة مع أوروبا، مما اختلف فيه الرأي بين سلب وإيجاب في حديث عن الواقعية السياسية والموضوعية الدبلوماسية..

إننا لسنا في موقع التعليق الحاسم حول الموضوع، ولكننا نتساءل: لماذا هذا الضغط على إيران ولا يمارس الضغط من قبل هؤلاء على إسرائيل وعلى أكثر من دولة تملك هذا السلاح؟ ثم، ما هو الحق القانوني الذي يسمح للدول الكبرى أن تملك ترسانة هائلة من السلاح النووي تستطيع معه تدمير العالم البشري كله، حيث كانت قنبلة هيروشيما وناكازاكي نموذجاً لهم؟ من الذي أعطاهم هذا الحق، ومن الذي جعلهم أوصياء على العالم ليمارسوا حريتهم في استعمال أسلحة الدمار الشامل بعنوان الضرورات الأمنية في هذه الحرب أو تلك؟؟

سياسات أمريكا: تعاظم الإرهاب

إن المسألة عند الدول الكبرى هي التخطيط لبقاء عالم المستضعفين خاضعاً للتهديد الدائم الذي تمثّله دول السلاح النووي والكيميائي والبيولوجي الكبرى، مع الدولة "المدللة" إسرائيل.. إننا نخشى أن تكون وكالة الطاقة النووية قد فقدت استقلاليتها وموضوعيتها المهنية، وأصبحت مجرد خاضع للسياسة الأمريكية في سيطرة خفيّة، للضغط على كل دولة لا ترضخ للولايات المتحدة الأمريكية..

إن الشعوب لن تيأس، وسوف تتابع احتجاجها واستنكارها وضغوطها بالدرجة التي تتنامى فيها قوتها الاحتجاجية والسياسية، وإذا كانت الحرب ضد الإرهاب هي حرب أمريكا باسم المجتمع الدولي، فإننا نخشى أن تكون الطريقة الأمريكية في إدارة الأوضاع الدولية سبباً في تعاظم الإرهاب في العالم بالرغم من كل الوسائل الرادعة، لأن العنف سوف يجتذب العنف، ولن يحلّ المشكلة إلا العدل لكل الناس، ولا سيما المستضعفين.

العراق: الوحدة سر الخلاص

أما العراق، فإنه لا يزال يتحرك في داخل الدوّامة، ويستجدي العالم لمساعدته في الإعمار بإشراف الولايات المتحدة الأمريكية التي عجزت عن تنفيذ سياستها الموعودة بـ"الجنة الديمقراطية الأمريكية"، التي سوف يجد فيها الشعب العراقي المنّ والسلوى..

إننا نخشى من خلال وسائل الإعلام في أكثر من موقع، أن تدخل إسرائيل إلى اقتصاد العراق وأمنه وإعماره، بكل شركاتها المتداخلة مع الشركات الأمريكية، من الباب الواسع للاحتلال الأمريكي في تحالفه الاستراتيجي معها.. وعلى المخلصين من العراقيين التدقيق في ذلك، والانتباه إلى طبيعة اللعبة المشبوهة..

ولا نزال نتابع التعقيدات الصعبة المتحركة التي تؤخِّر تطور الوضع العراقي على مستوى الأمن والاستقرار الاقتصادي والاستقلال السياسي، ومواجهة المستقبل الذي تحاول أمريكا أن تصنعه بشركاتها الاحتكارية الاستغلالية، وبخططها السياسية في تحقيق المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.. إننا نقول للمخلصين: حاولوا سدّ كل الثغرات التي تنفذ منها الفتنة في أية دائرة دينية أو مذهبية أو حزبية أو عرقية، فإن وحدة الشعب العراقي هي سرّ الخلاص في الضغط على كل خطوات الاحتلال.

أما في لبنان، فلا تزال مسألة الموازنة تمثل خط التجاذب بين المسؤولين، لتختفي خلفه كل التعقيدات السياسية في أكثر من إطار شخصي أو سياسي، وفي حركة تسجيل النقاط ضد هذا الموقع أو ذاك..

دراسة موضوعية للموازنة

إننا نناشد الجميع ونقول: إن الموازنة تمثل المستقبل في السنة القادمة للشعب كله، وعلى المسؤولين الارتفاع إلى مستوى المسؤولية في الدراسة الموضوعية التي تقارن بين الإمكانيات والحاجات، وعدم الدخول في مسألة الحصص هنا وهناك، لأن المسألة هي مسألة المستقبل الذي لا بد أن يتحرك في تلبية حاجات الشعب كله لمعالجة أزماته المعيشية الخانقة..

إننا نقول للدولة كلها بكل رموزها: لا تقتصروا على التحديق في ساحات النادي السياسي الباحث عن المواقع الانتخابية، بل لتمتد عيونكم للشعب كله في كل حالات الجوع والحرمان والاهتزاز النفسي والصدمات الواقعية، وفكّروا ـ ولو للحظة واحدة ـ أنكم لستم سادة الشعب ولكنكم خدّامه، فقد أخذتم مواقعكم ـ حقاً أو باطلاً ـ باسمه، وسوف يأتي الوقت الذي يتحرك فيه جيل الوعي المستقبلي ليخطط لمستقبل قد يكون أفضل من هذا الحاضر.. وتذكّروا قول الله تعالى: {وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.. إننا لسنا في موقف الإدانة الاستهلاكية، ولكننا في موقع التذكير بالمسؤولية، {فذكّر إن نفعت الذكرى}.

في رحاب شهر رمضان المبارك:
لنطهّر عقولنا بالحق وقلوبنا بالمحبة وطاقاتنا بالخير


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون}.

هذه آخر جمعة من شهر شعبان، ونلتقي بأول شهر رمضان يوم الاثنين القادم، لأن شهر شعبان كان كاملاً، فأوله كان يوم السبت بحسب الحسابات الفلكية والرؤية الشائعة في منطقة الخليج، وقد دققنا في آخر شهر شعبان، ورأينا أن من المستحيل إمكانية الرؤية غداً ليلة الأحد، ولكن الهلال يُرى بوضوح في ليلة الإثنين. وعلى هذا، فيكون يوم الاثنين هو أول أيام شهر رمضان المبارك، سائلين الله تعالى أن يعيده على المسلمين بالنصر والعزة والكرامة والتقوى.

شهر الطهارة والإسلام

في هذه الأيام التي ننتظر فيها شهر رمضان المبارك، يروى أنَّ رسول الله (ص) وقف خطيباً في آخر جمعة من شعبان، من أجل إعداد المسلمين روحياً وفكرياً وعملياً، للدخول في هذا الشهر من موقع الوعي للمسؤوليات التي تنتظر الإنسان المؤمن ليرتفع بروحه وبقلبه وبكل طاقاته ليكون قريباً من الله تعالى وحبيباً له، فهذا الشهر هو شهر القرب إلى الله، وقد وصفه الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) في دعائه عند دخول شهر رمضان بأنه "شهر الرحمة وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر الإسلام"، كأن الإمام (ع) يريد أن يقول للناس: إنكم في هذا الشهر تتحركون في بيوتكم وأسواقكم ونواديكم، وفي كل مواقع النشاط في حياتكم، في ظلال رحمة الله، فالله ينظر إليكم بعين الرحمة.

ويقول (ع) لنا: أيُّها المؤمنون، إنكم جمعتم في هذه السنة التي عشتموها _ بين أواخر رمضان وبدايات رمضان آخر _ الكثير من الخطايا والذنوب، واختزنتم الكثير من العيوب، وأخذتم بالكثير من القذارات الروحية والفكرية والعملية، وقد حان وقت الطهور، لأن الإنسان عندما يشعر بقذارة جسده، فإنه يسرع إلى تطهيره من كلِّ القذارات، ألا نفعل ذلك في كل يوم؟ ولكن هناك قذارة أكثر خطورةً من قذارة الجسد والثوب، وهي قذارة العقل عندما يحمل فكراً خبيثاً، وقذارة القلب عندما يحمل عاطفة شريرة، وقذارة الطاقة عندما يحركها الإنسان في اتجاه الشر لا في اتجاه الخير. لذلك، اجلسوا وافحصوا قلوبكم بين يدي الله، واسألوه أن يطهِّر عقولكم بالحق، وقلوبكم بالمحبة، وطاقاتكم بالخير، حتى تكونوا جديرين بضيافته، وأية ضيافة أكثر إحساساً بالسعادة أن الله يستضيفك، ونحن نعرف أن المضيف يرعى الضيف بكل ما لديه من إكرام.

أن تشعر بضيافة الله أن تدخل إلى بيت الله طاهراً، وبيت الله طاعته وتقواه ومواقع عبادته، لذلك عندما ندخل في ضيافة الله، علينا أن نتطهّر لنخرج من شهر رمضان بعد ذلك طاهرين مطهّرين.

وهو شهرالإسلام، فالله تعالى أنزل القرآن الكريم في شهر رمضان ليهتدي به الناس، ليقرأوه ويتدبّروه ويفهموه، ليملأوا عقولهم من عقل القرآن، ويملأوا حياتهم بكلِّ قيم القرآن، {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}. وعندما يكون رمضان شهر الإسلام، فلا بد لنا من أن نعيش الإسلام كله في هذا الشهر، أن يدرس كل واحد منا هل أن ذاته إسلامية؟ هل يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه؟ هل يوالي أولياء الله ويعادي أعداءه؟ هل يأخذ بالحق أم يأخذ بالباطل؟ إذا كان شهر الإسلام، فعلى كل واحد منّا أن يفتش هل أن بيته بيت إسلامي؟ هل أن عياله وأولاده يطيعون الله أم يعصونه؟ هل يحملون الإسلام في عقولهم أم يحملون الكفر؟ وأن يفكر كل واحد منّا كيف نحمي الإسلام من كل الذين يكيدون له، وإن نستذكر ما حققه المسلمون في شهر رمضان، حيث انتصروا في بدر في بداية الجهاد، وكان الفتح المبين للنبي (ص) في مكة عندما فتح الله لنبيّه الفتح المبين.

وهو شهر التمحيص الذي يمحّص فيه الإنسان كلَّ نقاط ضعفه ليحوّلها إلى نقاط قوة، وأن يستزيد منها إذا كانت نقاط قوة، وعندما نعيش هذه الروح في ضيافة الله وأجواء كرامته، فإن أنفاسنا تسبّح، ونومنا يتحوّل إلى يقظة عبادية، وأعمالنا سوف تكون مقبولة، ودعاءنا سوف يكون مستجاباً، وسوف يمنحنا الله الكثير الكثير عندما ندعوه بنيّات صادقة وقلوب طاهرة من أجل أن يعيننا على صيامه وقيامه، وأن نطلب منه المغفرة لأنه موسم المغفرة والعفو والرضوان، ولهذا يقول رسول الله (ص): "فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم"، لأنه يخسر رأس ماله في الموسم.

منهاج متكامل

ويبيّن لنا رسول الله (ص) الأساليب التي يواجه فيها الإنسان هذا الشهر عندما يصوم، وذلك من خلال نقطتين: الأولى أن يتذكر جوع الفقراء والمساكين، وسيأتي الحديث عن هذا الموضوع. والثانية هي الحالة الروحية، وذلك أنك إذا جعت في شهر رمضان، فعليك أن لا تشغل بجوعك أو عطشك، بل أن تفكّر بيوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، وأن تتذكّر جوع يوم القيامة وعطشه، فإذا طال وقوفك بين يدي الله لأنك حمّلت ظهرك أوزاراً وخطايا، فسوف يطول موقف الحساب يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، ولكنك إذا كنت قد تخفَّفت من ذلك، فسوف يكون الحساب يسيراً، وسوف تنقلب إلى أهلك في الجنة مسروراً. لذلك تذكّروا بجوعكم وعطشكم هذا جوع يوم القيامة وعطشه، حتى لا تجوعوا ولا تعطشوا هناك.

ويريدنا رسول الله (ص) أن نتصدّق على الفقراء والمساكين، فإذا أكلنا وتلذَّذنا بأطايب الطعام والشراب، فإن هناك أناساً لا يجدون الطعام الطيب والشراب الذي يروي ظمأهم: "تصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم". ويريد (ص) للجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم: "وقرّوا كباركم ـ لأن الكبار هم الذين سبقونا إلى الإسلام وطاعة الله، وحصلوا على التجربة وفتحوا لنا أبواب الحياة في تربيتهم لنا وصبرهم علينا ـ وارحموا صغاركم"، لا تتعسفوا بهم، ادرسوا عقولهم ومشاعرهم وآلامهم وأحلامهم، لأنهم بدأوا الحياة وليست لديهم تجاربكم وخبرتكم، لذلك ارحموهم، فلا تحاسبوهم حساباً عسيراً على أخطائهم، بل أن ترحموا أخطاءهم بأن توجهوهم برفق وعاطفة وحنان.

وأراد الله تعالى منا أن نصل أرحامنا، حتى الرحم القاطع، فإنّ صلة الرحم تطيل العمر وتزيد في الرزق.. وعلينا أن نتقي الله في أسماعنا وأبصارنا، فلا نحدّق بما يحرم علينا من النظر، ولا نلقي بأسماعنا إلى ما يحرم علينا من السمع.

ويريدنا الله تعالى أن نرحم الأيتام وأن نتحنن عليهم، أن نكون آباءهم بدل آبائهم، وأمهاتهم بدل أمهاتهم، حتى لا يشعروا بالضياع والسقوط: "تحنّنوا على أيتام الناس يتحنَّن الله على أيتامكم". ويريدنا النبي (ص) أن نتوب من ذنوبنا، أن يحضر كل واحد بين يديه ذنوبه، وأن يستذكرها في نفسه ومع عياله وفي عمله وتجارته، وفي كلماته ومواقعه ومواقفه، ليشهد الله على ذلك ويقول: يا ربّ إني نادم على ما فعلت وعازم على تركه، والله تعالى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويحبّ التوابين، فأي كرم هذا الكرم الإلهي؟

ويشجعنا رسول الله (ص) بأن ندعو الله في أوقات الصلاة، لا تستعجلوا القيام منها، ادعوه في قنوتكم وركوعكم وسجودكم، فإن الدعاء مستحب في كل حالات الصلاة، والتعقيب بعدها بتسبيح الزهراء (ع) وبعض الأدعية، والنبي يركز على هذا الوقت، لأنها "أفضل الساعات، ينظر الله عباده فيها بالرحمة، ويجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه". وقد أراد النبي (ص) أن نحسن أخلاقنا مع الناس من حولنا، والجائزة في ذلك هي "جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام". "ومن خفف عما ملكت يمينه خفف الله عنه حسابه يوم القيامة"، وما ملكت يمينك تنسحب على الزوجة والأولاد والعمّال الذين هم تحت يديك، "ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن تلا فيه آيةً من القرآن فكأنما ختم القرآن في غيره من الشهور، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار"..

ثم يختم النبي (ص) بأن الجنة في هذا الشهر مفتّحة الأبواب، فاسألوا الله أن لا يغلقها عنكم بمعاصيكم، وإن النار مغلقة فاسألوا الله أن لا يفتحها عليكم، وأن الشياطين مغلولة فاسألوا الله أن لا يسلّطها عليكم.

إننا عندما ندخل في شهر رمضان في ضيافة الله، فإن علينا أن نفتح قلوبنا بالمحبة للمؤمنين جميعاً، وأن نتخفف فيه من عصبياتنا وحساسياتنا وكل خلافاتنا، إننا نختلف ولكن علينا أن نرجع الأمر إلى الله ورسوله. وعلينا في هذا الشهر أن نتواصى بالحق وبالصبر، وندعوه لأن يوفّقنا أن نخرج منه سالمين غانمين، وليكون عيدنا عيد الطاعة، كما قال عليّ (ع): "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وقيامه، وكل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد". إنه يقول لنا بأننا نستطيع أن نحوّل كل أيامنا إلى أعياد، عندما نحوّل كل أيامنا إلى أيام لطاعة لله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل ما حمّلكم الله مسؤوليته، وقد حمّل الله المسلمين جميعاً مسؤولية الاهتمام بأمور المسلمين؛ الاهتمام العقلي، بأن يفكروا بعقولهم كيف يمكن أن يرفعوا مستواهم ويدافعوا عنهم، والاهتمام بقلوبهم كيف يفتحون قلوبهم للمحبة للمسلمين، وكيف يحركون حياتهم للوحدة بين المسلمين، وكيف يفجّرون طاقاتهم من أجل الخير للمسلمين، في مواجهة كل الذين يكيدون للإسلام والمسلمين، لا سيما في هذه المرحلة الصعبة التي برز فيها الاستكبار كله والكفر كله للإسلام كله والمستضعفين كلهم..

لذلك، لا بد أن نبقى في وعي دائم لنعرف من هم أعداؤنا ومن هم أصدقاؤنا، حتى لا تختلط الأمور على البعض، وقد وضع الإمام عليّ (ع) القاعدة لتحديد العدو والصديق فقال: "أعداؤك ثلاثة: عدوّك، وصديق عدوّك وعدوّ صديقك، وأصدقاؤك ثلاثة: صديقك، وصديق صديقك، وعدوّ عدوّك". هذا المنهج الذي يمكن أن يكون منهجاً سياسياً واقتصادياً، أن تشعر من خلاله بأنك صاحب قضية ورسالة، وأن لا تكون قضيتك كيف تحصل على الربح الذاتي، بل كيف تربح الأمة كلها. وعلينا أن نتابع أحداث الأسبوع الذي نعيش فيه، فماذا هناك؟

المجازر الإسرائيلية وصمة عار

إسرائيل تقصف المدنيين بالطائرات الأمريكية في غزة ورفح باسم ملاحقة الناشطين في الانتفاضة، وبالصواريخ التي استهدفت سيارة في ساحة مليئة بالأطفال والنساء والشيوخ، جاوزت فيه أعداد الجرحى المائة، والقتلى بما يصل إلى أكثر من عشرين، وتشرّد المدنيين من بيوتهم لتتركهم في العراء من دون مأوى..

أما وزير الشؤون الاستراتيجية في الحكومة الصهيونية، فإنه يعلّق على المذبحة بأن "المخرّبين هم المسؤولون عن هذا القتل ـ على حدّ تعبيره ـ فهم يحتمون بين المدنيين، والمدنيون الفلسطينيون يقبلون بهم، وفي التوراة آية تقول: "الويل للشريرين والويل لجيرانهم"، فقد اختاروا هذه النتيجة وعليهم أن يتحملوا المسؤولية"! إنه يطلب من كل مواطني غزة والضفة أن يخرجوا من بلدانهم ليتركوا المجاهدين وحدهم، لتصطادهم الطائرات الإسرائيلية!

والسؤال: هل هذا منطق إنساني أن تستهدف سيارة لتقتل كلَّ الناس في الشارع؟ ثم ما هو رأي هذا الوزير إذا قال المجاهدون الاستشهاديون إن على المدنيين الإسرائيليين أن لا يقتربوا من الجنود الصهاينة في الحافلات والمطاعم والمقاهي حتى لا يحتمي الجنود بهم، ولذلك فإن هؤلاء المدنيين يتحمّلون المسؤولية؟..

لقد أثارت المجازر التي ارتكبها الجيش الصهيوني ضد الفلسطينيين الكثيرين، حتى من اليهود في الكيان الصهيوني، الذين عبّر البعض منهم عن شعوره بالخزي والعار لما قام به الجيش اليهودي من مجازر غزة، فقد جاء في بعض الصحف الإسرائيلية: "إن ربّ البيت ـ ويقصد شارون ـ قد جُنّ"، وورد في صحيفة أخرى بـ"أننا تحوّلنا إلى مجتمع عديم الصبر يتبنى أنماط سلوك مختلّة"..

أمريكا تتماهى مع العنصرية الصهيونية

أما أمريكا التي أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لعملية الإبادة المتحركة في أكثر من اجتياح ومذبحة، فلم تجد في كل هذه الأعمال إلا الدفاع عن النفس، وهذا هو ما يفخر به الرئيس بوش بسياسته الخارجية القائمة على القتل وإثارة الفوضى، وإخضاع العالم لأكثر من قلق سياسي واقتصادي تعويضاً عن فشله في ما يسمّيه بالحرب ضد الإرهاب.

لقد استخدم المندوب الأمريكي حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن الذي صوّت بأكثريته مستنكراً بناء الجدار العنصري اليهودي، لأنه لا يسمح بإدانة إسرائيل حتى مع مخالفتها القانون الدولي.. وهكذا رأينا كيف أن المجتمع الدولي بأكثريته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، صوّت ضد الجدار، وبقيت أمريكا ـ ومعها إسرائيل وبعض الدول الصغيرة ـ لتصوّت ضد القرار، وشعر المسؤولون الصهاينة بالفخر والاعتزاز، لأن العزلة الدولية التي واجهتهم ـ مع أمريكا ـ لا قيمة لها ما دامت أمريكا معهم في تأييد كل احتقارهم للمجتمع الدولي باعتباره عدوّاً لإسرائيل، كما يقولون..

إنّنا نعلم أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة قد لا يكون ملزماً من الناحية التنفيذية، ولكنّه يمثِّل رسالة للإدارة الأمريكية أنَّ سياستها الخارجية في الشرق الأوسط لا تنسجم مع قرارات المجتمع الدولي، ولا قيمة للكلمات الميّتة الاستهلاكية للمسؤولين في الإدارة ولحليفهم شارون عن خارطة الطريق وعن دولة فلسطينية إلى جانب دولة يهودية..

والسؤال: أين اللّجنة الرباعية، وكيف يتصرّف الاتحاد الأوروبي وروسيا، وماذا يملكون من قوة في مشروعهم للحل بما في ذلك خارطة الطريق؟ إن أمريكا وإسرائيل لا تسمحان لأعضاء اللجنة بأية فاعلية حقيقية، لأن الشرق الأوسط ـ حسب سياسة الإدارة الأمريكية ـ لأمريكا أولاً، ولإسرائيل ثانياً، ويبقى الفتات للدول الأخرى.

إيران: اختراق حقل الألغام الأمريكي

وفي جانب آخر، فقد وافقت إيران على توقيع البروتوكول الذي فرضته وكالة الطاقة النووية، بالضغط من أمريكا والاتحاد الأوروبي وغيرهما من الدول، لأنهم يخافون من امتلاكها السلاح الذري، ويخططون لإيقاعها في الفخ على أساس التهديد بالعزلة الدولية، ولا سيما في الجانب الاقتصادي، وبالتحرك الأمني.. وقد تحرَّكت إيران بطريقة دبلوماسية حذرة، حاولت فيها اختراق حقل الألغام الأمريكي والمحافظة على علاقاتها المتينة مع أوروبا، مما اختلف فيه الرأي بين سلب وإيجاب في حديث عن الواقعية السياسية والموضوعية الدبلوماسية..

إننا لسنا في موقع التعليق الحاسم حول الموضوع، ولكننا نتساءل: لماذا هذا الضغط على إيران ولا يمارس الضغط من قبل هؤلاء على إسرائيل وعلى أكثر من دولة تملك هذا السلاح؟ ثم، ما هو الحق القانوني الذي يسمح للدول الكبرى أن تملك ترسانة هائلة من السلاح النووي تستطيع معه تدمير العالم البشري كله، حيث كانت قنبلة هيروشيما وناكازاكي نموذجاً لهم؟ من الذي أعطاهم هذا الحق، ومن الذي جعلهم أوصياء على العالم ليمارسوا حريتهم في استعمال أسلحة الدمار الشامل بعنوان الضرورات الأمنية في هذه الحرب أو تلك؟؟

سياسات أمريكا: تعاظم الإرهاب

إن المسألة عند الدول الكبرى هي التخطيط لبقاء عالم المستضعفين خاضعاً للتهديد الدائم الذي تمثّله دول السلاح النووي والكيميائي والبيولوجي الكبرى، مع الدولة "المدللة" إسرائيل.. إننا نخشى أن تكون وكالة الطاقة النووية قد فقدت استقلاليتها وموضوعيتها المهنية، وأصبحت مجرد خاضع للسياسة الأمريكية في سيطرة خفيّة، للضغط على كل دولة لا ترضخ للولايات المتحدة الأمريكية..

إن الشعوب لن تيأس، وسوف تتابع احتجاجها واستنكارها وضغوطها بالدرجة التي تتنامى فيها قوتها الاحتجاجية والسياسية، وإذا كانت الحرب ضد الإرهاب هي حرب أمريكا باسم المجتمع الدولي، فإننا نخشى أن تكون الطريقة الأمريكية في إدارة الأوضاع الدولية سبباً في تعاظم الإرهاب في العالم بالرغم من كل الوسائل الرادعة، لأن العنف سوف يجتذب العنف، ولن يحلّ المشكلة إلا العدل لكل الناس، ولا سيما المستضعفين.

العراق: الوحدة سر الخلاص

أما العراق، فإنه لا يزال يتحرك في داخل الدوّامة، ويستجدي العالم لمساعدته في الإعمار بإشراف الولايات المتحدة الأمريكية التي عجزت عن تنفيذ سياستها الموعودة بـ"الجنة الديمقراطية الأمريكية"، التي سوف يجد فيها الشعب العراقي المنّ والسلوى..

إننا نخشى من خلال وسائل الإعلام في أكثر من موقع، أن تدخل إسرائيل إلى اقتصاد العراق وأمنه وإعماره، بكل شركاتها المتداخلة مع الشركات الأمريكية، من الباب الواسع للاحتلال الأمريكي في تحالفه الاستراتيجي معها.. وعلى المخلصين من العراقيين التدقيق في ذلك، والانتباه إلى طبيعة اللعبة المشبوهة..

ولا نزال نتابع التعقيدات الصعبة المتحركة التي تؤخِّر تطور الوضع العراقي على مستوى الأمن والاستقرار الاقتصادي والاستقلال السياسي، ومواجهة المستقبل الذي تحاول أمريكا أن تصنعه بشركاتها الاحتكارية الاستغلالية، وبخططها السياسية في تحقيق المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.. إننا نقول للمخلصين: حاولوا سدّ كل الثغرات التي تنفذ منها الفتنة في أية دائرة دينية أو مذهبية أو حزبية أو عرقية، فإن وحدة الشعب العراقي هي سرّ الخلاص في الضغط على كل خطوات الاحتلال.

أما في لبنان، فلا تزال مسألة الموازنة تمثل خط التجاذب بين المسؤولين، لتختفي خلفه كل التعقيدات السياسية في أكثر من إطار شخصي أو سياسي، وفي حركة تسجيل النقاط ضد هذا الموقع أو ذاك..

دراسة موضوعية للموازنة

إننا نناشد الجميع ونقول: إن الموازنة تمثل المستقبل في السنة القادمة للشعب كله، وعلى المسؤولين الارتفاع إلى مستوى المسؤولية في الدراسة الموضوعية التي تقارن بين الإمكانيات والحاجات، وعدم الدخول في مسألة الحصص هنا وهناك، لأن المسألة هي مسألة المستقبل الذي لا بد أن يتحرك في تلبية حاجات الشعب كله لمعالجة أزماته المعيشية الخانقة..

إننا نقول للدولة كلها بكل رموزها: لا تقتصروا على التحديق في ساحات النادي السياسي الباحث عن المواقع الانتخابية، بل لتمتد عيونكم للشعب كله في كل حالات الجوع والحرمان والاهتزاز النفسي والصدمات الواقعية، وفكّروا ـ ولو للحظة واحدة ـ أنكم لستم سادة الشعب ولكنكم خدّامه، فقد أخذتم مواقعكم ـ حقاً أو باطلاً ـ باسمه، وسوف يأتي الوقت الذي يتحرك فيه جيل الوعي المستقبلي ليخطط لمستقبل قد يكون أفضل من هذا الحاضر.. وتذكّروا قول الله تعالى: {وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.. إننا لسنا في موقف الإدانة الاستهلاكية، ولكننا في موقع التذكير بالمسؤولية، {فذكّر إن نفعت الذكرى}.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير