لنتمسك بنهج الرسول (ص) في وحدتنا الإيمانية والتكامل في قضايانا المصيرية

لنتمسك بنهج الرسول (ص) في وحدتنا الإيمانية والتكامل في قضايانا المصيرية

في يوم المؤاخاة بين النبي (ص) والوصي (ع):
لنتمسك بنهج الرسول (ص) في وحدتنا الإيمانية والتكامل في قضايانا المصيرية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

المؤاخاة بين المسلمين

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}. منذ أن انطلق الإسلام في الدعوة الإسلامية العالمية التي أرسل الله تعالى رسوله بها ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، كان أول عمل قام به النبي (ص) في مكة ـ بحسب ما جاء في أكثر من كتاب من كتب السيرة ـ وأكمله في المدينة هو المؤاخاة بين المسلمين. ذلك أن المسلمين عندما دخلوا في الإسلام كانوا أفراداً، قد لا تربط بينهم أية رابطة من النسب أو غيره، فأراد (ص) من خلال وحي الله سبحانه أن يوجد رابطة عضوية بينهم، بحيث تكون أخوّة أو رابطة الدين كرابطة النسب، بل هي أكثر ترابطاً، فهي أشبه بالرابطة التي تجمع أعضاء الجسد في الجسم الواحد.

وقد كانت التجربة الأولى أن آخى النبي (ص) في شكل مباشر بين المسلمين في مكة والذين هاجروا معه بعد ذلك، فقال لفلان إن أخاك هو فلان، بحيث عيّن لكل واحد منهم أخاً في إطار الوحدة العام. ويُقال إنّ عليّاً (ع) بقي وحده، ولم يؤاخِ النبي (ص) بينه وبين أي صحابي آخر، ما جعل عليّاً (ع) يشعر بشيء من الحزن، فقال له النبي (ص): «أما ترضى أن أكون أخاك» ـ وتصبح أخاً لي، وأصبح أخاً لك، كما فعلت مع المسلمين الآخرين، لتتأكّد بذلك الأخوّة بيننا، لأن هذه الأخوة هي أخوة ترقى إلى أن تكون عملية اندماج في النسب والروح والرسالة والجهاد؟! ـ قال(ع): "نعم"، فقال النبي (ص): «فإنك أخي في الدنيا والآخرة»، أي أنها ليست مجرد أخوّة مرحلية، لأن العلاقة بيني وبينك ترجع إلى يوم كنت فيه طفلاً أرعاك بكل روحي وعقلي وقلبي، حتى نشأ عقلك من عقلي، وقلبك من قلبي، فأنت أخي في الدنيا والآخرة.

وعندما هاجر النبي (ص) إلى المدينة، وهاجر معه فريق من المسلمين، أعاد النبي(ص) هذه التجربة، فأكد المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، ثم ربط بين المهاجرين والأنصار الذين كانوا يقيمون في المدينة، فآخى بينهم على الحق والمساواة، لتكون أخوّتهم على أساس الحق الذي يلتزمونه، ليقوموا بالدعوة إليه ونصرته والدفاع عنه وعن أهله، وأن يواسي كلُّ واحدٍ منهم أخاه في الإيمان، بحيث يشاركه ماله وحزنه وفرحه ومشاكله. وقيل إن هذه المؤاخاة كان لها تأثيرها الكبير، وخصوصاً أن المهاجرين عندما جاءوا إلى المدينة، تركوا كل أموالهم في مكة وهربوا بدينهم، فكان الأنصاري الذي تآخى مع المهاجر يأتي إلى أخيه المهاجر، ليقول له: ما دمت أخي فلا يمكن أن تبقى فقيراً وأكون على هذا المستوى من الغنى، تعال أشاطرك مالي... وقد حدّث الله تعالى عن هؤلاء فقال: {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ـ وهم الأنصار ـ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ـ مضايقة ـ مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون}.

وكانت هذه المؤاخاة تعتمد على قاعدة التوارث، فيرث الأخ المؤمن أخاه، كما يرث الأخ أخاه في النسب، وبقيت الحال كذلك حتى جاءت معركة بدر، فنزلت هذه الآية: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}، فنسخت ذاك الحكم، وأصبح الإرث مختصاً بالأرحام في كل طبقة، يتوارث أهل تلك الطبقة بعضهم بعضاً، ولا ينتقل الإرث إلى الطبقة الثانية إلا بعد أن لا يبقى أحد من الطبقة الأولى.

المؤاخاة بين النبي(ص) وعلي(ع)

وبعد أن استكمل النبي (ص) المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، جاءه عليّ (ع) ـ كما يقول ابن سعد في طبقاته ـ مطالباً بأن يؤاخي بينه وبين أحد من المسلمين، فقال له النبي (ص) في المدينة ما قاله في مكة: «أما ترضى أن أكون أخاك، أنت أخي في الدنيا والآخرة». وهذا ما يوحي بفضيلة عظيمة للإمام عليّ(ع)، لأن الصحابة كانوا كثراً، وكان فيهم الأشخاص الذين بلغوا سنّاً متقدمة، وكان الرسول(ص) آنذاك في الثالثة والخمسين من عمره، ومع ذلك، لم يجد محمد(ص) أحداً ليؤاخيه إلا هذا الشاب الذي رباه من دم قلبه، ومن نور عقله، ومن كل مشاعره وأحاسيسه وثقافته، حتى أصبح عليّ (ع) النموذج الأكمل للإنسان المسلم في هذا المجال، فكان كما كان النبي (ص) يقول: {وأمرت لأن أكون أول المسلمين}. كان عليّ (ع) أول المسلمين بعد رسول الله، وهو الذي قال: «اللهم إني أول من سمع وأناب، لم يسبقني بالصلاة إلاّ رسول الله (ص)». فالقضية لم تكن قضية قرابة، فهناك أبناء عم للنبي غير عليّ، ولكن النبي (ص) كان يعرف عن عليّ ما لا يعرفه غيره من الناس، وكان قد اختبره في كل طاقاته ومناقبه وصدقه وإخلاصه لرسول الله (ص).

المؤمنون أخوة

هذه هي التجربة الواقعية العملية التي قام بها الرسول الله (ص) في المؤاخاة تأكيداً لقوله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة}؛ هذا المبدأ الإسلامي الشامل الذي يريد أن يقول للمؤمنين جميعاً: إن رابطة الإيمان هي أعظم من رابطة النسب، وعليكم أن تعيشوا هذه الأخوّة فيما بينكم.

إننا نتحدث في هذا اليوم عن هذه المؤاخاة، لأن هذا اليوم هو يوم المؤاخاة الذي عقد فيه رسول الله (ص) المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبينه وبين عليّ (ع)، ولذا لا بد لنا من أن نجعل هذا اليوم يوماً نؤكد فيه هذه المؤاخاة على المستويين الخاص والعام، لأن ذلك هو الذي يجعل المسلمين في رباط عضوي على مستوى الأمة، بحيث يتحسس الإنسان المسلم آلام أخيه المؤمن ويحمل همه ويعيش مشاكله، حتى ينطلق المسلمون ليكونوا أمة واحدة.

ولهذا نلاحظ أن الله تعالى عقّب على كلمة {إنما المؤمنون أخوة}، فدعا إلى الإصلاح بين الأخوة: {فأصلحوا بين أخويكم}، ليبقى شمل العائلة الإسلامية العالمية مجتمعاً، فما دمتم ـ أيها المؤمنون ـ أخوة، فعليكم أن تبادروا إلى حلّ أيّ نزاع أو خلاف أو أيّ فتنة بين أخويكم، {واتقوا الله} عندما تتحركون في خطِّ الإصلاح، لأن المصلح لا يميل مع أحد دون آخر {لعلكم ترحمون}.

وقد وردت بعض الأحاديث في بيان طبيعة هذه الأخوّة، فعن رسول الله (ص): «إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن ـ يطمئن إليه، يستريح له وينفتح عليه ـ كما يسكن قلب الظمآن إلى الماء». ويقول (ص): «المؤمنون أخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم». وفي حديث عن الإمام عليّ (ع) وهو يخاطب صاحبه كميل: «يا كميل، المؤمنون أخوة، ولا شيء آثر عند كل أخ من أخيه».

وعن الإمام الصادق (ع) يقول: «المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه». ويقول رسول الله (ص): «النظر إلى الأخ تودّه في الله عزّ وجلّ عبادة»، وجاء عنه (ص): «ما استفاد امرؤ مسلم فائدةً بعد الإسلام كمثل أخٍ يستفيده في الله».

الاقتداء بالرسول (ص)

علينا في هذا اليوم ـ يوم المؤاخاة ـ وفي هذه الساعة ـ ساعة صلاة الجمعة ـ التي يقف فيها المسلمون في كل أنحاء العالم ليعبدوا الله ويشهدوه على وحدتهم الإيمانية... في مثل هذه اللحظات، علينا أن نفتح قلوبنا لله، لنقول له: يا ربنا، إننا آمنا بك وصدّقنا الرسول، وسرنا في خطك والتزمنا دينك، فأعطنا من رحمتك ما يجعلنا أخوةً نتكامل في كل قضايانا... ونقول في هذه اللحظات لرسول الله (ص): يا رسول الله، نحن نتوجه إليك في رحاب الله، ونشهدك في يوم المؤاخاة أننا نقتدي بك، وأننا سوف نعيش معك في هذه المؤاخاة التي أكدتها عندما كان المهاجرون والأنصار يواجهون المشركين كالبنيان المرصوص... يا رسول الله: إننا نشهدك أننا سنقتدي بك لنتآخى من جديد، ونقف صفاً واحداً كالجسد الواحد «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر».

إنه يوم المؤاخاة، فلنتآخَ، لأن المرحلة تفرض علينا أن نترك كل حساسياتنا وخلافاتنا، لنلتقي عند الله ورسول الله وعند المسؤولية، لنعيش في ذلك اليوم أخواناً على سرر متقابلين، أخواناً يتحركون على أساس المحبة التي عقدوها في قلوبهم، لننطلق إلى الجنة والحب في قلوبنا، والحق في عقولنا، والخير في حياتنا. هل تريدون الجنة؟ الجنة لا حقد فيها ولا نزاع ولا بغض، هل تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه وأنتم على هذا الحال من البغض والعداوة والفتن والنزاع؟ "هيهات، لا يُخدع الله عن جنته".

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على قاعدة الوحدة وعلى أفق الأخوة في كل مواقعكم في العالم، لأن الكفر كله والاستكبار كله بدأ يتحالف ضد هذه الأمة، ويتوحّد من أجل العبث والسيطرة على مقدّراتها الخاصة والعامة، لتكون أمتنا على هامش مصالحه وبعيدة عن مواقع العزة والقوة والكرامة. إنهم يمنعوننا من صنع القوة، وإذا حدث أنّ بعضنا في هذا البلد الإسلامي أو ذاك، أو من خلال التزام هذه الخطة الجهادية أو تلك، إذا بدا أن هؤلاء يعملون على صنع القوة، فإنهم يتحركون في سبيل إسقاط كل مشروع للقوة، في الوقت الذي يشجّعون الذين يستضعفون شعوبهم ويسقطون كل الذين يريدون أن يرتفعوا بمستوى شعوبهم.

لذلك، فإن المرحلة لا تتحمل فتنة بين المسلمين الذين يختلفون مذهبياً بين سنّة وشيعة، وعرقياً بين أبيض وأسود، وجغرافياً بين هذا الموقع الجغرافي وذاك، ولكنهم يتوحدون بالله وبرسوله وكتابه. فعلينا أن نجمِّد كل الخلافات، حتى نقف على أرض صلبة لا تهتز أمام تحديات المستكبرين... فلا يجوز لنا أن نحرِّك نقاط الضعف فينا من خلال ما نثيره من القضايا الصغيرة، ولا سيما في المجتمع المتديّن، الذي يحاول الكثير من رموزه في الداخل أن يثيروا في كل يوم فتنة هامشية هنا وفتنة هامشية هناك، ما يشغل المسلمين عن كل التحديات التي تواجههم، والعدو يخطط لينسف كل الجزئيات التي ننشغل بها، لأنه يريد أن يستوعب كل كلياتنا.

لذلك لا بدّ أن نحرك عقولنا. والمشكلة ـ وأقولها بمرارة ـ أن مجتمعاتنا تعيش غرائزها، ولهذا، فإننا ندمن الحقد وننتج العداوة والبغضاء والفتنة هنا وهناك، والعدوّ يضحك ويقهقه، لأنه يرانا كمثل الأطفال الصغار الذين يلهون على رمال الشاطئ ويبنون القصور الرملية ويتقاتلون عليها، وتأتي الموجة من البحر، فتجرف كلَّ القصور والأكواخ. ألسنا نعيش طفولة هذه القضايا الصغيرة التي يأتي الاستكبار لينسفها؟ لهذا علينا أن نحرِّك عقولنا لكي نعرف ماذا يخطِّط المستكبرون لنا، ولنسأل: ما هو جديد أمريكا في هذه الأيام؟

الديمقراطية الأمريكية: دعم الاستبداد

في خطاب الرئيس الأمريكي "بوش"، دعوة إلى نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، على خلفية أن المنطقة "الأكثر حرماناً من الديمقراطية هي الشرق الأوسط"، على حدّ قوله، ثم الاعتراف بأن "دعم الولايات المتحدة الأمريكية الذي استمر نحو ستين سنة للأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر حرماناً من الحرية ـ كما يقول ـ أجَّج شعوراً معادياً للأمريكيين يغذي الإرهاب"، ثم التأكيد على الحاجة إلى الدفع قدماً نحو "تغيير ديمقراطي"، معترفاً بأنه يجب "ألا يُحرم أيّ بلد أو شعب من المنافع العظيمة التي يمكن أن تأتي بها الحرية والتطور الديمقراطي".

إن الرئيس الأمريكي يتحدث في أسلوبه التبشيري كرسول من السماء لتغيير العالم، وفي مقدمه الشرق الأوسط، وإن كان ذلك من خلال فريقه من المسيحيين المتصهينين والجماعات اليهودية التي تسيطر على مقدرات أمريكا السياسية والاقتصادية، عبر الإدارة الحالية الخاضعة للشركات الاحتكارية النفطية وشركات السلاح التي تضم في إداراتها الكثيرين من أعضاء الإدارة الحكومية الحالية، إضافةً إلى مجلسي الشيوخ والنواب...

ولكن السؤال: ما هو مفهوم الرئيس الأمريكي للديمقراطية؟ وهل تقتصر حركتها على الشعب الأمريكي في اعتبار القانون هو القوة المسيطرة على البلد كله، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الحريات العامة في أمريكا قد تقلّصت، ولا سيما بالنسبة إلى العرب والمسلمين، وأن القانون الدولي قد انتُهك من قِبَل الإدارة الأمريكية بالنسبة إلى المعتقلين؟

ثم، كيف ينظر الرئيس الأمريكي إلى الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لإبادة شاملة من قِبَل حليفته إسرائيل، التي تحدد للإدارة الأمريكية سياستها في المنطقة، والتي حصلت على الضوء الأخضر الكبير للجرائم الوحشية التي ترتكبها ضد المدنيين، لأن الاستراتيجية المشتركة بين الدولتين تحرك المسألة في اتجاه الحرب ضد ما يسمّونه الإرهاب، ليكون الرفض المقاوم للاحتلال الإسرائيلي إرهاباً عندهم؟

إننا نسأل الرئيس الأمريكي: هل أن هذه السياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية تمثل الديمقراطية، أم أن إسرائيل ـ كما هي أمريكا ـ ليست مسؤولة عن مراعاة الديمقراطية بالنسبة إلى الشعوب المحتلة؟ إن أمريكا التي اعترفت بدعمها للأنظمة الاستبدادية تمارس الدعم للكيان الاستبدادي في احتلاله للشعب الفلسطيني وأرضه، كما تمارس ـ هي ـ الاستبداد في الضغط على أكثر من دولة شرق أوسطية لا تستجيب لمصالحها...

إنها ديمقراطية الإدارة الأمريكية التي يراد منها المحافظة على مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وليس المحافظة على مصالح شعوب المنطقة... إن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو حرية الاستخبارات الأمريكية في صنع الحروب وإثارة الفتن ومصادرة الثروات، من أجل المزيد من التدخل السياسي والأمني والاقتصادي في المنطقة.

ملاحقة الإعلام باسم معاداة السامية

وفي اتجاه آخر، تلاحق أمريكا الإعلام الدولي الذي ربما يتحدث بطريقة علمية موضوعية عن اليهود في تأثيرهم السلبي على العالم في مفاصله الحيوية، وعن تهديدهم للسلام العالمي من خلال تهديد إسرائيل للمنطقة كلها، بحيث توزع تهديداتها للدول الإسلامية والعربية، لأنها تملك أكبر ترسانة للسلاح النووي في المنطقة، من دون أن يجرؤ أحد ـ بما في ذلك الأمم المتحدة ـ على إدانتها، على غرار الضجة التي تثار الآن ضد إيران.. ولذلك، فإن وجود هذه الدولة في فلسطين، قد أدى إلى الاهتزاز السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة التي هي من أكثر المناطق حيوية في العالم...

إن أمريكا تقف ضد هذا الإعلام المنطلق من إرادات شعبية غربية، كما تحاسب أجهزة الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب على كل مادة إعلامية تنتقد إسرائيل وتفضح تاريخ جرائمها، باسم معاداة السامية... ولكن أمريكا لا تحرك ساكناً ضد الإعلام الأمريكي وغيره الذي يهاجم الإسلام والمسلمين والعرب، بحجة أنها بلد الحريات الفكرية التي تعطي الحق لكل أمريكي أن يهاجم الإسلام والمسلمين، من دون أن يكون لأحد الحق ـ حتى خارج أمريكا ـ أن يهاجم اليهود، فهم في نظر أمريكا وحلفائها فوق النقد وفوق التشهير، لأنهم ـ كما قال مهاتير محمد ـ يسيطرون على العالم، ويخوضون حروبهم بالوكالة من خلال أمريكا التي هي الوكيلة الأولى لحروب اليهود في المنطقة... والسؤال: هل هذه هي الديمقراطية التي يبشر بها الرئيس الأمريكي؟

أمريكا وإسرائيل في المأزق

وفي جانب آخر، تتّجه الإدارة الأمريكية لتخصيص منحة عسكرية لإسرائيل بمقدار يزيد عن الملياري دولار، تحت عنوان: الالتزام بأمن إسرائيل والحفاظ على تفوّقها النوعي... وكأنها تعلن للعالم أنها تخوض الحرب مع إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني بأطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه من المدنيين الذين يُقتلون ويُقصفون بطائرات وأسلحة أمريكية، باسم المحافظة على السلام؟!

وعلى صعيد آخر، فقد تغيرت، بعد جمود لافت، لهجة إسرائيل النفاقية ـ ومعها الأسلوب الأمريكي ـ وتمثل ذلك في إعطاء بعض الإشارات الإيجابية للحكومة الفلسطينية الجديدة بشرط امتلاكها للأمن الفلسطيني كله الذي يملك تصفية الانتفاضة.

إننا نعتقد أن المرحلة تحولت إلى مأزق للسياسة الأمريكية والإسرائيلية، من خلال الصمود الفلسطيني الرائع، بالرغم من كل عمليات التدمير والإبادة، ولا سيما أن المعارضين للاحتلال الأمريكي في العراق ربما يتواصلون مع الانتفاضة في مقاومتهم، ويستلهمون من هذه القوة العربية والإسلامية قوة إضافية...

ولهذا، فإن المطلوب ـ أمريكياً ـ تخفيف الضغط في فلسطين، للتخفيف، في المقابل، من الضغط عليها في العراق، على أساس إبقاء العبء على أكثر من دولة في المنطقة، كسوريا ولبنان وإيران... ولذلك، فإن على الشعب الفلسطيني ـ ومعه كل شعوب المنطقة ـ أن لا يسقط أمام هذه الخديعة، لأن القضية لم تعد قضية تخفيف هنا وهناك، بل هي قضية الحرية لمصلحة شعوب المنطقة لا لمصلحة المستكبرين... إن المأزق مشترك بين المحتل والمجاهدين، وعلى السائرين في خط الحرية أن لا يتركوا فرصة للمحتل للخروج من مأزقه إلا إلى التحرير.

لبنان: مقاومة التوطين

أما في لبنان، فقد بدأت قضية التوطين تفرض نفسها على الوسط السياسي من خلال اقتراحات أوروبية وأمريكية، لأن القضية تتصل بالشرعية الدولية في عودة الفلسطينيين إلى ديارهم... وقد بدأت التعليقات الاستهلاكية تعبر عن الإجماع اللبناني على رفض التوطين، ولكن السؤال: ماذا فعل لبنان في هذا الاتجاه في علاقاته الدولية، وفي دراسته للخلفيات الكامنة وراء هذا المشروع، وفي الخطط التي ترسم لإبعاد اللاجئين الفلسطينيين عن حق العودة بإيصالهم إلى درجة من اليأس تدفعهم إلى القبول بالأمر الواقع المفروض عليهم؟

إن المطلوب هو أن تكون للبنان دولة تتحمل مسؤولياتها في القضايا المصيرية، ولا سيما أن التداخل بينه وبين مشكلة المنطقة هو على مستوى الترابط العضوي.. وإذا كان البعض في الواقع الدولي يثير هذه المسألة على أساس الاختبار، فإن رد الفعل لا بد أن يكون سياسياً لا إعلامياً، لأن هذه القضية هي من أخطر القضايا التي تستهدف لبنان من الداخل والخارج...

إننا لا نزال نطالب ـ والشعب كله يطالب ـ بأن يكون لبنان دولة لشعبه لا مزرعة لفئة خاصة... أيها المسؤولون: أعطوا اللبنانيين دولة عادلة منفتحة على المتغيرات في نطاق الخطة، وخذوا من الشعب اللبناني كل إبداع وعنفوان.

في يوم المؤاخاة بين النبي (ص) والوصي (ع):
لنتمسك بنهج الرسول (ص) في وحدتنا الإيمانية والتكامل في قضايانا المصيرية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

المؤاخاة بين المسلمين

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}. منذ أن انطلق الإسلام في الدعوة الإسلامية العالمية التي أرسل الله تعالى رسوله بها ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، كان أول عمل قام به النبي (ص) في مكة ـ بحسب ما جاء في أكثر من كتاب من كتب السيرة ـ وأكمله في المدينة هو المؤاخاة بين المسلمين. ذلك أن المسلمين عندما دخلوا في الإسلام كانوا أفراداً، قد لا تربط بينهم أية رابطة من النسب أو غيره، فأراد (ص) من خلال وحي الله سبحانه أن يوجد رابطة عضوية بينهم، بحيث تكون أخوّة أو رابطة الدين كرابطة النسب، بل هي أكثر ترابطاً، فهي أشبه بالرابطة التي تجمع أعضاء الجسد في الجسم الواحد.

وقد كانت التجربة الأولى أن آخى النبي (ص) في شكل مباشر بين المسلمين في مكة والذين هاجروا معه بعد ذلك، فقال لفلان إن أخاك هو فلان، بحيث عيّن لكل واحد منهم أخاً في إطار الوحدة العام. ويُقال إنّ عليّاً (ع) بقي وحده، ولم يؤاخِ النبي (ص) بينه وبين أي صحابي آخر، ما جعل عليّاً (ع) يشعر بشيء من الحزن، فقال له النبي (ص): «أما ترضى أن أكون أخاك» ـ وتصبح أخاً لي، وأصبح أخاً لك، كما فعلت مع المسلمين الآخرين، لتتأكّد بذلك الأخوّة بيننا، لأن هذه الأخوة هي أخوة ترقى إلى أن تكون عملية اندماج في النسب والروح والرسالة والجهاد؟! ـ قال(ع): "نعم"، فقال النبي (ص): «فإنك أخي في الدنيا والآخرة»، أي أنها ليست مجرد أخوّة مرحلية، لأن العلاقة بيني وبينك ترجع إلى يوم كنت فيه طفلاً أرعاك بكل روحي وعقلي وقلبي، حتى نشأ عقلك من عقلي، وقلبك من قلبي، فأنت أخي في الدنيا والآخرة.

وعندما هاجر النبي (ص) إلى المدينة، وهاجر معه فريق من المسلمين، أعاد النبي(ص) هذه التجربة، فأكد المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، ثم ربط بين المهاجرين والأنصار الذين كانوا يقيمون في المدينة، فآخى بينهم على الحق والمساواة، لتكون أخوّتهم على أساس الحق الذي يلتزمونه، ليقوموا بالدعوة إليه ونصرته والدفاع عنه وعن أهله، وأن يواسي كلُّ واحدٍ منهم أخاه في الإيمان، بحيث يشاركه ماله وحزنه وفرحه ومشاكله. وقيل إن هذه المؤاخاة كان لها تأثيرها الكبير، وخصوصاً أن المهاجرين عندما جاءوا إلى المدينة، تركوا كل أموالهم في مكة وهربوا بدينهم، فكان الأنصاري الذي تآخى مع المهاجر يأتي إلى أخيه المهاجر، ليقول له: ما دمت أخي فلا يمكن أن تبقى فقيراً وأكون على هذا المستوى من الغنى، تعال أشاطرك مالي... وقد حدّث الله تعالى عن هؤلاء فقال: {والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ـ وهم الأنصار ـ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ـ مضايقة ـ مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون}.

وكانت هذه المؤاخاة تعتمد على قاعدة التوارث، فيرث الأخ المؤمن أخاه، كما يرث الأخ أخاه في النسب، وبقيت الحال كذلك حتى جاءت معركة بدر، فنزلت هذه الآية: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}، فنسخت ذاك الحكم، وأصبح الإرث مختصاً بالأرحام في كل طبقة، يتوارث أهل تلك الطبقة بعضهم بعضاً، ولا ينتقل الإرث إلى الطبقة الثانية إلا بعد أن لا يبقى أحد من الطبقة الأولى.

المؤاخاة بين النبي(ص) وعلي(ع)

وبعد أن استكمل النبي (ص) المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، جاءه عليّ (ع) ـ كما يقول ابن سعد في طبقاته ـ مطالباً بأن يؤاخي بينه وبين أحد من المسلمين، فقال له النبي (ص) في المدينة ما قاله في مكة: «أما ترضى أن أكون أخاك، أنت أخي في الدنيا والآخرة». وهذا ما يوحي بفضيلة عظيمة للإمام عليّ(ع)، لأن الصحابة كانوا كثراً، وكان فيهم الأشخاص الذين بلغوا سنّاً متقدمة، وكان الرسول(ص) آنذاك في الثالثة والخمسين من عمره، ومع ذلك، لم يجد محمد(ص) أحداً ليؤاخيه إلا هذا الشاب الذي رباه من دم قلبه، ومن نور عقله، ومن كل مشاعره وأحاسيسه وثقافته، حتى أصبح عليّ (ع) النموذج الأكمل للإنسان المسلم في هذا المجال، فكان كما كان النبي (ص) يقول: {وأمرت لأن أكون أول المسلمين}. كان عليّ (ع) أول المسلمين بعد رسول الله، وهو الذي قال: «اللهم إني أول من سمع وأناب، لم يسبقني بالصلاة إلاّ رسول الله (ص)». فالقضية لم تكن قضية قرابة، فهناك أبناء عم للنبي غير عليّ، ولكن النبي (ص) كان يعرف عن عليّ ما لا يعرفه غيره من الناس، وكان قد اختبره في كل طاقاته ومناقبه وصدقه وإخلاصه لرسول الله (ص).

المؤمنون أخوة

هذه هي التجربة الواقعية العملية التي قام بها الرسول الله (ص) في المؤاخاة تأكيداً لقوله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة}؛ هذا المبدأ الإسلامي الشامل الذي يريد أن يقول للمؤمنين جميعاً: إن رابطة الإيمان هي أعظم من رابطة النسب، وعليكم أن تعيشوا هذه الأخوّة فيما بينكم.

إننا نتحدث في هذا اليوم عن هذه المؤاخاة، لأن هذا اليوم هو يوم المؤاخاة الذي عقد فيه رسول الله (ص) المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبينه وبين عليّ (ع)، ولذا لا بد لنا من أن نجعل هذا اليوم يوماً نؤكد فيه هذه المؤاخاة على المستويين الخاص والعام، لأن ذلك هو الذي يجعل المسلمين في رباط عضوي على مستوى الأمة، بحيث يتحسس الإنسان المسلم آلام أخيه المؤمن ويحمل همه ويعيش مشاكله، حتى ينطلق المسلمون ليكونوا أمة واحدة.

ولهذا نلاحظ أن الله تعالى عقّب على كلمة {إنما المؤمنون أخوة}، فدعا إلى الإصلاح بين الأخوة: {فأصلحوا بين أخويكم}، ليبقى شمل العائلة الإسلامية العالمية مجتمعاً، فما دمتم ـ أيها المؤمنون ـ أخوة، فعليكم أن تبادروا إلى حلّ أيّ نزاع أو خلاف أو أيّ فتنة بين أخويكم، {واتقوا الله} عندما تتحركون في خطِّ الإصلاح، لأن المصلح لا يميل مع أحد دون آخر {لعلكم ترحمون}.

وقد وردت بعض الأحاديث في بيان طبيعة هذه الأخوّة، فعن رسول الله (ص): «إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن ـ يطمئن إليه، يستريح له وينفتح عليه ـ كما يسكن قلب الظمآن إلى الماء». ويقول (ص): «المؤمنون أخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم». وفي حديث عن الإمام عليّ (ع) وهو يخاطب صاحبه كميل: «يا كميل، المؤمنون أخوة، ولا شيء آثر عند كل أخ من أخيه».

وعن الإمام الصادق (ع) يقول: «المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه». ويقول رسول الله (ص): «النظر إلى الأخ تودّه في الله عزّ وجلّ عبادة»، وجاء عنه (ص): «ما استفاد امرؤ مسلم فائدةً بعد الإسلام كمثل أخٍ يستفيده في الله».

الاقتداء بالرسول (ص)

علينا في هذا اليوم ـ يوم المؤاخاة ـ وفي هذه الساعة ـ ساعة صلاة الجمعة ـ التي يقف فيها المسلمون في كل أنحاء العالم ليعبدوا الله ويشهدوه على وحدتهم الإيمانية... في مثل هذه اللحظات، علينا أن نفتح قلوبنا لله، لنقول له: يا ربنا، إننا آمنا بك وصدّقنا الرسول، وسرنا في خطك والتزمنا دينك، فأعطنا من رحمتك ما يجعلنا أخوةً نتكامل في كل قضايانا... ونقول في هذه اللحظات لرسول الله (ص): يا رسول الله، نحن نتوجه إليك في رحاب الله، ونشهدك في يوم المؤاخاة أننا نقتدي بك، وأننا سوف نعيش معك في هذه المؤاخاة التي أكدتها عندما كان المهاجرون والأنصار يواجهون المشركين كالبنيان المرصوص... يا رسول الله: إننا نشهدك أننا سنقتدي بك لنتآخى من جديد، ونقف صفاً واحداً كالجسد الواحد «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر».

إنه يوم المؤاخاة، فلنتآخَ، لأن المرحلة تفرض علينا أن نترك كل حساسياتنا وخلافاتنا، لنلتقي عند الله ورسول الله وعند المسؤولية، لنعيش في ذلك اليوم أخواناً على سرر متقابلين، أخواناً يتحركون على أساس المحبة التي عقدوها في قلوبهم، لننطلق إلى الجنة والحب في قلوبنا، والحق في عقولنا، والخير في حياتنا. هل تريدون الجنة؟ الجنة لا حقد فيها ولا نزاع ولا بغض، هل تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه وأنتم على هذا الحال من البغض والعداوة والفتن والنزاع؟ "هيهات، لا يُخدع الله عن جنته".

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على قاعدة الوحدة وعلى أفق الأخوة في كل مواقعكم في العالم، لأن الكفر كله والاستكبار كله بدأ يتحالف ضد هذه الأمة، ويتوحّد من أجل العبث والسيطرة على مقدّراتها الخاصة والعامة، لتكون أمتنا على هامش مصالحه وبعيدة عن مواقع العزة والقوة والكرامة. إنهم يمنعوننا من صنع القوة، وإذا حدث أنّ بعضنا في هذا البلد الإسلامي أو ذاك، أو من خلال التزام هذه الخطة الجهادية أو تلك، إذا بدا أن هؤلاء يعملون على صنع القوة، فإنهم يتحركون في سبيل إسقاط كل مشروع للقوة، في الوقت الذي يشجّعون الذين يستضعفون شعوبهم ويسقطون كل الذين يريدون أن يرتفعوا بمستوى شعوبهم.

لذلك، فإن المرحلة لا تتحمل فتنة بين المسلمين الذين يختلفون مذهبياً بين سنّة وشيعة، وعرقياً بين أبيض وأسود، وجغرافياً بين هذا الموقع الجغرافي وذاك، ولكنهم يتوحدون بالله وبرسوله وكتابه. فعلينا أن نجمِّد كل الخلافات، حتى نقف على أرض صلبة لا تهتز أمام تحديات المستكبرين... فلا يجوز لنا أن نحرِّك نقاط الضعف فينا من خلال ما نثيره من القضايا الصغيرة، ولا سيما في المجتمع المتديّن، الذي يحاول الكثير من رموزه في الداخل أن يثيروا في كل يوم فتنة هامشية هنا وفتنة هامشية هناك، ما يشغل المسلمين عن كل التحديات التي تواجههم، والعدو يخطط لينسف كل الجزئيات التي ننشغل بها، لأنه يريد أن يستوعب كل كلياتنا.

لذلك لا بدّ أن نحرك عقولنا. والمشكلة ـ وأقولها بمرارة ـ أن مجتمعاتنا تعيش غرائزها، ولهذا، فإننا ندمن الحقد وننتج العداوة والبغضاء والفتنة هنا وهناك، والعدوّ يضحك ويقهقه، لأنه يرانا كمثل الأطفال الصغار الذين يلهون على رمال الشاطئ ويبنون القصور الرملية ويتقاتلون عليها، وتأتي الموجة من البحر، فتجرف كلَّ القصور والأكواخ. ألسنا نعيش طفولة هذه القضايا الصغيرة التي يأتي الاستكبار لينسفها؟ لهذا علينا أن نحرِّك عقولنا لكي نعرف ماذا يخطِّط المستكبرون لنا، ولنسأل: ما هو جديد أمريكا في هذه الأيام؟

الديمقراطية الأمريكية: دعم الاستبداد

في خطاب الرئيس الأمريكي "بوش"، دعوة إلى نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، على خلفية أن المنطقة "الأكثر حرماناً من الديمقراطية هي الشرق الأوسط"، على حدّ قوله، ثم الاعتراف بأن "دعم الولايات المتحدة الأمريكية الذي استمر نحو ستين سنة للأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر حرماناً من الحرية ـ كما يقول ـ أجَّج شعوراً معادياً للأمريكيين يغذي الإرهاب"، ثم التأكيد على الحاجة إلى الدفع قدماً نحو "تغيير ديمقراطي"، معترفاً بأنه يجب "ألا يُحرم أيّ بلد أو شعب من المنافع العظيمة التي يمكن أن تأتي بها الحرية والتطور الديمقراطي".

إن الرئيس الأمريكي يتحدث في أسلوبه التبشيري كرسول من السماء لتغيير العالم، وفي مقدمه الشرق الأوسط، وإن كان ذلك من خلال فريقه من المسيحيين المتصهينين والجماعات اليهودية التي تسيطر على مقدرات أمريكا السياسية والاقتصادية، عبر الإدارة الحالية الخاضعة للشركات الاحتكارية النفطية وشركات السلاح التي تضم في إداراتها الكثيرين من أعضاء الإدارة الحكومية الحالية، إضافةً إلى مجلسي الشيوخ والنواب...

ولكن السؤال: ما هو مفهوم الرئيس الأمريكي للديمقراطية؟ وهل تقتصر حركتها على الشعب الأمريكي في اعتبار القانون هو القوة المسيطرة على البلد كله، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الحريات العامة في أمريكا قد تقلّصت، ولا سيما بالنسبة إلى العرب والمسلمين، وأن القانون الدولي قد انتُهك من قِبَل الإدارة الأمريكية بالنسبة إلى المعتقلين؟

ثم، كيف ينظر الرئيس الأمريكي إلى الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لإبادة شاملة من قِبَل حليفته إسرائيل، التي تحدد للإدارة الأمريكية سياستها في المنطقة، والتي حصلت على الضوء الأخضر الكبير للجرائم الوحشية التي ترتكبها ضد المدنيين، لأن الاستراتيجية المشتركة بين الدولتين تحرك المسألة في اتجاه الحرب ضد ما يسمّونه الإرهاب، ليكون الرفض المقاوم للاحتلال الإسرائيلي إرهاباً عندهم؟

إننا نسأل الرئيس الأمريكي: هل أن هذه السياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية تمثل الديمقراطية، أم أن إسرائيل ـ كما هي أمريكا ـ ليست مسؤولة عن مراعاة الديمقراطية بالنسبة إلى الشعوب المحتلة؟ إن أمريكا التي اعترفت بدعمها للأنظمة الاستبدادية تمارس الدعم للكيان الاستبدادي في احتلاله للشعب الفلسطيني وأرضه، كما تمارس ـ هي ـ الاستبداد في الضغط على أكثر من دولة شرق أوسطية لا تستجيب لمصالحها...

إنها ديمقراطية الإدارة الأمريكية التي يراد منها المحافظة على مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وليس المحافظة على مصالح شعوب المنطقة... إن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو حرية الاستخبارات الأمريكية في صنع الحروب وإثارة الفتن ومصادرة الثروات، من أجل المزيد من التدخل السياسي والأمني والاقتصادي في المنطقة.

ملاحقة الإعلام باسم معاداة السامية

وفي اتجاه آخر، تلاحق أمريكا الإعلام الدولي الذي ربما يتحدث بطريقة علمية موضوعية عن اليهود في تأثيرهم السلبي على العالم في مفاصله الحيوية، وعن تهديدهم للسلام العالمي من خلال تهديد إسرائيل للمنطقة كلها، بحيث توزع تهديداتها للدول الإسلامية والعربية، لأنها تملك أكبر ترسانة للسلاح النووي في المنطقة، من دون أن يجرؤ أحد ـ بما في ذلك الأمم المتحدة ـ على إدانتها، على غرار الضجة التي تثار الآن ضد إيران.. ولذلك، فإن وجود هذه الدولة في فلسطين، قد أدى إلى الاهتزاز السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة التي هي من أكثر المناطق حيوية في العالم...

إن أمريكا تقف ضد هذا الإعلام المنطلق من إرادات شعبية غربية، كما تحاسب أجهزة الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب على كل مادة إعلامية تنتقد إسرائيل وتفضح تاريخ جرائمها، باسم معاداة السامية... ولكن أمريكا لا تحرك ساكناً ضد الإعلام الأمريكي وغيره الذي يهاجم الإسلام والمسلمين والعرب، بحجة أنها بلد الحريات الفكرية التي تعطي الحق لكل أمريكي أن يهاجم الإسلام والمسلمين، من دون أن يكون لأحد الحق ـ حتى خارج أمريكا ـ أن يهاجم اليهود، فهم في نظر أمريكا وحلفائها فوق النقد وفوق التشهير، لأنهم ـ كما قال مهاتير محمد ـ يسيطرون على العالم، ويخوضون حروبهم بالوكالة من خلال أمريكا التي هي الوكيلة الأولى لحروب اليهود في المنطقة... والسؤال: هل هذه هي الديمقراطية التي يبشر بها الرئيس الأمريكي؟

أمريكا وإسرائيل في المأزق

وفي جانب آخر، تتّجه الإدارة الأمريكية لتخصيص منحة عسكرية لإسرائيل بمقدار يزيد عن الملياري دولار، تحت عنوان: الالتزام بأمن إسرائيل والحفاظ على تفوّقها النوعي... وكأنها تعلن للعالم أنها تخوض الحرب مع إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني بأطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه من المدنيين الذين يُقتلون ويُقصفون بطائرات وأسلحة أمريكية، باسم المحافظة على السلام؟!

وعلى صعيد آخر، فقد تغيرت، بعد جمود لافت، لهجة إسرائيل النفاقية ـ ومعها الأسلوب الأمريكي ـ وتمثل ذلك في إعطاء بعض الإشارات الإيجابية للحكومة الفلسطينية الجديدة بشرط امتلاكها للأمن الفلسطيني كله الذي يملك تصفية الانتفاضة.

إننا نعتقد أن المرحلة تحولت إلى مأزق للسياسة الأمريكية والإسرائيلية، من خلال الصمود الفلسطيني الرائع، بالرغم من كل عمليات التدمير والإبادة، ولا سيما أن المعارضين للاحتلال الأمريكي في العراق ربما يتواصلون مع الانتفاضة في مقاومتهم، ويستلهمون من هذه القوة العربية والإسلامية قوة إضافية...

ولهذا، فإن المطلوب ـ أمريكياً ـ تخفيف الضغط في فلسطين، للتخفيف، في المقابل، من الضغط عليها في العراق، على أساس إبقاء العبء على أكثر من دولة في المنطقة، كسوريا ولبنان وإيران... ولذلك، فإن على الشعب الفلسطيني ـ ومعه كل شعوب المنطقة ـ أن لا يسقط أمام هذه الخديعة، لأن القضية لم تعد قضية تخفيف هنا وهناك، بل هي قضية الحرية لمصلحة شعوب المنطقة لا لمصلحة المستكبرين... إن المأزق مشترك بين المحتل والمجاهدين، وعلى السائرين في خط الحرية أن لا يتركوا فرصة للمحتل للخروج من مأزقه إلا إلى التحرير.

لبنان: مقاومة التوطين

أما في لبنان، فقد بدأت قضية التوطين تفرض نفسها على الوسط السياسي من خلال اقتراحات أوروبية وأمريكية، لأن القضية تتصل بالشرعية الدولية في عودة الفلسطينيين إلى ديارهم... وقد بدأت التعليقات الاستهلاكية تعبر عن الإجماع اللبناني على رفض التوطين، ولكن السؤال: ماذا فعل لبنان في هذا الاتجاه في علاقاته الدولية، وفي دراسته للخلفيات الكامنة وراء هذا المشروع، وفي الخطط التي ترسم لإبعاد اللاجئين الفلسطينيين عن حق العودة بإيصالهم إلى درجة من اليأس تدفعهم إلى القبول بالأمر الواقع المفروض عليهم؟

إن المطلوب هو أن تكون للبنان دولة تتحمل مسؤولياتها في القضايا المصيرية، ولا سيما أن التداخل بينه وبين مشكلة المنطقة هو على مستوى الترابط العضوي.. وإذا كان البعض في الواقع الدولي يثير هذه المسألة على أساس الاختبار، فإن رد الفعل لا بد أن يكون سياسياً لا إعلامياً، لأن هذه القضية هي من أخطر القضايا التي تستهدف لبنان من الداخل والخارج...

إننا لا نزال نطالب ـ والشعب كله يطالب ـ بأن يكون لبنان دولة لشعبه لا مزرعة لفئة خاصة... أيها المسؤولون: أعطوا اللبنانيين دولة عادلة منفتحة على المتغيرات في نطاق الخطة، وخذوا من الشعب اللبناني كل إبداع وعنفوان.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير