لنحصل على رضوان الله ولنتوحّد بالقدس

لنحصل على رضوان الله ولنتوحّد بالقدس

في رحاب آخر جمعة من شهر رمضان المبارك:
لنحصل على رضوان الله ولنتوحّد بالقدس


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

قبل البدء بالخطبة، نحب أن نؤكد أنه ثبت عندنا بالوجه الشرعي وبالحسابات الفلكية الدقيقة من خلال تحرياتنا مع أكثر من شخص من أهل الخبرة في العالم، بأن أول شوال (عيد الفطر المبارك) هو يوم الثلاثاء القادم الموافق لـ25 تشرين الثاني، أعاده الله على المسلمين جميعاً بالخير والبركة والعزة والنصر والتوفيق.

تجديد الإيمان والإسلام

هذا اليوم هو آخر جمعة من شهر رمضان، والجمعة هي اليوم الذي أراد الله للمسلمين أن يجتمعوا فيه من خلال صلاة الجمعة ليبتهلوا إليه، وليذكروه، وليتوبوا إليه من كل ذنوبهم، إنه يوم الحضور أمام الله تعالى في كل العالم الإسلامي حتى يجدد المسلم يدي الله تعالى إيمانه وإسلامه، ويذكر الله في كل أموره: {فاسعوا إلى ذكر الله}... أن يذكر الله في ما يلتزم به من فكر ليكون فكره فكر الحق الذي يرضى به الله، وفي ما يتحسسه في نبضات قلبه من عاطفة، لتكون عاطفته في مرضاة الله، ولينفتح عندما ينطلق من صلاة الجمعة على أعماله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}، لينطلق من صلاة الجمعة إلى ساحة العمل ليكون عمله سواء أكان في التجارة أو الاجتماع، صلاة يذكر الله فيها كما ذكره في الصلاة.

ولعل قيمة هذه الجمعة أنها آخر جمعة من شهر رمضان، حيث يتجمّع فيها كل روح هذا الشهر، فالإنسان في هذه الجمعة لا بد أن يجلس مع ربه ويخلو مع نفسه ليقوم بعملية حساب: كيف كان رمضانه في الأيام التي مضت، وكيف يعمل للحصول على ما لم يحصل عليه في الأيام التي بقيت. وهذا ما جاء به الدعاء المروى عن أهل البيت (ع): "اللهم وهذه أيام شهر رمضان قد انقضت ولياليه قد تصرّمت، وقد صرت يا إلهي إلى ما أنت أعلم به مني وأحصى لعدده من الخلق أجمعين، فأسألك بما سألك به ملائكتك المقربون وأنبياؤك المرسلون وعبادك الصالحون إن كنت رضيت في هذا الشهر فازدد عني رضى ـ لأنني يا ربٍّ أريد أن ترضى عني رضى لا رضى فوقه، ولا زيادة فيه لمستزيد، لأن ذلك هو الذي يقربني إليك ويجيبني إليك، وتلك هي السعادة كل السعادة. وقد عبّر الله تعالى عن رضاه بعد أن تحدث عن الجنة التي يدخلها المتقون بأنه: {ورضوان من الله أكبر} ـ وإن لم تكن رضيت عني، فمن الآن فارضَ عني".

وهناك خصوصية لهذه الجمعة وهي أنه من المحتمل أن تكون هذه الليلة ـ ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان ـ من ليالي القدر، لأن الروايات في ليلة القدر تنوعت بين الحادي والعشرين والثالث والعشرين والسابع والعشرين، حتى جاء في بعض الروايات أنه "اطلبوها في كل الليالي المفردة من العشر الأواخر"، ولذا ينبغي للإنسان أن يستعد في هذه الليالي التي يُحتمل أنها ليلة القدر ليتفرغ إلى الله تعالى في بعض وقته، ولا يقتصر على ما تعارف الناس عليه من الجانب الرسمي من ليلة القدر.

القدس: انفتاح على حركة الرسل والرسالات

وهناك في هذا اليوم، آخر جمعة من شهر رمضان، هو أيضاً اليوم الذي أُريد فيه أن يتذكر المسلمون في جميع أنحاء العالم القدس، ليكون يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان يوماً للقدس. وقضية الانفتاح على هذا اليوم ليست مجرد قضية احتفالية يحتفل الناس بها ويذهبون إلى بيوتهم كأنهم وفّوا قسطهم للقدس، بل إن هذا اليوم التي جاءت المبادرة من الإمام الخميني(قده) باعتباره يوماً للقدس، يهدف إلى أن لا تغيب القدس عن الوجدان الإسلامي من خلال ما تمثله من معنى رسالي روحي ينفتح على كل تاريخ الرسل وحركة الرسالات، كما أن هذا اليوم ينفتح على الجانب السياسي من خلال هذا الظلم الذي وقع على القدس، سواء أكان في ما مضى من تاريخ الحروب الصليبية أو في ما نعيشه الآن من الاحتلال الصهيوني.

إن المطلوب هو أن تبقى القدس في البال وأن لا تغيب أمام الأوضاع السياسية التي تحيط بالمنطقة، أو القضايا الجزئية التي يُراد استغراق المسلمين فيها ـ وخصوصاً الفلسطينيين ـ حتى ينسوا الجوهر. فنحن نجد مثلاً أن الناس تتحدث على مستوى السياسة العالمية عن الجدار الفاصل أو المستوطنات أو عن بعض الجرائم الوحشية هنا وهناك، أو تتحدث عن مسألة إذلال الفلسطينيين وما إلى ذلك، لتنسى القدس، بل إننا نلاحظ أن السياسة الأمريكية المتحالفة مع السياسة الإسرائيلية تعمل على أساس إبعاد قضية القدس عن أية مفاوضات، لتكون مسألة القدس وحق الفلسطينيين فيها مؤجلة إلى نهاية المفاوضات، وذلك بعد أن تستكمل إسرائيل عملية الاستيطان اليهودي في المدينة المقدسة، بحيث لا يبقى هناك شيء يُتفاوض عليه.

فلا بد لنا أن نتذكر القدس في هذا اليوم، بحيث تتحرك مواقع الدراسات الدينية الإسلامية والسياسية، لتدرس العمق الذي تمثله القدس كواجهة لكل الواقع الإسلامي الرسالي والسياسي والحركي والأمني.

الإسراء: التزام بالإسلام الأصيل

أما في الجانب الرسالي فإن الآية الكريمة في سورة الإسراء: {سبحان الله الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه السميع البصير}، هذه الآية أرادت الإيحاء بأن الله تعالى أراد لرسوله محمد (ص) أن يذهب إلى المسجد الأقصى بطريقة إعجازية اختصرت المسافات في لحظات، من أجل أن يتحرك في رسالته إلى العالم لأنه جاء رسولاً للناس كافة، ولأنه جاء رحمة للعالمين، من أجل أن يعيش في المسجد الأقصى كل تاريخ الرسالات، لأن الرسالة الإسلامية الخاتمة هي الرسالة التي تجمع كل الرسالات، وتركز على العناصر الأصيلة فيها، ولهذا جاء القرآن الكريم ليؤكد الإيمان بكل الرسل: {لا نفرق بين أحد من رسله}، وليؤكد الإيمان بكل الكتب التي أنزلها الله من التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم، لأن الإسلام يتميز عن كل الأديان أنه جاء مصدقاً للذي بين يديه، ليكون المتمم والمكمل وليجمع الله الرسالات بهذا الدين الذي ميّز به محمداً (ص).

لذلك فإن هذه الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تؤكد أن هناك ترابطاً بين ما يوحي به في هذا المسجد أو ذاك، وخصوصاً المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم (ع)، والأنبياء في المسجد الأقصى هم من ذريته، ولذلك فإن إبراهيم (ع) هو شيخ الأنبياء، وهو الذي يربط بين المسجدين من خلال رسالة الله تعالى.

إن الإيحاء في هذا هو أن النبي (ص) كما أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فإنه يجب علينا أن نعمل كمسلمين لننفتح على كل المساجد لنؤكد الترابط بين المسلمين في التزامهم بالإسلام الأصيل والحق، وليتحركوا من خلال ذلك على الحوار في ما اختلفوا فيه من فرعياته، وهذا هو قول الله: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}، أي أن لا تكون هناك مقاطعة بين المساجد مهما اختلفنا في مذهبياتنا وآرائنا، بل علينا أن نرتكز على الإسلام ونتخذه القاعدة: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.

وإذا كان المسجد الأقصى والقدس هما ملتقى الرسالات السماوية، فإن علينا أن نعمل لفتح باب الحوار مع كل أتباع الأديان الأخرى، لأن القرآن الكريم فتح باب الحوار مع كل الناس وقال للمسلمين أن يقولوا لأهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}، وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.

لذلك، لا بد لنا أن ننفتح بالرسالة الإسلامية على كل الذين يلتزمون الرسالات الأخرى وإن اختلفنا معهم في بعض جوانب العقيدة أو المفاهيم أو بعض مسائل التاريخ، لأن الله أراد لنا أن نأخذ بأسباب الحوار ليكون سبيلنا للتفاهم واللقاء على ما نتفق عليه ولمواصلة البحث في ما نختلف فيه.

أما في المسألة السياسية التي لا تبتعد عن المسألة الرسالية، لأن السياسة في الإسلام هي رسالة من أجل أن يكون الإنسان عبد الله ليكون حراً أمام الناس كلهم، فالحرية في الإٍسلام هي هبة الله إليه: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، فالمسألة السياسية في كل مفرداتها وخطوطها هي مسألة رسالية تنطلق من قاعدة الحرية للإنسان وقاعدة العزة والكرامة للإنسان المؤمن: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.

دراسة عوامل سلب القدس

لذلك عندما ننفتح على القضية السياسية، فلنفكر في كل مراكز الدراسات بأن القدس التي كانت بأيدينا، لماذا استولى عليها الآخرون؟ ما هي الظروف والأسباب التي أدّت إلى هذا الضعف السياسي والأمني للأمة؟ ما هي الأسباب التي ساهمت في ذلك؟ ما هي الظروف التي ساهمت في حرب الـ67 التي فقد المسلمون فيها القدس، ولا سيما القدس القديمة؟من الذي دفع بحرب الـ67، وكيف كانت حال العرب الذين خاضوا هذه الحرب، هل استعدوا لها سياسياً وفي عالم التخطيط وعسكرياً؟ وماذا عن الأوضاع الدولية التي تؤثر تأثيراً كبيراً في عملية الحرب والسلم؟ ثم ما هي الخطط التي كانت تحاك من قِبَل أمريكا وأوروبا وحتى الاتحاد السوفياتي، لكي يقع العرب في شرّ هزيمة؟ هل هو مجرد ضعف وتمزق عربي أم أنه يمثل حال الانبطاح لدى أكثر من شخصية عربية للسياسة الأمريكية، أو من خلال حال الحماس والانفعال التي انطلقت بها الحرب، والحرب قد تكون حماساً من أجل التعبئة ولكنها خطة من خلال الحركة، ولعل الجو الذي عاشت به هذه الحرب كان جو انفعال أكثر مما هو جو عقل.

لا بد أن ندرس ذلك كله، وأن ندرس كل حركة الواقع، سواء أكان الواقع العربي الذي يتمثل في الجامعة العربية، أو الواقع الإسلامي الذي يتمثل في منظمة المؤتمر الإسلامي، أو في كل التطورات في العالم التي أدخلت القضية الفلسطينية في مسألة الحرب ضد الإرهاب ولم تعد مجرد قضية تحرير شعب. لا بد للأمة أن تدرس هزائمها بوعي ودقة على أساس التخطيط كما تدرس انتصاراتها، لأننا نعيش في عالم لا يملك المبادئ في كل سياسته وأمنه وكل علاقاته.

لذلك علينا أن نخرج من أجواء اللامبالاة، أن لا يقبع كل واحد منا في زاويته، حيث بدأنا نسمع البعض يقول: ما لنا وللفلسطينيين وللقدس! إن القوم من أعدائنا من المستكبرين يعتبرون أن مسألة العرب واحدة، فإذا ما هزموا موقعاً فإنهم يفرضون الهزيمة على بقية المواقع، كما أنه إذا انتصر موقع فإنهم يعملون على تحويل هذا الانتصار إلى هزيمة، كما في حرب العاشر من رمضان التي اجتاز فيها الجيش المصري قناة السويس وانتصر على الإسرائيليين، ولكن اللعبة حوّلت هذا الانتصار إلى هزيمة.

لنتوحّـد بالقدس

إن الله تعالى يريدنا أن نكون أمة واحدة لأنه لا يمكن لأي إنسان أن يشعر بالحرية ما لم تكن أمته حرة، ولا يمكن أن يشعر بالعزة والكرامة ما لم تكن أمته حرة عزيزة. إن أول شرط ليوم القدس هو أن نتوحد بالقدس، باعتبار أن القدس لا تمثل مجرد مسجد ومدينة ولكنها تمثل كل قضية تتصل بالإسلام ثقافياً وسياسياً وأمنياً. إن القوم في كل تنوعاتهم القومية والسياسية وحتى المذهبية، كما هو الحال لدى اليهود الذين يذهبون مذاهب شتّى، نجد أنهم يتوحدون أمام القضايا التي يعتبرونها هدفاً لهم، فلماذا لا نتوحد أمام قضايانا؟ القضية هي أن نجمّد كل خلافاتنا لنتوحد على القضية الكبرى، وأن نعمل لنطرد من داخلنا كل من يريد إغراق الأمة بالهوامش من النزاعات لأن هؤلاء يمثلون الطابور الخامس للصهيونية والاستكبار العالمي، إن القضية هي: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.

نسأل الله تعالى أن يمنحنا الكثير من الوعي، والكثير من العقل، والكثير من الإحساس بالمسؤولية، والكثير من السعي من أجل الوحدة للإسلام كله وللإنسان كله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله واجعلوا رسالة الله التي تمتد من الدنيا إلى الآخرة، والتي هي في قرآنها حبل ممدود من السماء إلى الأرض، منارة طريقكم. اتقوا الله وحاولوا أن تعملوا على نظم أمركم وصلاح ذات بينكم، لأن صلاح ذات البين يمنع الكثير من الخلافات والمنازعات والفتن، ونحن نعرف أن الخلافات عندما تدب في الأمة فإنه لا يبقى هناك صلاة كما هي الصلاة، ولا صوم كما هو الصوم.

لذلك علينا أن نعمل على أساس نظم أمرنا وإصلاح ذات بيننا، لأنه، سبحانه، أكّد أن من مبادئ الأخوة الإصلاح، وخصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي يحاول فيها المستكبرون مصادرة الواقع الإسلامي. فنحن نمر في هذه المرحلة بالكثير الكثير مما يثقل واقعنا، ويهدد مستقبلنا، وهذا ما يفرض علينا أن نرتفع إلى مستوى المسؤولية، ونحن نسمع بين يوم وآخر تهديداً من مستكبر هنا ومستكبر هناك، وقد كان ما جاء في آخرها خطاب الرئيس الأمريكي الذي لا بد أن ندرس بعض فقراته، لنطل على ما يدبّر لنا.

خطاب بوش: تبريري تبشيري

لا يزال منطق الإدارة الأمريكية المتمثل في خطاب الرئيس "بوش" منطقاً تبريرياً تبشيرياً لحروبه المتحركة تحت عنوان "الحملة على الإرهاب" في أفغانستان والعراق، من أجل "تحريرهما وترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان كنموذج للرسالة الإلهية التي كُلف بها" ـ على حد ما جاء في خطابه ـ مضيفاً "إننا نساند حقوق الإنسان للآخرين ونؤكد الكرامة التي منحها الرب لكل إنسان، ولذا فإننا نتحرك تصدياً للقمع والمجاعة والمرض".

وقد تجاهل بوش خلفيات الحرب في سيطرة الشركات الأمريكية والحليفة على عقود الإعمار، من دون الإفساح بأي فرصة للاستفادة للعراقيين أنفسهم أو للدول المجاورة للعراق، إضافة إلى السعي لتغيير المنطقة لحساب المصالح الأمريكية الحيوية من خلال التجربة العراقية... وهذا هو الذي يفسر الإصرار على بقاء القوات الأمريكية في العراق إلى مدى غير محدود، لأن ذلك ـ وحده ـ هو الذي يحقق أهدافها... ومن المضحك أن الأمريكيين يزعمون أن الحكومة العراقية الجديدة "هي التي تطلب بقاءهم"، كما لو كان العراقيون يملكون قرارهم في ظل وجود الاحتلال!

منطق مخادع حول فلسطين

أما المنطق الأمريكي حول فلسطين، فهو منطق مخادع، ذلك أنه يتحدث، من جهة، عن المشكلة كما لو كانت مشكلة أمنية، لأن إسرائيل ـ على حد قولـه ـ "تعيش منذ فترة طويلة في ظلال الموت"، متجاهلاً أن إسرائيل ـ بمساعدة أمريكا وبعض الدول الحليفة لها ـ هي التي أدخلت المنطقة كلها في مرحلة الإبادة من خلال التفوق العسكري النوعي، فتستخدم هذا السلاح ضد المدنيين، وهو في الأساس لا يُستخدم إلا في الحروب الكبرى...

كما تجاهل الرئيس الأمريكي أن المشكلة في فلسطين ليست مشكلة المقاومة التي تسعى لحصول الشعب الفلسطيني على حريته، بل هي مشكلة الاحتلال الذي يراه "بوش" دفاعاً عن النفس، من دون أن يكون للفلسطينيين أي حق ـ عنده ـ في الدفاع عن أنفسهم أمام سياسة التدمير والإبادة التي يقوم بها الجيش الصهيوني بضوء أخضر أمريكي!

ثم نراه يطالب الأوروبيين بإيقاف الدعم للقادة الفلسطينيين الذين "يخونون قضية شعبهم"، كما قال، لأنه لا يريد للاتحاد الأوروبي أن يتخذ موقفاً متوازناً في قضية الشرق الأوسط، بل يريده أن يبقى هامشياً وتابعاً لسياسة الإدارة الأمريكية... وهو يدعو الأوروبيين إلى أن يكافحوا بحزم "معاداة السامية التي تسمم النقاش العام حول مستقبل الشرق الأوسط"، معتبراً أن أي نقد لسياسة إسرائيل سياسياً وأمنياً يصب في خانة معاداة السامية، لأن الخطة الصهيونية ـ الأمريكية تقضي بأن تكون إسرائيل فوق النقد حتى لو قامت بجرائم الحرب الوحشية، كما حدث في مجازر صبرا وشاتيلا وقانا وغيرها... أما قتل العرب الساميين واحتلال أرضهم فليست معاداة للسامية عنده!

الانحياز الأمريكي سيصعد مظاهر الإرهاب

ثم يدخل في النفاق السياسي الذي كان، ولا يزال، يحاول من خلاله تخدير العالم والمنطقة، فيطلب من إسرائيل وقف الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلة ووقف الإذلال للفلسطينيين وتفكيك المستوطنات غير المرخصة ـ كما لو كانت المرخصة إسرائيلياً مشروعة ـ ويطالبها بأن لا تهدد المفاوضات النهائية من خلال إقامة السياجات والجدران... ويؤكد مشروعه في إقامة الدولة الفلسطينية من دون أي تحديد لماهيتها وجوهرها.

إن السؤال الذي نوجهه للرئيس "بوش" هو: ما هو الضغط الذي مارسته إدارته على إسرائيل، وهي التي لا تزال مترددة في تخفيف ضمان القروض لإسرائيل للضغط على بناء الجدار؟ وهل دعت الدول الأوروبية إلى الضغط على الكيان الصهيوني، كما دعتها إلى الضغط على القيادة الفلسطينية والمجاهدين؟

إن الكلمة الفاصلة التي يوجهها العالم العربي والإسلامي للإدارة الأمريكية هي أن الموقف الأمريكي المنحاز كلياً لإسرائيل سوف يزيد من الرفض للسياسات وللمشاريع الأمريكية، لأن فلسطين لا تزال جرحاً ينـزف في قلب كل عربي ومسلم، وسوف تتصاعد مظاهر الإرهاب وتتنوع أشكاله لأن الضغط لا بد أن يولد الانفجار الذي لا يعرف أحد نتائجه، لأن الحركة في داخله قد تدخل في غير المعقول.

ندين التفجيرات ضد الأبرياء

ومن جانب آخر، فإننا كنا ولا نزال ندين العمليات التفجيرية التي تطاول الأبرياء من الناس، من المسلمين وغير المسلمين، في غير حال حرب حارة، وهذا ما رأيناه أخيراً في تفجيرات اسطنبول في تركيا... إن ذلك لن يخدم قضية إسلامية أو عربية، بل قد يسيء إليها بطريقة وبأخرى. لذلك، فإننا ندعو الجميع إلى دراسة مسألة حركة الصراع ضد السياسات المضادة أو الاحتلال المهيمن دراسة دقيقة تضع في حسابها الخط الشرعي الإسلامي ـ إذا كانوا من المسلمين ـ والجدوى السياسية لهذه الأعمال في نتائجها السلبية أو الإيجابية.

ويبقى العراق الجرح النازف الذي يتساقط أفراد شعبه يومياً برصاص الجنود الأمريكيين، ما يؤدي إلى تصاعد المواقف ليتحرك الشعب كله بفعل هذه الأعمال ليأخذ بأسباب العنف في المقاومة للمحتل... وإننا ندعو أهلنا في العراق إلى أن يفتحوا عيونهم وبصائرهم على ما يدور حولهم، ويُخطط لهم، ويتحرك من خلال إطلاق الكلمات المعسولة الخادعة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.

يوم القدس: يوم الحرية

أما لبنان، فإنه يعيش ـ مع العالم الإسلامي ـ في أجواء يوم القدس العالمي الذي يجسّد يوم الحرية الشاملة للإنسان والمقاومة ضد الاحتلال، حيث يختلط فيه الجانب الروحي الذي يجسده قدس الرسالات في المسجد الأقصى، والجانب السياسي الذي يتمثل في حركة الانتفاضة... كما يعيش لبنان ذكرى الاستقلال الذي يمثل تحرير الوطن والشعب من كل اضطهاد واحتلال، ومن كل الذين ينفذون خطط الاحتلال في شكل غير مباشر إذ يزرعون الفساد والهدر ويحركون السرقة في حماية اللصوص...

إنتاج الاستقلال من جديد

إننا نريد للاستقلال أن يكون استقلالاً ناجزاً حراً قوياً يملك فيه الشعب إرادته في تقرير مصيره، فلا يرتهن للحساسيات الطائفية والضغوط الخارجية... إن المطلوب هو إنتاج الاستقلال من جديد، لأنه ليس مجرد توقيع من قوة احتلال، بل هو إرادة شعب، وعنفوان وطن، وحركة حضارة، وفعل حرية...

إن الاستقلال هو أن يملك الفرد أن يقول "لا" أو "نعم" من دون ضغط، وأن يكون القانون للجميع وعلى الجميع، من أعلى القمة ـ إذا بقيت في البلد قمة ـ إلى أسفل الأرض... ولا بد لنا في ذكرى الاستقلال من أن نتذكر الأراضي المحتلة من قِبَل إسرائيل، وأن نواجه التهديدات الإسرائيلية بموقف صلب يتكامل فيه الجيش مع المقاومة، ويتوحد الشعب كله على إرادة الحرية التي تحدق بالشمس.

في رحاب آخر جمعة من شهر رمضان المبارك:
لنحصل على رضوان الله ولنتوحّد بالقدس


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

قبل البدء بالخطبة، نحب أن نؤكد أنه ثبت عندنا بالوجه الشرعي وبالحسابات الفلكية الدقيقة من خلال تحرياتنا مع أكثر من شخص من أهل الخبرة في العالم، بأن أول شوال (عيد الفطر المبارك) هو يوم الثلاثاء القادم الموافق لـ25 تشرين الثاني، أعاده الله على المسلمين جميعاً بالخير والبركة والعزة والنصر والتوفيق.

تجديد الإيمان والإسلام

هذا اليوم هو آخر جمعة من شهر رمضان، والجمعة هي اليوم الذي أراد الله للمسلمين أن يجتمعوا فيه من خلال صلاة الجمعة ليبتهلوا إليه، وليذكروه، وليتوبوا إليه من كل ذنوبهم، إنه يوم الحضور أمام الله تعالى في كل العالم الإسلامي حتى يجدد المسلم يدي الله تعالى إيمانه وإسلامه، ويذكر الله في كل أموره: {فاسعوا إلى ذكر الله}... أن يذكر الله في ما يلتزم به من فكر ليكون فكره فكر الحق الذي يرضى به الله، وفي ما يتحسسه في نبضات قلبه من عاطفة، لتكون عاطفته في مرضاة الله، ولينفتح عندما ينطلق من صلاة الجمعة على أعماله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}، لينطلق من صلاة الجمعة إلى ساحة العمل ليكون عمله سواء أكان في التجارة أو الاجتماع، صلاة يذكر الله فيها كما ذكره في الصلاة.

ولعل قيمة هذه الجمعة أنها آخر جمعة من شهر رمضان، حيث يتجمّع فيها كل روح هذا الشهر، فالإنسان في هذه الجمعة لا بد أن يجلس مع ربه ويخلو مع نفسه ليقوم بعملية حساب: كيف كان رمضانه في الأيام التي مضت، وكيف يعمل للحصول على ما لم يحصل عليه في الأيام التي بقيت. وهذا ما جاء به الدعاء المروى عن أهل البيت (ع): "اللهم وهذه أيام شهر رمضان قد انقضت ولياليه قد تصرّمت، وقد صرت يا إلهي إلى ما أنت أعلم به مني وأحصى لعدده من الخلق أجمعين، فأسألك بما سألك به ملائكتك المقربون وأنبياؤك المرسلون وعبادك الصالحون إن كنت رضيت في هذا الشهر فازدد عني رضى ـ لأنني يا ربٍّ أريد أن ترضى عني رضى لا رضى فوقه، ولا زيادة فيه لمستزيد، لأن ذلك هو الذي يقربني إليك ويجيبني إليك، وتلك هي السعادة كل السعادة. وقد عبّر الله تعالى عن رضاه بعد أن تحدث عن الجنة التي يدخلها المتقون بأنه: {ورضوان من الله أكبر} ـ وإن لم تكن رضيت عني، فمن الآن فارضَ عني".

وهناك خصوصية لهذه الجمعة وهي أنه من المحتمل أن تكون هذه الليلة ـ ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان ـ من ليالي القدر، لأن الروايات في ليلة القدر تنوعت بين الحادي والعشرين والثالث والعشرين والسابع والعشرين، حتى جاء في بعض الروايات أنه "اطلبوها في كل الليالي المفردة من العشر الأواخر"، ولذا ينبغي للإنسان أن يستعد في هذه الليالي التي يُحتمل أنها ليلة القدر ليتفرغ إلى الله تعالى في بعض وقته، ولا يقتصر على ما تعارف الناس عليه من الجانب الرسمي من ليلة القدر.

القدس: انفتاح على حركة الرسل والرسالات

وهناك في هذا اليوم، آخر جمعة من شهر رمضان، هو أيضاً اليوم الذي أُريد فيه أن يتذكر المسلمون في جميع أنحاء العالم القدس، ليكون يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان يوماً للقدس. وقضية الانفتاح على هذا اليوم ليست مجرد قضية احتفالية يحتفل الناس بها ويذهبون إلى بيوتهم كأنهم وفّوا قسطهم للقدس، بل إن هذا اليوم التي جاءت المبادرة من الإمام الخميني(قده) باعتباره يوماً للقدس، يهدف إلى أن لا تغيب القدس عن الوجدان الإسلامي من خلال ما تمثله من معنى رسالي روحي ينفتح على كل تاريخ الرسل وحركة الرسالات، كما أن هذا اليوم ينفتح على الجانب السياسي من خلال هذا الظلم الذي وقع على القدس، سواء أكان في ما مضى من تاريخ الحروب الصليبية أو في ما نعيشه الآن من الاحتلال الصهيوني.

إن المطلوب هو أن تبقى القدس في البال وأن لا تغيب أمام الأوضاع السياسية التي تحيط بالمنطقة، أو القضايا الجزئية التي يُراد استغراق المسلمين فيها ـ وخصوصاً الفلسطينيين ـ حتى ينسوا الجوهر. فنحن نجد مثلاً أن الناس تتحدث على مستوى السياسة العالمية عن الجدار الفاصل أو المستوطنات أو عن بعض الجرائم الوحشية هنا وهناك، أو تتحدث عن مسألة إذلال الفلسطينيين وما إلى ذلك، لتنسى القدس، بل إننا نلاحظ أن السياسة الأمريكية المتحالفة مع السياسة الإسرائيلية تعمل على أساس إبعاد قضية القدس عن أية مفاوضات، لتكون مسألة القدس وحق الفلسطينيين فيها مؤجلة إلى نهاية المفاوضات، وذلك بعد أن تستكمل إسرائيل عملية الاستيطان اليهودي في المدينة المقدسة، بحيث لا يبقى هناك شيء يُتفاوض عليه.

فلا بد لنا أن نتذكر القدس في هذا اليوم، بحيث تتحرك مواقع الدراسات الدينية الإسلامية والسياسية، لتدرس العمق الذي تمثله القدس كواجهة لكل الواقع الإسلامي الرسالي والسياسي والحركي والأمني.

الإسراء: التزام بالإسلام الأصيل

أما في الجانب الرسالي فإن الآية الكريمة في سورة الإسراء: {سبحان الله الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه السميع البصير}، هذه الآية أرادت الإيحاء بأن الله تعالى أراد لرسوله محمد (ص) أن يذهب إلى المسجد الأقصى بطريقة إعجازية اختصرت المسافات في لحظات، من أجل أن يتحرك في رسالته إلى العالم لأنه جاء رسولاً للناس كافة، ولأنه جاء رحمة للعالمين، من أجل أن يعيش في المسجد الأقصى كل تاريخ الرسالات، لأن الرسالة الإسلامية الخاتمة هي الرسالة التي تجمع كل الرسالات، وتركز على العناصر الأصيلة فيها، ولهذا جاء القرآن الكريم ليؤكد الإيمان بكل الرسل: {لا نفرق بين أحد من رسله}، وليؤكد الإيمان بكل الكتب التي أنزلها الله من التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم، لأن الإسلام يتميز عن كل الأديان أنه جاء مصدقاً للذي بين يديه، ليكون المتمم والمكمل وليجمع الله الرسالات بهذا الدين الذي ميّز به محمداً (ص).

لذلك فإن هذه الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تؤكد أن هناك ترابطاً بين ما يوحي به في هذا المسجد أو ذاك، وخصوصاً المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم (ع)، والأنبياء في المسجد الأقصى هم من ذريته، ولذلك فإن إبراهيم (ع) هو شيخ الأنبياء، وهو الذي يربط بين المسجدين من خلال رسالة الله تعالى.

إن الإيحاء في هذا هو أن النبي (ص) كما أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فإنه يجب علينا أن نعمل كمسلمين لننفتح على كل المساجد لنؤكد الترابط بين المسلمين في التزامهم بالإسلام الأصيل والحق، وليتحركوا من خلال ذلك على الحوار في ما اختلفوا فيه من فرعياته، وهذا هو قول الله: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}، أي أن لا تكون هناك مقاطعة بين المساجد مهما اختلفنا في مذهبياتنا وآرائنا، بل علينا أن نرتكز على الإسلام ونتخذه القاعدة: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.

وإذا كان المسجد الأقصى والقدس هما ملتقى الرسالات السماوية، فإن علينا أن نعمل لفتح باب الحوار مع كل أتباع الأديان الأخرى، لأن القرآن الكريم فتح باب الحوار مع كل الناس وقال للمسلمين أن يقولوا لأهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}، وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.

لذلك، لا بد لنا أن ننفتح بالرسالة الإسلامية على كل الذين يلتزمون الرسالات الأخرى وإن اختلفنا معهم في بعض جوانب العقيدة أو المفاهيم أو بعض مسائل التاريخ، لأن الله أراد لنا أن نأخذ بأسباب الحوار ليكون سبيلنا للتفاهم واللقاء على ما نتفق عليه ولمواصلة البحث في ما نختلف فيه.

أما في المسألة السياسية التي لا تبتعد عن المسألة الرسالية، لأن السياسة في الإسلام هي رسالة من أجل أن يكون الإنسان عبد الله ليكون حراً أمام الناس كلهم، فالحرية في الإٍسلام هي هبة الله إليه: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"، فالمسألة السياسية في كل مفرداتها وخطوطها هي مسألة رسالية تنطلق من قاعدة الحرية للإنسان وقاعدة العزة والكرامة للإنسان المؤمن: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.

دراسة عوامل سلب القدس

لذلك عندما ننفتح على القضية السياسية، فلنفكر في كل مراكز الدراسات بأن القدس التي كانت بأيدينا، لماذا استولى عليها الآخرون؟ ما هي الظروف والأسباب التي أدّت إلى هذا الضعف السياسي والأمني للأمة؟ ما هي الأسباب التي ساهمت في ذلك؟ ما هي الظروف التي ساهمت في حرب الـ67 التي فقد المسلمون فيها القدس، ولا سيما القدس القديمة؟من الذي دفع بحرب الـ67، وكيف كانت حال العرب الذين خاضوا هذه الحرب، هل استعدوا لها سياسياً وفي عالم التخطيط وعسكرياً؟ وماذا عن الأوضاع الدولية التي تؤثر تأثيراً كبيراً في عملية الحرب والسلم؟ ثم ما هي الخطط التي كانت تحاك من قِبَل أمريكا وأوروبا وحتى الاتحاد السوفياتي، لكي يقع العرب في شرّ هزيمة؟ هل هو مجرد ضعف وتمزق عربي أم أنه يمثل حال الانبطاح لدى أكثر من شخصية عربية للسياسة الأمريكية، أو من خلال حال الحماس والانفعال التي انطلقت بها الحرب، والحرب قد تكون حماساً من أجل التعبئة ولكنها خطة من خلال الحركة، ولعل الجو الذي عاشت به هذه الحرب كان جو انفعال أكثر مما هو جو عقل.

لا بد أن ندرس ذلك كله، وأن ندرس كل حركة الواقع، سواء أكان الواقع العربي الذي يتمثل في الجامعة العربية، أو الواقع الإسلامي الذي يتمثل في منظمة المؤتمر الإسلامي، أو في كل التطورات في العالم التي أدخلت القضية الفلسطينية في مسألة الحرب ضد الإرهاب ولم تعد مجرد قضية تحرير شعب. لا بد للأمة أن تدرس هزائمها بوعي ودقة على أساس التخطيط كما تدرس انتصاراتها، لأننا نعيش في عالم لا يملك المبادئ في كل سياسته وأمنه وكل علاقاته.

لذلك علينا أن نخرج من أجواء اللامبالاة، أن لا يقبع كل واحد منا في زاويته، حيث بدأنا نسمع البعض يقول: ما لنا وللفلسطينيين وللقدس! إن القوم من أعدائنا من المستكبرين يعتبرون أن مسألة العرب واحدة، فإذا ما هزموا موقعاً فإنهم يفرضون الهزيمة على بقية المواقع، كما أنه إذا انتصر موقع فإنهم يعملون على تحويل هذا الانتصار إلى هزيمة، كما في حرب العاشر من رمضان التي اجتاز فيها الجيش المصري قناة السويس وانتصر على الإسرائيليين، ولكن اللعبة حوّلت هذا الانتصار إلى هزيمة.

لنتوحّـد بالقدس

إن الله تعالى يريدنا أن نكون أمة واحدة لأنه لا يمكن لأي إنسان أن يشعر بالحرية ما لم تكن أمته حرة، ولا يمكن أن يشعر بالعزة والكرامة ما لم تكن أمته حرة عزيزة. إن أول شرط ليوم القدس هو أن نتوحد بالقدس، باعتبار أن القدس لا تمثل مجرد مسجد ومدينة ولكنها تمثل كل قضية تتصل بالإسلام ثقافياً وسياسياً وأمنياً. إن القوم في كل تنوعاتهم القومية والسياسية وحتى المذهبية، كما هو الحال لدى اليهود الذين يذهبون مذاهب شتّى، نجد أنهم يتوحدون أمام القضايا التي يعتبرونها هدفاً لهم، فلماذا لا نتوحد أمام قضايانا؟ القضية هي أن نجمّد كل خلافاتنا لنتوحد على القضية الكبرى، وأن نعمل لنطرد من داخلنا كل من يريد إغراق الأمة بالهوامش من النزاعات لأن هؤلاء يمثلون الطابور الخامس للصهيونية والاستكبار العالمي، إن القضية هي: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.

نسأل الله تعالى أن يمنحنا الكثير من الوعي، والكثير من العقل، والكثير من الإحساس بالمسؤولية، والكثير من السعي من أجل الوحدة للإسلام كله وللإنسان كله.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله واجعلوا رسالة الله التي تمتد من الدنيا إلى الآخرة، والتي هي في قرآنها حبل ممدود من السماء إلى الأرض، منارة طريقكم. اتقوا الله وحاولوا أن تعملوا على نظم أمركم وصلاح ذات بينكم، لأن صلاح ذات البين يمنع الكثير من الخلافات والمنازعات والفتن، ونحن نعرف أن الخلافات عندما تدب في الأمة فإنه لا يبقى هناك صلاة كما هي الصلاة، ولا صوم كما هو الصوم.

لذلك علينا أن نعمل على أساس نظم أمرنا وإصلاح ذات بيننا، لأنه، سبحانه، أكّد أن من مبادئ الأخوة الإصلاح، وخصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي يحاول فيها المستكبرون مصادرة الواقع الإسلامي. فنحن نمر في هذه المرحلة بالكثير الكثير مما يثقل واقعنا، ويهدد مستقبلنا، وهذا ما يفرض علينا أن نرتفع إلى مستوى المسؤولية، ونحن نسمع بين يوم وآخر تهديداً من مستكبر هنا ومستكبر هناك، وقد كان ما جاء في آخرها خطاب الرئيس الأمريكي الذي لا بد أن ندرس بعض فقراته، لنطل على ما يدبّر لنا.

خطاب بوش: تبريري تبشيري

لا يزال منطق الإدارة الأمريكية المتمثل في خطاب الرئيس "بوش" منطقاً تبريرياً تبشيرياً لحروبه المتحركة تحت عنوان "الحملة على الإرهاب" في أفغانستان والعراق، من أجل "تحريرهما وترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان كنموذج للرسالة الإلهية التي كُلف بها" ـ على حد ما جاء في خطابه ـ مضيفاً "إننا نساند حقوق الإنسان للآخرين ونؤكد الكرامة التي منحها الرب لكل إنسان، ولذا فإننا نتحرك تصدياً للقمع والمجاعة والمرض".

وقد تجاهل بوش خلفيات الحرب في سيطرة الشركات الأمريكية والحليفة على عقود الإعمار، من دون الإفساح بأي فرصة للاستفادة للعراقيين أنفسهم أو للدول المجاورة للعراق، إضافة إلى السعي لتغيير المنطقة لحساب المصالح الأمريكية الحيوية من خلال التجربة العراقية... وهذا هو الذي يفسر الإصرار على بقاء القوات الأمريكية في العراق إلى مدى غير محدود، لأن ذلك ـ وحده ـ هو الذي يحقق أهدافها... ومن المضحك أن الأمريكيين يزعمون أن الحكومة العراقية الجديدة "هي التي تطلب بقاءهم"، كما لو كان العراقيون يملكون قرارهم في ظل وجود الاحتلال!

منطق مخادع حول فلسطين

أما المنطق الأمريكي حول فلسطين، فهو منطق مخادع، ذلك أنه يتحدث، من جهة، عن المشكلة كما لو كانت مشكلة أمنية، لأن إسرائيل ـ على حد قولـه ـ "تعيش منذ فترة طويلة في ظلال الموت"، متجاهلاً أن إسرائيل ـ بمساعدة أمريكا وبعض الدول الحليفة لها ـ هي التي أدخلت المنطقة كلها في مرحلة الإبادة من خلال التفوق العسكري النوعي، فتستخدم هذا السلاح ضد المدنيين، وهو في الأساس لا يُستخدم إلا في الحروب الكبرى...

كما تجاهل الرئيس الأمريكي أن المشكلة في فلسطين ليست مشكلة المقاومة التي تسعى لحصول الشعب الفلسطيني على حريته، بل هي مشكلة الاحتلال الذي يراه "بوش" دفاعاً عن النفس، من دون أن يكون للفلسطينيين أي حق ـ عنده ـ في الدفاع عن أنفسهم أمام سياسة التدمير والإبادة التي يقوم بها الجيش الصهيوني بضوء أخضر أمريكي!

ثم نراه يطالب الأوروبيين بإيقاف الدعم للقادة الفلسطينيين الذين "يخونون قضية شعبهم"، كما قال، لأنه لا يريد للاتحاد الأوروبي أن يتخذ موقفاً متوازناً في قضية الشرق الأوسط، بل يريده أن يبقى هامشياً وتابعاً لسياسة الإدارة الأمريكية... وهو يدعو الأوروبيين إلى أن يكافحوا بحزم "معاداة السامية التي تسمم النقاش العام حول مستقبل الشرق الأوسط"، معتبراً أن أي نقد لسياسة إسرائيل سياسياً وأمنياً يصب في خانة معاداة السامية، لأن الخطة الصهيونية ـ الأمريكية تقضي بأن تكون إسرائيل فوق النقد حتى لو قامت بجرائم الحرب الوحشية، كما حدث في مجازر صبرا وشاتيلا وقانا وغيرها... أما قتل العرب الساميين واحتلال أرضهم فليست معاداة للسامية عنده!

الانحياز الأمريكي سيصعد مظاهر الإرهاب

ثم يدخل في النفاق السياسي الذي كان، ولا يزال، يحاول من خلاله تخدير العالم والمنطقة، فيطلب من إسرائيل وقف الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلة ووقف الإذلال للفلسطينيين وتفكيك المستوطنات غير المرخصة ـ كما لو كانت المرخصة إسرائيلياً مشروعة ـ ويطالبها بأن لا تهدد المفاوضات النهائية من خلال إقامة السياجات والجدران... ويؤكد مشروعه في إقامة الدولة الفلسطينية من دون أي تحديد لماهيتها وجوهرها.

إن السؤال الذي نوجهه للرئيس "بوش" هو: ما هو الضغط الذي مارسته إدارته على إسرائيل، وهي التي لا تزال مترددة في تخفيف ضمان القروض لإسرائيل للضغط على بناء الجدار؟ وهل دعت الدول الأوروبية إلى الضغط على الكيان الصهيوني، كما دعتها إلى الضغط على القيادة الفلسطينية والمجاهدين؟

إن الكلمة الفاصلة التي يوجهها العالم العربي والإسلامي للإدارة الأمريكية هي أن الموقف الأمريكي المنحاز كلياً لإسرائيل سوف يزيد من الرفض للسياسات وللمشاريع الأمريكية، لأن فلسطين لا تزال جرحاً ينـزف في قلب كل عربي ومسلم، وسوف تتصاعد مظاهر الإرهاب وتتنوع أشكاله لأن الضغط لا بد أن يولد الانفجار الذي لا يعرف أحد نتائجه، لأن الحركة في داخله قد تدخل في غير المعقول.

ندين التفجيرات ضد الأبرياء

ومن جانب آخر، فإننا كنا ولا نزال ندين العمليات التفجيرية التي تطاول الأبرياء من الناس، من المسلمين وغير المسلمين، في غير حال حرب حارة، وهذا ما رأيناه أخيراً في تفجيرات اسطنبول في تركيا... إن ذلك لن يخدم قضية إسلامية أو عربية، بل قد يسيء إليها بطريقة وبأخرى. لذلك، فإننا ندعو الجميع إلى دراسة مسألة حركة الصراع ضد السياسات المضادة أو الاحتلال المهيمن دراسة دقيقة تضع في حسابها الخط الشرعي الإسلامي ـ إذا كانوا من المسلمين ـ والجدوى السياسية لهذه الأعمال في نتائجها السلبية أو الإيجابية.

ويبقى العراق الجرح النازف الذي يتساقط أفراد شعبه يومياً برصاص الجنود الأمريكيين، ما يؤدي إلى تصاعد المواقف ليتحرك الشعب كله بفعل هذه الأعمال ليأخذ بأسباب العنف في المقاومة للمحتل... وإننا ندعو أهلنا في العراق إلى أن يفتحوا عيونهم وبصائرهم على ما يدور حولهم، ويُخطط لهم، ويتحرك من خلال إطلاق الكلمات المعسولة الخادعة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.

يوم القدس: يوم الحرية

أما لبنان، فإنه يعيش ـ مع العالم الإسلامي ـ في أجواء يوم القدس العالمي الذي يجسّد يوم الحرية الشاملة للإنسان والمقاومة ضد الاحتلال، حيث يختلط فيه الجانب الروحي الذي يجسده قدس الرسالات في المسجد الأقصى، والجانب السياسي الذي يتمثل في حركة الانتفاضة... كما يعيش لبنان ذكرى الاستقلال الذي يمثل تحرير الوطن والشعب من كل اضطهاد واحتلال، ومن كل الذين ينفذون خطط الاحتلال في شكل غير مباشر إذ يزرعون الفساد والهدر ويحركون السرقة في حماية اللصوص...

إنتاج الاستقلال من جديد

إننا نريد للاستقلال أن يكون استقلالاً ناجزاً حراً قوياً يملك فيه الشعب إرادته في تقرير مصيره، فلا يرتهن للحساسيات الطائفية والضغوط الخارجية... إن المطلوب هو إنتاج الاستقلال من جديد، لأنه ليس مجرد توقيع من قوة احتلال، بل هو إرادة شعب، وعنفوان وطن، وحركة حضارة، وفعل حرية...

إن الاستقلال هو أن يملك الفرد أن يقول "لا" أو "نعم" من دون ضغط، وأن يكون القانون للجميع وعلى الجميع، من أعلى القمة ـ إذا بقيت في البلد قمة ـ إلى أسفل الأرض... ولا بد لنا في ذكرى الاستقلال من أن نتذكر الأراضي المحتلة من قِبَل إسرائيل، وأن نواجه التهديدات الإسرائيلية بموقف صلب يتكامل فيه الجيش مع المقاومة، ويتوحد الشعب كله على إرادة الحرية التي تحدق بالشمس.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير