وكيف لا نكون معه! كان عليٌّ(ع) إسلاماً يتجسَّد

وكيف لا نكون معه! كان عليٌّ(ع) إسلاماً يتجسَّد

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

وكيف لا نكون معه!

كان عليٌّ(ع) إسلاماً يتجسَّد

ولاية عليّ(ع)

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67).

نزلت هذه الآية عندما كان النبيُّ(ص) عائداً من حجَّة الوداع، حيث وقف أمام المسلمين في منى، وقال لهم: «أيُّ يوم أعظم حرمةً؟ قالوا: هذا اليوم، قال: فأيُّ شهرٍ أعظم حرمة؟قالوا: هذا الشهر، قال: فأيُّ بلدٍ أعظم حرمةً؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه... ». ثم قال لهم: «فإنه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم ولا ترجعوا بعدي كفّاراً». وكان(ص) يقول: «كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه».

وهكذا، انطلق النبي(ص) ليؤكِّد من خلال كلمته هذه السلام بين المسلمين، على قاعدة حرمة قتل المسلم للمسلم إلا بحدود الله تعالى.

لذلك، عندما وصل النبي(ص) إلى منطقةٍ يقال لها غدير خمّ، وكانت الشمس حادةً، دعا المسلمين الذين كانوا معه في الحجّ، وهم من بوادٍ متفرّقة، إلى أن يتوقَّفوا، ونُصب له منبر من أهداج الإبل، والمسلمون يتساءلون عن السبب، ولماذا أوقفهم في هذا الحرِّ اللاهب، حتى صعد رسول الله(ص) إلى ذلك المنبر، وأخذ بيدِ عليّ(ع) ورفعها، حتى بان بياض إبطيهما للنَّاس، وقال(ص) لهم: «أيُّها الناس، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهمـ قالوا: بلى، فقال(ص): فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار». ومعنى هذه الكلمة التي يرويها السنَّة والشّيعة في كتبهم الصحيحة، والّتي هي من الرّوايات الثّابتة عن رسول الله، أنّه من كنت أولى به من نفسه، ومن كنت وليّه، فهذا عليّ وليّه، ليؤكّد بذلك ولاية عليّ(ع) على المسلمين من بعده، ثم نُصبت له خيمة، وجاء المسلمون يهنّئونه، وقال له بعض الذين أبعدوه عن حقه: «بخٍ خٍ لك يا عليّ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة».

عليّ(ع) تجسيدٌ للحق

وكان النبيُّ(ص) قد عمل على تهيئة الوجدان الإسلامي لإدراك منـزلة عليّ(ع) عنده، عندما كان يقول: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»، لأنّ القرآن عندما كان ينـزل على النبي(ص)، كان عليّ(ع) أول من يسمعه ويتفهّمه، لأنّه كان تلميذ رسول الله، وكان يقول: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب». ولم يكن عليّ يحفظُ الكلام فحسب، بل كان يفكِّر فيه ويستنتج ويستنبط منه علماً آخر، لأنّ عليّاً كان يعيش العبقرية الفكرية المنفتحة على آفاق الثقافة، في كلِّ قضايا الناس. وكان رسول الله(ص) يقول فيما يروى عنه: «عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور عه حيثما دار»، فليس هناك فارق بين الحق وعليّ، بل إنَّك إذا سمعت كلامه، ورأيت أفعاله، ورأيت الحق يتجسّد فيه.

ومما قاله له رسول الله(ص): «يا عليّ، أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي من بعدي». فكما كان هارون وزيراً لموسى وشريكاً له في أمره، كان عليّ (ع) وزيراً لرسول الله(ص) يستشيره النبي ويعيش معه ويشاركه في أمره.

وكان عليّ(ع) الناصر لرسول الله(ص)، حتّى إنّه عندما كان صغيراً، كان يسير معه في مكة، وكان المشركون يشجّعون أطفالهم على إيذاء النبيّ(ص)، فكان(ع) يلاحق الأطفال ويشدّهم من آذانهم، حتى قيل: «جاء مصلّب الآذان». وفي شبابه، كان عليّ(ع) المحارب الأوَّل في بدر، كما أنّه كان فارس أُحد والأحزاب وخيبر وحنين، حتى قال النبي(ص) في معركة خيبر: «لأعطينَّ الرَّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه».

ترك الخلافة لمصلحة الإسلام

ودارت الأيام، وأُبعد عليٌّ(ع) عن حقِّه، ولكنَّه وازن المسألة بين حقِّه ومصلحة الإسلام العليا، ورأى أنه إذا اقتحم الواقع الإسلاميَّ ليطالب بحقِّه، فقد تحدث فتنةٌ ومشكلة، وقد يستغلُّ الكافرون المتربِّصون بالإسلام الفرصة لينقضّوا عليه، وكان يرى أنه مسؤول عن الإسلام وهو في خارج الخلافة كما هي مسؤوليّته عنه لو كان في داخلها، لذلك كان(ع) يقول: «فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا»، إلى أن يقول: «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوَّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز». وشارك عليّ(ع) الذين تقدّموا عليه الرأي، وأعطاهم المشورة والنصيحة، وسدَّد خطاهم، وأجاب عن الأسئلة التي كانت توجّه إليهم ولا يعرفون إجاباتها، حتى قال عمر بن الخطاب: «لولا عليّ لهلك عمر»، فكان(ع) يحفظ حياتهم، حفظاً للإسلام من أيِّ فتنة قد تحدث بين المسلمين.

وبعد وفاة الرّسول، زُرِعت الألغام في طريق عليّ(ع)، ما منعه من إدارة الواقع الإسلاميّ كما يرى. وممّا قاله وهو يتحدّث مع الناس الّذين ملأوا قلبه قيحاً وجرحوا وجدانه: «أيتها النفوس المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم والغائبة عنهم عقولهم ـ وهذه صورة المجتمع الذي كان يحيط به(ع) ـأظأركم ـ أعطفكم ـعلى الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد. هيهات أن أطلِع بكم سرار ـ ظلمة ـ العدل، أو أُقيم اعوجاج الحق». ثم يناجي(ع) ربه ليقدّم حسابه إليه: «اللهمَّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرِد المعالم من دينك ـ ليتحرَّك دينك في كلِّ الواقع الإنساني ـ ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك. اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله(ص) بالصلاة».

صفات الحاكم الإسلاميّ

ثم بعد ذلك يتوجَّه إلى النّاس، ويبيّن لهم كيف يجب أن يكون الحاكم والخليفة، يقول(ع): «وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدّول، فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطِّل للسنّة فيُهلك الأمة».

وكان(ع) يحاسب ولاته الذين يوظّفهم في إدارة شؤون الناس، وقد لاحظ شيئاً على بعض الولاة، ويقال إنه ابن عباس، فأرسل إلى بعض عمّاله (من أقربائه) يقول له: «اتقِ الله، واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ـ أموال اليتامى والمساكين والمجاهدين ـ فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك، لأعذرنَّ إلى الله فيك ـ لأعاقبنّك عقاباً يكون لي عذراً عند الله من فعلتك هذه ـ ولأضربنَّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النَّار ـ لأنه لا يضرب إلاّ الذين يعادون الله ورسوله ـ ووالله، لو أنّ الحسن والحسين ـ وهما من أعزِّ الناس لديه ـ فعلا مثل الّذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحقَّ منهما، وأزيح الباطل من مظلمتهما. وأقسم بالله ربّ العالمين، ما يسرّني أنَّ ما أخذته من أموالهم حلال لي أتركه ميراثاً لمن بعدي».

وكان(ع) يقول: «ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ـ الثوب البالي ـومن طعمه بقرصيه ـ الرغيف ـألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد ـ كونوا الورعين عن الحرام، والمجتهدين في طاعة الله ـ وعفّة وسداد. فوالله ما كنـزت من دنياكم تبراً  ـ الذهب والفضة قبل أن يصاغ ـ ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أتانٍ دَبِرة  ـ وهي التي عُقر ظهرها وقلّ أكلها ـولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مَقِرة ـ أي مرّة ـ بلى، كانت في أيدينا فدك ـ وهي إرث الزهراء(ع) من أبيها أو نحلة منه، وقد منعها القوم منها بحجة أنّهم سمعوا النبي(ص) يقول إنّ الأنبياء لا يورّثون ـ من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونِعمَ الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك، والنّفس مظانُّها في غدٍ جدث، تتقطّع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع. أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى ـ جائعة ـ وأكباد حرّى ـ عطاشى ـ أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة ـ غلظة ـالعيش؟!».

الطّلاق الرّوحيّ مع الدّنيا

ثم يخاطب(ع) الدنيا في جنح الليل وهو يبكي، ويقول لها: «يا دنيا، يا دنيا، إليك عني، أبي تعرّضتِ، أم إليَّ تشوّفتِ، لا حان حينك ـ وقت وصولك إلى قلبي وتمكّن حبك منه ـ هيهات! غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملُك حقير. آهٍ من قلة الزاد وطول الطريق، وبُعد السَّفر، وعظيم المورد».

هذا عليّ(ع) الّذي كان يذلّ أمام الله، أمّا في الجهاد فكان(ع) يقول: «لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها». وأمام هذا كلّه، هل نملك إلا أن نحبّ علياً ونذوب فيه كما ذاب في الإسلام؟ وهل نملك إلاّ أن نوالي علياً ونقتدي به وبإخلاصه للإسلام والمسلمين؟ علينا أن نتثقَّف بفكر عليٍّ(ع) وعلمه، وأن نجعل كلَّ حياتنا لعليّ، لأنّه لا يوجد في صحابة النبي(ص) من يملك جهاد عليّ وزهده وعلمه وروحيَّته، فقد كان إسلاماً يتجسّد، وأخاً لرسول الله(ص).

إن عليّاً كان الإمام والقدوة، وكان الذي يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، فهل نكون كذلك؟

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي               واخشعي إنّني ذكرت عليّاً

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟          

حصار غزَّة: مقدمة لتهويد فلسطين

في فلسطين المحتلة، تتوالى المحاولات الإسرائيلية الساعية لإنهاك الشعب الفلسطيني وإخضاعه، بالحصار التجويعي المتواصل، إلى جانب الاغتيالات والاعتقالات في الضفة، فضلاً عن عمليات التهويد والاستيطان التي تسير بسرعة قياسية، ويأتي ذلك كلّه في إطار التمهيد الصهيوني للدولة اليهودية النقية، كما تحدَّث عنها جورج بوش، وكما أشار إلى ذلك المسؤولون الصهاينة الذين أعلنوا عن مقترحاتٍ وخططٍ جاهزةٍ لتهجير فلسطينيي العام 1948.

وفي موازاة ذلك، يصوّت مجلس الأمن على قرار يعلن الدعم للمفاوضات التي جرت في "أنابوليس" بهدف التّوصّل إلى اتفاق سلام، كما جاء في القرار الذي تقدَّمت به الإدارة الأميركية... وكأنَّ الخطة تقضي بالمزيد من الضغط على الفلسطينيين في الداخل، والمزيد من التواطؤ الدولي والعربي في الخارج، لدفعهم إلى الاستسلام والتنازل عن حقوقهم تحت عنوان السلام الذي تسلِّم إدارة أميركية راحلة ملفَّه إلى إدارة قادمة، فتعبث به بما يخدم مصالح العدو ويُنهي القضية الفلسطينية.

إن الحصار على غزَّة يُراد له أن يتحوَّل من حصارٍ أمنيّ وغذائيّ وصحيّ وتجويعيّ، إلى حصار سياسي يُمهِّد لتهجير الفلسطينيين من جهة، ولدفعهم إلى التسليم بشروط إسرائيل التفاوضية من جهة ثانية، ولذلك فهو يتواصل تحت سمع العالم الغربي والعالم العربي الرسمي وبصرهما، إلى المستوى الذي تسقط فيه كلُّ حقوق الإنسان التي يستهلكها الغربيون، وحيث يتجرأ العدو على منع المقرر الخاص في مجلس حقوق الإنسان من دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد احتجازه ثلاثين ساعةً، وهو أمر لم يثر إلا أسف الأمين العام للأمم المتحدة وقلقه.

وإلى جانب ذلك، ثمَّة وثيقة للمؤسسة الأمنية الصهيونية قُدِّمت كتوصيةٍ إلى مجلس وزراء العدو، تتحدث عن خطط طوارئ لمهاجمة إيران باعتبارها على رأس قائمة الدول التي تهدّد إسرائيل، وتحذِّر الوثيقة من أن إسرائيل قد تجد نفسها بمفردها أمام إيران نووية، ومن اللافت أن الوثيقة تتحدث عن ضرورة توثيق العلاقات بأنظمة الحكم العربية السنيّة المعتدلة على أساس المصالح المشتركة، في مقابل النظام الإيراني الشيعي المتطرف، كما جاء في الوثيقة/ التوصية.

رياح المنطقة تسير بما لا تشتهي سفن العدوّ

ونحن في الوقت الذي نعتقد أن الشعوب العربية والإسلامية تمثل وحدةً في الموقف الحاسم من إسرائيل كعدوٍّ للأمة كلّها، بمسلميها ومسيحييها، وبسنّتها وشيعتها، وأن هذه الشعوب لن تكون فريسةً للخطة الصهيونية الحاقدة الرامية إلى الإيقاع بين السنّة والشيعة تحت عنوان التقارب مع فريق ضدّ فريق آخر... نؤكد أنَّ على الأمَّة وقواها الحيّة الممانعة، أن تواصل العمل لإنتاج المزيد من عناصر القوة الأمنية العسكرية والعلمية التي يمكن أن تسقط أية خطة عدوانية إسرائيلية قد تستهدف هذا البلد العربي أو ذاك البلد الإسلامي، أو قد تسعى لتحريك الفتن داخل بلداننا.

وعلى علماء المسلمين، من السنّة والشيعة، أن ينبّهوا الأمة إلى مخاطر التحضيرات العسكرية والأمنية الإسرائيلية المتواصلة، بدلاً من إثارة الحديث هنا وهناك حول سلاح المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وأي موقع عربي محتلّ أو مهدَّد بالعدوان، وأن يشرحوا للأمة مخاطر الحركة الصهيونية المتواصلة لإثارة الفتنة المذهبية في المواقع الإسلاميّة، وخصوصاً بعدما شعر العدو بأن رياح المنطقة لا تسير كما تشتهي سفنه.

إننا ندعو الدول العربية إلى مقاربة جديدة لمسألة العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في إيران، كما ندعو إيران إلى القيام بخطواتٍ متواصلةٍ لإسقاط الخطط الصهيونية الرامية إلى الإيقاع بينها وبين الدول العربية، لأننا نعتقد أن العلاقات العربية ـ الإيرانية يمكن أن تصل إلى أفضل مستوياتها بعيداً عن محاولات التهويل الإسرائيلية حول مكانة إيران وطموحاتها، لأن إيران تطمح لعلاقات قوية ومتينة مع محيطها العربي والإسلامي، ولا تنظر بعين العداوة إلا إلى إسرائيل الغاصبة والمحتلة.

لبنان: سجالات سياسية بأسلحة طائفية ومذهبية

أمَّا في لبنان، فقد استُقبِلَت أكثر من شخصية أمريكية من الحزبين الجمهوريّ والديمقراطي من الكونغرس الأمريكي وغيره، وقد كرَّروا في تصريحاتهم التقليدية بأنَّهم لن يغيّروا موقفهم من لبنان، ولن يدخلوا في أية تسويةٍ على حسابه، ولكنَّ السؤال الذي يفرض نفسه هو عن مشاركتهم إسرائيل في عدوانها على لبنان، وتدميرها بنيته التحتية، ومجازرها التي قتلت النساء والأطفال والشيوخ من المدنيين، ودفنها بعض الناس وهم أحياء، وذلك إضافة إلى الجسر الجوي الذي أرسلت أمريكا من خلاله القنابل الذكية لقتل المدنيين اللبنانيين، وتقديمها القنابل العنقودية التي لا تزال تفتك بالمزارعين وغيرهم، وإبقائها بند وقف إطلاق النار في القرار 1701 معطَّلاً لتبقى لإسرائيل الفرصة في إعادة عدوانها، واعتبارها لبنان الساحة المفضَّلة لتحريك مشروع الشرق الأوسط الكبير، وأن لبنان يرتبط بالأمن القومي الأمريكي، ما يجعل منه موقعاً أمنياً لسياستها في المنطقة، وخصوصاً عندما تتدخل في إرباك الواقع السياسي اللبناني بالتزامها فريقاً ضد فريق آخر، لذلك كلّه، لا يكفي ألا تقيم أميركا تسويةً على حساب لبنان، بل عليها أن ترفع يدها عنه ليملك مواطنوه حرية تقرير المصير.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ الأجواء لدى الكتل والأحزاب والشخصيات اللبنانية لا تزال تتحرَّك بالسِّجالات المعقَّدة التي تطلق الاتهامات ضد هذا الفريق أو ذاك الفريق، بما قد يصل إلى مستوى الاتهام بالخيانة العظمى، أو بما يثير الحديث عن الأموال المحلية والإقليمية التي تبذل من أجل تحريك الانتخابات في هذا الجانب أو ذاك، استغلالاً للحاجات المعيشية الملحة للفقراء، ليكون تأمينها ثمناً لأصواتهم في صناديق الاقتراع، بحيث يشعر المراقبون بأنَّ البلد يعيش حرباً سياسيةً تُستخدم فيها كلّ الأسلحة الطائفية والمذهبية، لتكون مقولة الوحدة الوطنية مسألة لا جدّية فيها، وليكون العيش المشترك أكذوبةً سياسيةً في الجدال الانتخابي الذي تتساقط فيه المبادئ على مذبح الحقد والعداوة والبغضاء والهوامش السطحية، ولينطلق الحديث عن المجلس النيابيّ القادم بأنه سيمثّل الامتداد لخلفيات الفتنة، ولن يمثل بالتالي القرار الشعبي المستقل.

وتبقى الأوضاع الاقتصادية تراوح مكانها في إعلان بعض القائمين على شؤون الدولة بأنّ المستقبل يتهدّدها في الإفلاس المالي الذي يقف عثرةً أمام تلبية حاجات المعلّمين والموظفين والشعب كلّه، وتتصاعد أرقام المديونية في تعقيداتها الاقتصادية، وتتجمّد الخدمات، ويصرخ الجائعون والمحرومون، ويتضاءل النور ويمتدُّ الظلام.

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء فيهما:

وكيف لا نكون معه!

كان عليٌّ(ع) إسلاماً يتجسَّد

ولاية عليّ(ع)

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(المائدة:67).

نزلت هذه الآية عندما كان النبيُّ(ص) عائداً من حجَّة الوداع، حيث وقف أمام المسلمين في منى، وقال لهم: «أيُّ يوم أعظم حرمةً؟ قالوا: هذا اليوم، قال: فأيُّ شهرٍ أعظم حرمة؟قالوا: هذا الشهر، قال: فأيُّ بلدٍ أعظم حرمةً؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه... ». ثم قال لهم: «فإنه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم ولا ترجعوا بعدي كفّاراً». وكان(ص) يقول: «كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه».

وهكذا، انطلق النبي(ص) ليؤكِّد من خلال كلمته هذه السلام بين المسلمين، على قاعدة حرمة قتل المسلم للمسلم إلا بحدود الله تعالى.

لذلك، عندما وصل النبي(ص) إلى منطقةٍ يقال لها غدير خمّ، وكانت الشمس حادةً، دعا المسلمين الذين كانوا معه في الحجّ، وهم من بوادٍ متفرّقة، إلى أن يتوقَّفوا، ونُصب له منبر من أهداج الإبل، والمسلمون يتساءلون عن السبب، ولماذا أوقفهم في هذا الحرِّ اللاهب، حتى صعد رسول الله(ص) إلى ذلك المنبر، وأخذ بيدِ عليّ(ع) ورفعها، حتى بان بياض إبطيهما للنَّاس، وقال(ص) لهم: «أيُّها الناس، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهمـ قالوا: بلى، فقال(ص): فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار». ومعنى هذه الكلمة التي يرويها السنَّة والشّيعة في كتبهم الصحيحة، والّتي هي من الرّوايات الثّابتة عن رسول الله، أنّه من كنت أولى به من نفسه، ومن كنت وليّه، فهذا عليّ وليّه، ليؤكّد بذلك ولاية عليّ(ع) على المسلمين من بعده، ثم نُصبت له خيمة، وجاء المسلمون يهنّئونه، وقال له بعض الذين أبعدوه عن حقه: «بخٍ خٍ لك يا عليّ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة».

عليّ(ع) تجسيدٌ للحق

وكان النبيُّ(ص) قد عمل على تهيئة الوجدان الإسلامي لإدراك منـزلة عليّ(ع) عنده، عندما كان يقول: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»، لأنّ القرآن عندما كان ينـزل على النبي(ص)، كان عليّ(ع) أول من يسمعه ويتفهّمه، لأنّه كان تلميذ رسول الله، وكان يقول: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب». ولم يكن عليّ يحفظُ الكلام فحسب، بل كان يفكِّر فيه ويستنتج ويستنبط منه علماً آخر، لأنّ عليّاً كان يعيش العبقرية الفكرية المنفتحة على آفاق الثقافة، في كلِّ قضايا الناس. وكان رسول الله(ص) يقول فيما يروى عنه: «عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور عه حيثما دار»، فليس هناك فارق بين الحق وعليّ، بل إنَّك إذا سمعت كلامه، ورأيت أفعاله، ورأيت الحق يتجسّد فيه.

ومما قاله له رسول الله(ص): «يا عليّ، أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي من بعدي». فكما كان هارون وزيراً لموسى وشريكاً له في أمره، كان عليّ (ع) وزيراً لرسول الله(ص) يستشيره النبي ويعيش معه ويشاركه في أمره.

وكان عليّ(ع) الناصر لرسول الله(ص)، حتّى إنّه عندما كان صغيراً، كان يسير معه في مكة، وكان المشركون يشجّعون أطفالهم على إيذاء النبيّ(ص)، فكان(ع) يلاحق الأطفال ويشدّهم من آذانهم، حتى قيل: «جاء مصلّب الآذان». وفي شبابه، كان عليّ(ع) المحارب الأوَّل في بدر، كما أنّه كان فارس أُحد والأحزاب وخيبر وحنين، حتى قال النبي(ص) في معركة خيبر: «لأعطينَّ الرَّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه».

ترك الخلافة لمصلحة الإسلام

ودارت الأيام، وأُبعد عليٌّ(ع) عن حقِّه، ولكنَّه وازن المسألة بين حقِّه ومصلحة الإسلام العليا، ورأى أنه إذا اقتحم الواقع الإسلاميَّ ليطالب بحقِّه، فقد تحدث فتنةٌ ومشكلة، وقد يستغلُّ الكافرون المتربِّصون بالإسلام الفرصة لينقضّوا عليه، وكان يرى أنه مسؤول عن الإسلام وهو في خارج الخلافة كما هي مسؤوليّته عنه لو كان في داخلها، لذلك كان(ع) يقول: «فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا»، إلى أن يقول: «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوَّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز». وشارك عليّ(ع) الذين تقدّموا عليه الرأي، وأعطاهم المشورة والنصيحة، وسدَّد خطاهم، وأجاب عن الأسئلة التي كانت توجّه إليهم ولا يعرفون إجاباتها، حتى قال عمر بن الخطاب: «لولا عليّ لهلك عمر»، فكان(ع) يحفظ حياتهم، حفظاً للإسلام من أيِّ فتنة قد تحدث بين المسلمين.

وبعد وفاة الرّسول، زُرِعت الألغام في طريق عليّ(ع)، ما منعه من إدارة الواقع الإسلاميّ كما يرى. وممّا قاله وهو يتحدّث مع الناس الّذين ملأوا قلبه قيحاً وجرحوا وجدانه: «أيتها النفوس المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدة أبدانهم والغائبة عنهم عقولهم ـ وهذه صورة المجتمع الذي كان يحيط به(ع) ـأظأركم ـ أعطفكم ـعلى الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد. هيهات أن أطلِع بكم سرار ـ ظلمة ـ العدل، أو أُقيم اعوجاج الحق». ثم يناجي(ع) ربه ليقدّم حسابه إليه: «اللهمَّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرِد المعالم من دينك ـ ليتحرَّك دينك في كلِّ الواقع الإنساني ـ ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك. اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله(ص) بالصلاة».

صفات الحاكم الإسلاميّ

ثم بعد ذلك يتوجَّه إلى النّاس، ويبيّن لهم كيف يجب أن يكون الحاكم والخليفة، يقول(ع): «وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدّول، فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطِّل للسنّة فيُهلك الأمة».

وكان(ع) يحاسب ولاته الذين يوظّفهم في إدارة شؤون الناس، وقد لاحظ شيئاً على بعض الولاة، ويقال إنه ابن عباس، فأرسل إلى بعض عمّاله (من أقربائه) يقول له: «اتقِ الله، واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ـ أموال اليتامى والمساكين والمجاهدين ـ فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك، لأعذرنَّ إلى الله فيك ـ لأعاقبنّك عقاباً يكون لي عذراً عند الله من فعلتك هذه ـ ولأضربنَّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النَّار ـ لأنه لا يضرب إلاّ الذين يعادون الله ورسوله ـ ووالله، لو أنّ الحسن والحسين ـ وهما من أعزِّ الناس لديه ـ فعلا مثل الّذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحقَّ منهما، وأزيح الباطل من مظلمتهما. وأقسم بالله ربّ العالمين، ما يسرّني أنَّ ما أخذته من أموالهم حلال لي أتركه ميراثاً لمن بعدي».

وكان(ع) يقول: «ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ـ الثوب البالي ـومن طعمه بقرصيه ـ الرغيف ـألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد ـ كونوا الورعين عن الحرام، والمجتهدين في طاعة الله ـ وعفّة وسداد. فوالله ما كنـزت من دنياكم تبراً  ـ الذهب والفضة قبل أن يصاغ ـ ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أتانٍ دَبِرة  ـ وهي التي عُقر ظهرها وقلّ أكلها ـولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مَقِرة ـ أي مرّة ـ بلى، كانت في أيدينا فدك ـ وهي إرث الزهراء(ع) من أبيها أو نحلة منه، وقد منعها القوم منها بحجة أنّهم سمعوا النبي(ص) يقول إنّ الأنبياء لا يورّثون ـ من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونِعمَ الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك، والنّفس مظانُّها في غدٍ جدث، تتقطّع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع. أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى ـ جائعة ـ وأكباد حرّى ـ عطاشى ـ أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة ـ غلظة ـالعيش؟!».

الطّلاق الرّوحيّ مع الدّنيا

ثم يخاطب(ع) الدنيا في جنح الليل وهو يبكي، ويقول لها: «يا دنيا، يا دنيا، إليك عني، أبي تعرّضتِ، أم إليَّ تشوّفتِ، لا حان حينك ـ وقت وصولك إلى قلبي وتمكّن حبك منه ـ هيهات! غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملُك حقير. آهٍ من قلة الزاد وطول الطريق، وبُعد السَّفر، وعظيم المورد».

هذا عليّ(ع) الّذي كان يذلّ أمام الله، أمّا في الجهاد فكان(ع) يقول: «لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها». وأمام هذا كلّه، هل نملك إلا أن نحبّ علياً ونذوب فيه كما ذاب في الإسلام؟ وهل نملك إلاّ أن نوالي علياً ونقتدي به وبإخلاصه للإسلام والمسلمين؟ علينا أن نتثقَّف بفكر عليٍّ(ع) وعلمه، وأن نجعل كلَّ حياتنا لعليّ، لأنّه لا يوجد في صحابة النبي(ص) من يملك جهاد عليّ وزهده وعلمه وروحيَّته، فقد كان إسلاماً يتجسّد، وأخاً لرسول الله(ص).

إن عليّاً كان الإمام والقدوة، وكان الذي يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، فهل نكون كذلك؟

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي               واخشعي إنّني ذكرت عليّاً

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟          

حصار غزَّة: مقدمة لتهويد فلسطين

في فلسطين المحتلة، تتوالى المحاولات الإسرائيلية الساعية لإنهاك الشعب الفلسطيني وإخضاعه، بالحصار التجويعي المتواصل، إلى جانب الاغتيالات والاعتقالات في الضفة، فضلاً عن عمليات التهويد والاستيطان التي تسير بسرعة قياسية، ويأتي ذلك كلّه في إطار التمهيد الصهيوني للدولة اليهودية النقية، كما تحدَّث عنها جورج بوش، وكما أشار إلى ذلك المسؤولون الصهاينة الذين أعلنوا عن مقترحاتٍ وخططٍ جاهزةٍ لتهجير فلسطينيي العام 1948.

وفي موازاة ذلك، يصوّت مجلس الأمن على قرار يعلن الدعم للمفاوضات التي جرت في "أنابوليس" بهدف التّوصّل إلى اتفاق سلام، كما جاء في القرار الذي تقدَّمت به الإدارة الأميركية... وكأنَّ الخطة تقضي بالمزيد من الضغط على الفلسطينيين في الداخل، والمزيد من التواطؤ الدولي والعربي في الخارج، لدفعهم إلى الاستسلام والتنازل عن حقوقهم تحت عنوان السلام الذي تسلِّم إدارة أميركية راحلة ملفَّه إلى إدارة قادمة، فتعبث به بما يخدم مصالح العدو ويُنهي القضية الفلسطينية.

إن الحصار على غزَّة يُراد له أن يتحوَّل من حصارٍ أمنيّ وغذائيّ وصحيّ وتجويعيّ، إلى حصار سياسي يُمهِّد لتهجير الفلسطينيين من جهة، ولدفعهم إلى التسليم بشروط إسرائيل التفاوضية من جهة ثانية، ولذلك فهو يتواصل تحت سمع العالم الغربي والعالم العربي الرسمي وبصرهما، إلى المستوى الذي تسقط فيه كلُّ حقوق الإنسان التي يستهلكها الغربيون، وحيث يتجرأ العدو على منع المقرر الخاص في مجلس حقوق الإنسان من دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد احتجازه ثلاثين ساعةً، وهو أمر لم يثر إلا أسف الأمين العام للأمم المتحدة وقلقه.

وإلى جانب ذلك، ثمَّة وثيقة للمؤسسة الأمنية الصهيونية قُدِّمت كتوصيةٍ إلى مجلس وزراء العدو، تتحدث عن خطط طوارئ لمهاجمة إيران باعتبارها على رأس قائمة الدول التي تهدّد إسرائيل، وتحذِّر الوثيقة من أن إسرائيل قد تجد نفسها بمفردها أمام إيران نووية، ومن اللافت أن الوثيقة تتحدث عن ضرورة توثيق العلاقات بأنظمة الحكم العربية السنيّة المعتدلة على أساس المصالح المشتركة، في مقابل النظام الإيراني الشيعي المتطرف، كما جاء في الوثيقة/ التوصية.

رياح المنطقة تسير بما لا تشتهي سفن العدوّ

ونحن في الوقت الذي نعتقد أن الشعوب العربية والإسلامية تمثل وحدةً في الموقف الحاسم من إسرائيل كعدوٍّ للأمة كلّها، بمسلميها ومسيحييها، وبسنّتها وشيعتها، وأن هذه الشعوب لن تكون فريسةً للخطة الصهيونية الحاقدة الرامية إلى الإيقاع بين السنّة والشيعة تحت عنوان التقارب مع فريق ضدّ فريق آخر... نؤكد أنَّ على الأمَّة وقواها الحيّة الممانعة، أن تواصل العمل لإنتاج المزيد من عناصر القوة الأمنية العسكرية والعلمية التي يمكن أن تسقط أية خطة عدوانية إسرائيلية قد تستهدف هذا البلد العربي أو ذاك البلد الإسلامي، أو قد تسعى لتحريك الفتن داخل بلداننا.

وعلى علماء المسلمين، من السنّة والشيعة، أن ينبّهوا الأمة إلى مخاطر التحضيرات العسكرية والأمنية الإسرائيلية المتواصلة، بدلاً من إثارة الحديث هنا وهناك حول سلاح المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وأي موقع عربي محتلّ أو مهدَّد بالعدوان، وأن يشرحوا للأمة مخاطر الحركة الصهيونية المتواصلة لإثارة الفتنة المذهبية في المواقع الإسلاميّة، وخصوصاً بعدما شعر العدو بأن رياح المنطقة لا تسير كما تشتهي سفنه.

إننا ندعو الدول العربية إلى مقاربة جديدة لمسألة العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في إيران، كما ندعو إيران إلى القيام بخطواتٍ متواصلةٍ لإسقاط الخطط الصهيونية الرامية إلى الإيقاع بينها وبين الدول العربية، لأننا نعتقد أن العلاقات العربية ـ الإيرانية يمكن أن تصل إلى أفضل مستوياتها بعيداً عن محاولات التهويل الإسرائيلية حول مكانة إيران وطموحاتها، لأن إيران تطمح لعلاقات قوية ومتينة مع محيطها العربي والإسلامي، ولا تنظر بعين العداوة إلا إلى إسرائيل الغاصبة والمحتلة.

لبنان: سجالات سياسية بأسلحة طائفية ومذهبية

أمَّا في لبنان، فقد استُقبِلَت أكثر من شخصية أمريكية من الحزبين الجمهوريّ والديمقراطي من الكونغرس الأمريكي وغيره، وقد كرَّروا في تصريحاتهم التقليدية بأنَّهم لن يغيّروا موقفهم من لبنان، ولن يدخلوا في أية تسويةٍ على حسابه، ولكنَّ السؤال الذي يفرض نفسه هو عن مشاركتهم إسرائيل في عدوانها على لبنان، وتدميرها بنيته التحتية، ومجازرها التي قتلت النساء والأطفال والشيوخ من المدنيين، ودفنها بعض الناس وهم أحياء، وذلك إضافة إلى الجسر الجوي الذي أرسلت أمريكا من خلاله القنابل الذكية لقتل المدنيين اللبنانيين، وتقديمها القنابل العنقودية التي لا تزال تفتك بالمزارعين وغيرهم، وإبقائها بند وقف إطلاق النار في القرار 1701 معطَّلاً لتبقى لإسرائيل الفرصة في إعادة عدوانها، واعتبارها لبنان الساحة المفضَّلة لتحريك مشروع الشرق الأوسط الكبير، وأن لبنان يرتبط بالأمن القومي الأمريكي، ما يجعل منه موقعاً أمنياً لسياستها في المنطقة، وخصوصاً عندما تتدخل في إرباك الواقع السياسي اللبناني بالتزامها فريقاً ضد فريق آخر، لذلك كلّه، لا يكفي ألا تقيم أميركا تسويةً على حساب لبنان، بل عليها أن ترفع يدها عنه ليملك مواطنوه حرية تقرير المصير.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ الأجواء لدى الكتل والأحزاب والشخصيات اللبنانية لا تزال تتحرَّك بالسِّجالات المعقَّدة التي تطلق الاتهامات ضد هذا الفريق أو ذاك الفريق، بما قد يصل إلى مستوى الاتهام بالخيانة العظمى، أو بما يثير الحديث عن الأموال المحلية والإقليمية التي تبذل من أجل تحريك الانتخابات في هذا الجانب أو ذاك، استغلالاً للحاجات المعيشية الملحة للفقراء، ليكون تأمينها ثمناً لأصواتهم في صناديق الاقتراع، بحيث يشعر المراقبون بأنَّ البلد يعيش حرباً سياسيةً تُستخدم فيها كلّ الأسلحة الطائفية والمذهبية، لتكون مقولة الوحدة الوطنية مسألة لا جدّية فيها، وليكون العيش المشترك أكذوبةً سياسيةً في الجدال الانتخابي الذي تتساقط فيه المبادئ على مذبح الحقد والعداوة والبغضاء والهوامش السطحية، ولينطلق الحديث عن المجلس النيابيّ القادم بأنه سيمثّل الامتداد لخلفيات الفتنة، ولن يمثل بالتالي القرار الشعبي المستقل.

وتبقى الأوضاع الاقتصادية تراوح مكانها في إعلان بعض القائمين على شؤون الدولة بأنّ المستقبل يتهدّدها في الإفلاس المالي الذي يقف عثرةً أمام تلبية حاجات المعلّمين والموظفين والشعب كلّه، وتتصاعد أرقام المديونية في تعقيداتها الاقتصادية، وتتجمّد الخدمات، ويصرخ الجائعون والمحرومون، ويتضاءل النور ويمتدُّ الظلام.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير