مع ولادة النبيّ عيسى(ع): معجزة الولادة وإعجاز الرسالة

مع ولادة النبيّ عيسى(ع): معجزة الولادة وإعجاز الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

مع ولادة النبيّ عيسى(ع):

معجزة الولادة وإعجاز الرسالة

الولادة المعجزة

يحتفل العالم في هذه الأيام بذكرى ميلاد السيد المسيح(ع)، ويذكر بعض الباحثين أن المولد لم يكن في هذا التاريخ وإنما كان في تاريخ آخر، ويدعم هذا القول ما ذكره القرآن الكريم في خطابه لمريم: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً} [مريم:25]، ما يدل على أن هذا الأمر كان في موسم الرطب والتمر، وهو قريب من موسم الصيف. ونحن نعظِّم السيد المسيح(ع)، الذي جعله الله آيةً للناس، كما جعل آدم من قبل: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران:59].

فقد أراد الله سبحانه أن يظهر قدرته، سواء في خلق آدم: {إني خالق بشراً من طين* فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص:71-72]، أو في الولادة المعجزة لعيسى من أمه الطاهرة الزكية العابدة مريم بنت عمران التي بشرتها الملائكة بولادته: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا ـ لأن الله أرسله في الدنيا برسالته، وجعله مباركاً ينفع الناس بإرشاداته وتوجيهاته التي أراد الله له أن يبلغها للناس ـ والآخرة ـ لأن الله رفع درجته عنده ـ ومن المقربين} [آل عمران:45] لله بطاعته وإخلاصه وروحيته {ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ـ فقد كان يكلّم الناس ليعظهم ويرشدهم، وليعلمهم الكتاب والحكمة ـ ومن الصالحين} [آل عمران:46]، الذين عاشوا الدعوة والحركة في طاعة الله سبحانه وتعالى.

لكن مريم(ع) فوجئت بالأمر {قالت ربّ أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ـ لأنّ المرأة لا تلد إلا من خلال العلاقة الطبيعية بينها وبين الرجل ـ قال كذلك الله يخلق ما يشاء ـ فالأمر يتصل بقدرة الله تعالى على كل شيء، فهو كما خلق آدم من دون أب وأم، قادر على أن يخلق عيسى من أم دون أب ـ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران:47] فإرادته هي التي تؤكد كل ما يفعله، ولاسيما في خلقه للكون وللإنسان والحيوان.

ثم يحدثنا الله سبحانه كيف أفاض على عيسى(ع) من نعمه، وكيف ربّاه وعلّمه، وكيف أراد له أن ينفتح بالخير والعدل والمحبة والرحمة على العالم كله، قال سبحانه: {ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل* ورسولاً إلى بني إسرائيل ـ أرسله إليهم ليكونوا المنطلق في دعوته، فهو من أنبياء أولي العزم الذين لا يختصون بجماعة دون أخرى، ولكن من الطبيعي أن يبدأ كل رسول رسالته بإبلاغ قومه، ثم تمتد رسالته بعد ذلك إلى العالم كله ـ أني قد جئتكم بآية من ربكم ـ بالمعجزة التي تدلّ على أني رسول من الله سبحانه وتعالى ـ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ـ فعيسى(ع) كان يصنع تمثال الطير، ثم ينفخ فيه، فيلقي الله الروح في هذا الطير، ولم يكن عيسى(ع) هو من يلقي الروح في الطّير، وإنما هو الله سبحانه الذي جعل في نفخة عيسى(ع) شيئاً من القدرة الإلهية.

الدور الإعجازي لعيسى(ع)

ـ وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ـ فقد كان عيسى(ع) في زمان غلب عليه الطب، وكان يؤتى إليه بالأبرص والأعمى والأصم، فيضع يده على الواحد منهم فيشفى بإذن الله سبحانه وتعالى ـ وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ـ بما أعطاه الله من حسّ غيبـي يستطيع بواسطته أن يخبر الناس بما يخفونه في بيوتهم وما يأكلونه ـ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين* وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ـ لأنّ الرسالة المتأخرة لا تلغي الرسالة التي تقدّمتها، فعيسى(ع) جاء مصدّقاً بالتوراة، التي قال الله سبحانه وتعالى عنها إنها {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} ، والمسيح(ع) جاء مكملاً للرسالة، لأنّ الأمور تتطوّر مع تقدّم الزمن، ويصبح الناس في حاجةٍ إلى أحكام جديدة، فتأتي الرسالة الثانية لتكمل ما نقص في الواقع الذي يعيشه الناس.

ـ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ـ فالحلال والحرام بيد الله سبحانه وتعالى، فالله يحرِّم شيئاً لمصلحة وحكمة ثم يحلِّله لمصلحة وحكمة، أو العكس، كما نلاحظ ذلك في توالد الناس وتكاثرهم، فهو سبحانه وتعالى زوّج أولاد آدم وبناته بعضهم من بعض ثم حرّمه بعد ذلك، وهذا ما نجده في مسألة تحويل القبلة التي أراد الله للمسلمين أن تكون إلى بيت المقدس، كما كانت القبلة الأولى، ثم أوحى الله إلى نبيه(ص) بالتحول إلى المسجد الحرام: {قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّينك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة:143].

ـ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ـ فالله سبحانه لم يتجسّد في المسيح، كما يقول بعض الناس الذين ينتمون إلى السيد المسيح، بل هو عبد لله {قال إني عبد الله} ـ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ* فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ـ فبعدما بلّغ القوم تلك الرسالة، تمرّدوا عليه وضايقوه وعذّبوه، فطلب عندها الأنصار إلى الله ولم يطلبهم لذاته ـ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ* رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ* وَمَكَرُوا ـ دبّروا المؤامرات في الخفاء ـ وَمَكَرَ اللَّهُ ـ دبّر سبحانه الوسائل التي تسقط مواقعهم ـ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:48-54].

عيسى(ع) الكلمة الحقّ والرّسول

ويتحدث الله سبحانه وتعالى عن السيد المسيح فيقول: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ـ أرسله برسالته ـ وَكَلِمَتُهُ ـ لأنه ولد بالكلمة الإلهية ـ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ـ أي من قدرته ـ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ ـ {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}، وهو ليس كفراً بالله، بل هو كفر بالنبوة وبالتوحيد الذي جاءت به الرسالات.

ـ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ـ فهو لا يحتاج إلى الولد ـ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً* لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ـ وليس كما يقول البعض: ربنا المسيح ـ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًاً} [النساء:170-171].

ويقول تعالى عنه: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وَجَعَلَنِي نبيّاً* وجعلني مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ـ فعيسى(ع) عندما نطق في المهد، تحدّث عن الصلاة، لأن الصلاة هي معراج المؤمن إلى الله، وهي عمود الدين، وهي التي تمثّل العلاقة بين الإنسان والله سبحانه وتعالى، وتحدث عن الزكاة، لأنها تمثّل عطاء الإنسان ممّا رزقه الله وأراد له أن ينفق منه {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33].

ـ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ـ لأن البر بالوالدين يدلّ على روحية الشكر، فالله ربط شكر الوالدين بشكره، فمن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق ـ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ـ ظالماً معتدياً، بل جعلني محباً للناس، وراعياً لهم في كل أمورهم ـ وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ* مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:30-36].

وهكذا تحدّث الله سبحانه عن مريم بأنها السيدة الطاهرة المعصومة: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء:91].

الانفتاح على أخلاقيات المسيح

أيها الأحبة، في ميلاد السيد المسيح(ع) هناك عدة أمور لا بد من ملاحظتها:

الأمر الأول: هو أنّ علينا، إذا أردنا أن نحتفل بمولد السيد المسيح(ع)، أن يكون احتفالنا به إسلامياً خالصاً بعيداً عن المظاهر الغربية.

الأمر الثاني: إذا أردنا لأسرنا وأولادنا أن يعيشوا الجو العام في الاحتفال بالسيد المسيح(ع)، فعلينا أن نعرّفهم سورة مريم وآل عمران، وأن نقرأ لهم ما تحدث الله به عن عيسى(ع) ومريم في أكثر من آية، وأنه رسول الله وكلمته، وآية للناس في كل وجوده، حتى لا نخلط بين العقيدة التي يتحرك بها الآخرون والعقيدة القرآنية. وفي مناسبة ولادة السيد المسيح(ع)، علينا أن ننطلق لننفتح على روحيته وأخلاقيته في توحيده لله سبحانه وتعالى، وعلى كل معاني المحبة والرحمة والعدالة.

نحن لا نريد أن ننحرف عن الخط التوحيدي العقيدي الإسلامي، فنحن نؤمن به رسولاً لله وعبده. فالله أراد للإنسان المسلم أن يؤمن بالله وبرسوله وبالأنبياء كلهم.

والسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حياً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

غزة: استئناف المجازر وتواطؤ عربي

ينشط الكيان الصهيوني في هذه الأيام لتهيئة لأجواء الإعلامية والسياسية الدولية للقيام بعدوان جديد على قطاع غزة، وهو يستنفر قواه الدبلوماسية لإيجاد تغطية دولية وعربيّة للمجازر التي باشر القيام بها في الجولة الثانية، بعد انتهاء التهدئة، والتي سقط في خلالها 43 شهيداً من الشعب الفلسطيني، من دون أن يحرّك العالم ساكناً.

ووسط حركة صهيونية أمنية وعسكرية متواصلة في داخل فلسطين المحتلة، ودبلوماسية إسرائيلية نشطة حتى على بعض المحاور العربية التي باتت تشعر بالإحراج حيال ما يجري في غزة من حصارٍ تشارك فيه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يستعد العدو لتنفيذ مجازر جديدة، إلى جانب حصاره التجويعي المتواصل، وهو يراهن على استمرار التواطؤ العربي المشفوع بضغوط سياسية متواصلة على الفلسطينيين وفصائلهم المقاومة.

إننا في الوقت الذي نشعر بأن الانتخابات الصهيونية القادمة قد تفتح شهية المسؤولين الإسرائيليين أكثر لقتل المزيد من الفلسطينيين، لأن الدم الفلسطيني يجذب المزيد من الأصوات للشخصيات السياسية الصهيونية الطامحة، نعرف أيضاً أنّ صمود الشعب الفلسطيني وقدرته على التعامل مع أبشع أنواع الحصار والعقاب الجماعي، وأفظع عمليات القتل والمجازر، سيمثّلان فضيحةً أخرى للواقع العربي الرسمي وللأنظمة المتواطئة مع العدو، أو لتلك الحائزة على وسام الاعتدال الأميركي بجدارة واستحقاق!

وندرك ـ في الوقت عينه ـ أن غزة المقاومة والأبية، بشعبها الجريح والمقاوم، لن تكون لقمةً سائغةً في فم العدو الذي لا يزال يتخوّف من التجربة اللبنانية وانعكاسها داخل فلسطين المحتلة، والذين يأخذ في الاعتبار ما يجري داخل الساحة العربية، ولذلك فهو في حيرة من أمره، إذ إنّه يعاني من مأزق الإقدام والإحجام الذي يدفعه إلى تحريك الآلة العسكرية، والطلب من هذا الفريق العربي أو ذاك التوسط لتجديد التهدئة.

إننا نقول للعرب، وخصوصاً لأولئك الذين يتبرّعون بتقديم المواعظ للشعب الفلسطيني من داخل الجامعة وخارجها: صحيح أن الانقسام الفلسطيني يمثل تهديداً للقضية ولنضال الشعب الفلسطيني في سبيلها، إلاّ أنّ الانقسام الفلسطيني يمثل وجهاً من وجوه الانقسام العربي، كما أن التواطؤ العربي كان ولا يزال سبباً رئيساً من أسباب الضياع والضعف الذي أصيبت به القضية. وبالتالي، فعلى العرب أن يتحملوا مسؤولياتهم بدلاً من أن يلقوا باللائمة على الفلسطينيين، وأن يقتربوا أكثر من القضية قبل أن تقترب النار من عروشهم ومواقعهم.

الإدارة الأمريكية: خضوع للرؤية الإسرائيلية

وفي المشهد الأمريكي، طالعتنا وزيرة الخارجية الأميركية التي تتحضّر للرحيل، بمرافعة عن "إنجازات" إدارتها، من لبنان إلى العراق وإلى أفغانستان وباكستان، وهي التي تعلم علم اليقين أن المخاض الجديد للشرق الأوسط لم يكن بفعل إدارتها وخططها، فهو انطلق وفق توجهات وحركة الشعوب والقوى الحيّة التي أذاقت إدارة المحافظين الجدد طعم الهزيمة المرة في لبنان، عندما هزمت إسرائيل في تموز 2006 ، كما في بقية المواقع العربية والإسلامية.

ومع ذلك، فإنَّ "رايس" تعترف بأن سمعة أمريكا في العالم العربي ليست جيدةً، من دون أن تشير إلى الأسباب الكامنة وراء ذلك، وأهمّها دعمها المطلق لإسرائيل في حربها العدوانية على لبنان، ومجازرها في فلسطين، ودعمها للاستيطان اليهودي وتهويد القدس، ومنعها المتواصل لمجلس الأمن من إدانة إسرائيل.

وإلى جانب ذلك، تتحدث "رايس" عن أن الإدارة الأميركية القادمة ستواجه عراقيل في سعيها لإحداث اختراقاتٍ للمشاكل التي فشلت إدارة بوش في حلها، وكأنها تحاول أن ترسم خطاً بيانياً لإدارة أوباما ليسلك الطريق نفسه في التعاطي مع المسألة الفلسطينية ومع القضايا العربية والإسلامية، مع أنّ أوباما كان قد تعهّد في خطاباته ومواقفه أن يسلك خطاً آخر، وأن يبدأ بمسار مختلف، انطلاقاً من مسألة التغير المناخي، وإقفال معتقل "غوانتانامو" والمواقع العسكرية في كوبا وغيرها، وصولاً إلى مسألة الانفتاح على الحوار في مسائل الشرق الأوسط وغيره. ولكن المسألة مع المسؤولين الأميركيين هي أن تصوراتهم لقضايا المنطقة تظل خاضعةً للرؤية الإسرائيلية التي تتكوّن بفعل علاقتهم باللوبي اليهودي والدوائر المؤثرة في القرار الأميركي، وهي التي تنظر إلى المنطقة بعيون إسرائيلية.

العراق: لماذا الاستعانة بالقوات الأمريكية المحتلة ؟

أما في العراق، فإننا في الوقت الذي نرحّب بقرار البرلمان العراقي الذي وافق فيه على انسحاب القوات الأجنبية المتواجدة هناك، فإننا نتحفّظ عن حلول القوات الأميركية محلها، لأنها قوات احتلال، وهي التي كانت السبب في مأساة العراقيين المستمرة منذ سنوات، وإذا  كان البعض يتحدث عن الحاجة إليها على مستوى التدريب، فإننا نتساءل: لماذا لا تتم الاستعانة بقوات عربية لتمارس هذا الدور من خلال التنسيق والتفاهم مع الدولة العراقية بما يحفظ مصالح العراق ومستقبله ووحدة شعبه وأراضيه؟

لبنان: الحفاظ على المقاومة كعامل رادع للعدوّ

وعندما نطل على المسألة اللبنانية من البوابة الجنوبية، فإننا نستشعر الكثير من الخطر في إقدام العدو على خطف مزارعين لبنانيين من داخل الأراضي اللبنانية، من دون أن تصدر أي مواقف إدانة صريحة عن الأمم المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي أو عن الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يؤكد أن لا سبيل إلى كفّ يد العدو إلا من خلال المقاومة التي ينبغي الحفاظ عليها كعامل قوة رادع وحاسم في مسألة العدوان الإسرائيلي، وخصوصاً أن قوات اليونيفيل أثبتت بفعل هذه الحادثة وغيرها، وبفعل استمرار الاختراقات الإسرائيلية في الجو وغيره، أنها لا تمثل قوة حماية للبنان وللمدنيين اللبنانيين.

أما في الداخل اللبناني، فقد انتهت جلسة الحوار إلى قرار بالتهدئة ـ وكأن التهدئة في لبنان بحاجة إلى مؤتمر للحوار ـ وذلك بالامتناع عن إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والحزبية، كما برز في خطابات بعض الشخصيات الدينية التي كنا نأمل أن تستوحي القيم الدينية الروحية في مفردات خطاباتها العامة، لأن المطلوب منها أن تكون فوق الميول والاتجاهات والمحاور السياسية. وإلى جانب ذلك، فإن على الشعب اللبناني أن تكون مشاركته في الانتخابات القادمة مشاركةً في محاسبة الأشخاص الذين لم يحافظوا على الأمانة في احترام أصوات ناخبيهم الذين كانوا يأملون في أن يكون هؤلاء المنتخَبون حلاً للمشكلة لا تعقيداً لها، الأمر الذي يفرض على الجميع أن يتحركوا في خط التغيير من أجل ولادة لبنان الجديد الذي يهتم القائمون على شؤونه في الحكم بالفئات الفقيرة المشغولة بمشاكلها المعيشية التي تتحرك في داخلها الضرائب التي تفرض على الفقراء، أمّا الأغنياء، فإنهم بعيدون عنها، لأن العين لا ترتفع فوق الحاجب في الامتيازات السياسية والطائفية والمذهبية... وتبقى هناك فرصة للفقراء في المال السياسي الذي يجتذب المتاجرين بمواقفهم في لعبة الأكثرية والأقلية التي تجعل لكل شخص ثمناً لصوته من خلال أرصدة الخارج والداخل... وفي نهاية المطاف، يحدثونك عن الانتخابات الحرّة في بلد يملك حرية الكلمة ولا يملك حرية اختيار الموقف.

وأخيراً، إننا أمام ما قدّمته المملكة العربية السعودية من مساعدات للبنانيين، في أعقاب حرب تموز، وما جرى من تصرف فيها أوحى بأنها لم تصل إلى المستحقين كما يجب، ندعو إلى إعادة النظر في مسألة التعاطي مع هذه الأمور بما يعيد الحق إلى نصابه، ويفسح في المجال للإسراع في إعادة إعمار ما تهدّم، لأنه من غير الجائز أن تستمر معاناة اللبنانيين، وخصوصاً في مسألة المساكن للمتضررين، لحساب الفوضى التي تحكّمت بها جهات محلية ينبغي أن تكون محل مساءلة ومراقبة ومحاسبة على جميع المستويات.

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

مع ولادة النبيّ عيسى(ع):

معجزة الولادة وإعجاز الرسالة

الولادة المعجزة

يحتفل العالم في هذه الأيام بذكرى ميلاد السيد المسيح(ع)، ويذكر بعض الباحثين أن المولد لم يكن في هذا التاريخ وإنما كان في تاريخ آخر، ويدعم هذا القول ما ذكره القرآن الكريم في خطابه لمريم: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً} [مريم:25]، ما يدل على أن هذا الأمر كان في موسم الرطب والتمر، وهو قريب من موسم الصيف. ونحن نعظِّم السيد المسيح(ع)، الذي جعله الله آيةً للناس، كما جعل آدم من قبل: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران:59].

فقد أراد الله سبحانه أن يظهر قدرته، سواء في خلق آدم: {إني خالق بشراً من طين* فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص:71-72]، أو في الولادة المعجزة لعيسى من أمه الطاهرة الزكية العابدة مريم بنت عمران التي بشرتها الملائكة بولادته: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا ـ لأن الله أرسله في الدنيا برسالته، وجعله مباركاً ينفع الناس بإرشاداته وتوجيهاته التي أراد الله له أن يبلغها للناس ـ والآخرة ـ لأن الله رفع درجته عنده ـ ومن المقربين} [آل عمران:45] لله بطاعته وإخلاصه وروحيته {ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ـ فقد كان يكلّم الناس ليعظهم ويرشدهم، وليعلمهم الكتاب والحكمة ـ ومن الصالحين} [آل عمران:46]، الذين عاشوا الدعوة والحركة في طاعة الله سبحانه وتعالى.

لكن مريم(ع) فوجئت بالأمر {قالت ربّ أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ـ لأنّ المرأة لا تلد إلا من خلال العلاقة الطبيعية بينها وبين الرجل ـ قال كذلك الله يخلق ما يشاء ـ فالأمر يتصل بقدرة الله تعالى على كل شيء، فهو كما خلق آدم من دون أب وأم، قادر على أن يخلق عيسى من أم دون أب ـ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران:47] فإرادته هي التي تؤكد كل ما يفعله، ولاسيما في خلقه للكون وللإنسان والحيوان.

ثم يحدثنا الله سبحانه كيف أفاض على عيسى(ع) من نعمه، وكيف ربّاه وعلّمه، وكيف أراد له أن ينفتح بالخير والعدل والمحبة والرحمة على العالم كله، قال سبحانه: {ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل* ورسولاً إلى بني إسرائيل ـ أرسله إليهم ليكونوا المنطلق في دعوته، فهو من أنبياء أولي العزم الذين لا يختصون بجماعة دون أخرى، ولكن من الطبيعي أن يبدأ كل رسول رسالته بإبلاغ قومه، ثم تمتد رسالته بعد ذلك إلى العالم كله ـ أني قد جئتكم بآية من ربكم ـ بالمعجزة التي تدلّ على أني رسول من الله سبحانه وتعالى ـ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ـ فعيسى(ع) كان يصنع تمثال الطير، ثم ينفخ فيه، فيلقي الله الروح في هذا الطير، ولم يكن عيسى(ع) هو من يلقي الروح في الطّير، وإنما هو الله سبحانه الذي جعل في نفخة عيسى(ع) شيئاً من القدرة الإلهية.

الدور الإعجازي لعيسى(ع)

ـ وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ـ فقد كان عيسى(ع) في زمان غلب عليه الطب، وكان يؤتى إليه بالأبرص والأعمى والأصم، فيضع يده على الواحد منهم فيشفى بإذن الله سبحانه وتعالى ـ وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ـ بما أعطاه الله من حسّ غيبـي يستطيع بواسطته أن يخبر الناس بما يخفونه في بيوتهم وما يأكلونه ـ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين* وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ـ لأنّ الرسالة المتأخرة لا تلغي الرسالة التي تقدّمتها، فعيسى(ع) جاء مصدّقاً بالتوراة، التي قال الله سبحانه وتعالى عنها إنها {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} ، والمسيح(ع) جاء مكملاً للرسالة، لأنّ الأمور تتطوّر مع تقدّم الزمن، ويصبح الناس في حاجةٍ إلى أحكام جديدة، فتأتي الرسالة الثانية لتكمل ما نقص في الواقع الذي يعيشه الناس.

ـ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ـ فالحلال والحرام بيد الله سبحانه وتعالى، فالله يحرِّم شيئاً لمصلحة وحكمة ثم يحلِّله لمصلحة وحكمة، أو العكس، كما نلاحظ ذلك في توالد الناس وتكاثرهم، فهو سبحانه وتعالى زوّج أولاد آدم وبناته بعضهم من بعض ثم حرّمه بعد ذلك، وهذا ما نجده في مسألة تحويل القبلة التي أراد الله للمسلمين أن تكون إلى بيت المقدس، كما كانت القبلة الأولى، ثم أوحى الله إلى نبيه(ص) بالتحول إلى المسجد الحرام: {قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّينك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة:143].

ـ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ـ فالله سبحانه لم يتجسّد في المسيح، كما يقول بعض الناس الذين ينتمون إلى السيد المسيح، بل هو عبد لله {قال إني عبد الله} ـ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ* فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ـ فبعدما بلّغ القوم تلك الرسالة، تمرّدوا عليه وضايقوه وعذّبوه، فطلب عندها الأنصار إلى الله ولم يطلبهم لذاته ـ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ* رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ* وَمَكَرُوا ـ دبّروا المؤامرات في الخفاء ـ وَمَكَرَ اللَّهُ ـ دبّر سبحانه الوسائل التي تسقط مواقعهم ـ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:48-54].

عيسى(ع) الكلمة الحقّ والرّسول

ويتحدث الله سبحانه وتعالى عن السيد المسيح فيقول: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ـ أرسله برسالته ـ وَكَلِمَتُهُ ـ لأنه ولد بالكلمة الإلهية ـ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ـ أي من قدرته ـ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ ـ {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}، وهو ليس كفراً بالله، بل هو كفر بالنبوة وبالتوحيد الذي جاءت به الرسالات.

ـ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ـ فهو لا يحتاج إلى الولد ـ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً* لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ـ وليس كما يقول البعض: ربنا المسيح ـ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًاً} [النساء:170-171].

ويقول تعالى عنه: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وَجَعَلَنِي نبيّاً* وجعلني مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ـ فعيسى(ع) عندما نطق في المهد، تحدّث عن الصلاة، لأن الصلاة هي معراج المؤمن إلى الله، وهي عمود الدين، وهي التي تمثّل العلاقة بين الإنسان والله سبحانه وتعالى، وتحدث عن الزكاة، لأنها تمثّل عطاء الإنسان ممّا رزقه الله وأراد له أن ينفق منه {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33].

ـ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ـ لأن البر بالوالدين يدلّ على روحية الشكر، فالله ربط شكر الوالدين بشكره، فمن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق ـ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ـ ظالماً معتدياً، بل جعلني محباً للناس، وراعياً لهم في كل أمورهم ـ وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ* مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:30-36].

وهكذا تحدّث الله سبحانه عن مريم بأنها السيدة الطاهرة المعصومة: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء:91].

الانفتاح على أخلاقيات المسيح

أيها الأحبة، في ميلاد السيد المسيح(ع) هناك عدة أمور لا بد من ملاحظتها:

الأمر الأول: هو أنّ علينا، إذا أردنا أن نحتفل بمولد السيد المسيح(ع)، أن يكون احتفالنا به إسلامياً خالصاً بعيداً عن المظاهر الغربية.

الأمر الثاني: إذا أردنا لأسرنا وأولادنا أن يعيشوا الجو العام في الاحتفال بالسيد المسيح(ع)، فعلينا أن نعرّفهم سورة مريم وآل عمران، وأن نقرأ لهم ما تحدث الله به عن عيسى(ع) ومريم في أكثر من آية، وأنه رسول الله وكلمته، وآية للناس في كل وجوده، حتى لا نخلط بين العقيدة التي يتحرك بها الآخرون والعقيدة القرآنية. وفي مناسبة ولادة السيد المسيح(ع)، علينا أن ننطلق لننفتح على روحيته وأخلاقيته في توحيده لله سبحانه وتعالى، وعلى كل معاني المحبة والرحمة والعدالة.

نحن لا نريد أن ننحرف عن الخط التوحيدي العقيدي الإسلامي، فنحن نؤمن به رسولاً لله وعبده. فالله أراد للإنسان المسلم أن يؤمن بالله وبرسوله وبالأنبياء كلهم.

والسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حياً.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

غزة: استئناف المجازر وتواطؤ عربي

ينشط الكيان الصهيوني في هذه الأيام لتهيئة لأجواء الإعلامية والسياسية الدولية للقيام بعدوان جديد على قطاع غزة، وهو يستنفر قواه الدبلوماسية لإيجاد تغطية دولية وعربيّة للمجازر التي باشر القيام بها في الجولة الثانية، بعد انتهاء التهدئة، والتي سقط في خلالها 43 شهيداً من الشعب الفلسطيني، من دون أن يحرّك العالم ساكناً.

ووسط حركة صهيونية أمنية وعسكرية متواصلة في داخل فلسطين المحتلة، ودبلوماسية إسرائيلية نشطة حتى على بعض المحاور العربية التي باتت تشعر بالإحراج حيال ما يجري في غزة من حصارٍ تشارك فيه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يستعد العدو لتنفيذ مجازر جديدة، إلى جانب حصاره التجويعي المتواصل، وهو يراهن على استمرار التواطؤ العربي المشفوع بضغوط سياسية متواصلة على الفلسطينيين وفصائلهم المقاومة.

إننا في الوقت الذي نشعر بأن الانتخابات الصهيونية القادمة قد تفتح شهية المسؤولين الإسرائيليين أكثر لقتل المزيد من الفلسطينيين، لأن الدم الفلسطيني يجذب المزيد من الأصوات للشخصيات السياسية الصهيونية الطامحة، نعرف أيضاً أنّ صمود الشعب الفلسطيني وقدرته على التعامل مع أبشع أنواع الحصار والعقاب الجماعي، وأفظع عمليات القتل والمجازر، سيمثّلان فضيحةً أخرى للواقع العربي الرسمي وللأنظمة المتواطئة مع العدو، أو لتلك الحائزة على وسام الاعتدال الأميركي بجدارة واستحقاق!

وندرك ـ في الوقت عينه ـ أن غزة المقاومة والأبية، بشعبها الجريح والمقاوم، لن تكون لقمةً سائغةً في فم العدو الذي لا يزال يتخوّف من التجربة اللبنانية وانعكاسها داخل فلسطين المحتلة، والذين يأخذ في الاعتبار ما يجري داخل الساحة العربية، ولذلك فهو في حيرة من أمره، إذ إنّه يعاني من مأزق الإقدام والإحجام الذي يدفعه إلى تحريك الآلة العسكرية، والطلب من هذا الفريق العربي أو ذاك التوسط لتجديد التهدئة.

إننا نقول للعرب، وخصوصاً لأولئك الذين يتبرّعون بتقديم المواعظ للشعب الفلسطيني من داخل الجامعة وخارجها: صحيح أن الانقسام الفلسطيني يمثل تهديداً للقضية ولنضال الشعب الفلسطيني في سبيلها، إلاّ أنّ الانقسام الفلسطيني يمثل وجهاً من وجوه الانقسام العربي، كما أن التواطؤ العربي كان ولا يزال سبباً رئيساً من أسباب الضياع والضعف الذي أصيبت به القضية. وبالتالي، فعلى العرب أن يتحملوا مسؤولياتهم بدلاً من أن يلقوا باللائمة على الفلسطينيين، وأن يقتربوا أكثر من القضية قبل أن تقترب النار من عروشهم ومواقعهم.

الإدارة الأمريكية: خضوع للرؤية الإسرائيلية

وفي المشهد الأمريكي، طالعتنا وزيرة الخارجية الأميركية التي تتحضّر للرحيل، بمرافعة عن "إنجازات" إدارتها، من لبنان إلى العراق وإلى أفغانستان وباكستان، وهي التي تعلم علم اليقين أن المخاض الجديد للشرق الأوسط لم يكن بفعل إدارتها وخططها، فهو انطلق وفق توجهات وحركة الشعوب والقوى الحيّة التي أذاقت إدارة المحافظين الجدد طعم الهزيمة المرة في لبنان، عندما هزمت إسرائيل في تموز 2006 ، كما في بقية المواقع العربية والإسلامية.

ومع ذلك، فإنَّ "رايس" تعترف بأن سمعة أمريكا في العالم العربي ليست جيدةً، من دون أن تشير إلى الأسباب الكامنة وراء ذلك، وأهمّها دعمها المطلق لإسرائيل في حربها العدوانية على لبنان، ومجازرها في فلسطين، ودعمها للاستيطان اليهودي وتهويد القدس، ومنعها المتواصل لمجلس الأمن من إدانة إسرائيل.

وإلى جانب ذلك، تتحدث "رايس" عن أن الإدارة الأميركية القادمة ستواجه عراقيل في سعيها لإحداث اختراقاتٍ للمشاكل التي فشلت إدارة بوش في حلها، وكأنها تحاول أن ترسم خطاً بيانياً لإدارة أوباما ليسلك الطريق نفسه في التعاطي مع المسألة الفلسطينية ومع القضايا العربية والإسلامية، مع أنّ أوباما كان قد تعهّد في خطاباته ومواقفه أن يسلك خطاً آخر، وأن يبدأ بمسار مختلف، انطلاقاً من مسألة التغير المناخي، وإقفال معتقل "غوانتانامو" والمواقع العسكرية في كوبا وغيرها، وصولاً إلى مسألة الانفتاح على الحوار في مسائل الشرق الأوسط وغيره. ولكن المسألة مع المسؤولين الأميركيين هي أن تصوراتهم لقضايا المنطقة تظل خاضعةً للرؤية الإسرائيلية التي تتكوّن بفعل علاقتهم باللوبي اليهودي والدوائر المؤثرة في القرار الأميركي، وهي التي تنظر إلى المنطقة بعيون إسرائيلية.

العراق: لماذا الاستعانة بالقوات الأمريكية المحتلة ؟

أما في العراق، فإننا في الوقت الذي نرحّب بقرار البرلمان العراقي الذي وافق فيه على انسحاب القوات الأجنبية المتواجدة هناك، فإننا نتحفّظ عن حلول القوات الأميركية محلها، لأنها قوات احتلال، وهي التي كانت السبب في مأساة العراقيين المستمرة منذ سنوات، وإذا  كان البعض يتحدث عن الحاجة إليها على مستوى التدريب، فإننا نتساءل: لماذا لا تتم الاستعانة بقوات عربية لتمارس هذا الدور من خلال التنسيق والتفاهم مع الدولة العراقية بما يحفظ مصالح العراق ومستقبله ووحدة شعبه وأراضيه؟

لبنان: الحفاظ على المقاومة كعامل رادع للعدوّ

وعندما نطل على المسألة اللبنانية من البوابة الجنوبية، فإننا نستشعر الكثير من الخطر في إقدام العدو على خطف مزارعين لبنانيين من داخل الأراضي اللبنانية، من دون أن تصدر أي مواقف إدانة صريحة عن الأمم المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي أو عن الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يؤكد أن لا سبيل إلى كفّ يد العدو إلا من خلال المقاومة التي ينبغي الحفاظ عليها كعامل قوة رادع وحاسم في مسألة العدوان الإسرائيلي، وخصوصاً أن قوات اليونيفيل أثبتت بفعل هذه الحادثة وغيرها، وبفعل استمرار الاختراقات الإسرائيلية في الجو وغيره، أنها لا تمثل قوة حماية للبنان وللمدنيين اللبنانيين.

أما في الداخل اللبناني، فقد انتهت جلسة الحوار إلى قرار بالتهدئة ـ وكأن التهدئة في لبنان بحاجة إلى مؤتمر للحوار ـ وذلك بالامتناع عن إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والحزبية، كما برز في خطابات بعض الشخصيات الدينية التي كنا نأمل أن تستوحي القيم الدينية الروحية في مفردات خطاباتها العامة، لأن المطلوب منها أن تكون فوق الميول والاتجاهات والمحاور السياسية. وإلى جانب ذلك، فإن على الشعب اللبناني أن تكون مشاركته في الانتخابات القادمة مشاركةً في محاسبة الأشخاص الذين لم يحافظوا على الأمانة في احترام أصوات ناخبيهم الذين كانوا يأملون في أن يكون هؤلاء المنتخَبون حلاً للمشكلة لا تعقيداً لها، الأمر الذي يفرض على الجميع أن يتحركوا في خط التغيير من أجل ولادة لبنان الجديد الذي يهتم القائمون على شؤونه في الحكم بالفئات الفقيرة المشغولة بمشاكلها المعيشية التي تتحرك في داخلها الضرائب التي تفرض على الفقراء، أمّا الأغنياء، فإنهم بعيدون عنها، لأن العين لا ترتفع فوق الحاجب في الامتيازات السياسية والطائفية والمذهبية... وتبقى هناك فرصة للفقراء في المال السياسي الذي يجتذب المتاجرين بمواقفهم في لعبة الأكثرية والأقلية التي تجعل لكل شخص ثمناً لصوته من خلال أرصدة الخارج والداخل... وفي نهاية المطاف، يحدثونك عن الانتخابات الحرّة في بلد يملك حرية الكلمة ولا يملك حرية اختيار الموقف.

وأخيراً، إننا أمام ما قدّمته المملكة العربية السعودية من مساعدات للبنانيين، في أعقاب حرب تموز، وما جرى من تصرف فيها أوحى بأنها لم تصل إلى المستحقين كما يجب، ندعو إلى إعادة النظر في مسألة التعاطي مع هذه الأمور بما يعيد الحق إلى نصابه، ويفسح في المجال للإسراع في إعادة إعمار ما تهدّم، لأنه من غير الجائز أن تستمر معاناة اللبنانيين، وخصوصاً في مسألة المساكن للمتضررين، لحساب الفوضى التي تحكّمت بها جهات محلية ينبغي أن تكون محل مساءلة ومراقبة ومحاسبة على جميع المستويات.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير