في ذكرى الإمام السجاد(ع)هو القدوة لنا في الشجاعة والعبادة والأخلاق....

في ذكرى الإمام السجاد(ع)هو القدوة لنا في الشجاعة والعبادة والأخلاق....
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

السجَّاد(ع) إمام المرحلة الإسلامية:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).
في الخامس والعشرين من هذا الشهر، شهر محرَّم الحرام، والذي يُصادف يوم الأحد، كانت وفاة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع)؛ هذا الإمام الذي عاش حياته في أجواء المأساة، حيث رافق أباه الإمام الحسين(ع) في مدى ثلاث وعشرين سنة، لأنّ عمره كان في يوم الطفّ ثلاثاً وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك يتحمَّل مسؤولية الإمامة في واقع الحياة الإسلامية.

وإذا كان الناس قد اعتادوا أن يتحدّثوا عن هذا الإمام في أجواء المأساة، أو أن يقتصروا في حديثهم على عبادته، فإنّ حياته كانت تتجاوز ذلك، حيث إننا عندما ندرس حياة الإمام السجَّاد(ع)، نجد أنه كان أستاذ المرحلة الإسلامية في المرحلة التي عاشها، وقد تحدَّث الشيخ المفيد(ره) عنه فقال: "روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء". وقال بعض الباحثين من أهل السنَّة، وهو ابن حجر، في كتابه (الصواعق المحرقة): "زين العابدين هو الذي خلف أباه علماً وزهداً وعبادةً، وكان إذا توضَّأ للصلاة، اصفرَّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: «ألا تدرون بين يدي من أقف»". وكان عظيم التجاوز والعفو والصفح، حتى إنّه سبّه رجل، فتغافل عنه، فقال له: إياك أعني، فأجاب: «وعنك أعرض»، انطلاقاً من قول الله سبحانه:{خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}(الأعراف/199).
وفي الحديث عن عبد الله بن الحسين بن الحسن قال: "كانت أمي فاطمة بنت الحسين(ع) تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين، فما جلست إليه قطّ إلاّ قمت بخير قد أُفدته، إمّا خشيةً لله تحدث في قلبي، لما أرى من خشيته لله، أو علم قد استفدته منه".

تنوّع الأدوار في حياة السّجّاد(ع):
وعندما نستعرض حياة الإمام زين العابدين(ع)، نجد أن هناك أكثر من مرحلة مرّت بها حياته: فالمرحلة الأولى، هي مرحلة الشباب التي عاشها مع أبيه الإمام الحسين بن علي(ع)، فقد كان يرافقه ليلاً ونهاراً، وكان الإمام الحسين(ع) يتحدّث إليه كما يتحدّث الإمام إلى الإمام الذي سيخلفه؛ فكان يعطيه من عقله عقلاً، ومن علمه علماً، ومن روحانيته روحانيةً، ومن زهده زهداً، ومن عبادته عبادةً، ومن شجاعته وصلابته شجاعةً وصلابة ً، ونحن نقرأ في جانب المأساة من سيرته، أنّه عندما هدّده ابن زياد بالقتل، قال له: «أبالقتل تهدّدني يا بن زياد؟ أما علمت أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة».

كان موقفه صلباً وشجاعاً، حيث استطاع أن يسقط عنفوان يزيد في مجلسه، بالرغم من كلّ أجواء الحزن والمأساة والأسر التي كانت تحيط به. ولذلك فإنّ الإمام السجَّاد(ع) انطلق في إمامته من إمامة أبيه الحسين(ع) الذي أخذ سرّ الإمامة من أبيه علي(ع)، والّذي انطلق في أخلاقه وروحانيته من أمّه فاطمة(ع) ومن جدّه رسول الله(ص). وقد كانت هذه المرحلة مرحلة تربية الحسين لولده زين العابدين، والّتي أغنت تجربة الإمام زين العابدين(ع)، الذي كان ينقل عن أبيه الإمام الحسين(ع) بعض وصاياه، ومن بينها، أنه قال له: «يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، قال يا بني: إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله»، لأنَّ الأئمة(ع) منذ رسول الله(ص)، وامتثالاً لما جاء في القرآن الكريم، كانوا أئمَّة العدل، وكانوا يريدون أن تقوم الحياة على أساس العدل؛ فلا يُظلَم فيها أحدٌ، ولاسيما من المستضعفين الذين لا يجدون ناصراً إلاّ الله.

الإمام زين العابدين(ع) بين كربلاء والسبي:
ثم عاش الإمام(ع) في كربلاء، ولكنّه مرض مرضاً شديداً، ولذلك لم يستطع أن يجاهد مع أخوته وأهل بيته. ولكن السيرة تقول: إنّ الحسين(ع) قد جاءه وحيداً بعد أن قتل كلّ أولاده وأصحابه وأخوته، فأراد الإمام زين العابدين(ع) أن يتحرّك بالعصا والسيف، ولكن الإمام الحسين(ع) رفض ذلك، حتى لا تخلو الأرض من حجة على الناس في حركة الإمامة التي أراد الله سبحانه وتعالى لها أن تستمر في علي والصفوة الطيبة من أولاده(ع).

وهكذا عاش عمق المأساة عندما كان يشاهد ما يجري على أبيه وأخوته وأعمامه وأصحابه، وبقيت تحفر في مشاعره وأحاسيسه، وكان يتذكّرها دائماً ويذكّر الناس بها، ولعلّ الإمام زين العابدين(ع) هو الذي أسّس لإحياء ذكرى عاشوراء، لأنه كان يتحدّث عمَّا حدث في عاشوراء للكثيرين من الناس بالطريقة التي يعيش فيها الناس الإحساس بالحزن.

وعلى ضوء هذا، يمكن أن نستوحي أنّ بداية امتداد عاشوراء كانت من الإمام زين العابدين(ع)، في حديثه مع بعض أصحابه، وفي بكائه بين وقت وآخر على أبيه الإمام الحسين(ع)...

وقد عاش الإمام(ع) أيضاً مع السبي، الذي نقل كلِّ عائلة الحسين(ع) إلى الشام، وكان هذا السلوك الأموي يمثّل سلوكاً وحشياً، حيث كانت عادة السبي منتشرةً في واقع الحرب والسلم بين المسلمين وغيرهم، أمّا أن تسبى نساء المسلمين، واللاتي كان نسبهن يتصل بنسب رسول الله(ص)، وأمّا أن يسبى شخص في مستوى الإمام زين العابدين(ع)، فلم يكن للإسلام عهد بهذه العادة! ولكن مشكلة هؤلاء الأمويين، أنهم لم ينفتحوا على الإسلام إلاّ شكلاً، ومن هنا نفهم كيف أن يزيد عندما استولى بعد عاشوراء على المدينة، طلب من قائد جيشه أن يُبايعه أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد، ولم يستثن إلاّ عليَّ بن الحسين(ع) في ذلك الوقت!!.

وكان عليّ بن الحسين(ع) في مرحلة ما بعد السبي، يمثّل العبادة كأفضل ما تكون، وينقل عنه الكثيرون من الرُّواة كيف كان في سجوده وابتهالاته ودعائه، ونحن نقرأ أدعية السجَّاد(ع)، ولا سيّما أدعية الصحيفة السجادية، التي تمثّل أدعيةً روحيّةً ثقافيّةً تفتح للإنسان، وهو يدعو ربه، آفاق القيم الروحية والأخلاقية، حتى إنّه(ع) في أدعيته، كان يدعو لأهل الثغور، أي للجيش الذي كان يرسله الأمويون إلى الحرب في أيام الفتوحات، مع أنّ الأمويين فعلوا ما فعلوا به وبأهله، فكان الإمام السجاد(ع) كجدّه علي بن أبي طالب(ع)، يفكر في مصلحة الإسلام، ولم يفكّر في أن قيادة هذا الجيش هي قيادة أموية، ولكنّه كان يفكّر في أنّ جنود هذا الجيش قد خرجوا إلى الحرب نصرةً للإسلام، وانطلقوا في خطّ الجهاد على أساس حماية الإسلام من الذين يريدون الشرَّ به، وهذا يدلّ على المستوى العظيم الذي كان عليه أهل البيت(ع)، في أنهم كانوا إذا اقتضت مصلحة الإسلام أن ينفتحوا حتى على الذين ظلموهم، لا يقصّرون في ذلك، فقد كان كل همّهم قوة الإسلام وحمايته ونصرته، حيث ينقل عن الإمام زين العابدين(ع) أنه كان يقول لأصحابه: "أحبّونا حب الإسلام"، فلا تحبّونا حباً ذاتياً، بل على أساس الخط الإسلامي الأصيل الذي يتمثّل بإمامة أهل البيت(ع)، وكما يحبّ المسلم قيادته الإسلامية.

من أخلاقيات الإمام زين العابدين(ع):
ومن أخلاقيات الإمام(ع) في عفوه وصفحه وتسامحه مع من أساء إليه، ينقل إلينا كتب سيرته عدّة روايات في هذا المجال، منها:

أنّه كان في المدينة والٍ من قبل الخليفة الأموي، واسمه هشام بن إسماعيل، وكان هذا الوالي يؤذي الإمام(ع) إيذاءً شديداً، ويؤذي أهل بيته أيضاً... ودارت الدوائر على هذا الوالي، حيث عزله الوالي الأموي آنذاك، وأمر بأن يوقف للناس إمعاناً في إهاناته، لأنّه كان والياً ظالماً. فكان هذا الرجل يفكّر والناس يطوفون به، أنّه من الممكن جداً أن يأتيه أشدّ الإيذاء من الإمام زين العابدين(ع) ومن بني هاشم، لشدّة ظلمه لهم وإيذائه إيّاهم، ولكنَّ الإمام(ع) أوصى أصحابه بأن لا يتعرض أحد له بسوء، وهكذا كان، إذ مرّ عليه الإمام(ع) وبنو هاشم، فكانوا يسلّمون عليه، حتى اهتزَّت مشاعر هذا الرجل وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته.

وأيضاً مما يذكر في سيرته(ع)، أنه عندما ثار أهل المدينة على الأمويين، كان مروان بن الحكم شيخ الأمويين، وكان من الطبيعي أن يناله ما ينالهم من الإهانة والتعسّف، وكانت لمروان عائلة كبيرة ـ بحسب بعض الروايات ـ تبلغ أربعمائة شخص بين ولد وابنة وزوجة وغيرهم، وكان حائراً يبحث عن مكان يحمي عياله فيه، لأنّه كان يريد الهرب والخروج من المدينة، وعرض على أكثر من شخص في المدينة، ومنهم عبد الله بن عمر، أن يستضيف عياله، فرفض ذلك، وجاء إلى الإمام زين العابدين(ع)، وعرض عليه ذلك، فقال له الإمام: إبعث بعيالك إلى عيالي، وأنا سوف أستضيفهم. ونحن نعرف أن مروان بن الحكم هو الذي كان يقول لوالي المدينة بخصوص الحسين(ع): اقتله قبل أن يخرج من عندك، فلا يبايع بعد ذلك. ولكنّ الإمام(ع) أحسن إليهم، وعاملهم أفضل المعاملة، حتّى قالت إحدى بنات مروان: "لم نجد من الرعاية والعناية والعاطفة عند أبينا ما وجدناه عند علي بن الحسين".

وهذا ما يتمثَّل بقول الشاعر:
ملكنا فكان العفو منّا سجيّةً فلمّا ملكتم سال بالدم أبطح

وحلَّلتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكلُّ إناء بالَّذي فيه ينضح

وتنقل كتب السيرة، أنّه كان هناك شخص من بني هاشم من أقرباء الإمام زين العابدين(ع)، وكان حاقداً على الإمام، وبينما كان الإمام(ع) في يوم جالساً بين أصحابه، وقف هذا الرجل، وبدأ يتكلم بكلام سيّىء بحقّ الإمام، والإمام صامت، ثم ذهب هذا الرجل، وبعد قليل، قال الإمام لأصحابه: «قد سمعتم ما قال هذا الرّجل، وأنا أحبُّ أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا ردّي عليه. فقالوا له: نفعل، وقد كنّا نحبّ أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(آل عمران/134)، فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً. قال: فخرج حتى أتى منـزل الرجل، فصرخ به قائلاًَ: قولوا له: هذا عليّ بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثّباً للشر... فقال له الإمام: «يا أخي، إنّك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت ما قلت ما ليس فيّ، فغفر الله لك». فاهتزّ الرجل، وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به».

وينقل عنه(ع) أنه كان يقول: «ما تجرَّعت جرعة غيظ قطُّ أحبُّ إلي من جرعة غيظ أعقبها صبراً، وما أحبُّ أن لي بذلك حمر النعم». وقال الزهري، وهو أحد أصحاب الإمام(ع)، ولم يكن شيعياً: "ما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنّي لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه، إلاّ وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه، إلاّ وهو لشدة مداراته يداريه".

كما إنّ هناك كلمةً للإمام زين العابدين(ع) في النهي عن العصبية، وما أكثر العصبيات في أيامنا؛ عصبيات طائفية ومذهبية وعشائرية وسياسية، فنحن مجتمع العصبيات. ومما ينقل عنه(ع) أنّه قال: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ـ على مستوى العشيرة والحزب والطائفة ـ وليس من العصبية أن يحبَّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يُعين قومه على الظلم»، فإذا رأيت أحداً من أقربائك يتعارك مع شخص آخر، فلا تقف مع قريبك فوراً ضد الآخر، لأنّه من المكن أن يكون هو الظالم، ولا يجوز لك أن نساعد الظالم، سواء كان من حزبك أو من عائلتك أو طائفتك أو مذهبك، على المظلوم الّذي هو من مذهب آخر أو من طائفة أخرى وما إلى ذلك.

التواضع عند الإمام زين العابدين(ع):
وأيضاً، يعرف عن الإمام زين العابدين(ع)، أنّه كان إذا أراد أن يسافر في قافلة، يسافر مع أشخاص لا يعرفونه، وكان يطلب منهم أن يتولّى الخدمة. وفي مرّة، سار الإمام مع قافلة إلى الحجّ، وأُوكل إليه مهمة أن يجمع الحطب، فجاء شخص وكان يعرف الإمام(ع)، وعندما شاهده يقوم بخدمات عادية في القافلة، أتى أهل القافلة، وقال لهم: أتعرفون من هو هذا؟ قالوا: هذا من أهل المدينة، قال لهم: هذا علي بن الحسين زين العابدين، فأشاروا إلى أنّهم لم يكونوا يعرفونه، فجاؤوا إليه يقبّلون يده ورجله.

فالإمام كان معروفاً عند النَّاس، ولكنَّ بعضهم كان لا يعرف شكله. وقد سأله أصحاب القافلة: ما الذي حملك على هذا؟ فقال(ع): «إنّي كنت سافرت مرّة مع قومٍ يعرفونني، فأعطوني برسول الله ما لا أستحقّ، فأخاف أن تعطوني مثل ذلك، فصار كتمان أمري أحبّ إليّ».

وهذه هي عظمة أهل البيت(ع)، أنّهم لا يفكرون في أن يأخذوا شيئاً إلاّ بعد أن يعطوا شيئاً سابقاً عليه. وأيضاً في عبادته(ع) عندما كان يقال له: لماذا تبكي في سجودك، وجدّك علي بن أبي طالب(ع)، وأبوك الحسين، وأمك الزهراء، فكان يقول: «دع عنّي حديث أبي وأمي وجدي؛ خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً». هذا هو خط أهل البيت، خطّ الإسلام: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13).
أيها الأحبة، هؤلاء هم أئمّتنا وقادتنا وسادتنا، وهم المعلمون لنا على مدى الزمن، وإني أوصي إخواني وأخواتي جميعاً بأن يعكفوا على قراءة الصحيفة السجادية التي تعطيهم قرباً من الله، وتمنحهم ثقافةً إسلاميةً وروحيةً عاليةً. والسلام على علي بن الحسين يوم ولد، ويوم توفي، ويوم يبعث حياً.

 

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وانطلقوا في ولاية أهل البيت(ع) الذين هم أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنـزيل، ولا بد لنا من أن ننطلق لنسير على خطّهم في مواجهة الظلم والظالمين، والاستكبار والمستكبرين، لنصرة المظلومين والمستضعفين، فماذا هنـاك؟

زلزال لجنة "فينوغراد":
في كيان العدوّ زلزالٌ يضرب من جديد مع نشر لجنة "فينوغراد" تقريرها حول الحرب الإسرائيلية على لبنان، وإقرار إسرائيل بهزيمتها وخيبة أملها الكبيرة والخطيرة، وتأكيدها أنَّ الحرب انطلقت بقرار إسرائيلي مسبق، واعترافٌ كامل من العدوّ بأن مقاتلي المقاومة استطاعوا الصمود وإنزال الهزيمة بأكبر قوة في المنطقة.

وإنَّنا أمام ذلك، وأمام هذا الاعتراف الإسرائيلي التاريخي بأنَّ العدوَّ قد دخل فعلاً في عصر الهزائم والتراجعات، من خلال عمل جهادي لبناني وعربي وإسلامي، وصل إلى درجة الإبداع، ندعو الجميع في العالم العربي والإسلامي إلى الوقوف مليّاً أمام هذا المنعطف، الّذي يدلّنا على أن إخلاص النيات كفيل بتمكين الأمة من أن ترسم من خلال ما حدث في هذه الحرب، الخطوط التفصيلية لهزيمة وجودية لإسرائيل.

وإنّنا أمام هذه المناسبة، ندعو اللبنانيين جميعاً إلى اعتبار ذلك نصراً لهم جميعاً، وإن تباعدت خطوطهم السياسية وغير السياسية، لتكون هذه المسألة بمثابة المحطة الحاسمة التي تعيد الجميع إلى صوابهم، وتقودهم إلى التأكيد أنَّ خيار المقاومة ومواجهة العدو هو الخيار الأسلم والأجدى... وليكون ذلك منطلقاً لعودة اللّحمة الداخلية إلى هذا البلد الصغير الذي استطاع أن يلحق هزيمةً منكرةً بأعتى قوَّة في الشرق الأوسط.

وإذا كانت المقاومة قد أنجزت التّحرير بالجهاد والتضحيات، فإنّ الشعوب المستضعفة الأخرى، وبسبب ظروفها، لا تزال تأمل أن يكون مجلس الأمن الدولي موقعاً دولياً، يؤكد في قراراته العدل السياسي والاقتصادي والأمني في الدفاع عن المظلومين والمضطهدين في العالم، ولا سيما دول العالم الثالث التي تتضمن العالمين العربي والإسلامي، كما كانت تأمل أن يكون ذلك من خلال دراسة المشاكل الصعبة القاسية التي تُفرض عليها من قبل الدول الاستكبارية، ولا سيما مواقع العولمة الاقتصادية التي تمثل أكثر الدول غنىً، والتي تخطط في مؤتمراتها لتزيد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً. ولكن القانون الذي يحكم هذا المجلس الدولي، ركّز في نظامه عضوية الدول الكبرى بشكل دائم، من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية الاستراتيجية، وسيطرتها القوية على الشعوب الفقيرة المستضعفة، بحيث تدفع بالقرارات في المواقع التي تخدم أوضاعها على حساب أوضاع تلك الشعوب، حتى إنّها تمارس عملية الضغط على مصالح الأعضاء الآخرين الذي يكملون جهاز المجلس، ليتوافقوا معهم في التصويت على المشاريع المطروحة من قبلها، الأمر الذي جعل هذا المجلس في قاعدته السياسية مجلساً للأمن القومي الأمريكي وملحقاته، حتى الدول الأوروبية، كفرنسا وبريطانيا، اللتين تخضعان في الغالب للسياسة التي تفرضها الإدارة الأمريكية. هذا إلى جانب الدول التي لا تملك التمرد على أمريكا على أساس نقاط الضعف الكامنة في تكوينها السياسي والاقتصادي.

ولعلَّ من أكثر مظاهر هذا الاجتياح الأمريكي وحلفائه لهذا المجلس، الموقف من إسرائيل، فإنّ هناك رفضاً دائماً شاملاً لأيّ قرار يدين الدولة العبرية في احتلالها لفلسطين، وفي مجازرها الوحشية على الشعب الفلسطيني، وفي إذلالها للمدنيين على معابرها، وفي مصادرتها للأراضي الفلسطينية لإقامة المستوطنات عليها للشَّعب اليهودي، وفي إقامة الجدار العنصري الذي يحوّل القرى والبلاد والأرض الزراعية الفلسطينية إلى سجن للفلسطينيين، فضلاً عن تشريدهم من بيوتهم بطريقة المصادرة لها لحساب اليهود، كما يحدث في القدس.

قرارات غير متوازنة لمجلس الأمن:
ومن جانب آخر، فإنَّ الإدارة الأمريكية، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول، وضعت المقاومة الفلسطينية في دائرة الإرهاب، وعملت على محاربتها وإدانتها عبر مجلس الأمن في قراراته الظالمة، لتحاول أن تؤكّد أنَّ كل ما تقوم به إسرائيل من أعمال تدميرية وحشية، ومن إسقاطها لحقوق الإنسان، يمثِّل دفاعاً مشروعاً عن النفس. وهذا ما يقوم به مجلس الأمن في المرحلة الحاضرة، في دراسته للمشروع العربي في قضية الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، بإغلاق المعابر بينها وبين الضفة، بحيث تمنع وصول الأغذية والأدوية ومصادر الطاقة التي تغذّي الكهرباء ووسائل النقل ومواقع الصناعة للشعب الفلسطيني، في عملية تجويع وترويع وإظلام للمدنيين كافة. فقد تقدم العرب بمشروعهم لفتح المعابر وإعادة الحرية لنقل الحاجات الضرورية الحيوية للقطاع، ولكن المندوب الأمريكي وقف وقفةً عنيدةً ظالمةً لمنع إصدار قرار يفرض على إسرائيل الاستجابة للمطالب الإنسانية الضرورية في إعادة الحرية للشعب الفلسطيني في حاجاته الحيوية، لأنَّه يطلب من المجلس إصدار قرار حاسم ضد المجاهدين في الامتناع عن إطلاق الصواريخ ضد المستوطنات، لأن ذلك هو سبب القرار الإسرائيلي في إغلاق المعابر، ولكنه في الوقت نفسه، لا يطلب من المجلس إصدار قرار يمنع إسرائيل من قصف المدنيين بالصواريخ الأمريكية بطائراتها المتطورة، ومن اغتيال قادة الانتفاضة واجتياح القرى والمخيمات، سواء في الضفة أو في القطاع. وهذا ما منع المجلس من إصدار قرار متوازن توافق عليه بقية الأعضاء، لأن أمريكا التي تملك حقّ النقض، الفيتو، ضد أي قرار لا ينسجم مع توجهاتها، سوف تستعمل هذا الحق الذي يمثل سيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب المستضعفة في قضاياها المصيرية التي لا تلتقي مع السياسة الأمريكية. وربما تتحرك الإدارة الأمريكية لتتمرَّد على المجلس إذا لم يوافق على سياستها، كما فعلت في احتلالها للعراق... ولم نجد هناك أيّ موقف عربي ضاغط للوصول إلى قرار إيجابي لمصلحة فتح المعابر بين الضفة وغزة، لأنّ العرب لا يملكون إرادة الموقف في مواجهة القرار الأمريكي.

اجتماع القاهرة والمقاومة:
أمَّا في اجتماع وزراء الخارجيَّة العرب في القاهرة، فقد تأكَّد أنَّ واشنطن كانت هناك، وأنّ العقاب على حرب تموز وانتصار المقاومة على إسرائيل، كان الدافع لواشنطن كي تضغط في أكثر من اتجاه لمنع المشاركة الفعَّالة في السلطة التي يفرضها الدستور والميثاق اللبناني القائم على الديمقراطية التوافقية لا العددية، ومن اللافت أن بعض المواقع الدينية والسياسية المسيحية التي كانت ترفض الحديث عن الديمقراطية العددية، وعن الاستفتاء الشعبي لانتخاب رئيس الجمهورية لإخلاله بالتوازن الطائفي، بدأت تتحدث في أجواء الأزمة عن الأكثرية والأقلّية.

أمَّا في الموقع الذي تتمثّل فيه حكومة العدو وحكومة السلطة الفلسطينية، فنلاحظ أن اللقاءات بين رئيسي الحكومتين لم يُحقّق أية نتيجة إيجابية لمصلحة الشعب الفلسطيني في فتح المعابر من جهة، وفي الكفِّ عن الاغتيال في الضفة وغزّة من جهة أخرى، وفي بعض قضايا الحلِّ النهائي، لأنّ إسرائيل تتصرف مع هذه السلطة بطريقة الضحك على الذقون وإضاعة الوقت، في انتظار بعض التطورات التي تتيح لها التفلّت من التزاماتها في الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، استناداً إلى التأييد الأمريكي المطلق في بقية ولاية الرئيس بوش، وفي الولاية الجديدة للرئيس المنتخب القادم ديمقراطياً أو جمهورياً، لأنّ إسرائيل هي أساس سياسة الإدارة الأمريكية، ولأنّ العرب لا يمثِّلون أيّ ثقل في أية إدارة أمريكية، ولا سيما مع مشاريع المحافظين الجدد، وفريق إسرائيل في أمريكا.

لبنان: لغة الرصاص:
أما في لبنان، فإنّ أول الكلام فيه هو الرصاص الذي ينطلق رداً على من يتظاهر مطالباً بحقوقه المدنية والشرعية، ليكون الرصاص الأمني والعسكري جزءاً من الرصاص السياسي الذي ينطلق في التصريحات والمواقف السياسية، وقد رأينا أن البعض وضع التظاهرة المطلبية في سياق حالات الشغب التي لا بدَّ من مواجهتها.

إنّ العالم كلّه يشرّع للناس اللجوء إلى التظاهر السلمي للاحتجاج على الأوضاع السلبية التي قد تنطلق من خلال سياسة هذه الحكومة أو تلك، حتى إذا تفاقمت الأوضاع، تدخَّلت السلطة من خلال خراطيم المياه أو الأساليب التي تحرص على حياة الناس، وقد رأينا في ضواحي العاصمة الفرنسية كيف أنَّ مئات السيارات أُحرقت، ولم يسقط متظاهر واحد برصاص قوى الأمن، ولم يصدر من السياسيين الفرنسيين والسلطات هناك أية مواقف تضع القضية في نطاق الصراع السياسي، أو أن تبادر إلى تصفية المتظاهرين واغتيالهم.

ما هي مسؤوليات الدولة؟
ومن اللافت في لبنان الذي يتحدَّث فيه الكثيرون عن الدولة التي تحمي وحدها المواطن، أنّ هذه الدولة بحكوماتها لم تستطع اكتشاف أحد من المجرمين المسؤولين عن الاغتيالات والتفجيرات منذ بداياتها في اغتيال الحريري، مع امتلاكها للمزيد من القوى الأمنية، حتى إن لجان التحقيق الدولي لم تستطع الوصول إلى أية نتيجة حاسمة، بل يحاول البعض إلقاء المسؤولية على الاستخبارات.

ولكنَّ السؤال: لماذا لم تكتشف الاستخبارات المحلية الرسمية والحزبية بعض هؤلاء الذين يمارسون الجريمة من الخارج، فيعمدون إلى توجيه التّهمة في الصراع السياسي إلى هذا الفريق أو ذاك، من دون دليل قضائي، ليزيدوا النار اشتعالاً؟

إنّ مشكلة لبنان، أنّه كان ولا يزال ساحة الاستخبارات الدولية والإقليمية التي توظف بعض الجهات المحلية والشخصيات الطائفية لتحقيق مشاريعها المتنوعة التي لا تمنح لبنان سلاماً، بل تجعله في قبضة الفوضى والاهتزاز، على طريقة قبضنا على القتيل وفرّ القاتل... إننا ندعو المسؤولين في هذه الدولة، إلى أن يكونوا جادّين في الوسائل التي تحمي الإنسان في لبنان، ولا تكون القضية قضية شعار يطلق في سوق المزايدات السياسية.

كما إنّنا نتوجه إلى وسائل الإعلام في لبنان، بصرف النظر عن هويتها وانتماءاتها، أن تتوخى الحقيقة في ملاحقاتها ومتابعاتها لكل الأحداث، وأن تتقي الله في تغطيتها الخبرية وفي برامجها، وأن لا تصبَّ الزيت على النار في عملية توظيف سياسي أو مذهبي أو طائفي أو حزبي، لأن من شأن ذلك أن يحرق البلد كلّه، لا أن يحرق فريقاً بعينه، ولأننا نعتبر أن الظلم الذي يلحق بأيِّ فريق في لبنان سيصيب الجميع بطريقة وأخرى... ولذلك، نريد للإعلام أن يكون صوتاً للعدل وللحقيقة، وأن يتوخى الدقة والموضوعية، وأن يمارس عملية الرقابة الذاتية، لا أن يتحوَّل بوقاً للعابثين بأمن الناس، والمتاجرين بآلامهم وجراحاتهم.

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

السجَّاد(ع) إمام المرحلة الإسلامية:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).
في الخامس والعشرين من هذا الشهر، شهر محرَّم الحرام، والذي يُصادف يوم الأحد، كانت وفاة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع)؛ هذا الإمام الذي عاش حياته في أجواء المأساة، حيث رافق أباه الإمام الحسين(ع) في مدى ثلاث وعشرين سنة، لأنّ عمره كان في يوم الطفّ ثلاثاً وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك يتحمَّل مسؤولية الإمامة في واقع الحياة الإسلامية.

وإذا كان الناس قد اعتادوا أن يتحدّثوا عن هذا الإمام في أجواء المأساة، أو أن يقتصروا في حديثهم على عبادته، فإنّ حياته كانت تتجاوز ذلك، حيث إننا عندما ندرس حياة الإمام السجَّاد(ع)، نجد أنه كان أستاذ المرحلة الإسلامية في المرحلة التي عاشها، وقد تحدَّث الشيخ المفيد(ره) عنه فقال: "روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء". وقال بعض الباحثين من أهل السنَّة، وهو ابن حجر، في كتابه (الصواعق المحرقة): "زين العابدين هو الذي خلف أباه علماً وزهداً وعبادةً، وكان إذا توضَّأ للصلاة، اصفرَّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: «ألا تدرون بين يدي من أقف»". وكان عظيم التجاوز والعفو والصفح، حتى إنّه سبّه رجل، فتغافل عنه، فقال له: إياك أعني، فأجاب: «وعنك أعرض»، انطلاقاً من قول الله سبحانه:{خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}(الأعراف/199).
وفي الحديث عن عبد الله بن الحسين بن الحسن قال: "كانت أمي فاطمة بنت الحسين(ع) تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين، فما جلست إليه قطّ إلاّ قمت بخير قد أُفدته، إمّا خشيةً لله تحدث في قلبي، لما أرى من خشيته لله، أو علم قد استفدته منه".

تنوّع الأدوار في حياة السّجّاد(ع):
وعندما نستعرض حياة الإمام زين العابدين(ع)، نجد أن هناك أكثر من مرحلة مرّت بها حياته: فالمرحلة الأولى، هي مرحلة الشباب التي عاشها مع أبيه الإمام الحسين بن علي(ع)، فقد كان يرافقه ليلاً ونهاراً، وكان الإمام الحسين(ع) يتحدّث إليه كما يتحدّث الإمام إلى الإمام الذي سيخلفه؛ فكان يعطيه من عقله عقلاً، ومن علمه علماً، ومن روحانيته روحانيةً، ومن زهده زهداً، ومن عبادته عبادةً، ومن شجاعته وصلابته شجاعةً وصلابة ً، ونحن نقرأ في جانب المأساة من سيرته، أنّه عندما هدّده ابن زياد بالقتل، قال له: «أبالقتل تهدّدني يا بن زياد؟ أما علمت أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة».

كان موقفه صلباً وشجاعاً، حيث استطاع أن يسقط عنفوان يزيد في مجلسه، بالرغم من كلّ أجواء الحزن والمأساة والأسر التي كانت تحيط به. ولذلك فإنّ الإمام السجَّاد(ع) انطلق في إمامته من إمامة أبيه الحسين(ع) الذي أخذ سرّ الإمامة من أبيه علي(ع)، والّذي انطلق في أخلاقه وروحانيته من أمّه فاطمة(ع) ومن جدّه رسول الله(ص). وقد كانت هذه المرحلة مرحلة تربية الحسين لولده زين العابدين، والّتي أغنت تجربة الإمام زين العابدين(ع)، الذي كان ينقل عن أبيه الإمام الحسين(ع) بعض وصاياه، ومن بينها، أنه قال له: «يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، قال يا بني: إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله»، لأنَّ الأئمة(ع) منذ رسول الله(ص)، وامتثالاً لما جاء في القرآن الكريم، كانوا أئمَّة العدل، وكانوا يريدون أن تقوم الحياة على أساس العدل؛ فلا يُظلَم فيها أحدٌ، ولاسيما من المستضعفين الذين لا يجدون ناصراً إلاّ الله.

الإمام زين العابدين(ع) بين كربلاء والسبي:
ثم عاش الإمام(ع) في كربلاء، ولكنّه مرض مرضاً شديداً، ولذلك لم يستطع أن يجاهد مع أخوته وأهل بيته. ولكن السيرة تقول: إنّ الحسين(ع) قد جاءه وحيداً بعد أن قتل كلّ أولاده وأصحابه وأخوته، فأراد الإمام زين العابدين(ع) أن يتحرّك بالعصا والسيف، ولكن الإمام الحسين(ع) رفض ذلك، حتى لا تخلو الأرض من حجة على الناس في حركة الإمامة التي أراد الله سبحانه وتعالى لها أن تستمر في علي والصفوة الطيبة من أولاده(ع).

وهكذا عاش عمق المأساة عندما كان يشاهد ما يجري على أبيه وأخوته وأعمامه وأصحابه، وبقيت تحفر في مشاعره وأحاسيسه، وكان يتذكّرها دائماً ويذكّر الناس بها، ولعلّ الإمام زين العابدين(ع) هو الذي أسّس لإحياء ذكرى عاشوراء، لأنه كان يتحدّث عمَّا حدث في عاشوراء للكثيرين من الناس بالطريقة التي يعيش فيها الناس الإحساس بالحزن.

وعلى ضوء هذا، يمكن أن نستوحي أنّ بداية امتداد عاشوراء كانت من الإمام زين العابدين(ع)، في حديثه مع بعض أصحابه، وفي بكائه بين وقت وآخر على أبيه الإمام الحسين(ع)...

وقد عاش الإمام(ع) أيضاً مع السبي، الذي نقل كلِّ عائلة الحسين(ع) إلى الشام، وكان هذا السلوك الأموي يمثّل سلوكاً وحشياً، حيث كانت عادة السبي منتشرةً في واقع الحرب والسلم بين المسلمين وغيرهم، أمّا أن تسبى نساء المسلمين، واللاتي كان نسبهن يتصل بنسب رسول الله(ص)، وأمّا أن يسبى شخص في مستوى الإمام زين العابدين(ع)، فلم يكن للإسلام عهد بهذه العادة! ولكن مشكلة هؤلاء الأمويين، أنهم لم ينفتحوا على الإسلام إلاّ شكلاً، ومن هنا نفهم كيف أن يزيد عندما استولى بعد عاشوراء على المدينة، طلب من قائد جيشه أن يُبايعه أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد، ولم يستثن إلاّ عليَّ بن الحسين(ع) في ذلك الوقت!!.

وكان عليّ بن الحسين(ع) في مرحلة ما بعد السبي، يمثّل العبادة كأفضل ما تكون، وينقل عنه الكثيرون من الرُّواة كيف كان في سجوده وابتهالاته ودعائه، ونحن نقرأ أدعية السجَّاد(ع)، ولا سيّما أدعية الصحيفة السجادية، التي تمثّل أدعيةً روحيّةً ثقافيّةً تفتح للإنسان، وهو يدعو ربه، آفاق القيم الروحية والأخلاقية، حتى إنّه(ع) في أدعيته، كان يدعو لأهل الثغور، أي للجيش الذي كان يرسله الأمويون إلى الحرب في أيام الفتوحات، مع أنّ الأمويين فعلوا ما فعلوا به وبأهله، فكان الإمام السجاد(ع) كجدّه علي بن أبي طالب(ع)، يفكر في مصلحة الإسلام، ولم يفكّر في أن قيادة هذا الجيش هي قيادة أموية، ولكنّه كان يفكّر في أنّ جنود هذا الجيش قد خرجوا إلى الحرب نصرةً للإسلام، وانطلقوا في خطّ الجهاد على أساس حماية الإسلام من الذين يريدون الشرَّ به، وهذا يدلّ على المستوى العظيم الذي كان عليه أهل البيت(ع)، في أنهم كانوا إذا اقتضت مصلحة الإسلام أن ينفتحوا حتى على الذين ظلموهم، لا يقصّرون في ذلك، فقد كان كل همّهم قوة الإسلام وحمايته ونصرته، حيث ينقل عن الإمام زين العابدين(ع) أنه كان يقول لأصحابه: "أحبّونا حب الإسلام"، فلا تحبّونا حباً ذاتياً، بل على أساس الخط الإسلامي الأصيل الذي يتمثّل بإمامة أهل البيت(ع)، وكما يحبّ المسلم قيادته الإسلامية.

من أخلاقيات الإمام زين العابدين(ع):
ومن أخلاقيات الإمام(ع) في عفوه وصفحه وتسامحه مع من أساء إليه، ينقل إلينا كتب سيرته عدّة روايات في هذا المجال، منها:

أنّه كان في المدينة والٍ من قبل الخليفة الأموي، واسمه هشام بن إسماعيل، وكان هذا الوالي يؤذي الإمام(ع) إيذاءً شديداً، ويؤذي أهل بيته أيضاً... ودارت الدوائر على هذا الوالي، حيث عزله الوالي الأموي آنذاك، وأمر بأن يوقف للناس إمعاناً في إهاناته، لأنّه كان والياً ظالماً. فكان هذا الرجل يفكّر والناس يطوفون به، أنّه من الممكن جداً أن يأتيه أشدّ الإيذاء من الإمام زين العابدين(ع) ومن بني هاشم، لشدّة ظلمه لهم وإيذائه إيّاهم، ولكنَّ الإمام(ع) أوصى أصحابه بأن لا يتعرض أحد له بسوء، وهكذا كان، إذ مرّ عليه الإمام(ع) وبنو هاشم، فكانوا يسلّمون عليه، حتى اهتزَّت مشاعر هذا الرجل وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته.

وأيضاً مما يذكر في سيرته(ع)، أنه عندما ثار أهل المدينة على الأمويين، كان مروان بن الحكم شيخ الأمويين، وكان من الطبيعي أن يناله ما ينالهم من الإهانة والتعسّف، وكانت لمروان عائلة كبيرة ـ بحسب بعض الروايات ـ تبلغ أربعمائة شخص بين ولد وابنة وزوجة وغيرهم، وكان حائراً يبحث عن مكان يحمي عياله فيه، لأنّه كان يريد الهرب والخروج من المدينة، وعرض على أكثر من شخص في المدينة، ومنهم عبد الله بن عمر، أن يستضيف عياله، فرفض ذلك، وجاء إلى الإمام زين العابدين(ع)، وعرض عليه ذلك، فقال له الإمام: إبعث بعيالك إلى عيالي، وأنا سوف أستضيفهم. ونحن نعرف أن مروان بن الحكم هو الذي كان يقول لوالي المدينة بخصوص الحسين(ع): اقتله قبل أن يخرج من عندك، فلا يبايع بعد ذلك. ولكنّ الإمام(ع) أحسن إليهم، وعاملهم أفضل المعاملة، حتّى قالت إحدى بنات مروان: "لم نجد من الرعاية والعناية والعاطفة عند أبينا ما وجدناه عند علي بن الحسين".

وهذا ما يتمثَّل بقول الشاعر:
ملكنا فكان العفو منّا سجيّةً فلمّا ملكتم سال بالدم أبطح

وحلَّلتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكلُّ إناء بالَّذي فيه ينضح

وتنقل كتب السيرة، أنّه كان هناك شخص من بني هاشم من أقرباء الإمام زين العابدين(ع)، وكان حاقداً على الإمام، وبينما كان الإمام(ع) في يوم جالساً بين أصحابه، وقف هذا الرجل، وبدأ يتكلم بكلام سيّىء بحقّ الإمام، والإمام صامت، ثم ذهب هذا الرجل، وبعد قليل، قال الإمام لأصحابه: «قد سمعتم ما قال هذا الرّجل، وأنا أحبُّ أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا ردّي عليه. فقالوا له: نفعل، وقد كنّا نحبّ أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}(آل عمران/134)، فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً. قال: فخرج حتى أتى منـزل الرجل، فصرخ به قائلاًَ: قولوا له: هذا عليّ بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثّباً للشر... فقال له الإمام: «يا أخي، إنّك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت ما قلت ما ليس فيّ، فغفر الله لك». فاهتزّ الرجل، وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به».

وينقل عنه(ع) أنه كان يقول: «ما تجرَّعت جرعة غيظ قطُّ أحبُّ إلي من جرعة غيظ أعقبها صبراً، وما أحبُّ أن لي بذلك حمر النعم». وقال الزهري، وهو أحد أصحاب الإمام(ع)، ولم يكن شيعياً: "ما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنّي لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه، إلاّ وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه، إلاّ وهو لشدة مداراته يداريه".

كما إنّ هناك كلمةً للإمام زين العابدين(ع) في النهي عن العصبية، وما أكثر العصبيات في أيامنا؛ عصبيات طائفية ومذهبية وعشائرية وسياسية، فنحن مجتمع العصبيات. ومما ينقل عنه(ع) أنّه قال: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ـ على مستوى العشيرة والحزب والطائفة ـ وليس من العصبية أن يحبَّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يُعين قومه على الظلم»، فإذا رأيت أحداً من أقربائك يتعارك مع شخص آخر، فلا تقف مع قريبك فوراً ضد الآخر، لأنّه من المكن أن يكون هو الظالم، ولا يجوز لك أن نساعد الظالم، سواء كان من حزبك أو من عائلتك أو طائفتك أو مذهبك، على المظلوم الّذي هو من مذهب آخر أو من طائفة أخرى وما إلى ذلك.

التواضع عند الإمام زين العابدين(ع):
وأيضاً، يعرف عن الإمام زين العابدين(ع)، أنّه كان إذا أراد أن يسافر في قافلة، يسافر مع أشخاص لا يعرفونه، وكان يطلب منهم أن يتولّى الخدمة. وفي مرّة، سار الإمام مع قافلة إلى الحجّ، وأُوكل إليه مهمة أن يجمع الحطب، فجاء شخص وكان يعرف الإمام(ع)، وعندما شاهده يقوم بخدمات عادية في القافلة، أتى أهل القافلة، وقال لهم: أتعرفون من هو هذا؟ قالوا: هذا من أهل المدينة، قال لهم: هذا علي بن الحسين زين العابدين، فأشاروا إلى أنّهم لم يكونوا يعرفونه، فجاؤوا إليه يقبّلون يده ورجله.

فالإمام كان معروفاً عند النَّاس، ولكنَّ بعضهم كان لا يعرف شكله. وقد سأله أصحاب القافلة: ما الذي حملك على هذا؟ فقال(ع): «إنّي كنت سافرت مرّة مع قومٍ يعرفونني، فأعطوني برسول الله ما لا أستحقّ، فأخاف أن تعطوني مثل ذلك، فصار كتمان أمري أحبّ إليّ».

وهذه هي عظمة أهل البيت(ع)، أنّهم لا يفكرون في أن يأخذوا شيئاً إلاّ بعد أن يعطوا شيئاً سابقاً عليه. وأيضاً في عبادته(ع) عندما كان يقال له: لماذا تبكي في سجودك، وجدّك علي بن أبي طالب(ع)، وأبوك الحسين، وأمك الزهراء، فكان يقول: «دع عنّي حديث أبي وأمي وجدي؛ خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً». هذا هو خط أهل البيت، خطّ الإسلام: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13).
أيها الأحبة، هؤلاء هم أئمّتنا وقادتنا وسادتنا، وهم المعلمون لنا على مدى الزمن، وإني أوصي إخواني وأخواتي جميعاً بأن يعكفوا على قراءة الصحيفة السجادية التي تعطيهم قرباً من الله، وتمنحهم ثقافةً إسلاميةً وروحيةً عاليةً. والسلام على علي بن الحسين يوم ولد، ويوم توفي، ويوم يبعث حياً.

 

الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وانطلقوا في ولاية أهل البيت(ع) الذين هم أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنـزيل، ولا بد لنا من أن ننطلق لنسير على خطّهم في مواجهة الظلم والظالمين، والاستكبار والمستكبرين، لنصرة المظلومين والمستضعفين، فماذا هنـاك؟

زلزال لجنة "فينوغراد":
في كيان العدوّ زلزالٌ يضرب من جديد مع نشر لجنة "فينوغراد" تقريرها حول الحرب الإسرائيلية على لبنان، وإقرار إسرائيل بهزيمتها وخيبة أملها الكبيرة والخطيرة، وتأكيدها أنَّ الحرب انطلقت بقرار إسرائيلي مسبق، واعترافٌ كامل من العدوّ بأن مقاتلي المقاومة استطاعوا الصمود وإنزال الهزيمة بأكبر قوة في المنطقة.

وإنَّنا أمام ذلك، وأمام هذا الاعتراف الإسرائيلي التاريخي بأنَّ العدوَّ قد دخل فعلاً في عصر الهزائم والتراجعات، من خلال عمل جهادي لبناني وعربي وإسلامي، وصل إلى درجة الإبداع، ندعو الجميع في العالم العربي والإسلامي إلى الوقوف مليّاً أمام هذا المنعطف، الّذي يدلّنا على أن إخلاص النيات كفيل بتمكين الأمة من أن ترسم من خلال ما حدث في هذه الحرب، الخطوط التفصيلية لهزيمة وجودية لإسرائيل.

وإنّنا أمام هذه المناسبة، ندعو اللبنانيين جميعاً إلى اعتبار ذلك نصراً لهم جميعاً، وإن تباعدت خطوطهم السياسية وغير السياسية، لتكون هذه المسألة بمثابة المحطة الحاسمة التي تعيد الجميع إلى صوابهم، وتقودهم إلى التأكيد أنَّ خيار المقاومة ومواجهة العدو هو الخيار الأسلم والأجدى... وليكون ذلك منطلقاً لعودة اللّحمة الداخلية إلى هذا البلد الصغير الذي استطاع أن يلحق هزيمةً منكرةً بأعتى قوَّة في الشرق الأوسط.

وإذا كانت المقاومة قد أنجزت التّحرير بالجهاد والتضحيات، فإنّ الشعوب المستضعفة الأخرى، وبسبب ظروفها، لا تزال تأمل أن يكون مجلس الأمن الدولي موقعاً دولياً، يؤكد في قراراته العدل السياسي والاقتصادي والأمني في الدفاع عن المظلومين والمضطهدين في العالم، ولا سيما دول العالم الثالث التي تتضمن العالمين العربي والإسلامي، كما كانت تأمل أن يكون ذلك من خلال دراسة المشاكل الصعبة القاسية التي تُفرض عليها من قبل الدول الاستكبارية، ولا سيما مواقع العولمة الاقتصادية التي تمثل أكثر الدول غنىً، والتي تخطط في مؤتمراتها لتزيد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً. ولكن القانون الذي يحكم هذا المجلس الدولي، ركّز في نظامه عضوية الدول الكبرى بشكل دائم، من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية الاستراتيجية، وسيطرتها القوية على الشعوب الفقيرة المستضعفة، بحيث تدفع بالقرارات في المواقع التي تخدم أوضاعها على حساب أوضاع تلك الشعوب، حتى إنّها تمارس عملية الضغط على مصالح الأعضاء الآخرين الذي يكملون جهاز المجلس، ليتوافقوا معهم في التصويت على المشاريع المطروحة من قبلها، الأمر الذي جعل هذا المجلس في قاعدته السياسية مجلساً للأمن القومي الأمريكي وملحقاته، حتى الدول الأوروبية، كفرنسا وبريطانيا، اللتين تخضعان في الغالب للسياسة التي تفرضها الإدارة الأمريكية. هذا إلى جانب الدول التي لا تملك التمرد على أمريكا على أساس نقاط الضعف الكامنة في تكوينها السياسي والاقتصادي.

ولعلَّ من أكثر مظاهر هذا الاجتياح الأمريكي وحلفائه لهذا المجلس، الموقف من إسرائيل، فإنّ هناك رفضاً دائماً شاملاً لأيّ قرار يدين الدولة العبرية في احتلالها لفلسطين، وفي مجازرها الوحشية على الشعب الفلسطيني، وفي إذلالها للمدنيين على معابرها، وفي مصادرتها للأراضي الفلسطينية لإقامة المستوطنات عليها للشَّعب اليهودي، وفي إقامة الجدار العنصري الذي يحوّل القرى والبلاد والأرض الزراعية الفلسطينية إلى سجن للفلسطينيين، فضلاً عن تشريدهم من بيوتهم بطريقة المصادرة لها لحساب اليهود، كما يحدث في القدس.

قرارات غير متوازنة لمجلس الأمن:
ومن جانب آخر، فإنَّ الإدارة الأمريكية، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول، وضعت المقاومة الفلسطينية في دائرة الإرهاب، وعملت على محاربتها وإدانتها عبر مجلس الأمن في قراراته الظالمة، لتحاول أن تؤكّد أنَّ كل ما تقوم به إسرائيل من أعمال تدميرية وحشية، ومن إسقاطها لحقوق الإنسان، يمثِّل دفاعاً مشروعاً عن النفس. وهذا ما يقوم به مجلس الأمن في المرحلة الحاضرة، في دراسته للمشروع العربي في قضية الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، بإغلاق المعابر بينها وبين الضفة، بحيث تمنع وصول الأغذية والأدوية ومصادر الطاقة التي تغذّي الكهرباء ووسائل النقل ومواقع الصناعة للشعب الفلسطيني، في عملية تجويع وترويع وإظلام للمدنيين كافة. فقد تقدم العرب بمشروعهم لفتح المعابر وإعادة الحرية لنقل الحاجات الضرورية الحيوية للقطاع، ولكن المندوب الأمريكي وقف وقفةً عنيدةً ظالمةً لمنع إصدار قرار يفرض على إسرائيل الاستجابة للمطالب الإنسانية الضرورية في إعادة الحرية للشعب الفلسطيني في حاجاته الحيوية، لأنَّه يطلب من المجلس إصدار قرار حاسم ضد المجاهدين في الامتناع عن إطلاق الصواريخ ضد المستوطنات، لأن ذلك هو سبب القرار الإسرائيلي في إغلاق المعابر، ولكنه في الوقت نفسه، لا يطلب من المجلس إصدار قرار يمنع إسرائيل من قصف المدنيين بالصواريخ الأمريكية بطائراتها المتطورة، ومن اغتيال قادة الانتفاضة واجتياح القرى والمخيمات، سواء في الضفة أو في القطاع. وهذا ما منع المجلس من إصدار قرار متوازن توافق عليه بقية الأعضاء، لأن أمريكا التي تملك حقّ النقض، الفيتو، ضد أي قرار لا ينسجم مع توجهاتها، سوف تستعمل هذا الحق الذي يمثل سيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب المستضعفة في قضاياها المصيرية التي لا تلتقي مع السياسة الأمريكية. وربما تتحرك الإدارة الأمريكية لتتمرَّد على المجلس إذا لم يوافق على سياستها، كما فعلت في احتلالها للعراق... ولم نجد هناك أيّ موقف عربي ضاغط للوصول إلى قرار إيجابي لمصلحة فتح المعابر بين الضفة وغزة، لأنّ العرب لا يملكون إرادة الموقف في مواجهة القرار الأمريكي.

اجتماع القاهرة والمقاومة:
أمَّا في اجتماع وزراء الخارجيَّة العرب في القاهرة، فقد تأكَّد أنَّ واشنطن كانت هناك، وأنّ العقاب على حرب تموز وانتصار المقاومة على إسرائيل، كان الدافع لواشنطن كي تضغط في أكثر من اتجاه لمنع المشاركة الفعَّالة في السلطة التي يفرضها الدستور والميثاق اللبناني القائم على الديمقراطية التوافقية لا العددية، ومن اللافت أن بعض المواقع الدينية والسياسية المسيحية التي كانت ترفض الحديث عن الديمقراطية العددية، وعن الاستفتاء الشعبي لانتخاب رئيس الجمهورية لإخلاله بالتوازن الطائفي، بدأت تتحدث في أجواء الأزمة عن الأكثرية والأقلّية.

أمَّا في الموقع الذي تتمثّل فيه حكومة العدو وحكومة السلطة الفلسطينية، فنلاحظ أن اللقاءات بين رئيسي الحكومتين لم يُحقّق أية نتيجة إيجابية لمصلحة الشعب الفلسطيني في فتح المعابر من جهة، وفي الكفِّ عن الاغتيال في الضفة وغزّة من جهة أخرى، وفي بعض قضايا الحلِّ النهائي، لأنّ إسرائيل تتصرف مع هذه السلطة بطريقة الضحك على الذقون وإضاعة الوقت، في انتظار بعض التطورات التي تتيح لها التفلّت من التزاماتها في الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، استناداً إلى التأييد الأمريكي المطلق في بقية ولاية الرئيس بوش، وفي الولاية الجديدة للرئيس المنتخب القادم ديمقراطياً أو جمهورياً، لأنّ إسرائيل هي أساس سياسة الإدارة الأمريكية، ولأنّ العرب لا يمثِّلون أيّ ثقل في أية إدارة أمريكية، ولا سيما مع مشاريع المحافظين الجدد، وفريق إسرائيل في أمريكا.

لبنان: لغة الرصاص:
أما في لبنان، فإنّ أول الكلام فيه هو الرصاص الذي ينطلق رداً على من يتظاهر مطالباً بحقوقه المدنية والشرعية، ليكون الرصاص الأمني والعسكري جزءاً من الرصاص السياسي الذي ينطلق في التصريحات والمواقف السياسية، وقد رأينا أن البعض وضع التظاهرة المطلبية في سياق حالات الشغب التي لا بدَّ من مواجهتها.

إنّ العالم كلّه يشرّع للناس اللجوء إلى التظاهر السلمي للاحتجاج على الأوضاع السلبية التي قد تنطلق من خلال سياسة هذه الحكومة أو تلك، حتى إذا تفاقمت الأوضاع، تدخَّلت السلطة من خلال خراطيم المياه أو الأساليب التي تحرص على حياة الناس، وقد رأينا في ضواحي العاصمة الفرنسية كيف أنَّ مئات السيارات أُحرقت، ولم يسقط متظاهر واحد برصاص قوى الأمن، ولم يصدر من السياسيين الفرنسيين والسلطات هناك أية مواقف تضع القضية في نطاق الصراع السياسي، أو أن تبادر إلى تصفية المتظاهرين واغتيالهم.

ما هي مسؤوليات الدولة؟
ومن اللافت في لبنان الذي يتحدَّث فيه الكثيرون عن الدولة التي تحمي وحدها المواطن، أنّ هذه الدولة بحكوماتها لم تستطع اكتشاف أحد من المجرمين المسؤولين عن الاغتيالات والتفجيرات منذ بداياتها في اغتيال الحريري، مع امتلاكها للمزيد من القوى الأمنية، حتى إن لجان التحقيق الدولي لم تستطع الوصول إلى أية نتيجة حاسمة، بل يحاول البعض إلقاء المسؤولية على الاستخبارات.

ولكنَّ السؤال: لماذا لم تكتشف الاستخبارات المحلية الرسمية والحزبية بعض هؤلاء الذين يمارسون الجريمة من الخارج، فيعمدون إلى توجيه التّهمة في الصراع السياسي إلى هذا الفريق أو ذاك، من دون دليل قضائي، ليزيدوا النار اشتعالاً؟

إنّ مشكلة لبنان، أنّه كان ولا يزال ساحة الاستخبارات الدولية والإقليمية التي توظف بعض الجهات المحلية والشخصيات الطائفية لتحقيق مشاريعها المتنوعة التي لا تمنح لبنان سلاماً، بل تجعله في قبضة الفوضى والاهتزاز، على طريقة قبضنا على القتيل وفرّ القاتل... إننا ندعو المسؤولين في هذه الدولة، إلى أن يكونوا جادّين في الوسائل التي تحمي الإنسان في لبنان، ولا تكون القضية قضية شعار يطلق في سوق المزايدات السياسية.

كما إنّنا نتوجه إلى وسائل الإعلام في لبنان، بصرف النظر عن هويتها وانتماءاتها، أن تتوخى الحقيقة في ملاحقاتها ومتابعاتها لكل الأحداث، وأن تتقي الله في تغطيتها الخبرية وفي برامجها، وأن لا تصبَّ الزيت على النار في عملية توظيف سياسي أو مذهبي أو طائفي أو حزبي، لأن من شأن ذلك أن يحرق البلد كلّه، لا أن يحرق فريقاً بعينه، ولأننا نعتبر أن الظلم الذي يلحق بأيِّ فريق في لبنان سيصيب الجميع بطريقة وأخرى... ولذلك، نريد للإعلام أن يكون صوتاً للعدل وللحقيقة، وأن يتوخى الدقة والموضوعية، وأن يمارس عملية الرقابة الذاتية، لا أن يتحوَّل بوقاً للعابثين بأمن الناس، والمتاجرين بآلامهم وجراحاتهم.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير