"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً"

"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً"

لأنه وسيلة المرور في الحياة مروراً سهلاً :
"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

من بين الصفات المميزة التي وصف بها الله تعالى رسوله العظيم محمداً (ص)، هي أنه كان على خُلق عظيم، {وإنك لعلى خُلق عظيم}، {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

ـ انفتاح ومحبة:

أراد الله تعالى أن يؤكد للناس أن أيّ إنسان صاحب دعوة أو قضية يعيش في المجتمع ويريد أن يربح عقله وقلبه ومشاعره وأحاسيسه، لا بدّ أن يتميّز بالخلق العظيم، لينفتح قلبه عليهم بكل خير ومحبة، فإذا عاش مع أهله كان بالمزاج الذي يجعل أهله سعداء به، وإذا عاش مع الناس كانوا فرحين به.. وهكذا إذا دخل في أيّ ساحة من ساحات المجتمع كان المجتمع في راحة منه، أن يمر في الحياة مروراً سهلاً، ليكون الإنسان الذي ينفتح بالمحبة والخير على كل الناس.

وهذا الأمر ليس مجرد شيء يتصل بالجانب الذاتي الذي يتفاضل فيه الناس، بل يتصل بالجوانب الإيمانية، كما جاء في أحاديث النبي(ص) وأهل بيته(ع)، وأن الإنسان كلما كان حسن الخلق كان حسن الإيمان، وكلما كان سيّىء الخلق كان ضعيف الإيمان. لذلك، لا بدّ للإنسان أن يدرس أخلاقه عندما يعيش مع الإنسان الآخر، لأنه ليس حراً في أن يفرض مزاجه على الآخرين، كما أنه ليس من المفروض أن يتحمّل الناس سوء خلقه معهم وإن كانوا من أقرب المقرّبين إليه، حتى لو كانت زوجته أو ولده أو أبوه أو أمه أو أخوانه أو أخواته.. يمكن للإنسان أن يمارس سوء خلقه في الغرفة التي يغلقها على نفسه، أما عندما يعيش في المجتمع، فإنه يتوجب عليه أن يحترم مشاعر الناس وأحاسيسهم، أن يعتبر أن للناس مزاجاً لا بدّ أن يرعاه، وأن للناس شخصية لا بدّ أن يحترمها، فتعالوا لنستمع إلى مسألة حسن الخلق في تراثنا الإسلامي:

ـ كمال الإيمان:

عن الإمام محمد الباقر (ع) أنه قال: "إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"، يعني إذا أردت أن تكون في الدرجة العليا من الإيمان، فلتكن لك هذه الدرجة من حسن الخلق مع الناس. وفي الحديث عن عليّ بن الحسين (ع) أنه قال: "قال رسول الله (ص): ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"، صحيح أنه يوضع في ميزانه الصلاة والصوم والحجّ والعمرة وما إلى ذلك، ولكنّ حسن الخلق هو الذي يثقّل ميزانه يوم القيامة، لأن الصلاة والصوم والحج يخصك أنت، أمّا حسن الخلق فإنه يمثل دورك في علاقتك مع كل الناس؛ في البيت والمحلة ومكان العمل وفي ساحة الواقع، فالله تعالى يريد للإنسان أن يكون الإنسان الذي يتحرك في المجتمع ليحفظ له توازنه وليحترم الناس الذين يعيشون فيه.

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال: "أربع من كنّ فيه كمل إيمانه، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك: الصدق - أن تكون الإنسان الصادق في كل مواقع حياتك، فالصدق يخرجك من الذنوب لأنه يُخرجك من الكذب والغش وما إلى ذلك - وأداء الأمانة - الذي يخرج الإنسان من كثير من الذنوب، ولذلك عليك أن تكون ممن يؤدي الأمانة التي يؤتمن عليها - والحياء - أن تكون الإنسان الحيي، لأن الحياء يمنع الإنسان من كثير من الذنوب التي تُستقبح ويُستحى منها - وحسن الخُلُقِ"، الذي يمنعك من كثير من المعاصي المتعلقة بإيذاء الناس، لأنّ حسن الخلق لا يؤذي ولا يعصي والديه ولا يقطع رحمه ولا يضر بالمسلمين، وهكذا..

ـ إعمار الديار وزيادة الأعمار:

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "ما يقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله من أن يسع الناس بخلقه"، أن يتسع خلقك للناس كافة بحيث تعيش معهم فلا يصدر منك أيّ أذى تجاههم، لا في الكلمة ولا في العمل. وعن الصادق (ع) قال: "قال رسول الله (ص): إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم"، وهذه بحاجة إلى سعة صدر وتصفية مزاج وتحسين الكلمة وانفتاح على الناس، بحيث تتحمّل الأذى فلا تؤذي أحداً. وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال: "قال رسول الله (ص): أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق"، فإذا اتّقيت الله ففعلت ما أوجبه عليك وتركت ما حرّمه عليك، وحسّنت خلقك مع الناس، فإن ذلك يجعلك تمسك مفتاح الجنة بيدك. وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إن الخلق الحسن يميت الخطيئة كما تميت الشمس الجليد".

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال: "البرّ وحسن الخلق يعمّران الديار ويزيدان في الأعمار"، والجائزة تستحقّ التعب، وهذا ليس حديثي بل حديث الإمام الصادق (ع) الذي هو حديث عن رسول الله (ص)، هذه السلسلة الذهبية لكل ما يقوله أهل البيت (ع). وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إن الله تعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه ويروح"، وعنه (ع): "إذا خالطت الناس، فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك العليا عليه فافعل - يعني أن لا تنتظر من الناس أن يخدموك، بل اجعل الناس تنتظر منك أن تخدمهم وتقضي حوائجهم - فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة، ويكون له حسن خلق، فيبلغه الله بحسن خلقه درجة الصائم القائم".. فالقضية تستحق أن يعمل الإنسان من أجل أن يربي نفسه على ذلك..

ـ تآلف القلوب:

وعنه (ع) أنه قال: "قال رسول الله (ص): أفاضلكم أحسن أخلاقاً الموطَؤون أكنافاً - الذين جوانبهم وطيئة يتمكن فيها من يصاحبهم ولا يتأذى، بحيث تطأ الناس منازلهم - الذين يألفون ويؤلَفون"، لا الإنسان الذي لا يطيق أحداً ولا يُطاق.. وعنه (ع) أنه قال: "قال أمير المؤمنين (ع): المؤمن مألوف ولا خير في من لا يألف ويؤلف". وفي الحديث عن بعض أصحاب الإمام الصادق (ع) أنه قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (ع) يقول: "قال رسول الله (ص): يا بني عبد المطلب، إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر"، لا بدّ أن تسبق بسمة الإنسان كلامه، وهو ما مدح به الفرزدق الإمام زين العابدين (ع):

يُغضي حياءً ويُغضى من مهابته ولا يُكلَّم إلا حيث يبتسم

ـ نزع الأحقاد

بعض الناس يعتقد أنه لا بدّ أن يعطي الناس الهيبة فيبقى عابساً مقطباً، والهيبة التي توجب انغلاق الناس عليك ليست هيبة، بل هي خوف وانزعاج، فالهيبة هي التي تُدخلك إلى قلوب الناس، وتجعل من الإنسان كما يريده تعالى إنساناً يعيش عمق إنسانيته، ليعطي الفرح والبشرى للعالم، وليدخل السرور على الناس، فلو أننا عشنا هذه الروحية لاستطعنا أن نتخلص من الكثير من العقد النفسية، وأن نحل الكثير من المشاكل الاجتماعية.

أيها الإنسان: أعطِ الحب للناس يعطك الناس كل قيادهم، أعطِ الفرح للناس يقبل الناس عليك، وتلك هي كلمة عليّ (ع): "احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك"، إذا جعلت صدرك صدر الخير والمحبة والفرح الروحي، فإنك تستطيع أن تنـزع كل أحقاد العالم، لأن الحب يعدي كما أن الحقد يعدي، هذا هو خط الإسلام، وعلينا أن نعرف كيف نقدّم الإسلام للعالم، بأن نقدّم المسلمين الذين يستطيعون أن يربحوا العالم بأخلاقهم أكثر مما يربحونه بأموالهم، وهذا ما انطلق به رسول الله (ص) الذي ربح الناس من خلال خلقه فدخلوا في دين الله أفواجا.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله ولينفتح كل واحد منكم على الآخر بالكلمة الحلوة والإطلالة الحلوة والأسلوب الأحسن، حتى نتمكن من صنع مجتمع قوي من خلال ما نتوافق عليه من محبة بعضنا بعضاً، ومن حوار بعضنا مع بعض، لأن قوة المجتمع إنما تكون بالمحبة، وإذا كان المجتمع مسلماً، فإن عليه أن يعمل لتكون علاقاته مرتبطة من خلال حب الله ورسوله، فإن من أحب في الله وعاش مع الناس من خلال الله، فإن الله تعالى يرفع درجته في الدنيا والآخرة.

إنّ الآخرين إنما استطاعوا أن يسيطروا علينا، وأن يثيروا المشاكل فيما بيننا لأنهم عرفوا كيف يزرعون الحقد في داخلنا، وكيف يربوننا على سوء الخلق، فلا يطيق أحدنا الآخر، ولا يعذر أحدنا الآخر، ولا يرحم أحدنا الآخر. لذلك، فإننا عندما نعمل بهذه المواعظ التي أرادنا الله تعالى أن نعيش من خلالها الأخوّة الإيمانية، وأن نتحرك بعيداً عن العقد الذاتية من خلال مبادئنا وأخلاقنا وتقوى ربنا.. فإننا نحصل على القوة كل القوة، وعلينا أن نلتفت إلى كل ما يتحرك به المستكبرون في العالم والمنطقة، حتى نعرف مواطن أقدامنا، وكيف نساعد وندعم بعضنا بعضاً، فماذا هناك؟

أمريكا وإسرائيل: توزع الأدوار

لا تزال أمريكا وإسرائيل تتوزعان الأدوار في عملية التسوية، بين تجميد هنا وتحريك هناك ومراوحة هنالك، كما في الواقع الفلسطيني الذي نخشى أن تقوم فيه سلطة الحكم الذاتي في ورقة العمل الجديدة بتقديم التنازلات حول القدس والمستوطنات وعودة اللاجئين، بفعل الضغوط الأمريكية والرغبة في تسريع المفاوضات للحل النهائي..

إنّنا نشعر بأنّ عملية تهويد القدس قد بدأت، لتنتهي بتوقيع فلسطيني يطالب بوضع إداري قد لا يتحقق، لتبقى السيادة للعدوّ عليها.. إن على الجميع أن يعرفوا أن القدس ليست مسؤولية فلسطينية، بل هي مسؤولية عربية إسلامية، فلا بدّ في هذه المرحلة من أن يرتفع الصوت العربي الإسلامي عالياً، مستخدماً كل ما يملك من وسائل سياسية وإعلامية، وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي، من أجل الضغط لتحرير القدس كمقدمة لتحرير فلسطين كلها..

العرب ومخاطر المستقبل

وفي النطاق السوري - اللبناني، لا بدّ من الصمود أمام اللعبة الأمريكية - الإسرائيلية، ولا بدّ للعرب من مواجهة المرحلة بموقف قويّ في مستوى القضية الكبرى، وإذا لم تسمح لهم الظروف الداخلية المعقّدة بعقد قمة، فإن عليهم أن يؤكدوا التنسيق ضمن خطة عملية للمواجهة السياسية، وأن يدعموا الموقف المقاوم في ساحة المعركة مالياً وسياسياً وإعلامياً، حتى يبقى الموقف قوياً في الساحتين السياسية والجهادية معاً.. وعلى العرب أن يـعـرفوا أن الـعـدوّ لم يلقِ سلاحـه، بل إنه يـعـمـل - بكل الوسائل - لزيادة فعالية ترسانة أسلحته المدمّرة، ليبقى الأقوى في مواجهة كل دول المنطقة، وهذا ما تريده أمريكا له باسم مسؤوليتها عن حماية الأمن الإسرائيلي..

إسرائيل: الموقع الوحشي

إن إسرائيل تسعى لإبقاء ذكرى محرقة "هتلر" لليهود في وجدان العالم بالكثير من الأكاذيب التاريخية، وهذا ما نلاحظه في هذه الأيام من الضغوطات التي يمارسها اليهود على النمسا لمنع وصول أحد الأحزاب إلى الحكومة الجديدة، بحجة أن له تاريخاً مناهضاً لليهود، وعلينا - في المقابل - أن نذكّر العالم بكل تاريخ المجازر والمحارق الإسرائيلية للشعب الفلسطيني واللبناني والشعوب العربية، وكل الواقع الجديد المتمثل في العدوان المستمر على لبنان باحتلال أرضه وتدمير بنيته التحتية، وقصف مدارسه وترويع أطفاله وهم على مقاعد الدراسة، ليعرف العالم - من خلال خطة إعلامية واسعة - أن إسرائيل لا تمثل الموقع الحضاري، بل الموقع الوحشي العدواني في المنطقة، من خلال الدعم السياسي والعسكري الأمريكي المطلق لها..

المقاومة: اهتزاز كيان العدوّ

وفي هذا الإطار، نتطلع إلى العمليات الناجحة للمقاومة التي هزّت كيان العدوّ، حتى بدأ يطالب سوريا بالضغط لوقف المقاومة كشرط لاستئناف المفاوضات، ولكنه يعلم أن هذا الطلب يمثل سذاجة سياسية، لأن المقاومة باقية حتى التحرير ولن يضغط عليها أحد، ونريد للجميع أن يقفوا معها ويدعموها بكل وسائل الدعم المادي والمعنوي، لأنها تمثل القوة الوحيدة الضاغطة على العدوّ في العمق وفي حركة العنفوان..

إن إسرائيل تمثل الخطر الحالي والمستقبلي على منطقة الشرق الأوسط كلها، ولذلك لا بدّ من إيجاد تحالف إسلامي ـ عربي يخطط لمواجهة شاملة لهذا الخطر، لأن المسألة ليست مسألة تفاصيل سياسية تحلّ بالمفاوضات، بل هي مسألة وضع كياني يشمل المستقبل كله..

لبنان: دقة المرحلة

أما على المستوى اللبناني الداخلي، فإننا نناشد المسؤولين أن لا يُدخلوا المجلس الاقتصادي الاجتماعي - الذي طال انتظاره - في اللعبة الطائفية، وفي الكهوف السياسية، لأن ذلك سوف يفرغه من مضمونه الريادي في حلّ المشكلة الاقتصادية - الاجتماعية على أساس التخطيط الدقيق. كما أن على المسؤولين والواقع الشعبي أن يعملوا على تضميد الجروح، واحتواء المخاوف، وتصحيح المسار، لأن المرحلة بحاجة إلى المزيد من الهدوء النفسي والاجتماعي والسياسي، لا إلى المزيد من عناصر الإثارة..

وأخيراً، لا بدّ للجميع أن يتعاونوا ويتكاملوا من أجل الحالة الأخلاقية لأطفالنا وشبابنا، فلا يجوز أن تتحرك وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لتقدّم للجيل الجديد ثقافة الجريمة والانحراف الجنسي والمخدرات في القصص والأفلام والصور، لأن ذلك سوف يسيء إلى البنية الإنسانية، ويهدم القيم الروحية والأخلاقية التي هي الأساس للتوازن الإنساني في الواقع كله.

لأنه وسيلة المرور في الحياة مروراً سهلاً :
"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

من بين الصفات المميزة التي وصف بها الله تعالى رسوله العظيم محمداً (ص)، هي أنه كان على خُلق عظيم، {وإنك لعلى خُلق عظيم}، {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.

ـ انفتاح ومحبة:

أراد الله تعالى أن يؤكد للناس أن أيّ إنسان صاحب دعوة أو قضية يعيش في المجتمع ويريد أن يربح عقله وقلبه ومشاعره وأحاسيسه، لا بدّ أن يتميّز بالخلق العظيم، لينفتح قلبه عليهم بكل خير ومحبة، فإذا عاش مع أهله كان بالمزاج الذي يجعل أهله سعداء به، وإذا عاش مع الناس كانوا فرحين به.. وهكذا إذا دخل في أيّ ساحة من ساحات المجتمع كان المجتمع في راحة منه، أن يمر في الحياة مروراً سهلاً، ليكون الإنسان الذي ينفتح بالمحبة والخير على كل الناس.

وهذا الأمر ليس مجرد شيء يتصل بالجانب الذاتي الذي يتفاضل فيه الناس، بل يتصل بالجوانب الإيمانية، كما جاء في أحاديث النبي(ص) وأهل بيته(ع)، وأن الإنسان كلما كان حسن الخلق كان حسن الإيمان، وكلما كان سيّىء الخلق كان ضعيف الإيمان. لذلك، لا بدّ للإنسان أن يدرس أخلاقه عندما يعيش مع الإنسان الآخر، لأنه ليس حراً في أن يفرض مزاجه على الآخرين، كما أنه ليس من المفروض أن يتحمّل الناس سوء خلقه معهم وإن كانوا من أقرب المقرّبين إليه، حتى لو كانت زوجته أو ولده أو أبوه أو أمه أو أخوانه أو أخواته.. يمكن للإنسان أن يمارس سوء خلقه في الغرفة التي يغلقها على نفسه، أما عندما يعيش في المجتمع، فإنه يتوجب عليه أن يحترم مشاعر الناس وأحاسيسهم، أن يعتبر أن للناس مزاجاً لا بدّ أن يرعاه، وأن للناس شخصية لا بدّ أن يحترمها، فتعالوا لنستمع إلى مسألة حسن الخلق في تراثنا الإسلامي:

ـ كمال الإيمان:

عن الإمام محمد الباقر (ع) أنه قال: "إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"، يعني إذا أردت أن تكون في الدرجة العليا من الإيمان، فلتكن لك هذه الدرجة من حسن الخلق مع الناس. وفي الحديث عن عليّ بن الحسين (ع) أنه قال: "قال رسول الله (ص): ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"، صحيح أنه يوضع في ميزانه الصلاة والصوم والحجّ والعمرة وما إلى ذلك، ولكنّ حسن الخلق هو الذي يثقّل ميزانه يوم القيامة، لأن الصلاة والصوم والحج يخصك أنت، أمّا حسن الخلق فإنه يمثل دورك في علاقتك مع كل الناس؛ في البيت والمحلة ومكان العمل وفي ساحة الواقع، فالله تعالى يريد للإنسان أن يكون الإنسان الذي يتحرك في المجتمع ليحفظ له توازنه وليحترم الناس الذين يعيشون فيه.

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال: "أربع من كنّ فيه كمل إيمانه، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك: الصدق - أن تكون الإنسان الصادق في كل مواقع حياتك، فالصدق يخرجك من الذنوب لأنه يُخرجك من الكذب والغش وما إلى ذلك - وأداء الأمانة - الذي يخرج الإنسان من كثير من الذنوب، ولذلك عليك أن تكون ممن يؤدي الأمانة التي يؤتمن عليها - والحياء - أن تكون الإنسان الحيي، لأن الحياء يمنع الإنسان من كثير من الذنوب التي تُستقبح ويُستحى منها - وحسن الخُلُقِ"، الذي يمنعك من كثير من المعاصي المتعلقة بإيذاء الناس، لأنّ حسن الخلق لا يؤذي ولا يعصي والديه ولا يقطع رحمه ولا يضر بالمسلمين، وهكذا..

ـ إعمار الديار وزيادة الأعمار:

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "ما يقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله من أن يسع الناس بخلقه"، أن يتسع خلقك للناس كافة بحيث تعيش معهم فلا يصدر منك أيّ أذى تجاههم، لا في الكلمة ولا في العمل. وعن الصادق (ع) قال: "قال رسول الله (ص): إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم"، وهذه بحاجة إلى سعة صدر وتصفية مزاج وتحسين الكلمة وانفتاح على الناس، بحيث تتحمّل الأذى فلا تؤذي أحداً. وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال: "قال رسول الله (ص): أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق"، فإذا اتّقيت الله ففعلت ما أوجبه عليك وتركت ما حرّمه عليك، وحسّنت خلقك مع الناس، فإن ذلك يجعلك تمسك مفتاح الجنة بيدك. وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إن الخلق الحسن يميت الخطيئة كما تميت الشمس الجليد".

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال: "البرّ وحسن الخلق يعمّران الديار ويزيدان في الأعمار"، والجائزة تستحقّ التعب، وهذا ليس حديثي بل حديث الإمام الصادق (ع) الذي هو حديث عن رسول الله (ص)، هذه السلسلة الذهبية لكل ما يقوله أهل البيت (ع). وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إن الله تعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه ويروح"، وعنه (ع): "إذا خالطت الناس، فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك العليا عليه فافعل - يعني أن لا تنتظر من الناس أن يخدموك، بل اجعل الناس تنتظر منك أن تخدمهم وتقضي حوائجهم - فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة، ويكون له حسن خلق، فيبلغه الله بحسن خلقه درجة الصائم القائم".. فالقضية تستحق أن يعمل الإنسان من أجل أن يربي نفسه على ذلك..

ـ تآلف القلوب:

وعنه (ع) أنه قال: "قال رسول الله (ص): أفاضلكم أحسن أخلاقاً الموطَؤون أكنافاً - الذين جوانبهم وطيئة يتمكن فيها من يصاحبهم ولا يتأذى، بحيث تطأ الناس منازلهم - الذين يألفون ويؤلَفون"، لا الإنسان الذي لا يطيق أحداً ولا يُطاق.. وعنه (ع) أنه قال: "قال أمير المؤمنين (ع): المؤمن مألوف ولا خير في من لا يألف ويؤلف". وفي الحديث عن بعض أصحاب الإمام الصادق (ع) أنه قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (ع) يقول: "قال رسول الله (ص): يا بني عبد المطلب، إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر"، لا بدّ أن تسبق بسمة الإنسان كلامه، وهو ما مدح به الفرزدق الإمام زين العابدين (ع):

يُغضي حياءً ويُغضى من مهابته ولا يُكلَّم إلا حيث يبتسم

ـ نزع الأحقاد

بعض الناس يعتقد أنه لا بدّ أن يعطي الناس الهيبة فيبقى عابساً مقطباً، والهيبة التي توجب انغلاق الناس عليك ليست هيبة، بل هي خوف وانزعاج، فالهيبة هي التي تُدخلك إلى قلوب الناس، وتجعل من الإنسان كما يريده تعالى إنساناً يعيش عمق إنسانيته، ليعطي الفرح والبشرى للعالم، وليدخل السرور على الناس، فلو أننا عشنا هذه الروحية لاستطعنا أن نتخلص من الكثير من العقد النفسية، وأن نحل الكثير من المشاكل الاجتماعية.

أيها الإنسان: أعطِ الحب للناس يعطك الناس كل قيادهم، أعطِ الفرح للناس يقبل الناس عليك، وتلك هي كلمة عليّ (ع): "احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك"، إذا جعلت صدرك صدر الخير والمحبة والفرح الروحي، فإنك تستطيع أن تنـزع كل أحقاد العالم، لأن الحب يعدي كما أن الحقد يعدي، هذا هو خط الإسلام، وعلينا أن نعرف كيف نقدّم الإسلام للعالم، بأن نقدّم المسلمين الذين يستطيعون أن يربحوا العالم بأخلاقهم أكثر مما يربحونه بأموالهم، وهذا ما انطلق به رسول الله (ص) الذي ربح الناس من خلال خلقه فدخلوا في دين الله أفواجا.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله ولينفتح كل واحد منكم على الآخر بالكلمة الحلوة والإطلالة الحلوة والأسلوب الأحسن، حتى نتمكن من صنع مجتمع قوي من خلال ما نتوافق عليه من محبة بعضنا بعضاً، ومن حوار بعضنا مع بعض، لأن قوة المجتمع إنما تكون بالمحبة، وإذا كان المجتمع مسلماً، فإن عليه أن يعمل لتكون علاقاته مرتبطة من خلال حب الله ورسوله، فإن من أحب في الله وعاش مع الناس من خلال الله، فإن الله تعالى يرفع درجته في الدنيا والآخرة.

إنّ الآخرين إنما استطاعوا أن يسيطروا علينا، وأن يثيروا المشاكل فيما بيننا لأنهم عرفوا كيف يزرعون الحقد في داخلنا، وكيف يربوننا على سوء الخلق، فلا يطيق أحدنا الآخر، ولا يعذر أحدنا الآخر، ولا يرحم أحدنا الآخر. لذلك، فإننا عندما نعمل بهذه المواعظ التي أرادنا الله تعالى أن نعيش من خلالها الأخوّة الإيمانية، وأن نتحرك بعيداً عن العقد الذاتية من خلال مبادئنا وأخلاقنا وتقوى ربنا.. فإننا نحصل على القوة كل القوة، وعلينا أن نلتفت إلى كل ما يتحرك به المستكبرون في العالم والمنطقة، حتى نعرف مواطن أقدامنا، وكيف نساعد وندعم بعضنا بعضاً، فماذا هناك؟

أمريكا وإسرائيل: توزع الأدوار

لا تزال أمريكا وإسرائيل تتوزعان الأدوار في عملية التسوية، بين تجميد هنا وتحريك هناك ومراوحة هنالك، كما في الواقع الفلسطيني الذي نخشى أن تقوم فيه سلطة الحكم الذاتي في ورقة العمل الجديدة بتقديم التنازلات حول القدس والمستوطنات وعودة اللاجئين، بفعل الضغوط الأمريكية والرغبة في تسريع المفاوضات للحل النهائي..

إنّنا نشعر بأنّ عملية تهويد القدس قد بدأت، لتنتهي بتوقيع فلسطيني يطالب بوضع إداري قد لا يتحقق، لتبقى السيادة للعدوّ عليها.. إن على الجميع أن يعرفوا أن القدس ليست مسؤولية فلسطينية، بل هي مسؤولية عربية إسلامية، فلا بدّ في هذه المرحلة من أن يرتفع الصوت العربي الإسلامي عالياً، مستخدماً كل ما يملك من وسائل سياسية وإعلامية، وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي، من أجل الضغط لتحرير القدس كمقدمة لتحرير فلسطين كلها..

العرب ومخاطر المستقبل

وفي النطاق السوري - اللبناني، لا بدّ من الصمود أمام اللعبة الأمريكية - الإسرائيلية، ولا بدّ للعرب من مواجهة المرحلة بموقف قويّ في مستوى القضية الكبرى، وإذا لم تسمح لهم الظروف الداخلية المعقّدة بعقد قمة، فإن عليهم أن يؤكدوا التنسيق ضمن خطة عملية للمواجهة السياسية، وأن يدعموا الموقف المقاوم في ساحة المعركة مالياً وسياسياً وإعلامياً، حتى يبقى الموقف قوياً في الساحتين السياسية والجهادية معاً.. وعلى العرب أن يـعـرفوا أن الـعـدوّ لم يلقِ سلاحـه، بل إنه يـعـمـل - بكل الوسائل - لزيادة فعالية ترسانة أسلحته المدمّرة، ليبقى الأقوى في مواجهة كل دول المنطقة، وهذا ما تريده أمريكا له باسم مسؤوليتها عن حماية الأمن الإسرائيلي..

إسرائيل: الموقع الوحشي

إن إسرائيل تسعى لإبقاء ذكرى محرقة "هتلر" لليهود في وجدان العالم بالكثير من الأكاذيب التاريخية، وهذا ما نلاحظه في هذه الأيام من الضغوطات التي يمارسها اليهود على النمسا لمنع وصول أحد الأحزاب إلى الحكومة الجديدة، بحجة أن له تاريخاً مناهضاً لليهود، وعلينا - في المقابل - أن نذكّر العالم بكل تاريخ المجازر والمحارق الإسرائيلية للشعب الفلسطيني واللبناني والشعوب العربية، وكل الواقع الجديد المتمثل في العدوان المستمر على لبنان باحتلال أرضه وتدمير بنيته التحتية، وقصف مدارسه وترويع أطفاله وهم على مقاعد الدراسة، ليعرف العالم - من خلال خطة إعلامية واسعة - أن إسرائيل لا تمثل الموقع الحضاري، بل الموقع الوحشي العدواني في المنطقة، من خلال الدعم السياسي والعسكري الأمريكي المطلق لها..

المقاومة: اهتزاز كيان العدوّ

وفي هذا الإطار، نتطلع إلى العمليات الناجحة للمقاومة التي هزّت كيان العدوّ، حتى بدأ يطالب سوريا بالضغط لوقف المقاومة كشرط لاستئناف المفاوضات، ولكنه يعلم أن هذا الطلب يمثل سذاجة سياسية، لأن المقاومة باقية حتى التحرير ولن يضغط عليها أحد، ونريد للجميع أن يقفوا معها ويدعموها بكل وسائل الدعم المادي والمعنوي، لأنها تمثل القوة الوحيدة الضاغطة على العدوّ في العمق وفي حركة العنفوان..

إن إسرائيل تمثل الخطر الحالي والمستقبلي على منطقة الشرق الأوسط كلها، ولذلك لا بدّ من إيجاد تحالف إسلامي ـ عربي يخطط لمواجهة شاملة لهذا الخطر، لأن المسألة ليست مسألة تفاصيل سياسية تحلّ بالمفاوضات، بل هي مسألة وضع كياني يشمل المستقبل كله..

لبنان: دقة المرحلة

أما على المستوى اللبناني الداخلي، فإننا نناشد المسؤولين أن لا يُدخلوا المجلس الاقتصادي الاجتماعي - الذي طال انتظاره - في اللعبة الطائفية، وفي الكهوف السياسية، لأن ذلك سوف يفرغه من مضمونه الريادي في حلّ المشكلة الاقتصادية - الاجتماعية على أساس التخطيط الدقيق. كما أن على المسؤولين والواقع الشعبي أن يعملوا على تضميد الجروح، واحتواء المخاوف، وتصحيح المسار، لأن المرحلة بحاجة إلى المزيد من الهدوء النفسي والاجتماعي والسياسي، لا إلى المزيد من عناصر الإثارة..

وأخيراً، لا بدّ للجميع أن يتعاونوا ويتكاملوا من أجل الحالة الأخلاقية لأطفالنا وشبابنا، فلا يجوز أن تتحرك وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لتقدّم للجيل الجديد ثقافة الجريمة والانحراف الجنسي والمخدرات في القصص والأفلام والصور، لأن ذلك سوف يسيء إلى البنية الإنسانية، ويهدم القيم الروحية والأخلاقية التي هي الأساس للتوازن الإنساني في الواقع كله.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير